ترجمة: عبدالهادي الموسوي
تمهيد ــــــــــ
التعبّد والتعقّل في الذهنيّة العامّة وعند أصحاب الاطلاع المحدود على المعارف الدينية ذو معنى ساذج ومُشاب بخليط من المفاهيم الارتجاليّة، ويظن بعض من ليس من أهل الفنّ من السطحيين أن التعبّد عبارة عن مجموعة شعائر وخليط من الممارسات العملية اللفظيّة، أو مجموعة عقائد وعمليّات لا تحتكم لأيّ دليل مُتقَنٍ، وإنما هي محض امتثالٍ لأوامر وإرشادات الجهة التي صدرت عنها، أي أنها صرف قبولٍ أعمى للعقائد والممارسات العمليّة.
يعتقد هؤلاء ــ بهذا اللّون من التعاطي الساذج ــ أنّ العقلانيّة هي المارِدُ الذي يجيب على تمام التساؤلات، ويسلّط أضواءَه على كلّ الخفايا والأسرار، مهما تطلسَمَت وتعقّدت، مما يوقعهم في إشكاليّة كبيرةٍ ويقودهم إلى متاهات عظيمة،وبهذا الفهم التسويقيّ للقضايا التعبدية والعقلانية تطول إقامتهم في مدارات العُتمة والحرمان المعرفي، فيضيعون ويُضيِّعون البسطاء من أفراد المجتمع.
وفي سبيل إزالة الالتباس واقتلاع الشبهة المستعصية من أذهان قطاع كبير من الناس، نستعرض الأبحاث التاليّة:
تعريف التعبّد ــــــــــ
التعبّد ــ بمعناه الحقيقي ــ عبارة عن كلّ شكلٍ من أشكال الممارسات البدنية والنشاطات الباطنيّة واللفظية الصادرة نتيجة الشعور بضرورة الارتباط بالله تعالى، المعبود المطلق الغني ذاتاً عن أي لون من ألوان العبادة والمتسامي فوق النفع والضرر([1])، ويشمل هذا التعريف الكيفيّات النفسيّة الثابتة؛ إذ العقائد نفسُها ثمرة النظر والاستدلال، وكذلك ألوان الترك والامتناع وفق الباعث المتقدّم.
وإذا أمعنّا النظر أكثر في هذا التعريف، نلاحظ أنّ الرّكيزة الأساسيّة في التعبّد مُشادة على أوضح وأبده حقيقة عقليّة يمكن إدراكها بوضوح بمجرّد إعمال النظر السليم المُبرَّء عن أيّ أدلجة أو إسقاط متعمّد، وهي تبدو في غاية الوضوح عند الالتفات إلى قضيتين مُسلّمتين:
القضيّة الأولى: إنّ الإنسان كائن ذو شوقٍ عميق حقيقي للكمال إذا ما تمتّع بعقل ووجدانٍ موضوعيين، وما دام لم يتعرّض إلى ما يشوبُ نشاطاته العقليّة والنفسيّة باختلالات وانحرافات.
ويتقدّم هذا الشوق الفطري بفاعليّته الخلاّقة الإنسانية على الدوام، وعندما نلقي نظرةً على التأريخ البشري يتجلّى لنا بوضوحٍ كامل حضور هذا الشوق الفطري العميق من خلال بروزه كأكبر دافع أصيل وراء كلّ الانتصارات التي سطرها التاريخ البشري السحيق للإرادة الفردية والجماعيّة، وعلى الأصعدة كافّة.
القضيّة الثانية: يكمن الهدف الأسمى للحياة في بلوغ الشخصيّة الإنسانيّة ــ عبر حركتها التكامليّة ــ ذروة مجدها وسؤددها، واستحالةُ بلوغ هذا الهدف من دون الحضور ضمن مدارات جذب الكمال المطلق، ومع الالتفات والإذعان بأنّ التعبُّد يتمثل بأداء عدد من الحركات العَضَليّة والألفاظ اللسانيّة والتمتّع بحالات نفسيّة ثابتة وقيمومة كلّ ذلك بالمعبود المطلق تعالى، وهذا اللّون من العمل يطابق أكبر الحقائق العقليّة داخل عالم الحقائق العقليّة برمّته، إذ من المسلّم به أنَّ تبنّي مفهوم عن الله تعالى من دون السير التكاملي نحو مقامه الأقدس الذي يغلي مِرْجَل الشوق إليه في أعماق النفس الإنسانيّة، لا يهيّء ما يمكِّن من بلوغ الهدف المنشود ولا يَسْلَم من العبثيّة.
وإذا كان التعبّد أداءً للوظائف بلا هدفيّة ولا محركيّة، فكيف يَنْسجمُ هذا الفهم ولا يتقاطع مع الدعوة العريضة للتعقل التي يتبنّاها القرآن الكريم والأحاديث الشريفة والثقافة النّاهلة منهما والعقل السليم والأحاسيس المرهفة؟!
وهل غاب هذا الصدام وعدم الانسجام ورغم شدة وضوحه وعلى امتداد القرون والأعصار وخَفي على آلاف العلماء والحكماء والباحثين في حقول المعرفة، ولم يتوجه له إلاّ نزر يسير من ذوي المعرفة المحدودة في زماننا هذا؟!
