استطاع السيد محسن الأمين بعد سنوات قليلة من إقامته في دمشق أوائل القرن الماضي أن يتحول الى مرجع ديني وفكري وأدبي للناس وللنخبة من أهل الأديان والمذاهب، وأستاذاً لعدد من العلماء المميزين في توازنهم ووحدويتهم من السنة، فقد رفض التمييز بين الشيعة والسنة في دستور الدولة الذي وضع تحت سلطة الانتداب الفرنسي وبإملاء منها، وأصدر بيانات مشهورة خاصة في رفض توزيع المقاعد النيابية على أساس مذهبي.. وتحول منزله الى مكان اجتماع لعلماء الأديان من كل المشارب، وقد روى المرحوم مصطفى السباعي مؤسس حركة الإخوان المسلمين في سورية ومفكرها بأن أحد الدمشقيين قصد السيد معرباً عن رغبته في الانتقال الى المذهب الشيعي، فحاول السيد إقناعه بأن لا داعي لذلك لأنه لا فرق فأصر فقال له السيد: حسناً اشهد الشهادتين، فنطق الرجل بهما، فسكت السيد فقال الرجل: وماذا بعد؟ قال السيد: ليس هناك بعد.. لقد أصبحت شيعياً، وهل التشيّع غير ذلك؟
كان السيد محسن الأمين مرجعاً شيعياً جعفرياً مميزاً في إنتاجه الفقهي والتاريخي والفكري، وفي شجاعته على الاعتراض العلمي والأدبي والاجتماعي والفقهي على المبالغات المبتدعة في إحياء ذكرى عاشوراء، وفي صبره على الظلم وسوء الأدب والافتراءات التي لحقت به جراء ذلك، من دون أن يغيّر حرفاً قاله أو كتبه. هذا علماً بأن عدد الشيعة في دمشق وقتها لم يكن يتجاوز الآلاف الثلاثة في أقصى التقديرات، كما كان عدد الشيعة (الجعفرية) في سوريا كلها لا يبلغ عشرين ألفاً، ولكنه قرر أن يحول العدد الى دور ومعنى من خلال الدمج العميق والشراكة في كل شيء ومع الجميع والتوازن والاتزان في المواقف، أي عدم التماهي مع أي سلطة وطنية حاكمة ومن دون قطيعة معها، والالتزام بالأنظمة العامة، وتجنب الانحياز الجماعي الحاد لأي طرف سياسي. هذا المسلك أهّله لأن يصبح مرجعاً لسوريا كلها من دون أن يلغي أي مرجعية أخرى. وأسس واحدة من أوائل المدارس النظامية العصرية في الحي الذي كان يسكنه، ويؤم المصلين من مختلف المذاهب في مسجده الجامع – حي الخراب – الذي أصبح لاحقاً حي الأمين، وميزته انه يضم سنّة وشيعة ويهوداً ويتم الدخول اليه من باب توما، حيّ المسيحيين، الذين أحبوا الأمين بإيمان وأمانة.. وما زالت صورته حاضرة في ذكريات الأبناء والأحفاد.
ومن هذه المدرسة التي كان فيها الأمين بكامل قيافته وملابسه الدينية، درّس النحو لتلاميذ الصف الثاني الابتدائي لمدة، إلى أن وجد معلماً. ومن المدرسة التي سميت باسمه لاحقاً واستمرت متميزة تربوياً وتعليمياً الى الآن، انطلقت أجيال دمشقية متعددة المذاهب والمشارب، من صف وطني واحد الى صف أدبي وأخلاقي واجتماعي واحد.. وأحاط به علماء دمشق وأدباؤها، وكان لقاء الأربعاء الأسبوعي في غرفته الطينية (الخشَّة) في حي (الخراب) يجمع أهل الاديان والمذاهب على مائدة العلم والأدب. وقد تخرّج عليه علماء من أبرزهم الشيخ علي الجمال الشيعي المحبوب والموثوق لدى أهل السنة، والشيخ محمد علي الزعبي السني الحوراني الذي أحبه الشيعة وأنصتوا له في دمشق، ثم مطوّلاً في بيروت، حيث استمر طويلاً في تدريسه في المسجد العمري، وكان طلابه من الشيعة والسنة، وكان من بينهم عشرات من الكادحين القادمين من أقاصي الجنوب والبقاع، وتحوّلت إمامته وخطبته في الجمعات الى موعد يجمعهم على المعرفة والمودة والوحدة والتقوى.
توفي السيد محسن الأمين في بيروت حيث شيّع تشييعاً شعبياً ورسمياً مهيباً كان له مثله أو أعظم في دمشق، التي كانت تتذكر حرصه وتشديده على الجبهة الوطنية السورية العام 1936 بضرورة الإضراب العام حتى تحقيق المطالب الوطنية في الاستقلال عن السلطة الفرنسية المنتدبة.. وخرجت الجبهة من عنده بقرار تنفيذ الإضراب، ما دعا سلطات الانتداب الى دعوتها للحوار والاتفاق الذي حصل فعلاً، ولكن الحرب العالمية الثانية، عطلت تنفيذه حتى العام 1943.. عام الاستقلال وبعده الجلاء، وهما الامران اللذان تحققا بالتعاون اللبناني السوري الذي كان من رموزه لبنانيون سوريون (فارس الخوري مثلاً) ولبنانيون كأنهم سوريون (حميد فرنجية مثلاً).
II ـ الشيخ الباقوري
كان الشيخ أحمد حسن الباقوري وكيلاً للجامع الأزهر ووزيراً للأوقاف ورئيساً للجامعة الأزهرية في ثلاث محطات من العهد الناصري، وكان فقيهاً متنوراً وصديقاً حميماً للسيد محمد تقي الحكيم الذي عزز مجالس الحوار العلمي في القاهرة وأسس الفقه المقارن في النجف وتمّ اختياره عضواً في مجامع لغوية وعلمية عربية كثيرة، وشارك في مجمع اللغة العربية في القاهرة بأبحاث جلبت اليه الانتباه والاحترام في عهدي رئاسة طه حسين ومحمد سلام مدكور.. وروى السيد عميد كلية الفقه وأحد كبار أساتذة الحوزة، أستاذنا الحكيم، انه كان في ندوة في القاهرة حول الشيعة، فقام من بين الحضور من ذكر مأخذاً على الشيعة بأنهم يعتبرون علياً أفضل الصحابة وأراد السيد الحكيم أن يرد.. فوقف الشيخ الباقوري وقال: وأنا أعتبر أن علياً أفضل الصحابة، وصفق مَن في القاعة.
III ـ عبد الرحمن الشرقاوي
سئل المرحوم المفكر والأديب والشاعر المصري اليساري ـ عبد الرحمن الشرقاوي لماذا كتبت كتابك «علي إمام المتقين» فقال أنا رجل آمنت بالعدالة وناضلت من أجلها، ولكني وصلت الى اليأس فبحثت عن مثال أراد العدل وضحى من أجله ومنع من إقامته ليكون لي مثالاً أتعزّى به حتى لا أتهم نفسي بالفشل فوجدت عليّاً فعزاني. ونشرت الأهرام سيلاً من المقالات في تقييم الكتاب أو نقده ومن هذه المقالات من اتهم الشرقاوي بالتشيع فردّ في مقال قال فيه إنه لم يرجع الى أي مصدر شيعي وكل فضائل علي التي رواها إنما اقتبسها من مؤلفات علماء السنة، والشرقاوي هو الذي ألف في الستينيات مسرحيتيْه الشعريتيْن «الحسين شهيداً» و«ثأر الله».