ترجمة: صفاء الدين الخزرجي
مدخل ــــــــــ
القرآن الكريم كتاب سماوي نازل من الصّقع الربوبي، وبلاغ إلهي جاء به النبي 2 إلى البشرية جمعاء، وفي قبال هذا المصحف الشريف الصحيفة السجادية، رمزٌ لعبوديّة الإنسان الكامل أمام الحضرة الربوبيّة، ونداء الإنسان الصاعد إلى الله سبحانه، فالقرآن ــ وكما يعبّر عنه بعض العارفين ــ هو الكتاب النازل من قبل السماء، والدعاء هو القرآن الصاعد إليها.
إنّ الصعود والعروج من الأرض إلى الملكوت يتحقّق عندما يؤثّر الوحي الإلهي أثره الكافي في النفوس المستعدة فيصقلها ويلطفها.. >إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه< (فاطر: 10)، أمّا النفوس الخبيثة، ففضلاً عن حرمانها من ذلك، لا يزيدها نور الوحي إلاّ ضلالاً وحيرة، كنور الشمس الساطعة لا تزيد الخفاش إلاّ عمى… وكماء الحياة الذي لا يكون لمثل هذه النفوس إلاّ كالسم المهلك.
هكذا كان الأمر في أحاديث النبي الأكرم 2 بالنسبة لمثل أبي جهل ومن هو على شاكلته.. >وننـزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً< (الإسراء: 82)… >قل هو للذين آمنوا هدىً وشفاءٌ والذين لا يؤمنون في آذانهم وقرٌ وهو عليهم عمىً أولئك ينادون من مكان بعيد< (فصلت: 44).
ونهج البلاغة، ذلك الكتاب المفعم بآيات الذكر الحكيم والدعاء، والذي هو ــ بأقسامه الثلاثة ــ رشحات نورانية من تلك الروح الكبيرة لأمير
المؤمنين C، يأتي من هذا المنطلق؛ ليمثل نداء الإنسان الكامل إلى سائر الناس.
لقد وجّه الإمام علي C في نهج البلاغة ــ الذي هو بدوره استلهام من القرآن، وانعكاس لآياته، وبرنامج حياتي يستمد من السنة الشريفة ــ خطابه إلى البشرية، وأوضح فيه سُبل الهداية للسالكين والسائرين على طريق الحقّ.
وسنتناول في هذا المقال بعض كلمات الإمام عليّ بن أبي طالب C في نهج البلاغة، المتكفّلة ببيان منهجيته C في تعامله مع الناس، ومع المسؤولين، وجهاز الدولة، لنكوّن ــ عبر ذلك ــ صورةً عن طبيعة النظام السياسي الإسلامي.
لا يكاد يخفى ما لسلوك مسؤولي الدولة، وعلى رأسهم الحاكم أو القيادة العليا، مع الناس من جهة، وسلوك الحاكم نفسه مع أركان دولته وجهازه الإداري من جهة ثانية، وكذلك تعامل الناس مع الطبقة الحاكمة من جهة ثالثة، ما لذلك كلّه من دور وتأثير في بناء المجتمع الرسالي وصياغة الجماعة الصالحة.
وبعبارة أخرى، إنّ الارتباط الوثيق للحاكم برعيته وشعبه، وكذلك الطبقة الحاكمة مع فئات الشعب وطبقاته، يلعب دوراً مهمّاً في تكوين المجتمع الراقي، فلو كان أداء الحاكم ضعيفاً، أو كان يعيش العزلة عن شعبه، أو لم تكن رقابته للجهاز الحاكم بالمستوى المطلوب، فإنّ إدارة مثل هذا المجتمع قد تخرج عن طاقة الشخص العادي، بل تكون بحاجة إلى قدرات استثنائية.
من هنا، كان من المناسب تخصيص دراسة مستقلة لبعض الرسائل، والخطب الواردة في هذا الشأن عن الإمام أميرالمؤمنين C، لكي يتضح دور
الإمام C في مجتمعه الذي كان يقوده ويتزعمه، ومدى حضوره فيه، حيث كان ينعى على الاُمراء والرؤساء احتجابهم عن الناس، وكانت سيرته العملية قائمةً على معاشرة طبقات المجتمع، والاختلاط معهم، والتحدث إليهم، دون أن يمنعه من ذلك مانع.
