عاشوراء في العصر العلماني
من التناقض المفاهيمي إلى التناغم في القيم والحاجات
د. مجيد محمدي(*)
ترجمة: مشتاق الحلو
1ـ أهمية تقاليد عاشوراء في عالمنا المعاصر
1ـ 1ـ يهتمّ عالمنا المعاصر بتقاليد عاشوراء من عدّة جهات:
أ ـ بغض النظر عمّا نستحسن أو نستقبح، وما هو لائق وغير لائق من هذه التقاليد، فهي حاضرة بقوة لدى عامّة الناس في طقوسهم، وإن تأثرت بتقلّبات الظروف ومرور الزمن، لكن على الرغم من الصور المختلفة التي تمتّعت بها، حافظت على جوهرها، وهو الحزن على مصيبة محدّدة.
ب ـ تتمتّع هذه التقاليد بالقدرة على تعبئة الناس وتجنيدهم؛ إذ تجرّ طقوس عاشوراء الناس إلى سلوك معين، كتأدية النذور، والاجتماع في أماكن محدّدة، وقراءة المراثي، وأداء الحركات الموزونة و.. ومن شأن هذا السلوك دعم الحركات الاجتماعية والانتفاضات السياسية، كالثورات([1])، كما لعبت هذه الثورة دوراً دعائياً للتشيّع، وساعدت على تركيز هويّته([2]).
ج ـ اعتبر الكثيرون حركة عاشوراء عاملاً لأدلجة الدين، وبتفسيرهم انطلاق الحسين(ع) من المدينة إلى كربلاء مشروعاً للاستيلاء على السلطة([3])، سعوا في اتجاه علمنة الدين.
د ـ مازالت العناصر الثلاثة المؤلّفة للنهضة الحسينية حاضرةً في الثورات جميعها، وهي: نداء الحرية، ملحمة الصبر والمقاومة، والحزن على المصاب.
لقد حرّكت هذه العناصر الثلاثة الشعوبَ على مدى التاريخ، فنداء هذه الثورة هو أنّ النفعية لا يمكنها أن تصبح مبرّراً للبقاء، وحفظ النفس تحت أي ظرف كان، وتقوم هذه الملحمة عملياً على عامل الإرادة واختيار جانب الحق، ولعلّ سُبل القيام بها أهمّ من هدفها وغايتها، ويرجع الحزن فيها إلى المحبّة، وتهتم بجانب الرقي الروحي للإنسان، وإكرامه بدل امتهانه والاستخفاف به.
2ـ 1ـ من الواضح أنّ مطالعة نهضة عاشوراء بوصفها ثورةً للاستيلاء على السلطة، لا تتمّ إلا من خلال التصور القائل بأنّ الدين ـ إضافة إلى ارتباطه بالربّ والمقدس ـ يحوي مشاريع اجتماعية، وكذلك يجب التدخل لاجتثاث جميع أشكال الذنوب والفساد من خلال مجاري السلطة والقوة في المجتمع، أو من خلال اعتبار حركة الإمام هذه أمراً شخصياًخاصاً به وخارجاً عن نطاق إمامته. لكنّنا إذا فسّرنا علاقة الدين بالسلطة، أو الدين بالسياسة بشكل آخر، واعتبرنا الدين أمراً فردياً يختصّ برسم علاقة الفرد بربه وآخرته، فعلينا تقديم تفسير آخر لنهضة عاشوراء.
ما يطرح في الآونة الأخيرة حول عاشوراء يمتاز في غالبه بصبغة أيديولوجية وسياسية، فغالباً ما تطرح أبعاد رفض الظلم وسلب الشرعية عن النظام الحاكم، لكن لعاشوراء أن ترتبط بعالمنا العلماني والدنيوي، وتشكّل هذه العلاقة جسراً بين تلك الحادثة والإنسان المعاصر، فكما أنّ عاشوراء حقيقة تاريخية، كذلك علمانية العالم المعاصر حقيقة واقعية.
3ـ 1ـ ولا تتعارض عالمية الثقافة والاتصال في عالمنا المعاصر مع تنوع الثقافات والأديان كما يقال في الغالب، فنحن مرغمون على النظر إلى أنفسنا في إطار دولي، وطرح ما لدينا خارج نطاق جماعة أو عرق أو بلد محدّد، كما علينا القبول بقواعد محدّدة للاتصال بالآخرين، منها أن لا أحد يمتلك الحقيقة، أو أنّ التفاهم بين الأفراد والجماعات والملل والنحل لا يتحقق من خلال القبول بأصل التفاهم فحسب، بل من خلال الحوار، أو أنّ الثقافات والديانات لا يمكنها أن تغمض عينها عن الحقائق الواقعية؛ لذلك لا تتمكّن ثقافة التشيع اليوم أن تكتفي ببقعتها الجغرافية، أو أن تعيش التفكير داخل أطر الثقافة الإيرانية ـ الإسلامية فقط، بل ينبغي دراسة تمام أبعاد الثقافة الشيعية، كالفقه والكلام أو تاريخهما، في إطار أوسع.
