تمهيد ــــــــــ
القرآن والحديث الشريف، جوهرتان ثمينتان، وكنزان غير نافدين، وبحران غير محدودين، وقد دعا رسول الله 2 أمّة الإسلام إلى التمسّك بهما معاً، واتّباعهما ومرافقتهما حين قال: «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي»([2]).
ورغم أنّهما غير منفكّين عن بعضهما بعضاً، ويمثلان معاً عنصر هداية الناس ورشادهم، إلاّ أن المركزية لا يتحلّى بها سوى القرآن وحده.
وقد عدّ النبي 2 والأئمة E القرآنَ معيار أحاديثهم وميزانها، فسلبوا عنهم كل ما لا ينسجم معه، فقد جاء أنّه: «خطب النبي 2 بمنى، فقال: أيّها الناس ما جاءكم عنّي يوافق كتاب الله فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله»([3])، وعن أبي عبدالله B قال: «ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف»([4]).
إلاّ أنّه رغم ذلك، كان تاريخ القرآن والحديث وماضيهما ــ على الدوام ــ جارحاً مؤلماً، فقد أقصي الحديث ــ ومعه العترة ــ جانباً في حقبةٍ من التاريخ الإسلامي، لتسود فيها نظرية: «حسبنا كتاب الله»، فمنع تدوين الحديث، وحيل بين العترة النبوية والخلافة، وهي خسارة عظيمة لن يتمكّن المجتمع الإسلامي من تلافيها.
على صعيد آخر، هجر القرآن الكريم لدى جماعةٍ أخرى، واقتصر على الحديث مرجعاً ومعتمداً، بل تمادى هذا الفريق في موقفه حتى نفى حجية الظهور القرآني دون الحديث أو الاستعانة به([5])، بل عدّوا التنحّي عن الكتاب والإقبال على الحديث عاقبةَ خيرٍ وسلامة([6])، لا بل تدهور الموقف أكثر من ذلك، حينما اعتبر اهتمام علماء الدين بالقرآن وتفسيره ذبحاً علمياً، يقدّم صاحبه به نفسه تضحيةً وفداءً ([7])، كما زُعِم أن التخصص في العلوم الإسلامية ــ لا سيما الفقه منها ــ أمرٌ ميسور حتى لو لم يتعلّم الإنسان ولو آيةً من كتاب الله المجيد([8]).
إن تكوّن جماعات «أهل الأخبار» أو «الأخبارية» شاهد ناطق عن الظواهر المشار إليها آنفاً، ويتحدّث العلامّة الطباطبائي في تفسيره الميزان، عقب تناوله ــ باختصار وبعين متألّمة ــ ذلك التاريخ المؤسف، فيقول: «إنّ أهل السنّة أخذوا بالكتاب وتركوا العترة، فآل ذلك إلى ترك الكتاب؛ لقول النبي 2: «إنهما لن يفترقا»([9])، وإن الشيعة أخذوا بالعترة وتركوا الكتاب، فآل ذلك منهم إلى ترك العترة؛ لقوله 2: «إنهما لن يفترقا»، فقد تركت الأمّة القرآن والعترة (الكتاب والسنّة) معاً»([10]).
ويشرّح الإمام الخميني S ألم هجران القرآن، فيقول: «… ولما كان القرآن الكريم مرشداً للعالمين، ومركز تلاقي المسلمين أجمعين، بل العائلة الإنسانية برمّتها، وأنّه قد تنزّل من مقام الأحدية الشامخ إلى الكشف التام المحمدي، ليبلغ بالإنسانية ما يجدر بها بلوغه، ويحرّر هذا الوليد، وليد علم الأسماء، من شرّ الشياطين والطواغيت، ويوصل العالم بأسره إلى بحبوحة القسط والعدل، ويضع الحكومة بيد أولياء الله المعصومين ــ عليهم صلوات الأوّلين والآخرين ــ …، لقد أخرج هذا الكتاب من الساحة وأقصي عن الميدان، وكأنه لا دور له في الهداية أو الإرشاد»([11]).