كان الإمام C يسعى جاهداً إلى حلّ مشاكل الناس، والنظر في شكاواهم ومتابعتها بكلّ اهتمام وتكريم، كما كان يسعى لوضع العلاج قبل وقوع المشكلة.. وسنعرض فيما يلي إلى بعض نماذج السلوك العلوي في هذا المجال، بحسب ما ينقله السيد الرضي في نهج البلاغة:
1 ــ الرقابة على المقياس العقائدي للأمّة، وحراسة الثغور الفكرية والعقائدية لها.
2 ــ الاستماع لشكاوى الناس والاهتمام بها ومتابعتها.
3 ــ إخضاع سلوك المسؤولين للرقابة الدقيقة.
وتعكس كلّ واحدة من هذه الأُمور بدورها، طرفاً من سيرة الإمام وسلوكه العلوي الرفيع.
الرقابة على المقياس العقائدي للأُمّة ــــــــــ
شجب الإمام C في بعض خطبه العقائد الفاسدة، التي كان يحملها بعضهم وندّد بها أيّما تنديد، وكان يبادر إلى معالجتها، كالطبيب الدوّار بطبّه، من دون إهمال لها أو تسويف.. فقد اطّلع C ــ على سبيل المثال ــ على ما آل إليه أمر عاصم بن زياد من التباس مفهوم الزهد عليه، فأبان له C زيف تلك الأوهام الشيطانية، التي تمثّلت لـه بقالب الزهد والعزوف عن الدنيا. يقول ابن أبي الحديد: ((فما قام علي C حتى نزع عاصم العباء ولبس ملاءة))([1]).
وخلافاً لما كان عليه عاصم، فقد كان أخوه العلاء بن زياد يعيش عيشةً مرفّهة، وهو من أصحاب الإمام C، الذين تربطهم به علاقة حسنة. دخل عليه الإمام C يعوده في البصرة، وكان له فيها دار وسيعة، فقال
له C: ((ما كنت تصنع بسعة هذه الدار، أما أنت إليها في الآخرة كنت أحوج))([2]).
كان الإمام C يريد لأصحابه والمقرّبين منه، أن يتأسّوا به في مساواة نفسه بضعاف الناس، فكان يحرّم على نفسه كثيراً من المباحات التي تحلّ لغيره، ما دام يتولّى مسؤولية الحكم. وبالرغم من تمكّنه من الدنيا، نجده ينفق من أمواله في سبيل الله، ويسعى إلى تحسين وضع أهل الفاقة.. فقد واجه العلاء بن زياد الحارثي بهذا الشكل الذي نقلناه.. إلاّ أنه سرعان ما تدارك كلامه هذا بقولـه: ((وبلى إن شئت بلغت بها الآخرة، تقري بها الضيف، وتصل فيها الرحم، وتُطلِعُ منها الحقوق مطالعها، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة)) كي لا يكون ذلك ذريعةً للدعوة إلى الزهد الأجوف والمرائي.
وما أن وقف العلاء على كلام الإمام وتعقَّله، حتى شكا إليه أخاه عاصم، وما هو عليه من الزهد والتقشّف، فقال: ((يا أمير المؤمنين أشكو إليك أخي عاصم)).
فقال له الإمام C: ((وما له؟)) فقال: ((لبس العباءة وتخلّى من الدنيا)). قال C: ((عليّ به))، فلما جاءه، قال: ((يا عُدّي نفسه! لقد استهام بك الخبيث، أما رحمت أهلك وولدك؟ أترى الله أحلّ لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها؟ أنت أهون على الله من ذلك)). فقال عاصم ــ وهو يشير إلى السبب في سلوكه هذا ــ: ((يا أميرالمؤمنين، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك))، قال C: ((ويحك إنّي لستُ كأنت، إنّ الله تعالى فرض على أئمة الحقّ أن يُقدّروا أنفسهم بضعفة الناس، كيلا يتبيّغ بالفقير فقره)).