لقد تركّز جلّ اهتمام تقاليد عاشوراء، كسائر أبعاد الثقافة الشيعية، على الداخل، أي بدل أن يكون عاملاً لطرح التشيّع خارج دائرته الخاصة، قام بخلق الوحدة والتماسك بين أتباعه، وقد سبّب الكلام عن تقاليد عاشوراء في إطار الثقافة العالمية، بزوغ مرحلة من الانفتاح في ثقافة الشيعة المنغلقة.
4ـ 1ـ العناصر الأساسية المؤلّفة للثقافة العالمية اليوم، هي: المعرفة، الفردانيّة، والحرية، وهذه العناصر الثلاثة التي أصبحت أهداف البشرية، ويبحث عنها في مختلف الحقول المعرفية، كانت ـ تأريخياً ـ متداولةً في أغلب الثقافات، لكنّها برزت واتضحت في الثقافة العالمية المعاصرة، إنّنا نلاحظ وجود ثلاث أساطير للآلام المتعالية والموت العظيم في التاريخ، ونرغب هنا بمطالعتها ومقارنتها مع بعض.
2ـ الآلام الأبدية المتعالية
1ـ 2ـ آلام سقراط والهمّ الأخلاقي
ينشأ الألم الأبدي السقراطي من علم الإنسان بجهله، فهو لا يرى الحقيقة كنزاً ثميناً يمتلكه أفراد معيّنون، ويحتفظون به في مكان محدد، بل تتجلّى الحقيقة عنده من خلال محادثاتنا، كما أنّ المحادثة والحوار لا ينتهيان بالضرورة إلى نتائج قطعية، بل هما سبيلٌ للبحث عن الحقيقة. لقد كان سقراط يستغلّ أي فرصة للحوار مع أبناء بلدته؛ يبدأ بالبديهيات والمشهورات، ويصل في الختام إلى التناقض بين الأجوبة المختلفة، كي يبيّن أنّ الناس المغرورين بعلمهم في جهل مركّب، فينتهي بهم إلى حيث يقولون: <أظنّ من الأفضل لي البقاء صامتاً؛ لأنّي لا أعلم شيئاً>([4]).
إذا أقبل سقراط عامداً على التعاريف، فلأنه يريد تشييد أساس رصين للوقوف عليه في مجابهة نظريات السوفسطائيين المتلاطمة، ولا ينتهي من صعوبة الحصول على الحقيقة، أو خفاء الطرق المؤدية إليها، إلى إلغاء الأفق الذي يمكن فيه البحث عن الحقيقة، لا الحصول عليها.
وتتمتع عامة أبحاث سقراط المعرفية بصبغة أخلاقية؛ فهو يبحث عن علاقة المعرفة بالفضيلة؛ إذ يعتقد بضرورة معرفة الإنسان ماهية الحياة الحسنة، للقيام بالأعمال الحسنة، فلا أحد يرتكب الأعمال السيئة عالماً عامداً، ولا يأتي الشرّ لأنه شر. يقول أرسطو: <شغل سقراط نفسه بالفضائل الأخلاقية، وهو أوّل من طرح تعاريف كلّية لها>([5])؛ لذلك كان الهمّ الأول لسقراط همّ الأخلاق.
واليوم، تشكّل المصائب التي حلّت بسقراط في سبيل المعرفة، إحدى أساطير الثقافة العالمية؛ لأنّ البشر ـ بعد طول تجارب في جميع الحقول العلمية: الإنسانية والفلسفية والدقيقة ـ انتهوا إلى أنّ منهجه كان الأنجع والأنفع، ويتمتع سقراط بأربع ميزات أخرى تشكّل في مجموعها صبغته الأساطيرية في عالمنا المعاصر:
الميزة الأولى: كان عمله تحريك أذهان الناس، والتوصية بكتمان الأسئلة، والإذعان في مجال المعرفة.
الميزة الثانية: ركّز على الإنسان وطاقاته، بدل التركيز على الطبيعة والأشياء لاكتساب المعرفة.
الميزة الثالثة: أجبر ـ إثر اتهامه بعدم عبادة آلهة المدينة وإفساد عقول الشباب ـ على شرب السمّ.