مقولة التعبد وشمولها للفعل القائم على أسس عقلانية ــــــــــ
بالالتفات إلى القضيتين سالفتي الذكر نلاحظ أنَّ العمل وفق أشدّ الأحكام والوظائف عقلانيّةً ــ والتي تعتبر من المستقلاّت العقليّة ــ مشمولٌ لتعريف التعبّد، والآن لنُمعنَ النظر في القضايا الآتية: 1 ــ وجوب إجراء العدالة. 2 ــ وجوب الوفاء بالعهود. 3 ــ وجوب السعي في تحصيل العلوم الضروريّة للحياة الماديّة والمعنويّة. 4 ــ وجوب السعي الدؤوب في طريق إصلاح الحياة الفرديّة والاجتماعيّة وتنظيمهما. 5 ــ وجوب حشد مختلف الجهود الجبّارة في سبيل تحقيق ألوان التربيّة والتعليم البنّاءَة وتأمين أهدافهما. 6 ــ وجوب الدفاع عن المظلوم ومناهضة الظالم.
وكذلك امتناع القضايا المضادة للقضايا المتقدّمة وهي: 1 ــ الظلم ممنوع وbحرامv. 2 ــ نقض العهود ممنوع وbحرامv. 3 ــ الزّهد بالعلم الضروري للحياة الماديّة والمعنوية ممنوع وbحرامv. 4 ــ عدم الاكتراث بقضايا وأهداف التربية والتعليم الأمر الذي يدعو إلى سيادة الجهل والانحطاط ممنوع وbحرامv. 5 ــ عدم الدفاع عن المظلومين ومعاضدة الظالمين ممنوع وbحرامv. 6 ــ عدم الاكتراث بالإصلاح والنظم الاجتماعي ممنوع وbحرامv؛ إذ ترك كل واجبٍ يغدو ممنوعاً وحراماً وفقاً للقواعد الأصوليّة.
ونكرّر القول بحرمة مقارفة القضايا المعاكسة والمضادة للقضايا المتقدّمة؛ وذلك للاهتمام المكثف الشديد والتصريح بحرمة تركها أو ممارسة أضدادها الموضوعيّة.
والآن لنلِجَ ورقة المسألة الآتيّة:
كلّ القضايا أعلاه إمّا مشمولة لتعريف التعبّد أو قائمة عليه
ولإثبات هذا الادّعاء لابدّ من ملاحظة القضية التاليّة: إنّ عدم تبلور الباعث للشوق إلى الكمال وعدم الإحساس بضرورة الارتباط بالمعبود المطلق الأزلي سيضعنا ــ وجهاً لوجه ــ قبال الهجمة المتواصلة المتعددة الذرائع، كالتنازع من أجل البقاء واللهث وراء عبادة الذات واللذائذ الحسيّة، كتوفي الأيدي لا نملك أيّ دليل عقلي لإجراء القسم الأوّل من القضايا المتقدمّة وتطبيقها، اللهمّ إلا الاتكال على الصدف النادرة المتمثلة بالسنن القهرية لاستمرار الحياة، وهو أشبه ما يكون بالتخلّي عن شاةٍ لذئب مفترس لا يتردد لحظةً في افتراسها مقابل تخلّيه عن افتراس صاحبها..!!
إنّ ما يُقال: إن القانون كبيت العنكبوت يقتنص الحشرات دون الذئاب، ليس سوى تكرار لمبدء فاعل في التأريخ البشري الطبيعي، وتجاهلٍ لكلّ هذه المواقف العظيمة والفضائل التي نشاهدها من قافلة الأحرار في أداء التكاليف المتقدمة، ونحملها جميعاً على الأنانيّة والانتهازيّة والجشع ومَعَه ــ وأقولها بملء صوتي وبلا أدنى تردد ــ سنُصوّب طلقة الرحمة إلى الإنسانيّة وثقافتها البنّاءة وتراثها الأصيل، وهذا هو الإجرام والتعسّف لا الرحمة والمسامحة، وهو أصلف وأوقَحُ من عمليات الفتك والإبادة التي مارسها الجلادون ومصّاصو الدماء في التأريخ، كالبربريين والجنكيزيين والشوفينيين.
والآن لنسبر أغوار القضية القائلة: حتى أشدّ القضايا العلميّة يقيناً قائمة على موضوعات وركائز أساسيّة غير قابلة للتعريف والإثبات العقلاني، فمفردة bالعلمv وككثير من المفردات الأخرى ذات الأهميّة البالغة كالسياسة، والحريّة، والعدالة، والفنّ، والحق والباطل، وغيرها بقيت مبهمةً بعد أن طافت بالإنسانيّة عواصف فكريّة هائجة ألقت بالضبابيّة على المفاهيم برمّتها، وتشكّلت إثرها ألوان من الرؤى الفكريّة، والمذاهب الأخلاقيّة، وأفواج المندهشين بالخيال اللامحدود وجنوحه اللاحدي، والمغرضين وذوي الأفكار الضيّقة والتصريحات الجزافيّة اللامسؤولة…
غير أنّ هذا الإبهام والغموض لم يستهلك في أنفاقه المسدودة إلا السذّج وذوي النيّات الحسنة والثقافة المحدودة، فيما ظلّ الفطنون وذوو النظرة العميقة بمنأى عن هذا الاستهلاك والاستغفال المغلّف، وكيف كان فمن الممكن أنْ نَلحَظ لكلّ قضية علميّةٍ واحدة معنيين مختلفين:
المعنى الأوّل: انكشاف الواقع بدرجة 100% كانعكاس الخطوط والأشكال والألوان في المرآة الصافية المستوية، بل كل انعكاس وظهور تطابقي تام، وهذا المعنى هو غاية آمال المفكّرين والباحثين عن الحقيقة والواقع، ومن الواضح أنّه محدود جداً ونادر، كما أنه نسبي عندما يرتبط بتجلية الحقائق الواقعيّة!