وكان له C موقف مشابه مع عثمان بن حنيف، حيث وضع طريقته الخاصّة في التعامل مع الأموال العامة عندما قال له: ((ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طُعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّة وسداد))([3]).
لقد تعامل الإمام C في هذه الموارد الثلاثة بشكل منطقي ومعقول، وبيّن الموقف الصحيح منها، وذلك من خلال:
أولاً: بيانه لسلوكه الزاهد الذي بيّنه لعاصم وعثمان بن حنيف.
ثانياً: بيانه لما ينبغي أن تتحلّى به الطبقة الحاكمة من صفة الزهد المقترن بحالةٍ من الرفاه النسبي للأغنياء منهم في حدود ما يتأدّى به الحقّ الإلهي، وحقّ الناس.
ثالثاً: تجويزه للناس الاستمتاع بالمواهب والنعم الإلهية، ورفضه لمفهوم العزوف عن الدنيا والإعراض عنها.
وهكذا فقد كان تعامل الإمام C تعاملاً معتدلاً ومعقولاً، وبمنهجيّة منطقيّة خالية من الإفراط والتفريط.
لقد كرّر الإمام C في بداية كلامه وفي آخره عند خطابه للعلاء بن زياد قوله: ((إنك لا تستطيع أن تعمِّر بهذه الدار أمر آخرتك)).
وفي هذا التكرار نكتة بلاغية لا تخفى؛ لتأكيد المطلب.. ومن جهة اُخرى فإنّ تعبير الإمام C جاء دقيقاً ومناسباً عندما قال: ((ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا…؟!))، ولم يقل مثلاً: لماذا تمتلك مثل هذه الدار؟ أو ما هو قريب من ذلك.
وقد أوضح الإمام الصادق C هذا الأساس التربوي بأفضل بيان، عندما قال له أحد أصحابه يوماً: إني أحب الدنيا. قال: ((تصنع بها ماذا؟))، قال: أتزوج منها، وأحج، وأنفق على عيالي، وأنيل وأتصدّق. فقال له
الإمام C: ((ليس هذا من الدنيا، هذا من الآخرة))([4]).
قال الله تعالى: >يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً< (المؤمنون: 51). وقد روى ابن أبي الحديد في شرحه من سيرة الرسول الأعظم 2، أنه قال لبعض أزواجه: ((ما لي أراكِ شعثاء، مرحاء، سلتاء))([5]).
شكاية القاعدة وآليّات التعاطي السياسي ــــــــــ
الأمر الآخر الذي يمكن ملاحظته في السيرة العلوية المباركة، شدّة اهتمام الإمام C بشكاوى الناس، والتعامل معها بجدّية، ومتابعتها بشكل مباشر وغير مباشر.. والذي يلاحِظ مكاتبات الإمام C ورسائله في ذلك، يجد أنه لا يكشف عن الشاكي، ولا يفصح عن اسمه، بل يكتفي بالكتابة إلى المسؤول الذي يعنيه الأمر، أنه قد (بلغني).
لقد كان الإمام C ينـزّل آحاد الناس منـزلة الولد له، ويوصي بهم ولاة البلاد والأصقاع خيراً، فهو القائل في كتابٍ له لمحمد بن أبي بكر: ((فاخفض لهم جناحك، وألن لهم جانبك، وابسط لهم وجهك، وآس بينهم في اللحظة والنظرة))([6]).
وليس هذا بمعنى المساواة بين الجميع، المحسن منهم والمسيء؛ لأن ذلك خلاف سيرة الإمام علي C في الإطراء على المحسن وتقريبه، وذمّ المسيء وملامته: ((ولا يكوننَّ المحسن والمسيء عندك بمنـزلةٍ سواء..))([7]).