الميزة الرابعة: كان متديّناً على الرغم من تأكيده على جهل البشر وطلب المعرفة، فكان يقدّم القرابين للآلهة، ويسعى لمعرفة ما هو التديّن، وما هو عدمه؟ كان يعتقد بوجود رموز الآلهة وإشاراتهم وسبل هدايتها في إطار الموجودات الخيالية، ولا يرى العقل وافياً لوحده بالمقصود.
يدفع سقراط ثمن العلم مقابل الجهل عالماً بنتائج عمله، ويعتقد بأنّ الموت إذا كان نوماً لا يوقظه أحد، فذلك مكسب([6])، وإن كان انتقالاً لعالم آخر، ومعاشرة للسلف الصالح، فحفيّ بالإنسان أن يستعدّ له مراراً([7])، يعتبر سقراط الخلاص من هذا العالم شكلاً من أشكال الحرية: <تقول التعاليم الدينية بأنّنا في سجن ولا يحقّ لأحد فتح باب السجن والهروب منه.. ذلك صحيح، فليس للإنسان قتل نفسه، بل عليه انتظار سبب يوفّره الله له، كالسبب الذي توفّر لي اليوم>([8]).
كما يعتقد سقراط بأن الثمن الذي عليه دفعه مقابل التزامه بمعتقداته، والمصائب التي تحمّلها من أجل ذلك، ليس شيئاً مقابلَ الفوائد التي اكتسبها. <تذهب الروح بعد التحرّر من أسر البدن، إلى مكان طاهر سماوي غير مرئي، المكان الذي ـ إذا أراد الله ـ سوف تذهب روحي قريباً إليه>([9]).
ويَدَع سقراط باب محاسبة الربح والخسارة مفتوحاً لما يتّصف به من تواضع علمي، ويقول في آخر حديث له: «حان الأوان لأسرع في استقبال الموت، وأنتم اذهبوا وراء حياتكم، لكن أيّنا يسلك طريقاً أفضل؟ لا يعلم ذلك إلا الله»([10])؛ إذاً لا يذهب سقراط لاحتمال الألم والموت، بل يواجههما.
2ـ 2ـ آلام المسيح ومحنة العشق
الألم الأبدي الآخر الذي تحوّل إلى أسطورة في عصرنا، هو الألم العيسوي؛ فقد كان المسيح(ع) عاشقاً لله، وذاك هو سبب محنته، فهو أكثر ظاهرة مثيرة للشفقة والحزن في عالم الحبّ؛ إذ ليس العشق ـ أساساً ـ فكرة ولا إرادة، بل طلب وتمني، والعشق إحساس وانجذاب، فكما يبعث الأمل، قد يؤدي إلى اليأس الأبدي؛ فهو وإن حدث في هذا العالم المادي، لكنّه خارج عن قواعده.
عشق المسيح(ع) الروحي مثيرٌ للشفقة، فهو عاشق لله، ومشفق على البشر، وهو الذي أدرك مسكنته، وتقلّب أحواله، ودونيته، فانتبه إلى الآخرين، لهذا عَشِقه النصارى، ردّاّ على شفقته عليهم، نعم، يأتي الإيمان بالله لدى النصارى بعد عشقه، والعشق في المسيحية منشأ جميع الفضائل البشرية، وإذا التفت الإنسان المعاصر إلى المسيح، أو كان المسيح جديراً بالاهتمام عنده، فلأنّه يمكننا البحث عن سرّ التألم فيه، وهذا سرٌّ معقّد، لا يمكن للإنسان التوصّل إليه عنوةً، حيث ينشأ هذا السرّ من كون طاقات الإنسان محدودة، وإن أمكنته إحاطة الأمور بالعلم والأمل، لكنّ إنسان اليوم يريد الفرار من الرؤى الجزمية، إذ لا يريد القبول بأننا إما نعتقد بكلّ شيء، أو لا نعتقد بأيّ شيء.
كلّما تحدّث مسيحيٌّ عن عيسى أو المسيح الموعود، ذكر ذاك الألم: «على ابن آدم تحمّل آلام كثيرة، منها الاستبعاد من قبل كبار القوم وشيوخهم الكهنة وفقهاء الشريعة»([11])، يقول كتاب أشعياء عن ذلك: «تقبّل آلامنا، وتحمّل عذابنا.. بينما كانت أخطاؤنا سبب جراحاته، وشرّنا سبب عذابه.. وتحمّل مسؤولية ذنوب كثيرة، وشفع لنا في ذنوبنا»([12])؛ إذاً لم يأت المسيح لمحاربة الذنوب واجتثاثها، بل لتحمّل مسؤولية ذنوب البشر، كما لم يأت ليضيف مشقةً وألماً على آلامهم بنظريات محو الأخطاء والذنوب والعنف، إنما أتى ليخدم الإنسان، إنّه يهدي روحه لكثيرٍ منهم.