المعنى الثاني: وهو ما يشمل كل عملية ترتكز وتؤسّس على ضوء اتصال الأجهزة الإدراكية مع العالم الخارجي مباشرةً، سواء أكان تأمين ذلك الاتصال بالاعتماد على الحواس أو القوى الذهنيّة أو المختبرات والوسائل التي تعمل على زيادة معلوماتنا عن العالم الخارجي، ومن المسلّم أن هذا المعنى للعلم أوسع من المعنى الأوّل بكثير؛ وذلك لأنّه يشمل احتمالات متفاوتة 1 ــ 99 بالمائة فيما يتعلق بالاتصال بالواقع، إذ يستوعب النظريات والفرضيات والأحكام التعليقيّة، ويمكن لهذا اللّون من القضايا أن يدعم الأنشطة العلميّة والمسائل المرتبطة بها مع عدم إمكان عدّها قضايا علميّة من الطراز الأوّل، وعليه فتسمية هذا اللون من القضايا بالقضايا العلميّة إذا لم يتمّ وفق معياريّة مدى مطابقتها للواقع من حيث الكمّ والكيف، فبالإضافة إلى سقوطها لفقدانها القيمة الواقعية والمعيارية المفترضة في تشخيص القضايا العلميّة من الوهميّة، تعتبر هذه التسمية خيانة كبيرة للإنسانية.
ولنمضِ الآن بتناول عدد من الموضوعات والركائز الأساسيّة التي تأبى التعريف وتتأبى الإثبات العلمي والعقلي:
1 ــ الركيزة الأساسيّة والركن الركين للعلوم كافّة هو العلم بالواقع الخارجي، ومع أن الاعتقاد بهذا المبدأ من أوضح المعتقدات وأجلاها غير أنّ إثباته من أشكل المشكلات.
2 ــ إنّ ما كشفت عنه القوانين العلميّة من الصلات الحتمية القائمة بين العناصر والمواد المنبثة في الطبيعة كضرورة العليّة والمعلوليّة لا يحتمل أدنى شكٍّ، ورغم هذا فإنّ هذه الصلات الحتميّة المطّردة لا يمكن وصفها حسيّاً؛ لأنّها ظواهر غير محسوسة، وكذلك لا يمكن اعتبارها من المعقولات الأوليّة؛ لأن العقل لم ينتزعها من حقيقة عينيّة خارجيّة، ولا من المعقولات الثانويّة؛ إذ المعقول الثانوي ــ وهو الكلّي المنتزع من العالم العيني الخارجي ــ لا يسعه بذاتيته التأثير في الحقائق العينيّة الخارجيّة.
3 ــ حقيقة العدد لا المعدود ولا الهيئة الكتابيّة لرقم b4v مثلاً أو اللفظ كأربعة، والّتي تنقسم إلى مصداقين متضادين bالزوج والفردv، وهي مختلفة لدى الشعوب وبلدان العالم المختلفة، وبتعبيرٍ آخر الحقيقة التي يتعاطاها الذهن البشري ويقوم بتركيبها وتفكيكها ليلاً نهاراً وبشكل مستمر، وهي قابلة للتعريف وعصيّة على المماحكات العقلية.
4 ــ حقيقة الجمال، لا المصاديق والنماذج الخاصّة بالجمال كالمناظر الطبيعية، وهالة البدر، والشلالات والسواقي والعيون، والحظ الجميل، والنَغَم الجميل والوجه الجميل وغير ذلك، وكذلك النماذج المعنوية للجمال والمعقولة الوجدانية، كالحرية، والقابلية والعلميّة، العدالة، العفو والتسامح، التضحية وغيرها، ومما لا شكّ فيه أنّ حقيقة الجمال الكليّة والتي تنطبق على مصاديق مختلفة ونماذج متعددة لا يمكن للعقل نعتها أو تعريفها بالاعتماد على ظهور عيني خارجي لها؛ لاستحالة ذلك طبق المتقدّم.
5 ــ ليس هنالك عدد ذو محتوى عقلي ثابت، بل يتوقف هذا المحتوى على ما للواحد من محتوى وكميّة رياضيّة، فإذا كان المكوّن الرياضي للواحد b1v عبارة عن b10v وحدات كميّة رياضية فمن المسلم أنّ المحتوى الرياضي للعشرة b10v هو b100v وحدة كميّة رياضيّة.
العقلانيّة، تعريف وتشريح ــــــــــ
ونلاحظ هنا السذاجة عينها والسطحية نفسها التي مرّت في تعريف التعبّد تتكرّر في تعريف bالعقلانيّةv، ولكي نخوض في تفاصيل هذا الموضوع سنتجّنب استهلاله بذكر تلكم الاشتباهات والتهافتات، ونبتدأ بتعريف bالتعقّلv.
من نافلة القول أنّ كلّ عمليّة فكرية تجري وفق الأصول والقواعد الثابتة فهي bتعقّلv، لذا فإنّ العمليات الفكرية التي تتتابع كالمتواليات العدديّة، وإن تمتّعت بصلات وروابط أشدّ من صلات المعاني المتداعية غير أنّها لا تسير وفقَ أصول وقوانين ثابتة، لا تُسمّى تعقّلاً.
والآن لنرى ما هو المعنى المتبادر من قولنا: هذه قضيّة عقلية؟ هل هو ما تبديه من قابلية مطلقة للتحليل بالآليّات العقلية الصرفة؟ قطعاً ليس هذا، وذلك:
أوّلاً: لأن الكليّات العقلية جميعها تكشفُ لنا ــ آناً مّا ــ عن اعتمادها وقيامها على القضايا المنتزعة من صقع العالم العيني، وسندعم هذا الموضوع بالمثال التوضيحي التالي، فالقضيّة الكليّة القائلة: bكلّ جميلٍ يهبُ من يدركُ جماله لذةً وسروراًv، تكشف لنا ــ آناً ما ــ انطباقها على مصداقٍ خارجي كـ bهذه الباقةُ من الورود رائعة الجمالv، فهاتان القضيتان تكشفان لنا عن نتيجة: bباقة الورود هذه تمنحُ من يدرك جمالها لذّةً وسروراًv، وهذا تتابع عقلي بلا أدنى تردّد.