كان الإمام C يميّز في تعامله بين المطيع والمتمرّد، وبين المحسن والمسيء، فقد كتب في كتابٍ له إلى أهل الكوفة يثني عليهم قائلاً: ((وجزاكم الله من أهل مصر عن أهل بيت نبيكم أحسن ما يجزي العاملين بطاعته، والشاكرين لنعمته، فقد سمعتم وأطعتم، ودُعيتم فأجبتم))([8]).
وكتب C إلى أهل البصرة بعد حرب الجمل: ((وقد كان من انتشار حَبلِكُم وشقاقكم ما لم تَغْبَوا عنه، فعفوتُ عن مجرمكم، ورفعتُ السيف عن مُدبركم، وقبلتُ من مقبلكم. فإن خَطَت بكم الأُمور المردية، وسفه الآراء الجائرة إلى منابذتي وخلافي، فها أنا ذا قد قرَّبتُ جيادي، ورحَلْتُ ركابي، ولئن ألجأتموني إلى المسير إليكم؛ لأوقعنَّ بكم وقعة لا يكون يوم الجمل إليها إلا كلعقة لاعق، مع أني عارف لذي الطاعة منكم فضله، ولذي النصيحة حقّة، غير متجاوز مُتَّهماً إلى بريءٍ، ولا ناكثاً إلى وفيٍّ))([9]).
وكتب C في عهده إلى مالك بن الأشتر يوصيه بالرحمة بالناس، والرفق بهم: ((فإن شكوا ثقلاً أو علّةً.. خفَّفت عنهم بما ترجو أن يَصلُح به أمرهم))([10]).
كما أوصاه بالمساواة بين جميع الناس، قائلاً: ((فإنّ للأقصى منهم مثل الذي للأدنى))([11]).
وقال أيضاً يوصيه بالرعية: ((وأشعِر قلبك الرحمة للرعية، والمحبّة لهم، واللطف بهم.. أنصف الله وأنصف الناس من نفسك، ومن خاصّة أهلك، ومن لك فيه هوىً من رعيتك، فإنك إلا تفعل تظلم))([12])… ما أعظمها من كلمة! تصلح قانوناً للحكّام والولاة، في أن يرفقوا بالرعية ويرحموها، وإلاّ كانوا على حافّة الظلم إن عاجلاً أو آجلاً.
كان الإمام C ينطلق في وصاياه من منطلق صيانة الكرامة الإنسانية، فيوصي ولاتَه بالناس قائلاً: ((فإن شكوا ثقلاً أو علةً، أو انقطاع شرب أو بالَّة، أو إحالة أرض اغتمرها غرق، أو أجحف بها عطش، خفَّفت عنهم بما ترجو أن يصلُح به أمرهم))([13]).
ويقول أيضاً: ((واعلم أنه ليس شيء بأدعى إلى حُسن ظنّ راعٍ برعيّته من إحسانه إليهم، وتخفيفه المؤونات عليهم، وترك استكراهه إيّاهم على ما ليس له قبلهم))([14]).
كما أنه C كان يرى لزوم حفظ أسرار الرعية، والتكتّم عليها: ((فإنّ في الناس عيوباً، الوالي أحقُّ مَن سَتَرَها، فلا تكشفنَّ عمّا غاب عنك منها، فإنّما عليك تطهير ما ظهر لك))([15]).
وممّا تجدر الإشارة إليه في هذا المضمار، أن السياسيّين في الأنظمة الفاسدة جميعها، يحاولون ــ عند العجز عن إصلاح الأُمور ــ الإلقاء باللائمة على غيرهم، وتبرئة الحكّام من ذلك، وإظهارهم بمظهر الجاهل بوجود هذه المفاسد.. وهذا ما يكشف عنه الإمام أميرالمؤمنين C بكلّ وضوح، ومن غير دفاعٍ أو تبرير لسلوك الولاة والعمّال، حيث يكتب لبعض عمّاله، بأن الرعية تحمّل الوالي أخطاء من ينصّبهم عليها إذا هو لم يُعر أهميّةً لذلك، سواء كانت سيرة شخص الوالي حسنةً أو سيئة مع الرعية، فهو ــ لا محالة ــ مسؤول عن تلك الأخطاء بنظر الأُمّة.