إنّ فردية الإنسان تمرّ في إطار تحمّل السيد المسيح مسؤولية الذنوب، كي لا يعتبر الناس الذنوب ظاهرةً عادية؛ فلم تتح له الفرصة كي يتمتع بالحياة الخاصة والفردية، لقد صنع العشقُ وتحمّل ذنوب البشر من المسيح(ع) بطلاً مبشراً بالفردية، فالمسيح بطل الفردية؛ إذ من غير الممكن حفظ فردية الناس في المجتمع الديني، إلا من خلال الاعتراف بالذنوب بوصفها أمراً واقعاً، ومنع الاعتداء على حقوق الأفراد بالأخطاء التي تسمّى في الدين ذنباً، وقد رفع المسيح أكبر مانع في طريق الفردية، بتحمله مسؤولية ذنوب البشر.
العامل الوحيد الذي يبرّر صدور الأحكام الدينية وإنفاذها، هو مكافحة الذنوب والمنع من ارتكابها، ويقال: إنّ الشيطان وسوس للمسيح من هذا الباب، فلم تجلب المسيحية لعيسى الهيبة والعظمة والجبروت، بل جلبت له الآلام، خلافاً لما يتوقّع الناس للنبي من خيلاء وجبروت، والخلود المسيحي يتحقّق من خلال الألم والعذاب، لا الدعة والعافية، وعهد عيسى في رأي النصارى دمٌ يراق من أجل الكثيرين، لكنّ عهد اليهود وعدُ الله بأن يجعلهم عباده المصطفين إذا ما التزموا بالشريعة. يلغي المسيحُ الشريعة، فهو لم يأت بشريعة جديدة مقابل الشريعة اليهودية، وقد توقع الناس من ربّ اليهود أن يأتي لهم بالنصر، كما كان بنو إسرائيل يعتقدون أنّ انتصارهم على سائر الأقوام لم يتحقق بالحوادث الطبيعية، بل بعناية ربانية، أمّا المسيح فلم يبحث عن الانتصار، بل جمع المنبوذين حوله، وحسب اعتقاد النصارى، مات من أجل ذنوب البشر: «تحمّل العذاب لشرورنا».
كان المسيح إنسانياً كسقراط؛ إذ أراد اللهَ للإنسان، خلافَ اليهود الذين أرادوا الإنسان لله: «خلق السبت للإنسان، ولم يخلق الإنسان للسبت»([13])، فربّ المسيح يتصل بالإنسان مباشرة؛ لأنّه رب تاريخي مارس الهبوط من قبل، ويستطيع البشر الاتصال به، كما يمكن اعتبار آلام المسيح، وتضحيته بنفسه من أجل ذنوب البشر، أحدَ الجذور الدينية لنظرية الفردانية؛ لأنّ هذا التفسير من المسيح(ع) يحصر الدين في إطار علاقة الفرد بربّه، ويسلب الدين دوره الاجتماعي بصفته عاملاً لمكافحة الذنوب، وفي مثل هذه الظروف، لو تهيّأت الأرضية الاجتماعية والسياسية اللازمة، لحفظت فردية الإنسان، ولاتّحد هؤلاء الناس، المنفرد كل منهم عن الآخر، بعشق الرب([14])، دون أن يمنع تفسير الدين مدرسةً أو مشرباً سلطويّاً عنيفاً، العلاقةَ الودّية بين الإنسان وربّه.
3ـ 2ـ آلام الحسين(ع) والتضحية في سبيل القيم الأخلاقية
الإمام الحسين(ع) مظهرٌ للمصاب والألم في الثقافة الشيعية، ألمٌ من أجل الدفاع عن حرية الإنسان، وقبول مصيبةٍ مقابل مصائب أكبر، إنّه في رأي الشيعة شهيدٌ وشاهد وقربان، وقف في وجه الباطل وتقبّل الآلام لنفسه وعياله.
شهادة الحسين(ع)، كموت السيد المسيح الذي يعتقد به النصارى، أجلّ من حياة أعدائه المنتصرين، يعطي هذا الموت الأبي الشيعةَ حماس الإقدام، ويتمكّنون نفسياً من القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر([15]).
