ظلت مسألة (خلق القرآن) موضع تجاذب وأخذ ورد ونقاش محتدم بين المسلمين في القرن الثالث والرابع الهجري، كان المعتزلة يؤمنون بخلق القرآن، بمعنى تاريخية القرآن، في حين تصدى أصحاب الإمام أحمد بن حنبل لدحض ومحاربة هذه العقيدة، في هذه اللحظة التاريخية ابتدأ تاريخ تدخل السلطات في الدولة الإسلامية في الشأن الديني، وبدلا من أن تتخذ السلطة موقفا محايدا من النقاشات التي تدور بين العلماء، إذ بها تنحاز للمعتزلة، وهكذا تبنى الخليفة المأمون الرأي المعتزلي، وفي نفس الوقت سعى إلى مصادرة رأي الحنابلة. ولكن ظهور المعتزلة ظل لفترة محدودة إلى أن تولى الخليفة العباسي القادر الحكم، وكان على النقيض من المأمون في سعة أفقه وثقافته وشغفه بالفلسفة وإيمانه بالتعددية الفكرية، لهذا حارب المعتزلة وضيق عليهم، وتبنى نظرية الحنابلة في القول بأن القرآن غير مخلوق، بل وأعلن تحريم القول بخلقه، وأصدر ما يعرف (بالعقيدة القادرية)، وأمر بتعميمها وقراءتها في مساجد بغداد، تنص هذه العقيدة على تحريم القول بخلق القرآن، وأن من يقول بها فهو كافر زنديق ودمه حلال.
أصبحت عقيدة القول بعدم خلق القرآن، عقيدة رسمية متبناة من قبل السلطة لا يسمح بمعارضتها.
هذا مثال على تدخل السلطات في النقاشات الدائرة في القرن الثالث والرابع الهجري. أما ما قبل هذا التدخل فإن الحوارات والنقاشات كانت تجري بحرية، وكان هناك قبول ورفض ونقد ومراجعة مستمرة، كانت هذه الفترة فترة إبداع وعطاء مثمر، فتعددت المدارس والمذاهب الإسلامية، وشهدت توسعات معرفية وعلمية، بل وحدث انفتاح على الثقافات الأجنبية ونقلت اهم نصوصها سواء كانت يونانية أو فارسية أو هندية إلى اللغة العربية، وتم هضمها والبناء عليها، هذه الفترة من تاريخ المسلمين تعرف بالفترة الكلاسيكية، وهي ذروة الحضارة الإسلامية، ولكن العصر الذهبي هذا سرعان ما ذبل ثم اختفى ليدخل العالم الإسلامي في ما يعرف بعصر الانحطاط، حيث توقف الإبداع ليحل محله الاجترار والتكرار، فساد الجمود وتوقف الاجتهاد.
هناك عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية، لا تتسع هذه المساحة لتبيينها، أوصلت الحراك العلمي البناء الذي تفاعل في القرون الأربعة الأولى إلى حالة الجمود والتقليد والتعصب وضيق الأفق. ينبغي العلم بأن هذا الشكل من الإسلام مازال مستمرا حتى الآن، وهو ذاته الذي نعيشه.
كانت لبعض خلفاء بني العباس دورا في مصادرة الإسلام وتأميمه، شانهم في ذلك شأن دولة بني أمية، وإغلاق باب الاجتهاد وكافة النصوص الدينية التأسيسية (القرآن والحديث النبوي والتفسير وحتى كتب التاريخ) وقد كانت هذه مفتوحة في القرون الثلاثة أو الأربعة الأولى.
ولكن العامل الحاسم والأكثر تأثيرا في إدخال العالم الإسلامي في عصر الانحطاط حدث مع ظهور الدولة السلجوقية (٤٢٩ ـ ٥٥٢ هـ). لقد ناصبت هذه الدولة التي تبنت المذهب السني العداء للدولة البويهية الشيعية (التي حكمت العراقين: إيران والعراق) وأنهتها، وحاربت الدولة الفاطمية ومن المعروف تميز هاتين الدولتين بالانفتاح على جميع الثقافات واحترام المذاهب والتيارات الإسلامية، وللمعلومية فإن الحضارة الإسلامية تدين في نهضتها إلى هاتين الدولتين وبالأخص الدولة البويهية.
تعامل الأتراك السلاجقة بذهنية ضيقة جدا مع الإسلام، حتى أنهم أسسوا (المدرسة) وفيها تتلى وتدرس النصوص التأسيسية بما فيها التقارير الفقهية والعقائدية المدونة لأئمة المذاهب السنية، بطريقة تلقينية تكرارية جامدة، وبعيدة عن المساءلة النقدية. هذه (المدرسة) وجدت نظيرا لها في مدينة المبرز وسبق أن بينتها في إحدى الحلقات التي كتبتها بعنوان (حكاية حارتنا).
سارت الدولة العثمانية على خطى السلاجقة فيما يتصل بموقفها من الدين، فقد صادرت الدين وأممته لمصلحتها.
يبقى أن أشير عن حال رجال الدين في ظل الدول الإسلامية المتعاقبة، لقد تبادلت كل من السلطات السياسية والسلطات الدينية الاعتراف المتبادل مقابل المنافع التي تخص الطرفين ، فقد خلع رجال الدين المشروعية الدينية على السلطة السياسية التي تفتقر أصلا إلى المشروعية، وبررت تصرفاتها مهما كانت مخالفة للدين ، ومن جهتها منحت السلطات رجال الدين مكانة مميزة في أوساط المجتمعات الإسلامية، والكثير من السلطة والجاه، وهم عبروا عنها ببعض المظاهر التي تمنحهم الهيبة الدينية المقدسة، ومن ذلك العمامة ونوعية اللباس، والألقاب وأسلوب التعامل مع العامة. حدث هذا في الدولة العباسية والعثمانية والصفوية والدويلات التي ظهرت في أطراف الدولة الإسلامية كالدولة الصفارية والغزنوية.
ينبغي العلم بأن القرون الوسطى تتشابه في الأسس العقلية، فما رأيناه من علاقة بين رجل الدين والسلطان وجدناه في أوروبا، ولكن بطريقة معكوسة، فهناك كانت الكنيسة تمسك بزمام الدين والسلطة الزمنية. وفي عصرنا الحالي تم تهميش رجال الدين بل ونسيانهم بعد قيام الدولة الحديثة التي تم فيها فصل السلطات الثلاث عن بعضها وكتابة دستور علماني. أما في المجتمعات التقليدية ما زال لهم حضورٌ على المستويين السياسي والشعبي.