على خطٍّ آخر، نجد الإمام C يحاول من خلال وصاياه للولاة، تأمين المستوى الأفضل من الراحة والرفاه لحياة الرعية، حيث يوصيهم بالرقابة على الأسعار وضبطها، وعدم التلاعب بها، فيقول: ((وتفقّد أ ُمورهم بحضرتك، وفي حواشي بلادك، واعلم ــ مع ذلك ــ أنّ في كثير منهم ضيقاً فاحشاً، وشحّاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع، وتحكّماً في البياعات، وذلك باب مضرّةٍ للعامة، وعيبٍ على الولاة))([16]).
الرقابة على المسؤولين والموظّفين الحكوميين ــــــــــ
كانت سيرة الإمام علي C قائمةً عى متابعة الشكاوى والاعتراضات، وإبلاغها إلى المسؤولين المعنيّين من خلال مكاتبتهم بالأمر، ولومهم عليه، ونصيحتهم وتوجيههم لما ينبغي ويلزم.. وتختلف هذه المكاتيب باختلاف الموارد والموضوعات، إلاّ أنها شاملة للجميع بلا استثناء؛ لأنّه C كان يراقب الجميع بلا استثناء، ولا يحجزه في ذلك قرابةٌ بسببٍ أو نسب.
لقد تضمنت بعض هذه الرسائل وصايا وتوجيهات عامّة، من خلال نقد
الإمام C لسيرة بعض الولاة. فقد كتب لكميل بن زياد قائلاً: ((أمّا بعد، فإنّ تضييع المرء ما وُلّي، وتكلّفه ما كُفي لَعَجزٌ حاضر ورأيٌ متبّر))([17]).
والظاهر من هذه الرسالة، أنّ كميل كان قد تخطّى حدود مسؤوليّته المناطة به بما يلزم منه الضرر على المسلمين، فضلاً عن خلوّ تصرّفه من المصلحة لهم.. ومما لا شك فيه، فإنّ تراكم المسؤوليات وتداخلها، وتخطّي حدودها، يُعدّ من أعظم الإشكاليات التي تؤدي إلى خسائر فادحة وكبيرة تلحق بالنظام.
لقد اشتملت رسائل الإمام علي C إلى ولاته على نكات مهمّة تتعلّق ببعض الأخطاء في سلوكيّاتهم وخياناتهم، كما في رسالته إلى ابن عمه ابن عباس، التي احتوت على مسائل مهمّة: ((أمّا بعد، فإنّي كنت أشركتك في أمانتي… فلا ابن عمك آسيت، ولا الأمانة أدّيت، وكأنّك لم تكن الله تريد بجهادك، وكأنّك لم تكن على بينة من ربّك، وكأنّك إنما كنت تكيد هذه الأُمّة عن دنياهم، وتنوي غرّتهم في فيئهم، فلما أمكنتك الشدّة في خيانة الأُمّة أسرعت الكرّة، وعاجلت الوثبة، واختطفت ما قدرت عليه من أموالهم المصونة لأراملهم وأيتامهم اختطاف الذئب الأزلّ دامية المعزى الكسيرة، فحملته إلى الحجاز.. فاتّق الله، واردد إلى هؤلاء القوم أموالهم، فإنّك إن لم تفعل ثمّ أمكنني الله منك لأُعذِرنَّ إلى الله فيك، ولأضربنّك بسيفي الذي ما ضربت به أحداً إلاّ دخل النار))([18]).
قال الشارح البحراني في تفسير معنى الشراكة: ((إشراكه إيّاه في أمانته التي ائتمنه الله عليها، وهي ولاية أمر الرعية، والقيام بإصلاح أ ُمورهم في معاشهم ومعادهم))([19]).
وأعظِم بها من كلمة، تحثّ الولاة والمسؤولين ــ في أيّ رتبة ومقام كانوا ــ على الاهتمام بحياة الناس، وإعمارها في الدنيا والآخرة.