وتجلب الثورة الحسينية للإمام الويلات، لا الانتصار، فقد عرّض الإمام نفسه ـ كسقراط والمسيح ـ لسخط كبار القوم وحكّام الشريعة، نتيجة إصراره على موقفه، وقضيته ـ كهذين الاثنين ـ أخلاقية أكثر مما هي سياسية أو حقوقية أو فقهية أو عقائدية، إنّه يرى في مراحل مختلفة من حياته وقيامه، ضعفَ الناس وتخاذلهم، لكن لا طريق للعودة بالنسبة إليه، فالحركات السياسية أو الحقوقية دائماً تبقي في داخلها طريقاً للانسحاب، لكن الالتزام بالقيم الأخلاقية، لا رجعة فيه؛ لذا يُسرع الحسين، كالسيد المسيح وسقراط، لاستقبال الموت، ويضحّي بدمه قرباناً من أجل البشرية([16]).
ويمكن الدفاع عن جانبين من جوانب الدين في عالمنا المعاصر: التجارب الإشراقية، والنظرة الأخلاقية للإنسان، وإن لم ينحصرا ـ كما النظام الاعتقادي والفقهي ـ في الأديان؛ لذا لو أردنا تقديم الحسين في المجالات المختلفة، ومن خلال القنوات البشرية المتنوّعة، فعلينا التركيز على تجاربه الدينية ودفاعه المستميت عن القيم الأخلاقية.
3ـ سؤال الحرية المعاصر وثورة الحسين الشهيد
1ـ 3ـ إذا كانت المعرفة سبيلَ الإنسان للتعامل مع عالميه الأول والثاني (عالم الواقع المحسوس، والعالم العقلي)، أو فسّرت الفردية علاقةَ الفرد بالنظام الاجتماعي، تبيّنت الحرية (والطاعة والاستسلام) في إطار علاقة الفرد بالنظام السياسي، فعندما لا يتمكّن الفرد من لعب دور مؤثر في صناعة القرار السياسي، فإمّا أن يتحوّل إلى لاعب مؤثر، أو إلى متفرّج أو لاعب منفعل.
لقد طُلب من الحسين(ع) أن يكون لاعباً منفعلاً من خلال بيع رأيه ليزيد (لعدم إمكانية تحوّله إلى متفرج)، لكنّه كان عارفاً بظلم حكومة بني أمية([17])، ولذلك لم تستطع الحكومة تركه وشأنه، كي يعارضها بكامل حريته.
2ـ 3ـ تقبُّل الموت هو التعامل الواقعي معه، ومن مستلزمات الحرية، فقد أعلن الإمام الحسين(ع) في مناسبات مختلفة أنّه يذهب لاستقبال الموت، لكنّ الموت لم يكن للموت، بل كان من أجل الحرية. قال الإمام(ع) حين خروجه إلى العراق: »خطّ الموت على وُلد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة»([18])، وقال في موضع آخر: «فإنّي لا أرى الموت إلا شهادة، ولا الحياة مع الظالمين إلا برماً»([19])، وقد نقلت عنه عبارات كثيرة تدلّ على استصغاره للموت([20])، والتي اتخذها مخالفو نظرية قيام الإمام(ع) لتأسيس الحكومة الإسلامية، مستمسكاً يؤيّد رأيهم([21]).
3ـ 3ـ لا وجود لأي تلازم بين الحرية والانتصار، فلم يتمكّن بعض الذين فسّروا واقعة عاشوراء من استيعاب عدم انتصار الإمام وأصحابه وتألّمهم، لذا اعتبروا الإمام منتصراً في جهاده([22])، إذ يعدّ هؤلاء وجه الانتصار في هدفية الحركة، وصحّة سبيل الجهاد، ومقاومة أبطال عاشوراء وثباتهم، علماً أنّهم يقرّون بصراحة أنّ هدف الإمام لم يكن تولّي السلطة، لكنّهم يرفضون نظرية الشهادة والهزيمة تماماً، ويعتبرون هذه الثورة مقدّمةً لانتصار الشيعة. ولو أردنا إضفاء صبغة أدبية على كلام هؤلاء، لقلنا: إنّ قبول الهزيمة من قبل الإمام في عاشوراء، انتصارٌ بحدّ ذاته.
4ـ 3ـ لا تجتمع الحريّة ـ دائماً وبالضرورة ـ مع حسن الظاهر، فحركة الإمام(ع) من الحجّ إلى كربلاء حركةٌ رمزية، تؤكّد أنّ الشريعة والأفعال الظاهرية والسلوك الحسن لا تشكّل جوهر الحرية والتدين الحقيقي. وقد أصدر مفتي الإسلام في عصره حكم الرافضة على الإمام لسلوكه ونظرته الخاصّة. وهو ما يعتبره علي شريعتي دليلاً على صراع الإمام مع الرياء([23]).