ولا تعتبر صغرى القضيتين وهي: bباقة الورود هذه رائعة الجمالv قضيّةً عقلية بل هي من القضايا الانتزاعية؛ حيث تشكّلت نتيجة اتصال الفكر عن طريق حاسة البصر بالواقع الخارجي.
ثُمَّ إنّ كل المدركات والمنتزعات الأوّليّة سواء أكان عالم تعيّنها باطن الذات الإنسانيّة كاللذائذ والآلام والإدراكات والعلم والتخيّل والتمثل، وغير ذلك، أو خارجها كالأجسام والأعيان، الحركات والسكنات وغير ذلك، تمثل بقسميها عناصر أوليّة للفكر والتعقّل، وليست هي الفكر والتعقل برمّته، بل عندما تندمج في إطار العمليّة الفكريّة تتبلور ــ بعد انضمامها إلى القوانين والأحكام الكليّة ــ النتائج النهائية.
فالتصوّرات والانطباعات الباطنية والخارجيّة تشبه إلى حدٍ ما العناصر الأوليّة التي تدخل إلى القسم المكنَني التحويلي الذهني، كما هو الحال في المصانع الكبرى التي تحيل العناصر الأوليّة التي تدخل إليها الى مركّبات نهائيّة ونتاج صناعي جديد يعتمد نوعه ومواصفاته على العناصر الأوليّة التي دخلت ضمن إطار عمليّة التصنيع، وعلى القوانين والأحكام الكليّة التي يقوم عليها المصنع، وهكذا العقل الإنساني فهو يجري عمليات تحويليّة معقّدة على العناصر الأوليّة التي تحلُّ فيه من خلال معاملتها بالقوانين والأحكام الكليّة، مؤلّفاً بذلك نتاجاً جديداً جاهزاً للدخول والإسهام في رفد الحركة الفكريّة المعرفيّة.
ومن المسلّم به عدم تمييز العقل أثناء نشاطاته الفكريّة بين المتصوَّرات والمنتزعات بألوانها المختلفة، سواء كانت من المحسوسات أو المعقولات، وسواء كانت أموراً ذات قيمة أو أموراً واقعية خارج الإطار القيمي الاعتباري، وعلى سبيل المثال:
1 ــ تثبت لنا تجاربنا وملاحظاتنا أنّ للماء دوراً أساسياً في حياة الحيوانات ونموّ النباتات والأشجار، وبناءً على هذا فإنّه لا بُدَّ من اعتماد كل حيوان ــ يحاول البقاء والاستمرار في حياته ــ على الماء، ومن اعتماد كل من يريد إنماء النباتات والأشجار على الماء أيضاً.
وأمّا فيما نحن فيه من النشاطات العقلانيّة فإنّ موادنا الأوليّة تكون كالآتي:
ألف ــ الماء. ب ــ ظاهرة الحياة. ج ــ الحيوانات. د ــ النموّ. هـ ــ النباتات والأعشاب. و ــ الارتباط العلّي بين الماء واستمرار الحياة ونموّ النباتات، والذي تلقيناه من خلال التجارب والملاحظات.
2 ــ تكشف لنا تجاربنا ومشاهداتنا الحسيّة عن تصورات وانتزاعات لمفاهيم قيميّة مثل: العدالة حقيقةٌ ضروريّة؛ حيث ازدهار حياة التجمعات الإنسانيّة بدونها لو قبلناه جدلاً فإنّه يعني حياة خلايا النحل، وتجمعات النمل ومجاميع الأرضَة! فالعدالة حقيقة قيميّة وهي دليل نموّ كل إنسان يتمتع بها وتكامله، وليس هذا التصوّر والإدراك خيالاً، بل هو حقيقة تدعمها التجارب والشواهد الحسيّة، وهذه الحقيقة القيميّة لو تغلغلت ضمن قضايا معيّنة وحققت نتائج مهمة، فإن هذا المسار يتمتّع قطعاً بنشاط عقلي.
وتغدو العدالة ــ وفق هذا السياق ــ وضع كلّ شيء في مكانه المناسب له، أو السلوك المطابق للقانون، وستكون فاعلة على صعيد تنضيج النشاطات العقلية للبشر، وعلى مستويين: 1 ــ ضرورة التنظيم المتقدّم. 2 ــ لا بُدّ من السعي الجاد في سبيل تأصيل مسألة منح العدالة قيمة ومكانة، وكل حقيقة ذات تأثير في حياة الإنسان العقلانيّة وكل شيء ذو قيمة ذاتية للإنسان، وكل قدر من الجهد في طريق تحقيق العدالة يتمتّع بإخلاصٍ أكبر وبمساحة تنوّعٍ أوسع سيكون مثمراً بشكلٍ أكبر وأفضل.
إذن، لا بُدّ من الالتفات إلى حقيقة العدالة وكونها ذات قيمة كبيرة حتى إذا تطلّب ذلك استدلالاً وبرهنة قبال وساوس الصنميين الشيطانيّة، لكن الإدراك الفطري والوجداني للبشر أصيل فيما يرتبط بهذه الحقيقة الفطريّة، وهو الذي يتكفّل ضمان واقعيّة هذه الحقيقة، لذا احتلّت هذه الحقيقة المرموقة مكانةً عالية ضمن نسيج النشاط العقلاني وبمنتهى الوضوح، وأثمرت نتائج حقيقية كالحريّة المقننة، والعزّة والكرامة الإنسانيّة، والحس المرهف بالمسؤوليّة، والنزوع الثقافي الأدبيّ، والشعور بهدفيّة الحياة، والتضحية في سبيل الخير والكمال و..