والملاحظ في هذ النصّ أنّ الإمام C لم يأخذ بنظر الاعتبار قرابته من ابن عباس، فلذا نجده يتكلّم معه بأشدّ ما يكون الكلام.
ويردّ الإمام C في ذيل رسالته على ما يتوهّمه أمثال ابن عباس، فيُقسم بالله قائلاً: ((وأ ُقسم بالله ربِّ العالمين ما يسرّني أنّ ما أخذته من أموالهم حلالٌ لي، أتركه ميراثاً لمن بعدي))([20]).
كما كتب C مخاطباً المنذر بن الجارود بعد خيانته، وسرقته أربعة آلاف درهم من بيت المال: ((أمّا بعد، فإنّ صلاح أبيك غرّني منك، وظننتُ أنّك تتّبع هديه، وتسلك سبيله، فإذا أنت فيما رُقِّي إليَّ عنك لا تدعُ لهواك انقياداً، ولا تُبقي لآخرتك عتاداً، تعمر دنياك بخراب آخرتك، وتصل عشيرتك بقطيعة دينك))([21]).
ويتّضح من هذا الكتاب، أنّ الإمام علي C وإن كان يلاحظ في اختيار الولاة أ ُسرهم التي ينتمون إليها، إلاّ أنّه لم يكن يكتفي بذلك فحسب، بل يلاحظ السلوك الشخصي للفرد، وينتقد سلوك الولاة الذين يُقدّمون قومهم، ويحملونهم على رقاب الناس، وهي ظاهرة تُعدّ من أهم نقاط الضعف التي تتعرّض لها الحكومات.
وفي كتاب آخر له C إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني جاء فيه: ((بلغني عنك أمرٌ إن كنت فعلته فقد أسخطتَ إلهك، وعصيتَ إمامك. إنّك تقسم فيء المسلمين الذي حازته رماحُهُم وخيولُهُم، وأ ُريقت عليه دماؤُهُم، فيمن اعتامكَ من أعراب قومك))([22]).
وقد كان مصقلة والياً على أردشير خرّة من بلاد فارس، فكان يوزّع المال في أبناء قومه من العرب، ويدنيهم، ويحرم باقي المسلمين من ذلك، ثم التحق ومعه أموال بيت المال بمعاوية([23]).
وكتب إلى زياد بن أبيه خليفة عامله ابن عباس على البصرة، وكانت ولايته على مناطق واسعة هناك، تشمل الأهواز وكرمان وفارس: ((وإنّي أ ُقسم بالله قسماً صادقاً، لئن بلغني أنّك خنت من فيء المسلمين شيئاً صغيراً أو كبيراً، لأشُدّنّ عليك شدّة تدعك قليل الوفر، ثقيل الظهر، ضئيل الأمر))([24]).
والظاهر من الكتاب، عدم وجود ما يدلّ على خيانة زياد بن أبيه بشكل قطعي وملموس، ولكن ثمّة نظرة كان الإمام C يحملها تجاهه، كما تدلّ على تورطه.
ومما يلفت الانتباه في هذا الكتاب، تحذير الإمام C من أنواع الخيانة كلّها، كبيرةً كانت أو صغيرة؛ لأنّه ــ وكما تقول العرب ــ: ((ما عفّ عن الدرّة من سرق الذرّة)).
وفي كتاب خامس يشير الإمام أمير المؤمنين C إلى خيانة بعض عمّاله، وهو إمّا مجهول الهوية أو مختلف فيه، إلاّ أنّ الذي يظهر من لحن الكتاب، أنّه كان كثير الظلم، آكلاً للمال من غير حلّه، فقد جاء في هذا الكتاب: ((أما بعد، فقد بلغني عنك أمر، إن كنت فعلته فقد أسخطتَ ربَّك، وعصيت إمامك، وأخزيت أمانتك.. وبلغني أنك جرَّدت الأرض فأخذت ما تحت قدميك، وأكلت ما تحت يديك، فارفع إليَّ حسابك، واعلم أنّ حساب الله أعظم من حساب الناس))([25]).