5ـ 3ـ يبحث الإمام الحسين عن الحرية؛ ولذلك واجه في كربلاء <العبودية المتراكمة> المتجلّية في مواقف الناس، إنّه يرى أنّ المجتمع يتحرّك باتجاه نشر الباطل، والناس لا يجرؤون على إبداء رأيهم (إحدى خصال الأنظمة الاستبدادية سلب الناس شجاعتهم)؛ لذلك يقول الإمام للناس محذّراً: «ألا ترون أنّ الحق لا يُعمل به وأنّ الباطل لا يتناهى عنه»([24])، وحين لا يجد الإمام طريقاً للإصلاح، يضطر لاختيار أحد الطريقين، إما الشهادة، أو الذلة: «ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين (السلّة) المرة والذلة، وهيهات منّا الذلة»([25]).
كان المنطق الذي يتعامل به الإمام(ع) مع آل أبي سفيان هو «إن لم يكن لكم دين ولا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم»([26])، وفي حديثه لأهل الكوفة، يخبرهم بأنّ عبودية الظلمة ليست من سجاياه: «ولا أقرّ إقرار العبيد». فحريّ أن تطرح في عالمنا المعاصر نظرة الإمام الحسين(ع) للحرية التي كان يراها «أوسع من الدين» وإصراره على رفض العبودية للبشر، ففي عالمنا اليوم أصنافٌ من المنظّرين والفقهاء والمتكلمين بمشارب فكرية مختلفة، وبسبب معرفتهم بالوضع العالمي، يقدّمون أفكاراً ونظريات عملية وجذابة للإنسان المعاصر، لكنّ خطابهم لا يصل إلى مستوى خطاب الحسين(ع).
لا تُقدّم صورة جميلة وإنسانية، وحتى قريبة من حقيقة عصر الإمام، في إطار البحوث الكلامية، كالحديث عن علم الإمام، أو المواضيع السياسية، كتفسير حركة الإمام بهدف تأسيس دولة «لو تركنا همّ تقوية دعائم الدين أو إثبات نقائه، لاتضح التفسير المذكور سلفاً»، إنّ تقديم صورة دنيوية عن قيام الحسين(ع)، كالعمل الذي قام به كتاب شهيد جاويد (الشهيد الخالد)، مرحلة ناقصة من أنسنة الإمام(ع)، ولم يغفل شريعتي الجوانب الأسطورية في شخصية الإمام، على الرغم من تقديم الإمام إنساناً ثوريّاً، لكن همومه الأيديولوجية لا تدعه ينأى بالإمام عن النزاعات السياسية، إنّ تقديم صورة سماوية مجبولة بالألم عن الإمام(ع)، توجب الحفاظ على علاقة روحية بين المؤمنين والإمام(ع)، في عالم لا تتصدى فيه المؤسسات الدينية لأمر الحكومة وإدارة الحياة.
6ـ 3ـ من الممكن اعتبار نمط تعامل الإمام(ع) مع الناس مؤيّداً لهذه الحركة التحرّرية، حيث يضطرّ كثير من القادة الثوريين للّجوء إلى القوة والقسوة والخطاب السلطوي وإرغام الناس على الطاعة، لكنّ الإمام(ع) يخيّر الناس في مراحل مختلفة، ليختاروا طريقهم بحرية كاملة، ولا يلوم أهل الكوفة على عدم تأييده وتبعيته، على الرغم من غدرهم به، بل يوصيهم أولاً بتقدير أنفسهم إذا ما كانوا يحتملون حدّ السيف ووقع السنان، وبعد اصطفافهم في وجهه اعتبرهم معتدين، في حال يعلم الإمام(ع) أنّ «الدين لعق على ألسنتهم»([27])، لكنّه يرى عامة الناس لا يرتكبون الأخطاء متعمّدين، كما يعتقد أنّ الناس هم الضعفاء المساكين، المسلوبة حقوقهم، ويجب اتخاذ موقف تجاه هذا الاعتداء عليهم.
7ـ 3ـ تتداخل المثل التي يؤيّدها الإنسان المعاصر، حيث أصبحت العناصر الثلاثة: المعرفة، الفردية، والحرية، متداخلةً أيضاً في عالمنا المعاصر؛ فلا يجوز تقديم الإمام الحسين(ع) إنساناً تحرّرياً، وفي الوقت نفسه قَبَلي، أو تقديمه شخصاً ثائراً بوجه الطغيان والاستبداد من ناحية، ثم تعريفه إنساناً سلطويّاً ومستبدّاً من ناحية أخرى.
