١. ثبات النفس الإنسانية أمام تبدّل الأدوات
منذ أن بزغ الإنسان العاقل على هذه الأرض، لم تتبدّل أعماقه الجوهرية. الغضب كما هو، الحب كما هو، الخوف كما هو، الأمل كما هو. العواطف الإنسانية ذاتها دفعت إنسان الكهوف إلى الرسم على الجدران، وهي ذاتها التي تدفع إنسان اليوم إلى الكتابة على جدران افتراضية في فضاء رقمي لا متناهٍ.
التقنية تبدّلت بسرعة مذهلة، لكن الإنسان بقي إنسانًا، بعواطفه القديمة التي تقاوم كل تجديد. هنا يظهر التناقض: أدوات تسير بسرعة الضوء، ونفس بشرية تمشي على إيقاع قرون طويلة.
٢. وهم التقدّم مقابل بطء الوعي
قد يبدو أننا أمام إنسان جديد لأن التقنية تحيط بنا من كل جانب، لكن في العمق ما زال أكثر الناس كما وصفهم الفلاسفة الأوائل: مأسورين بالحواس، مندفعين وراء الظواهر، سريعو التصديق لما هو بسيط ومباشر. الشائعة تنتصر لأنها تخاطب اللاوعي الجمعي، أما الفلسفة فتتعثّر لأنها تطلب وقفة تفكير.
هنا يمكن استدعاء مقولة أفلاطون عن الكهف: الأغلبية ما زالت أسيرة ظلال على الجدار، أما من يحاول الخروج إلى النور، فصوته ضعيف وربما مرفوض .
٣. التقنية بين الوعاء والمحتوى
الفلاسفة المعاصرون يشيرون إلى أن التقنية ليست مجرد أدوات محايدة، بل لها قدرة على إعادة تشكيل الوعي. وما دام الإنسان لم يتغير جذريًا، فإن التقنية لا تزيده وعيًا بقدر ما تتيح لعاداته القديمة أن تتجلّى بشكل أوسع وأشد وقعًا. لذلك، تحوّلت منصات التواصل إلى ساحات للتنافر بدل أن تكون جسورًا للتقارب.
إنّ المثال الأبرز هو الولايات المتحدة الأمريكية: الدولة التي مثّلت يومًا صورة الديمقراطية الناضجة، حيث اختلف الجمهوريون والديمقراطيون لكنهم التزموا معًا بمصلحة الدولة. أما اليوم، فقد انقسمت إلى نصفين متضادين، كل منهما يريد إلغاء الآخر. وهنا يظهر أثر التقنية كمسرّع للانقسام، لا كوسيلة للتقارب.
٤. أزمة القيادة الفكرية
حين يفتقد الجمهور إلى مرشدين واعين بالتقنية، يتصدّر المشهد من لا يعرف طبيعتها ولا يدرك مخاطرها. هؤلاء الذين يسمع لهم الناس – سياسيين كانوا أو إعلاميين أو مؤثرين – يبدون أشبه بأميين أمام الأدوات الرقمية. فلا عجب إن زادوا الطين بلة، إذ يتعاملون مع التقنية بسطحية، فيقودون الجماهير إلى مزيد من الانقسام والفوضى.
٥. فلسفة الخوارزمية والربح
الخوارزميات اليوم فيلسوف جديد يوجّه العقول، لكنها ليست فيلسوفًا يبحث عن الحقيقة، بل تاجرًا يسعى وراء الربح. إنها تُعيد إنتاج ما يثير الفضول ويزيد زمن التصفح، لا ما يرفع الوعي أو يفتح أفق التفكير. وبما أنّ الغرائز أسرع استجابة من العقول، وجدت الخوارزميات أن أسهل طريق للربح هو تكريس خطاب الكراهية، وتضخيم أصوات المتطرفين، وإبراز كل ما يثير النزاع.
بهذا المعنى، يمكن القول إن الخوارزمية ليست محايدة، بل هي أيديولوجيا خفية تحكم المشهد دون أن يلحظها المستخدم العادي.
٦. الجاهل والفراغ الوجودي
الجهل ليس مجرد نقص في المعلومات، بل هو فراغ في الوجود. والمتعلم يملأ وقته بالسؤال والبحث والتأمل، أما الجاهل فيجد نفسه أمام فراغ طويل، فيملأه بالضجيج الرقمي. هنا تتحوّل وسائل التواصل إلى مسرح للثرثرة والجدل العقيم.
وإذا استدعينا هايدغر، نجد أنّ التقنية حين تلتقي بالفراغ الإنساني تتحوّل إلى انكشاف سلبي ، أي إلى قوة تكشف ضعف الإنسان بدل أن تكشف إمكاناته.
٧. البوتات: محاكاة بلا روح
ثم جاءت البوتات لتزيد الطين بلة. فهي ليست مجرد حسابات آلية، بل كيانات قادرة على التقمص، على تقليد لغة البشر، بل حتى على محاكاة الودّ والمشاعر. لكنها في جوهرها بلا قلب ولا روح. إنّها تجسيد لفكرة نيتشه عن القناع: وجه يبدو إنسانيًا، يخفي وراءه فراغًا آليًا.
والخطير أنّها لا تكتفي بالحياد، بل تعمل على توجيه الرأي العام ببطء وهدوء، كمن يغيّر مجرى نهر من منبعه.
استشراف
الفوضى الرقمية ليست مجرد أزمة تقنية، بل أزمة وجودية. التقنية، حين تُترك للغرائز وللخوارزميات التجارية، تتحوّل من وسيلة تواصل إلى ساحة صراع، ومن أداة معرفة إلى قناع للجهل.
إنّ التحدي الحقيقي أمام الإنسانية ليس كيف تبني أجهزة أسرع أو تطبيقات أذكى، بل كيف تواكب هذه الطفرة بوعي يليق بإنسان عاقل يعيش في القرن الحادي والعشرين. وإلا، فإن القديم في النفس سيظل يجرّ الجديد من التقنية إلى نفس المصير: صراع، انقسام، وفوضى.