شكلت شخصية الرسول محمد بن عبدالله أحد أبرز الموضوعات التي تناولها المستشرقون كونه محور الرسالة الإسلامية ومتلقي الوحي القرآني ومؤسس الدولة الإسلامية، حيث اتخذ التأليف في صورة النبي العربي أشكالاً مختلفة في الخطاب الاستشراقي، سواء كان ذلك في بدايات الوعي المسيحي الأوروبي بالإسلام ومحاولات تشويه صورة النبي محمد والطعن في الوحي القرآني والإسلام، أو في مرحلة لاحقة حيث بدأ الاستشراق بالتعرّف إلى الإسلام والرسول والقرآن من خلال النصوص الإسلامية وابتعاد الخطاب الاستشراقي عن الأحكام النمطية.
كانت الصورة الأوروبية التقليدية عن الإسلام والنبي، والتي لا تزال أجزاء منها تقاوم الزوال، من صنع رجالات الكنيسة مند القرن التاسع الميلادي حيث زعم اللاهوتيون أن النبي محمد هو المسيح الدجال المذكور في العهد القديم ورؤيا يوحنا، وهو الأمارة الرئيسة لليوم الآخر. فيما رأى لاهوتيون كثيرون أن محمداً هو مطران أو بطريرك في الأصل، انشق عن الكنيسة الكاثوليكية بعد شجار مع بطريرك القسطنطينية فشكل «هرطقة» انفصلت عن المسيحية، ربما بتأثير قصة الراهب بحيرا وعلاقته المزعومة بالنبي محمد.
هذه الصور المتخيّلة والنمطية عن الإسلام وغيرها بقيت من القرن التاسع إلى بدايات القرن الثالث عشر الميلادي، وهي حقبة وصفها ريتشارد سوذرن بـ «حقبة الجهل» بالإسلام، وامتدت إلى عصور الاستشراق، أي إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
وظلت مصادر الأوروبيين عن الإسلام حتى مطلع القرن الثالث عشر عبارة عن تحريفات بيزنطية قديمة، وأساطير خيالية، وتصوّرات تعود في جذورها لرؤى العهد القديم النشورية، إلى أن بدأت تظهر في النصف الثاني من القرن الثاني عشر اتجاهات أكثر مقاربة للحقيقة التاريخية، على غرار برس دالفونسو ووليام مالمسبري وتييمو، الذين قالوا «إن محمداً عند المسلمين هو نبي وليس إلهاً، وإن الإسلام دين وحدانية وليس مذهب تعدد الآلهة. لكن هذه الأقوال ظلت ضائعة في بحر الخيالات والأوهام».
وعلى رغم ترجمة القرآن عام 1143م وبعض الكتب عن الإسلام إلى اللاتينية ودراسة القساوسة للنص القرآني ومحاولتهم إجراء حوار مسيحي – إسلامي لدعوة المسلمين إلى الكاثوليكية، إلا أنه لا نلحظ تطوّراً في تقدم فهم الأوروبيين للإسلام، وبقيت التصوّرات النشورية والتخيلية عن الإسلام والرسول مهيمنة في الوعي المسيحي الأوروبي في القرن الخامس عشر، وذلك بسبب الاهتمام بمواجهة الإسلام أكثر من اهتمامهم بالتعرّف إليه، والتحضير للحرب الصليبية المقبلة.
اعتاد الأوروبيون مند بدايات العصور الوسطى على النظر إلى النبي محمد «باعتباره رجلاً عاش حياة غير حميدة وكان غارقاً – في زعمهم – في حمأة الدنيا وشهواتها». فهذه الصورة عن الإسلام ونبيه «لم تنشأ دفعة واحدة، بل تكوّنت عبر مراحل تاريخية». هذه الصورة النمطية خرجت من جوف صدمة الوعي المسيحي من الفتوحات العسكرية الإسلامية وتوسع الإسلام على حساب المسيحية واعتباره عائقاً أمام التطور الطبيعي للمسيحية، أي أن الوعي الغربي الوسيطي لم يرَ في رسالة النبي غير انحراف بالدين التوحيدي عن مساره الطبيعي الذي يقود إلى انتصار نهائي للمسيحية.