إنّ العيب في التفاسير السياسية ـ الأيديولوجية لثورة عاشوراء، أنّها تختزل الإمام ونهضته في نهضة ثورية، حتى وإن لم تعتبر هدفه الوحيد الاستيلاء على السلطة، وهو ما لا ينسجم مع عناصر الفردانية والمعرفة؛ لأنّ الثورة غالباً ما تنافي فردانية الناس وحياتهم الخاصة، وإن كان الدين جزءاً من هذه الحياة، والمعرفة ليست كنزها الأول([28]).
8ـ 3ـ إنّ التفسير المسيحي لألم الإمام(ع) ومصابه أكثر انسجاماً مع العالم الحديث؛ لذلك يجب تجاوز الصورة النمطية الحاضرة عند المسلمين، حول صلب المسيح لتكفير ذنوب البشر، ويقدّم غالب خطباء المسلمين ثلاثة أهداف للإمام من ثورته، ثمّ ينفون في الغالب الأولين، ويركّزون على الثالث، وهذه التفاسير الثلاثة كالآتي: 1ـ النفع الشخصي، 2ـ غفران ذنوب الأمة، 3ـ إنقاذ الإسلام.
وهناك اختلاف بين العلماء بشأن تحقق إنقاذ الإسلام بتأسيس الحكومة، أو الشهادة، لكن أصل مسألة إنقاذ الإسلام ـ أو على الأقل التشيّع ـ مقبولة لدى الجميع؛ فالشيخ المطهري، أحد القائلين بالتفسير الثالث، يرفض الآخَرَين بصراحة: التفسير الثاني هو الذي دخل ذهن كثير من عامة الناس، وهو أنّ الإمام الحسين(ع) قتل واستشهد لتُغفر ذنوب الأمة، أيّ إنّ شهادته كفارةٌ لذنوبها، وهذه هي عقيدة النصارى في السيد المسيح، وأنّه صلب فداءً عن ذنوب الأمة، أي أنّ للذنوب آثاراً، تحيط بالإنسان في الآخرة، وقد استشهد الإمام الحسين(ع) لتفنيد أثر الذنوب يوم القيامة، ومن هذه الناحية يعطي الناس الحرية([29]).
ويعتبر الشيخ المطهري هذا التفسير تشجيعاً على ظهور أمثال يزيد؛ فقد رفض هذا التفسير والتفسير الأول، نظراً للبيئة السياسية ـ الأيديولوجية التي كان يعيش فيها، وقدّم تفسيراً اجتماعياً وسياسياً محافظاً من ثورة الإمام(ع)؛ إذ يرى أنّ قيام الإمام كان ضرورياً لإنقاذ الإسلام، وليس إنقاذ المسلمين أو الفرد المسلم، كما أنّ حربه كانت حرباً عقائديةً، ولو أردنا تقديم تفسير سياسي لقيام الإمام(ع)، لوجدنا أنّ التفسير الذي يقدّمه كتاب الشهيد الخالد، ولم يُشر إليه الشيخ المطهري في بحثه، يظلّ أكثر معقوليةً؛ لأنّه يعتبر الهدف الوحيد من قيام الإمام، هو تأسيس الحكومة الإسلامية.
ويريد الشيخ المطهري، بوصفه التفسير الثاني بالعامّي، أن يخلق جواً، لا يجرؤ أحد على الاقتراب منه.
أمّا التفسير الثاني، فهو تفسير ديني تماماً، وقد استخدمت فيه المفاهيم والمناهج الدينية، دون أن يكون فيه أيّ بعد سياسي، إلا أن نقول بأنّ هذا التفسير قدّم لسلب قيام الإمام(ع) قابليته على التعبئة والتجنيد.
لم يتحدّث أحد عن تفنيد أثر الذنوب يوم القيامة أو غفرانها، بل ما قيل هو تحمّل عبء الذنوب، وفدائها، فالشهيد ـ كيف ما كان ـ رمز لمحاربة الظواهر التي تنتج عن الذنوب الفردية والجماعية للبشر، فيصبح قرباناً عنها، وكأنّما تحمّل عبئها بدمه وروحه؛ لهذا لا يجوز أن نصف الوجه الديني والأسطوري لهذا التفسير، بأنّه تعبير بدائي، قبيح وغير عادل.