ومن أجل إثبات ضرورة إحداث تغيير في هيكيلية تبنّي المنهج العقلاني والتواصل مع المدّخرات العقليّة، نتناول موضوعاً في غاية الأهميّة هو:
مبدأ الإحاطة المتبادلة بين القضايا البديهيّة والنظرية ــــــــــ
بدءاً نقول: إنّ أولئك الذين يُجدّفون في سواحل العقلانيّة دون إدراك لمعناها بشكلٍ دقيق سيغرقون تحت وطأة الإفراطيّة ولُججها، لذا يجب عليهم ملاحظة هذا الأمر والتعامل معه بجديّة كاملة، ولكبح جماح هؤلاء لا بدّ من توضيح حقيقة ما نسمّيه: الإحاطة المتبادلة بين القضايا، حيث تُحاط كل قضيّة بديهية بقضايا نظرية وبالعكس.
أما الدليل على هذه الإحاطة فهو ما نراه من ارتباط بين أجزاء عالم الوجود وتداخل، فمن الحقائق المسلّمة عدم امتلاكنا سوى حقائق محدودة مهما بلغت، الأمر الذي يجعلنا قاطعين بجهلنا بآلاف الحقائق، حتى على فرض الارتباط المتقدّم، لأن وجود مجهول واحد يكفي لإثبات هذه المحدوديّة، وعلى سبيل المثال فإنّ القضية القائلة: bالكلّ أكبر من جزئهv وهي القضية التي تتصدّر القضايا البديهية وتعتبر حجر الزاوية في المنطق والفلسفة التقليديّة والحديثة، رغم ذلك فهي محاطة بمجموعة من القضايا النظريّة الحافّة بها مثل:
1 ــ هل يصدق هذا الحكم على الكميّات المحدودة فقط أم يتعدّاها إلى الكميّات اللامتناهية؟ وعلى سبيل المثال: إنّ السلسلة العدديّة غير متناهية وهي مؤلّفة من أعداد زوجية لا متناهية وأعداد فرديّة كذلك، ومن المسلّم عدم إمكان تصوّر الأقل والأكثر في الأمور اللامتناهية، ورغم خضوع هذه المسألة للبحث والنقد إلا أنّ الشيء المؤكّد أنّها قضيّة نظريّة.
2 ــ هل تصدق القضيّة أعلاه في الكلّ والجزء العقلي؟ وينشأ هذا السؤال من أنّ الأقل والأكثر وغيرهما من المفاهيم الكميّة العينيّة لا سبيل لها في المفاهيم العقلية المجرّدة عن المادة والصورة ولوازمهما.
والآن نتناول الطرف الآخر المعاكس للقضيّة المتقدمة، ونلاحظ كل قضيّة نظرية محفوفة بقضايا بديهية، ولنفترض أنّ قضيتنا هي: هل الوجود البشري خيرٌ أم شرّ؟ فهنا نقول: إنّه مما لا شك فيه توفرنا على معلومات هائلة حول الإنسان، مثل أنه معلول لعلةٍ، وأنّه مركّب من أجزاء، وأنه يحمل طاقات وقوى معنويّة، وأنّه يتوالد ويتناسل، يريد ويُصمّم، يقطع عهوداً، يكتشف ويبتكر، يؤلّف بين الأمور المختلفة للوصول إلى أهدافه، وهكذا مفهومي الخير والشر حيث ينطويان على مسائل بديهيّة نملك حولها وضوحاً كاملاً.
هناك مسألة أخرى في غاية الأهميّة تتعلّق بالعقلنة، والتي ينبغي أن تكون جَرس إنذار للإفراطيين، تلك هي حجية العقل نفسه، بمعنى أن نقوم بعملية رصد للاشتباهات والأخطاء التي أحصيت حول النشاطات العقلية والفعاليات الفكرية وعلى امتداد التأريخ، نستدعي العقل إلى دكّة القضاء والمحاكمة، ونستفسر منه عن حقيقة حجيّته، ما هي حجّيتك؟ فإذا كان جوابه لنا: إنّني بنفسي دليل حجيتي، وبمعنى أوضح: حجيّة العقل هي العقل عينه، عندها نعرف أنّ حجيّة العقل ليست أمراً عقلياً وعقلانياً… بل إمّا أن تستند إلى الوجدان والفطرة أو تقوم على دليل ما يكون هو الحجّة!!
العقلانيّة في نسيج الفكر الإسلامي ــــــــــ
ولكي نقيّم ــ وبشكل دقيق ــ النشاط العقلي ضمن نسيج الفكر الإسلامي، نجد أنفسنا مضطرّين إلى توضيح معنى العقل على نحو مختصر.
غالباً ما يُراد من العقل مفهومان شبه متقاطعين:
1 ــ القوّة المستقلّة التي تقابل بقيّة القوى النفسانيّة مثل التخليق المثالي، وتداعي المعاني، والتصميم، والفكر، والإرادة و… والتي تتخذ باطن الإنسان محلاً لها.
2 ــ الذهن وهو الذي يلتقط العناصر الأوليّة عن طريق الحواس، ثم يقوم بالتأليف بينها، فهذا النشاط التوليفي هو bالعقلv، الذي يعدّ ــ وفق الاصطلاح اللغوي ــ مفهوماً مصدريّاً، أي مصدراً للفعل: عَقَلَ، عَقلاً. وهذا النشاط
التوليفي يختلف عن الذكاء والتخيّل؛ لأنّ الذكاء قدرة على التقصّي والنفوذ الذهني داخل الوقائع والاستفهامات وبلوغ الذهن نتائج عادةً ما تكون خفيّة على الناس العاديين في الظروف الاعتياديّة، أمّا التخيل فهو عبارة عن القدرة التخليقيّة في المفاهيم المدّخرة في الصقع الذهني عن طريق الحواس، في لحظةٍ فارقةٍ يُغَض فيها الطرف عن الواقع.