وقد كتب كبار المفكرين والأدباء والعباقرة من جنسيات وديانات مختلفة عن النبي محمد وشخصيته وسيرته ربما أكثر مما كتب عنه المسلمون، ومن بين هؤلاء المستشرق البريطاني مونتغومري وات الذي كتب كتباً عدة عن سيرة الرسول وشخصيته القيادية كنبي مرسل وقائد سياسي ورجل دولة.
يقول وات إن الروايات التي وصلتنا عن خَلق محمد تتفق عموماً وهي قريبة من الحقيقة، وإن كان بعضها يعبّر عن نزعة لرسم صورة لمحمد الرجل الكامل أو المثالي. فمحمد كان – وفق هذه النصوص – متوسط القامة أو فوق المتوسط قليلاً، عريض المنكبين واسع الصدر قوي البنية، طويل الذراعين، ضخم اليدين والرجلين. وكان مرتفع الجبين، أقنى الأنف، له عينان واسعتان سوداوان، وكان شعره طويلاً كثاً سبطاً أو جعداً. وكان كث اللحية أيضاً، ويحيط بعنقه وصدره خط من الشعر الخفيف. وكان ناحل الخدين، واسع الفم، حلو الابتسامة، شاحب اللون، ويمشي وكأنه يسرع من منحدر حتى ليصعب اللحاق به. وكان إذا غيّر اتجاهه يدور بكل جسمه في الاتجاه الذي يسير فيه.
أما من جهة خُلقه، فيقول وات: «كان محمد ميالاً إلى الكآبة، يستطيع البقاء وقتاً طويلاً لا ينبس ببنت شفة إذا استغرق في تأملاته، وكان لا يستريح قط دائم المشاغل بطرق مختلفة، ولم يكن يتفوّه بكلمة لا طائل تحتها. وكان ما يقوله دقيقاً واضحاً سهل الفهم خالياً من البلاغة. وكان كلامه دائماً سريعاً، يعرف كيف يسيطر على عواطفه. وكان إذا انزعج أدار وجهه إلى الناحية الأخرى، فإذا رضي غضّ بصره. وكان يعرف كيف يقسّم وقته بين مشاغله الكثيرة والطلب الكثير عليه، وكان يظهر في علاقاته مع أقرانه الكثير من اللباقة. وكان يستطيع أن يكون صارماً أحياناً، ولكنه على العموم لم يكن فظاً بل لطيفاً، وكان ضحكه في الغالب ابتسامة».
ويضيف وات في معرض وصفه لأخلاق الرسول محمد، أن هناك الكثير من القصص التي تدل على دماثته وحساسيته، والتي تتمتع بالصدقية، وهي في مجموعها ترسم صورة صحيحة عنه. ويستشهد برواية تشرح كيف أبلغ النبي أسماء، أرملة جعفر بن أبي طالب، بخبر مقتل زوجها وكيف احتضن أطفال جعفر وشمّ رائحتهم كما تفعل الأم مع صغارها ثم بكى
كما يشير المستشرق البريطاني إلى حب محمد للأطفال حيث كان يشعر بحنين خاص نحوهم وكان الأطفال يحبونه دوماً، مذكّراً بعطفه الأبوي على ربيبه زيد، وتعلّقه الشديد بابن عمه علي بن أبي طالب الذي عاش فترة في عائلته. وكان النبي يشارك الأطفال في ألعابهم ويتخذهم أصدقاء ويمزح معهم. وكان محمد رؤوفاً بالحيوانات أيضاً فحين مسيره لفتح مكة رأى كلبة مع صغارها فأمر بعدم إخافتها.
ويخلص وات إلى أن تلك ملامح مفيدة في شخصية النبي محمد (ص) تساعده على إتمام الصورة التي يتخيّلها له من خلال سلوكه في الشؤون العامة.
ويرى أن محمداً كان يكسب احترام الناس وثقتهم بسبب الدوافع الدينية التي كانت أساس عمله وبصفات امتاز بها كالشجاعة والعزم وعدم التحيّز والصلابة التي تقارب الصرامة يُلطّفها كرمه وسخاؤه، إضافة إلى أن السحر المنبعث من سلوكه كان يضمن له تأثيره في المقرّبين منه وتعلقهم به وإخلاصهم له.