وفي ضوء هذا الكتاب، يتبيّن أنّ العقاب ينال كلّ عامل أو مسؤول لا يتمتّع بالكفاءة في أداء مسؤوليّته، أو خائنٍ لأمانته، يعطّل الأرض العامرة ويحوّلها إلى أرض بائرة لا فائدة فيها للعامّة، ويقتطع أراضي الرعية، ويحمل الفقراء والمعدمين على دفع الخراج والضرائب.
إنّ هذا المنهج المتشدد من قبل الإمام علي C، لا يعني عدم سياسته ومداراته، بمقدار ما يعني أنّ الحكومة الظاهرية بنظر الإمام C وأصحابه، لا تمثل هدفاً، وإنّما الهدف تحقيق العدالة في جميع المجالات، فقد ورد في الحديث الشريف: ((من ولي لنا عملاً فليتزوّج، وليتّخذ مسكناً ومركباً وخادماً، فمن اتّخذ سوى ذلك، جاء يوم القيامة عادلاً غالاً سارقاً))([26]).
وأمّا الكتاب السادس له C، فقد خاطب فيه أحد عمّاله، ممّن كان سيّىء المعاملة مع رعيّته من غير المسلمين، فكتب إليه ــ وهو يرشده وينصحه ــ: ((أمّا بعد، فإنّ دهاقين أهل بلدك شكوا منك غلظةً وقسوة، واحتقاراً وجفوة، ونظرت فلم أرهم أهلاً لأن يُدنَوا لشِرْكِهِم، ولا أن يُقصَوا ويُجفوا لعهدهم))([27]).
ويُفهم من هذا النصّ، أنّ الإمام C كان يدقّق في مضامين الشكاوى المرفوعة إليه، ويتأكّد من صحّتها وسقمها، ثم يتخذ ما هو المناسب بشأنها، ولذا نجده يوصي عامله هذا ــ بعد التأكّد من صحّة ما قيل بحقه ــ: ((فالبَس لهم جلباباً من اللين تشوبه بطرفٍ من الشدّة، وداول لهم بين القسوة والرأفة))([28]).
وآخر كتاب له C نستعرضه، هو ما كتبه إلى قاضي حكومته شريح، جاء فيه: ((بلغني أنك ابتعت داراً بثمانين ديناراً، وكتبت لها كتاباً، وأشهدت فيه شهوداً))([29])، فالملاحظ في هذا الكتاب انتقاد الإمام C حتى لقاضيه المنصوب من قبله وتعريته لما قام به من إسباغ صبغةٍ قانونية على تصرّفاته.. وقد تعرّض شرّاح نهج البلاغة إلى نقل صور وقضايا مريرة ومربِّية في نفس الوقت، لتخلّفات بعض القضاة في حكومة الإمام C وارتشائهم.
حصيلة واستنتاج ــــــــــ
1 ــ من معطيات سيرة الإمام علي وسياسته، التأكيد على حضور الحاكم العادل وجميع المسؤولين في دائرة مسؤولياتهم وأعمالهم، ورصدهم لحركة المجتمع، والعاملين في الساحة، والمسؤولين عليها.
2 ــ لقد أكدت سيرة الإمام C من خلال اتّباع أساليب عديدة ــ منها: المكاتبة، والتقريع بالمراسلة، وطرح الموضوع بجميع تفاصيله وجزئياته وعدم الاكتفاء بالاُمور الكليّة، والمكاشفة بطرح الإشكالات والنواقص التي تتضمّنها الشكاوى المرفوعة ــ على تكريم الشخصية الإنسانية، والتعامل معها بشكلٍ لائق ومناسب، وتحذير الجميع من ظاهرة رفع الشعارات الفضفاضة والكبيرة، وعدم تشخيص الجرح ووضع الدواء له.