لقد كان ما أسلفناه إجمالاً للتاريخ المليء بالحسرة والهمّ والغصّة، بسبب انفصال الكتاب والسنّة وحدوث القطيعة بينهما، وقد أكّدنا على ضرورة التصاحب بين القرآن والحديث، لكن تساؤلاً يطرح الآن نفسه:
ما هو دور السنّة أو الحديث إلى جانب القرآن؟ أي عقدة يحلّها تعاضد القرآن والسنّة؟
وسبب تساؤلنا هذا، أنّ القرآن الكريم يقدّم نفسه نوراً لا يحتاج في الظهور والانجلاء والوضوح إلى غيره([12])، كما أنّه ــ أي القرآن ــ يشهد هو نفسه، على أنّه بيان([13])، وتبيان ([14])، لا يحتاج للانكشاف إلى غير ذاته، ليس هذا فحسب، بل القرآن ــ من زاويةٍ أخرى ــ جامع، انطلاقاً من شهادته صارخاً: >الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ< المائدة: 3، >لاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ< الأنعام: 59، >ما فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ< الأنعام: 38، إلى غيرها من الآيات الكريمة ([15]).
وعليه، فلم يُسقط القرآن شيئاً حتى نحتاج إلى الحديث فيه، ولم يكن في بيانه وخطابه إجمالٌ ولا إبهام حتى يطلب من يُنيره أو يُجليه.
إنّه سؤال جادّ وحقيقي، كان يؤرّق على الدوام جمعاً من العلماء والباحثين.
لقد أكّد العلامة الطباطبائي في مقدّمة تفسيره على استغناء النص القرآني عن غيره([16])، بيد أنّه واجه السؤال المثار أعلاه بشكل جادّ وحقيقي في كتابه «القرآن في الإسلام»، وقد حاول تقديم جوابٍ منطقي عن ذلك، فقال: «وهذا الذي ذكرناه لا ينافي كون واجب الرسول والأئمة E بيان جزئيات القوانين، وتفصيل أحكام الشريعة، التي لم نجدها في ظواهر القرآن، وأن يكونوا مرشدين إلى معارف الكتاب الكريم، كما يظهر من الآيات التالية: >وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ< النحل: 44، و >وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا< الحشر: 7، و >وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله< النساء: 64، و >هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ< الجمعة: 2.
إنّ الذي يُفهم من هذه الآيات هو أنّ النبي 2 هو الذي يبيّن جزئيات وتفاصيل الشريعة، وهو المعلّم الإلهيّ للقرآن المجيد، ويفهم أيضاً ممّا جاء في حديث الثقلين أن الأئمة E هم خلفاء الرسول في ذلك، وهذا لا ينافي أن يُدرك مراد القرآن من ظواهر آياته بعضُ من تتلمذ على المعلّمين الحقيقيين، وكان له ذوق سليم في فهمه»([17]).
وأضاف في موضع آخر من الكتاب نفسه يقول: «ونستنتج من هاتين المقدّمتين أن في القرآن آيات تفسّر الآيات الأخرى، ومكانة الرسول وأهل بيته من القرآن كمرشد معصوم، لا يخطأ في تعاليمه وإرشاداته، فما يفسّرونه يطابق التفسير الذي يستنتج من ضمّ الآيات بعضها إلى بعض، ولا يخالفها في شيء»([18]).
وفي مساهمةٍ أخرى في هذا الصدد، تحدّث فريق آخر من الباحثين عمّا أسموه «مجالات خدمة السنّة للقرآن»، فاعتبروها خمسة هي:
1 ــ تقرير المضمون القرآني.
2 ــ تفسير النص القرآني.
3 ــ تخصيص العموم القرآني.
4 ــ الكشف عن مواضع النسخ في القرآن.
5 ــ إبداع أحكامٍ لم يسبق لها وجود في النص القرآني ([19]).
وقد كشف بعض الباحثين المهتمّين بالحديث في كتابه «السنّة ومكانتها في التشريع الإسلامي» عن دور السنّة في الميدان التشريعي، فذهب إلى أنّ نصوص السنّة على ثلاثة أقسام هي: قسم مؤيّد لأحكام القرآن، وهو منسجم مع القرآن في الإجمال والتفصيل، مثل أحاديث وجوب الصلاة، والزكاة، والحج، والصيام، وقسمٌُ آخر مبيّن لأحكام القرآن، يحوي تقييد مطلقٍ، أو تفصيل مجمل، أو تخصيص عام، مثل الروايات التي تبيّن الأحكام المفصّلة للصلاة والصوم، وقسم ثالث، ما دلّ على حكم لا وجود له في القرآن، مثل حرمة الجمع بين المرأة وعمّتها، وأحكام الشفعة، ورجم الزاني المحصن و..، وذكر أنّه لا نزاع بين العلماء في الأوّلين، إنما الخلاف في الثالث.