إلاّ أنّ النشاط العقلي ــ كالوجدان ــ مثار إشكاليات متنوعة، وذو أنشطة مختلفة، من قبيل انتزاع الكليّات وتجريد الموجودات المحسوسة خصوصيّاتها، وكذلك عمليّة تطبيق القواعد والأصول والقوانين الطبيعيّة والسياسيّة والاجتماعية والدينيّة والأخلاقيّة على مصاديقها الخاصة.
وبالإضافة إلى كون العقل واحداً من الأدلّة الأربعة (الكتاب ــ السنة ــ الإجماع ــ العقل( فقد عُدَّ الدليل الأوحد في إثبات الأصول الاعتقادية، ويتفق الفقهاء والمتكلّمون الإسلاميون جميعهم على المبدأ القائل: إنّ كليّات الأصول الاعتقادية لا بُدَّ من استنادها إلى الاستدلال العقلي في الثبوت.
ومن الأصول التي تذكر استطراداً مبدأ bالتعقّل السِّعَويّv، فلمّا كانت النشاطات الذهنية بين الأفراد تختلف اختلافاً كبيراً فلهذا يُطالب كلّ فردٍ بـالتعقّل بما يتناسب مع قواه الذهنيّة.
مكانة العقل في النصّ القرآني ــــــــــ
وتنقسم الآيات القرآنيّة التي وردت في تجليل العقل وتبجيله ودعوة الناس إليه وإلزامهم به، والتي اعتبرت العقل خلقاً عظيماً، بل أنفس جوهرةٍ في الكيان الإنساني، تنقسم إلى أقسام متعددة:
1 ــ التفكّر في عالم الوجود والانسجام الهائل بين قوانينه التي تشدّ أجزاءه بعضاً إلى بعض، والذي يُعدّ بنفسه دليلاً على نفس آياته، من قبيل: >وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ<، وقد وردَ مضمون هذه القسم في سورة البقرة، الآيات: 73، 164، 242، وفي سورة المؤمنون، الآية: 80، وفي سورة الرّعد، الآيات: 1 ــ 4، وفي سورة الرّوم، الآية: 24، وفي سورة الجاثية، الآية: 5.
2 ــ ويتناول قسم آخر من الآيات القرآنية ندم الإنسان عند شعوره بالتقصير نتيجة عدم تعقله وتفكيره: >وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ<، الملك: 10.
3 ــ وقد ذمَّت مجموعة من الآيات أولئك الذين يتفكرون ويعقلون لكنَّهم يغيّبون الحقائق ويخفونها، بل ويقومون بتحريف الدلالات وتجييرها لأهدافٍ دنيوية آنيّة: >… يَسْمَعُونَ كَلاَمَ الله ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ<، البقرة: 75.
4 ــ وفي هذا القسم ذمٌ وتوبيخٌ لأولئك الذين استخفّوا بالتفكير وتجاهلوه، مثل: >أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ<،البقرة: 44، وقد وردت آيات متعددة تلوم الناس على استخفافهم بالتفكير والتعقل رُغم كثرة الطرق والوسائل التي تسهّل النشاطات العقليّة وتعاطيها، فراجع: البقرة: 76، آل عمران: 65، الأنعام: 2، الأعراف: 169، يونس: 16، هود: 51، يوسف: 109، الأنبياء: 67، المؤمنون: 80، النور: 61، الشعراء: 28.
5 ــ وقد اعتبرت بعض الآيات القرآنية أولئك الذين لا يتفكّرون ولا يتعقّلون أخسّ منزلةً وأسفل من الحيوانات: >إِنَّ شَرَّ الدَّوَابّ عِندَ الله الصُّمُّ الْبُكْمُ الذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ<.
6 ــ واعتبر قسمٌ آخر من الآيات عدم التفكير والتعقّل سبباً رئيسياً للذلّ والهوان: >يَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ<، يونس: 100.
7 ــ ويعيب قسمٌ آخر التقوقع على أفكار السّلف والتمسّك حدَّ التحجّر بعقائدهم الموهومة العارية عن العقل والتأمّل، مثل: >بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ<، وقد أطلقت بعض الآيات القرآنيّة مفردة bلُبّv، ويبلغ عددها في القرآن الكريم تسع آيات، والفرق بين الكلمتين: العقل، واللُّب، أنّ اللبّ يتمتّع بقابلية تقصٍّ أكبر ونفوذٍ أشدّ في خفايا الإنسان والعالم، ويعتبره بعضهم نشاطنا الباطني الذي تتعاضد فيه قوى العقل النظري والوجدان والأخلاق متعاشقةً لِتَرشَّ الحقيقة بخيوط النور، فتدركها من جوانبها المتعددة إدراكاً تاماً كاملاً.
ومع هذا التأكيد المستمرّ في الآيات على أهميّة العقل لا يمكن أن يُدّعى أنّ أحكاماً ثمّة تضادّ العقلانية في الشريعة الإسلامية؛ إذ ما لم يكن لهذه الأحكام ملاكات ملموسة كالضرورات الحياتية، فسيتم التعاطي معها أضداداً للعقل والعقلانيّة! وعندها سيعاني كلّ الناس على سطح الأرض من أزمات نفسية وأمراض انفصام الشخصيّة؛ لأنّ أعمالهم سوف يتوزّعُها قسمان رئيسيّان: الأعمال التي تنبع من فلسفةٍ واضحة،والأعمال التي ينجزونها وفق عقائد ومتبنيات مُثُلُهم العُليا، مثل القوانين المتنوعة والأنظمة الحقوقيّة التي يتعامل معها السواد الأعظم من الناس دساتير مقرّرة وممضاة من دوائر صنع القرار، فيتلقونها بالقبول ويعملون وفقها.