المشكلة التي يعاني منها الشيخ المطهري، تكمن في تصويره للفداء وتحمّل أعباء ذنوب الآخرين؛ فلا المسيح(ع)، ولا الحسين(ع)، ولا أيّ شهيد آخر، يذهب إلى المذبح كي يقول للناس بأنّنا أصبحنا قرابين لتعصوا بكامل حريّتكم، بل ما يقولونه هو أنّنا أصبحنا ضحايا ذنوبكم وغفلتكم، التي أنتجت النظام الجائر، فمصابنا هو مصيبة ذنوبكم وغفلتكم، وهو ما يجعل من المشاركة العامة في مراثي الشهداء تجربةً توعوية، كما يشرك الناس في تجربة آلام المسيح(ع)، والحسين(ع)، فأن يصبح الفرد ضحية الذنوب، أمرٌ متأخر عن الذنب، كما التوبة، لكنّها لا تبرر الذنوب، بل تقبلها بوصفها واقعاً بشريّاً.
من مجلة نصوص معاصرة العدد الثامن
الهوامش
(*) باحث وأستاذ جامعي ناشط.
[1] – يطرح كتاب الحسين(ع) وارث آدم، لعلي شريعتي (طهران، 1361ش/1982م)، وجهاً محرّكاً ومتغيراً للإمام الحسين(ع).
[2] – مرتضى مطهري، حماسه حسيني (الملحمة الحسينية)، قم، صدرا، 1361ش/1982م، فصل <عامل التبليغ والتبشير في ثورة الحسين(ع)>.
[3] – راجع حول هذا الموضوع كتاب شهيد جاويد (الشهيد الخالد)، لنعمة الله صالحي نجف آبادي، طهران، رسا، 1361ش/1982م.
[4] – ما بعد الطبيعة، مو 1078.
[5] – المصدر نفسه: ب 1900.
[6] – المصدر نفسه.
[7] – المصدر نفسه.
[8] – المصدر نفسه.
[9] – المصدر نفسه.
[10] – المصدر نفسه.
[11] – إنجيل مرقس 8: 37 ـ 40.
[12] – كتاب أشعياء 53: 4 ـ 6، 12.
[13] – إنجيل مرقس 2: 23 ـ 28.
[14] – نظرية الاتحاد، إحدى النظريات المهمة في الفلسفة الاجتماعية للمسيح. راجع: آنطوني رادشر، <المسيحية الكاثوليكية والفلسفة الاجتماعية في عالمنا المعاصر> (مسيحيت كاتوليك وفلسفه اجتماعي جهان معاصر)، الحلقة الثانية، صحيفة همشهري الإيرانية، رقم 638، 15/ 12/ 1374ش/1995م.
[15] – مرتضى مطهري، الملحمة الحسينية، قم، صدرا، 1365ش/1986م، ج2.
[16] – يذكر الشيخ مطهري في المجلد الثالث من الملحمة الحسينية: 221 ـ 239، أوجه الشبه الظاهرية بين المسيح(ع) والحسين(ع)، ويقارن بينهما، من قبيل الأم، وكيفية الولادة، وينفي وجود الشبه بينهما من حيث تحمّل مسؤولية ذنوب البشر.
[17] – لمطالعة بعض جوانب ظلم الحكم الأموي، راجع: محمد إبراهيم آيتي، مقال: <موجباتي كه إمام حسين(ع) را وادار به قيام كرد> (الأسباب التي دفعت الحسين(ع) للثورة) في كتاب كفتار عاشورا: 7 ـ 33، طهران، ميلاد، 1356ش/1977م.
[18] – الخوارزمي، مقتل الحسين 2: 5، 6.
[19] – المحدّث القمي، نفس المهموم: 116.
[20] – على سبيل المثال، راجع: المحدث القمي، نفس المهموم: 219؛ ملحقات إحقاق الحق 11: 601.
[21] – راجع: لطف الله الصافي الكلبايكاني، حسين(ع) شهيد آكاه، رهبر نجات بخش إسلام (الحسين(ع) الشهيد الواعي، القائد المنقذ للإسلام)، طهران، مكتبة الصدر.
[22] – السيد محمد حسين بهشتي، مقال <مبارزه بيروز> (النضال المنتصر)، في كتاب كفتار عاشورا: 37 ـ 54، طهران، ميلاد، 1356ش/1977م.
[23] – شريعتي، وارث آدم: 31.
[24] – المحدث القمي، نفس المهموم: 116.
[25] – المصدر نفسه: 49.
[26] – ابن شهر آشوب، المناقب: 223.
[27] – ابن شعبة الحراني، تحف العقول: 345.
[28] – شريعتي، حسين وارث آدم: 31.
[29] ـــ مرتضى مطهري، مقال <خطابه ومنبر>، في كتاب كفتار عاشورا: 81، طهران، ميلاد، 1356ش/1977م.