وبعد ذكره وجهات النظر في الطائفة الثالثة من الروايات، ذكر أن الأطراف متّفقة على وجود أحكام جديدة في السنّة لم يصرّح بها في القرآن الكريم، إلاّ أنّ بعضهم اعتبرها استقلالاً في التشريع، فيما رآها الفريق الآخر مستبطنةً داخل النص الكتابي، من هنا كان نزاع الطرفين نزاعاً لفظياً([20]).
والذي نجده دوراً للسنّة في المعرفة الدينية وخدمة النص القرآني يمكن اختزاله فيما يلي:
1 ــ تعليم منهج تفسير القرآن بالقرآن.
2 ــ تعليم منهج الاستنباط من القرآن.
3 ــ تعليم أساليب تطبيق الشريعة وقوانينها في مجالات الحياة المختلفة.
4 ــ الكشف عن المعارف القرآنية السامية.
5 ــ إجلاء تأويلات بطون القرآن ومصاديقه (قاعدة الجري والتطبيق).
6 ــ بيان تفاصيل القوانين والأحكام القرآنية ضمن دائرة المسكوت عنه في النص القرآني.
7 ــ تخصيص العمومات القرآنية، وشرح مواضع النَّسخ فيه.
8 ــ تناول تفاصيل تاريخ الأنبياء والأمم السالفة، مما جاء ذكره في القرآن على نحو الإجمال والإشارة.
ولكلّ واحدٍ من هذه المحاور المشار إليها نماذج كثيرة متناثرة في مطاوي الأحاديث، نصرف النظر ــ فعلاً ــ عن ذكرها، ذلك أنّها تحتاج إلى شرح وبسط ودقّة لا يسمح المجال بها.
وفي الختام، نذكّر بأن إقصاء الحديث عن مكانته لم يكن على الإطلاق خدمةً لساحته المقدّسة، بل خيانةً لا تغتفر، وعلى الباحثين القرآنيين والمحقّقين المتخصصين في مجال الحديث أن يلجوا هذا الوادي البكر، ويرفعوا السُّترُ عن مجالات خدمة السنّة للقرآن، مع الحفاظ دائماً على محورية القرآن ومركزيته.
[1]) أستاذ جامعي، ورئيس تحرير مجلّة علوم الحديث الفارسية، من أبرز المساهمين في مشروع فلسفة الفقه مع الدكتور ملكيان، له مؤلفات عدّة في الحديث والفقه و.. .
[2]) بحار الأنوار 2: 226، و23: 109، 113، 118، 126، 133، 145، 147؛ و25: 237؛ و35: 184؛ و36: 331، 338؛ و37: 168.
[3]) وسائل الشيعة 18: 79، ح15.
[4]) المصدر نفسه: 78، ح12.
[5]) فرائد الأصول 1: 56 ــ 57؛ والميزان في تفسير القرآن 5: 298.
[6]) بحار الأنوار 1: 3.
[7]) نسب بعض العلماء هذا التعبير إلى آية الله السيد أبو القاسم الخوئي S، عقب تصنيفه كتاب «البيان».
[8]) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 5: 9.
[9]) حسين مدرسي طباطبائي، مقدمه اي برفقه شيعه: 46.
[10]) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 5: 298.
[11]) الخميني، صحيفة نور 21: 170.
[12]) النساء: 174.
[13]) آل عمران: 138.
[14]) النحل: 89.
[15]) مثل: النحل: 89؛ والشورى: 13؛ والنمل: 75؛ وسبأ: 3.
[16]) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 1: 6.
[17]) الطباطبائي، القرآن في الإسلام: 25 و 26.
[18]) المصدر نفسه: 60.
[19]) محمد سليمان الأشقر، أفعال الرسول ودلالتها على الأحكام الشرعية 1: 34 ــ 35، الطبعة الثانية، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1408هـ.
[20]) راجع: مصطفى السباعي، السنّة ومكانتها في التشريع الإسلامي: 380 و381، الطبعة الرابعة، بيروت، المكتب الإسلامي، 1405هـ.