منزلة العقل في النصوص الروائيّة ــــــــــ
ثمّة عدد هائل من الروايات في المصادر الإسلامية المعتبرة التي تتحدث عن العقل بوصفه الفصل الذي يحلّق بالإنسان خارج السرب الحيواني، والوسيلة الأفضل لرقي حياته مادياً ومعنويّاً، وأن العبادة بلا عقل عملٌ عبثي، وأنّه مدار العقاب والجزاء، وأنه أفضل وسيلة والآلية الأنجح لمعرفة الله تعالى، إلى حدّ يشعر معه الباحث المنصف بعدم وجود مثل هذه الحفاوة البالغة التي يقابلُ الإسلام بها العقل والعقلانية في أيّ من الأديان والمذاهب الأخرى، وهذه عينات تؤكّد هذه الحقيقة:
1 ــ عن الشيخ محمد بن يعقوب الكليني، في روايةٍ يخاطبُ فيها الله تعالى العقل: bوعزتي وجلالي ما خلقتُ خلقاً هو أحبُّ إليّ منك، ولا أكملتك إلا في من أحبّهv([2]).
2 ــ مجموعة أخرى من الروايات تنصّب العقل معياراً للجزاء والعقاب، مثل: bبك أعقاب وبك أثيبv([3]).
3 ــ مجموعة ثالثة من الروايات تفسّر الحكمة بالعقل وتثبت ــ وبأدلّة مختلفة ــ رجحان العقل على باقي النّعم، مثل الحكمة الواردة في قوله تعالى: >يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ<، البقرة: 269.
4 ــ وثمّة عدد كبير من الروايات يركّز على مفهوم نفي العقل عند نفي الدين، مثل: bلا دين لمن لا مروّة له، ولا مروّة لمن لا عقل لهv ([4]).
5 ــ وفي الرواية المعروفة المفصّلة عن سماعة بن مهران عن الإمام الصادق % تُجعَل الصفات السامية كلّها جنوداً للعقل، والصفات الظلمانية جنوداً للجهل، وتسمى بحديث bجنود العقل والجهلv ([5])، وهي رواية طويلة.
6 ــ ونطالع في قسم من الروايات أنّ الحكومة العالميّة ــ وهي أمل المستضعفين في الأرض ــ لا تتأسّس إلاّ عندما تنطلق العقول، وبعناية إلهيّة، بالأنشطة والفعّاليات السليمة الإيجابيّة، ويستطيع الناس استيعاب دفّة الحكم العظمى لدولة الإمام المنتظر العالميّة([6]).
7 ــ كذلك هنالك روايات كثيرة تتضمّن فكرة: الأنبياء حجة الله تعالى على عباده، والعقل هو الحجة بين الله تعالى وعباده([7]).
هذا الإجلال الذي حَظيَ به العقل في الدين الإسلامي المقدّس إجلالٌ فريد من نوعه.
أمّا مكانة العقل في الإجماع فقد حظي بمنزلة في الكتاب والسنة حتى اتفقت كلمة المتكلّمين والفقهاء على وجوب متابعة الأحكام العقلية، باستثناء طائفة صغيرة من الأخباريين الذين انفردوا بإقصائهم العقل النظري، وعدم أخذهم بأحكامه، والقول بعدم جواز اتباعها.
وأمّا مكانة العقل عند العقل نفسه، المعبّر عنها في الروايات الشريفة بحجة الله تعالى، فهو أمر في غاية الوضوح والبداهة، فالعقل ــ مع تجاوز النقاشات الفنيّة والفذلكيّة الموكولة إلى أبوابها المختصّة ــ كالنور المضيء بنفسه، وهذا ما يثبت ضرورة متابعته، انطلاقاً من كونها خاصيّة ذاتية له! لا تحتاج إلى دليل آخر، بل لا بد من الإشارة هنا إلى ما يشكّل وجهة منطقية ممضاة من قبل الإسلام بشكل كامل، وهو أنّ العمل وفق الأدلّة الإسلاميّة الثلاثة: الكتاب،والسنة، والإجماع، قائم على العقل نفسه، لأنّ العمل وفق هذه الأدلة لا يمكن أن يستند إلى واحدٍ منها؛ لما يستلزمه ذلك من دورٍ منطقي صريح يؤول إلى التناقض.
ظاهرة نقد العقل في الموروث العرفاني ــــــــــ
أمّا فيما يرتبط بما صدر من قطاع واسع من الشخصيّات الإسلاميّة البارزة كالشعراء والعرفاء من توبيخٍ للعقل ونقد لا ينسجم مع ما نحن فيه من مدح وثناء عليه! فنحن نقرّ بذلك، وقد صدر بالفعل مثل هذا التوبيخ والذم، لكننا عندما نمعن النظر فيه نجده يتناول مسألتين:
الأولى: ما يقومُ به بعضهم من احتكام للنتائج العقلية الجزئية دون تنسيقٍ مع النشاطات الوجدانية.
الثانية: إقحام القوانين العقلية خارج نطاق الكم، والكيف، والحركة، والزمان،وهي المقولات التي لا يمكن للقوانين العقلية أن تؤدي أي فعّالية أو نشاط بعيداً عنها، وعليه يمكننا تفهّم هذه المؤاخذات ووضعها في محلّها ضمن نسقها الخاص.