3 ــ أثبتت سيرة الإمام C من خلال تصدّيه لأمر الحكومة، وسيطرته على بيت المال، إشرافَه الكامل، ورصدَه لحركة المسؤولين، كي لا تُستغلّ أموال الدولة، أو يُساء الاستفادة منها، معتبراً هذا الأمر غايةً في الخطورة، بحيث كان C يبدي ردود فعله ــ وبشكل مناسب ــ مع أدنى ظاهرةٍ من هذا القبيل.. فقد كتب ــ على سبيل المثال ــ إلى عثمان بن حنيف: ((أما بعد، يا ابن حنيف، فقد بلغني أن رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبةٍ فأسرعت إليها.. وما ظننتُ أنّك تجيب إلى طعام قوم عائلُهُم مجفوّ، وغنيّهم مدعوّ))([30]).
4 ــ تقوم سيرة الإمام C على المساواة بين البعيد والقريب، والصديق والغريب، سواء بسواء.. وكان من نماذج هذا التعامل الإسلامي الرفيع، تعامله C مع أخيه عقيل وابن عمّه ابن عباس، بل إنّ مسؤوليّة الرحم والقرابة في مقياس الإمام C تتضاعف أكثر من غيرها([31]).
5 ــ عدم السماح للجميع بالاستفادة من المال الحرام، ومن أموال بيت المال الذي هو للمسلمين قاطبة، وليس للمسؤولين والمتصدّين الاستفادة من الأموال العامّة إلاّ بمقدار ما يتناسب وشأنهم الخاص.
وأمّا المال الحلال الحاصل من الكدّ والجهد الشخصي، فإنّ له أيضاً حدوداً ضيّقة لدى الإمام C، فهو يفرض قيوداً شديدة على أئمة المسلمين والمتصدّين.. ويطالبهم بأن يقيسوا أنفسهم بضعاف الناس، ما دام في بلاد المسلمين من لا عهد له بالشبع.. وهذا بعكس عامة الناس، بل وحتى أتباعه، فإنّه يطمح لهم في حياة مرفهة، وأن يستفيدوا من المواهب الطبيعية لهم، شريطة مراعاة الحقّ الإلهي والإنساني، ذلك كلّه دون أن يجيز العمل بمفهوم العزوف عن الدنيا بمفهومه السلبي.
[1]) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 11: 36.
[2]) المصدر نفسه: 32.
[3]) الرضي، محمد، نهج البلاغة: 417، الكتاب رقم: 45.
[4]) مغنية، محمد جواد، في ظلال نهج البلاغة 3: 239.
[5]) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 11: 36.
[6]) نهج البلاغة: 383، الكتاب رقم: 27.
[7]) المصدر نفسه: 430، الكتاب رقم: 53.
[8]) المصدر نفسه: 364، الكتاب رقم: 2.
[9]) المصدر نفسه: 389، الكتاب رقم: 29.
[10]) المصدر نفسه: 436، الكتاب رقم: 53.
[11]) المصدر نفسه: 438.
[12]) المصدر نفسه: 427 و428.
[13]) المصدر نفسه: 436.
[14]) المصدر نفسه: 431.
[15]) المصدر نفسه: 429.
[16]) المصدر نفسه: 438.
[17]) المصدر نفسه: 450، الكتاب رقم: 61.
[18]) المصدر نفسه: 412 ـ 414، الكتاب رقم: 41.
[19]) البحراني، ميثم بن علي، شرح نهج البلاغة 5: 86.
[20]) نهج البلاغة: 412 ـ 414، الكتاب رقم: 41.
[21]) المصدر نفسه: 461، الكتاب رقم: 71.
[22]) المصدر نفسه: 415، الكتاب رقم: 43.
[23]) المعتزلي، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 1: 28، و3: 119 ـ 150، ونهج البلاغة: 85، الخطبة: 44.
[24]) نهج البلاغة: 377، الكتاب رقم: 20.
[25]) المصدر نفسه: 412، الكتاب رقم: 40.
[26]) المعتزلي، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 16: 165.
[27]) نهج البلاغة: 376، الكتاب رقم: 19.
[28]) المصدر نفسه.
[29]) المصدر نفسه: 364، الكتاب رقم: 3.
[30]) المصدر نفسه: 416، الكتاب رقم: 45.
[31]) العلوي، إبراهيم، مجلة المشكاة، العدد 66.