يقول وات في كتابه «محمد في مكة»: «منذ دراسة كارلايل عن محمد في كتابه «الأبطال وعبادة البطل» (Heroes and Hero-worship)، أدرك الغرب أن هناك سبباً قوياً للاعتقاد بصدق محمد. إن استعداده للتعرض للتنكيل في سبيل معتقداته، والشخصية الأخلاقية النبيلة للرجال الذين آمنوا به واتخذوه قائداً، والعظمة البادية في إنجازاته النهائية إنما تصب في معين نزاهته المتأصلة».
ويشير إلى أنه ما من شخصية من عظماء التاريخ تعرضت للشتم والإهانة في الغرب كما كان مع محمد، وإنه من الصعب فهم سبب ذلك. ويضيف وات أن محمداً أصبح في نظر الأوروبين «ماهوند»، «أمير الظلمات»، واستمرت هذه الدعاية المشوّهة للإسلام والنبي حتى إذا ما حلّ القرن الحادي عشر كان للأفكار الخرافية المتعلقة بالإسلام والمسلمين والقائمة بأذهان الصليبيين تأثير يؤسف له
ويرى المستشرق البريطاني أن اتهام الغرب المسيحي محمداً بالخداع وانتحال النبوة لا يفسّر لنا لماذا كان محمد مستعداً – في الفترة المكية – لتحمّل جميع صنوف الأذى والحرمان والاضطهاد، عندما لم تكن هناك احتمالات لنجاحه، وفق نظرة علمانية مادية للواقع آنذاك، وأنه فقط إيمانه العميق بنفسه وبمهمته يفسران ذلك. كما أن ذلك الاتهام لا يجعلنا نفهم كيف نجح في تأسيس ديانة عالمية أنجبت رجالاً قداستهم واضحة للعيان، وكيف كان يمكنه كسب تأييد رجال ذوي شخصيات قوية ومستقيمة كأبي بكر وعمر، إلا إذا افترضنا صدق محمد، أي أنه كان مقتنعاً حقاً بأن القرآن هو وحي نزل عليه من الله وليس من إنتاج خياله.
ويرفض وات اتهام الغرب النبي محمداً بأنه كان شهوانياً، فلم يكن في حياة محمد الجنسية ما يحمل معاصريه على الحكم عليه بأنه لا يتفق مع نبوته، فمن المؤكد أنه كان يسيطر تماماً على عواطفه أمام النساء، وأنه لم يكن ليتزوج إلا إذا كان هذا الزواج مستحسناً سياسياً أو اجتماعياً.
ويخلص المستشرق البريطاني إلى أن الظروف التي يجب أن يحاكم على أساسها الرسول محمد (ص) هي المبادئ الأخلاقية لشبه الجزيرة العربية التي يعترف بها أفضل الناس أخلاقاً في هذا العصر. ويعتبر أن محمداً كان بمقاييس عصره مصلحاً للشؤون الاجتماعية وللقيم الأخلاقية، فقد أوجد نظاماً جديداً يساعد الأمة الإسلامية على الشعور بالأمن والطمأنينة. كما افتتح تنظيماً اجتماعياً جديداً، واقتبس كل ما رآه حسناً عند البدو لتلبية الحاجات الحضارية للمجتمع، وأقام إطاراً دينياً تسير عليه حياة سدس الجنس البشري.
وعلى رغم تسنمه السلطة المطلقة في المدينة، إلا أنها لم تفسده إطلاقاً، فقد كان سيد المدينة رجل عصره، كما كان الداعي المضطهد في مكة، وليس المثل الأعلى عند الداعي في مكة أرفع من المثل الأعلى عند القائد والمصلح في المدينة. و «كان معاصرو محمد في الفترتين المكية والمدنية ينظرون إليه على أنه رجل فاضل ومستقيم وقد وجد التاريخ فيه مصلحاً اجتماعياً».
وعلى العكس مما وجهه الغربيون المعاصرون لمحمد من انتقادات في شأن سلوكه الأخلاقي، فإن معاصريه لم يجدوا في سلوكه أي عيب أخلاقي بأي شكل من الأشكال، بل حتى بعض الأفعال التي انتقد الغربيون محمداً للقيام بها أظهرت أن معايير محمد الأخلاقية كانت أعلى من تلك التي كانت سائدة في عصره.
عظمة محمد
يذهب المستشرق البريطاني إلى أن ظروفاً زمانية ومكانية مؤاتية قد ساعدت محمداً، وأن قوى مختلفة قد عملت لإعداد المسرح الذي يظهر علي النبي وإتاحة الفرصة لانتشار الإسلام. وهو يذكر منها الاضطراب الاجتماعي في مكة والمدينة، وحركة الدعوة إلى التوحيد، ورد فعل سورية ومصر ضد الهيلينية، وأفول الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية، وأخيراً النزعة المتزايدة عند البدو العرب لانتهاز كل فرص السلب والنهب التي تسنح لهم من المجتمعات الحضرية المجاورة. لكنه يعتبر أنه – مع ذلك – لا يمكن هذه القوى أن تفسر بنفسها إنشاء إمبراطورية كالخلافة الأموية، أو التطور الذي جعل من الإسلام ديانة عالمية. فهو يؤكد أنه «لولا هذا المزيج الرائع من الصفات المختلفة الذي نجده عند محمد، لكان من غير الممكن أن يتم هذا التوسع، ولاستنفدت تلك القوى الجبارة في غارات على سورية والعراق من دون أن تؤدي إلى نتائج دائمة».
يقول المستشرق البريطاني: إن محمداً أوتي ثلاث هبات كانت كل واحدة منها ضرورية لإتمام عمله، وهي:
أولاً، فقد أوتي موهبة خاصة على التنبؤ أي معرفة المستقبل والتي كان يسميها العرب الكهانة، فكان للعالم العربي، بفضل محمد أو بفضل الوحي الذي ينزل عليه – وفق اعتقاد المسلمين – نظام فكري كان ممكناً من خلاله حل بعض التوترات الاجتماعية. وكان هذا النظام الفكري يتطلب رؤية لأسباب الاضطراب الاجتماعي في ذلك العصر، وعبقرية ضرورية للتعبير عن هذه الرؤية في صورة تستطيع إثارة السامعين حتى أعماقهم. كما أن القرآن كان موافقاً لحاجات الزمن وظروفه.
الموهبة الثانية، كانت حكمة محمد كرجل دولة. فالبنية المفاهيمية التي جاءت في القرآن كانت مجرد إطار هيكيلي كان من شأنه أن يدعم إنشاء سياسات واقعية ومؤسسات متماسكة. لقد كان محمد ذا استراتيجية سياسية بعيدة النظر ظهر ذلك في التوسع السريع الذي جعل من دولته الصغيرة إمبراطورية عالمية إثر وفاته، وتكيف مؤسساته الاجتماعية مع بيئات مختلفة عدة واستمرارها خلال أكثر من ثلاثة عشر قرناً.
أما الموهبة الثالثة التي أوتيها محمد وفق وات، فهي أنه كان إدارياً بارعاً، وحكيماً في اختيار الرجال الذين ينتدبهم للشؤون الإدارية. وعندما توفي النبي، كانت الدولة التي أسسها، قد أضحت قادرة على الاستمرار في وجه الصدمة التي أحدثها غياب مؤسسها، وقد تعافت الدولة من هذه الصدمة كي تتمدد بسرعة مذهلة.
ويخلص وات إلى أنه كلما فكرنا في تاريخ محمد وتاريخ الإسلام المبكر، دهشنا أكثر أمام عظمة إنجازه واتساعه. ومع أن الظروف كانت مؤاتية لمحمد فأتاحت له فرصاً للنجاح، على غرار القليل من الرجال، غير أنه كان مواكباً للظروف تماماً. «فلو لم تكن له هذه المواهب كمتنبئ (Seer) ورجل دولة وإدارة، ووراء ذلك، ثقته بالله وإيمانه الثابت بأن الله أرسله، لما كتب فصل معتبر من تاريخ البشرية».
* باحث في الفكر العربي والإسلامي