نعم، هناك من يعيب على العقلنة، فيشق له طريقاً آخر متسلّحاً بالعشق والثمالة واللاقيدية اللاحدية، مُتعامياً عمّا يحفل به الواقع من أحداث، غارقاً في سكرة لا يريد فواقاً منها، والخوض في مسالك هؤلاء في لامعقولهم ليس إلاّ هدراً للوقت.
ما هو العقل في النصّ الإسلامي؟ ــــــــــ
لكننا نتساءل مرةً ثانية: ما هو المراد بالعقل؟
وبعد هذه المقدمة الإجمالية المتفق عليها نريد اكتشاف رؤية الإسلام للعقل، فمن الواضح أن السواد الأعظم من الناس يطلقون كلمة bالعقلv على الظواهر العقلية المتنوعة ومختلف النشاطات الذهنيّة، بلا ترسيم للحدود الدقيقة للصياغات التعبيريّة المقرّرة، حتى أننا نلاحظهم يعدُّون بعض الأحيان bتداعي المعانيv من النشاطات العقلية! وهذا استعمالٌ في غير محلّه؛ حيث يستعملون مفهوماً في غاية الخصوصيّة للإشارة إل معنى لا يلتقي معه إلا من بعيد، إذ يجمع الطرفين مفهوم في غاية الكليّة، وعندما نمعن النظر في الأدلة والنصوص الرئيسية التي ثمَّنت العقل وأشادت به داخل التراث الإسلامي نكتشف أن العقل هو ذاك النشاط الذهني أوالقوّة النفسيّة التي يتمّ الوصول من خلالها إلى الأهداف المتقدمة، وكذلك تحديد مكانة الإنسان في عالم الوجود، وتلك المكانة التي تبوّءها عبر التأريخ، وعلاقاته بالآخرين وبطبقات المجتمع، وجملة الظواهر السارية في الطبيعة، ووعي صلاحه وفساده.
وبناءً عليه، لا يشمل مفهوم العقل داخل الإطار الإسلامي النشاطات الفكرية العابثة، والتي لا تثمر نفعاً للإنسان سواء في الحاضر أو المستقبل، حتى وإن أمكن عدّها رياضةً فكرية لكثيرٍ من الناس، وكذلك الحال مع الأفكار والنشاطات العقليّة التي تقع في صراط الأهداف الهدّامة السقيمة، والانتصار للباطل، والانغماس في اللذائذ الشهوانية والهوس الشيطاني، فمهما غُلّفت بتسمياتٍ برّاقةٍ ليست من العقل في شيء، بل هي مدانة في الإسلام أشدّ الإدانة.
ويمكن تناول هذا الأمر من زاوية أخرى وعلى أساسٍ قانون إسلامي عام، ذلك أنّ الإسلام لا يصطدم بأيّ نشاطٍ فكري، سيّما وأن جميع القوى العقلية والنشاطات الذهنية مودعة من قبل الله تعالى، فلا يمكن أن تكون عديمة النفع والفائدة، غير أنّ المعيارية الإسلاميّة قائمة على أساس طبيعة الأهداف المأمولة من أيّ نشاطٍ عقلي، فلو أنّ إنساناً ما مارس نشاطات فكرية متنوعة، كالخلاّقيّة الذهنية،وتداعي المعاني والمنى والأوهام والخيال في سبيل صياغة مشهدٍ ساخرٍ كوميديّ للترفيه وإزالة الإرهاق والملل من نفوس الناس وشحذ الطاقات الذهنية والروحيّة من جديد، فلا غبار على هذا الإنجاز إطلاقاً في نظر الإسلام، بل الإسلام يرعاه ويُنمّيه، إلا أنه لا ينبغي استثمار النشاطات العقلية في شيء مما يلحق الضرر بالإنسان؛ إذ مثلُها مثل الكهرباء التي لا حَصرَ لدائرة استثمارها وفوائدها، إلا أنّ بالإمكان تسخيرها لتحطيم العالم برمته، كما يمكن كذلك أن تدخل عاملاً فعّالاً في تنظيم الظواهر الحياتية للإنسان.
وعلى هذا، فالمقصود من العقل ــ داخل المنظومة المعرفية الإسلاميّة ــ القوّة الفكرية أو الطاقة النفسيّة التي تُستثمر لبلوغ الأهداف المنطقية الحيويّة المادية والمعنويّة ضمن حياةٍ مثالية، وهذا الانتفاع يتجسّد في اختبار الآليات الملائمة لبلوغ الأهداف المتقدمة، ومع أخذ ما تقدَّم بعين الاعتبار نصل إلى نتيجتين في غاية الوضوح:
1 ــ حتميّة ترحيب الإسلام بالتعلّم، وتوسيع دائرة المعرفة، والحث على التفكير وتوظيف العقل دون الأخذ بعين الاعتبار ضرورة ولابُدّية طلب المعرفة، أو على الأقل الدفاع عن هذا الأمر ودعمه يشبه إلى حدٍّ كبير إيماننا بضرورة وجود مصنع ما، ولكننا نمتنع في الوقت نفسه عن تزويد هذا المصنع بالمواد الأوليّة التي تدخل في تصنيع الناتج أو النتاج المطلوب أو على أقل تقدير توفير الدعم والإسناد لتحقيق هذا الأمر…! وهذا بنفسه تناقض واضح داخل منظومة فكريّة.
يضاف لذلك الترويج والحث الكبير الذي تبنّاه الإسلام على العلم والمعرفة من خلال ما تضمنته نصوصه ومصادره من أهمية كبيرة وتأكيد شديد على التعقّل والتفكير بشكل عام.
2 ــ اتخذ المفكرون في بعض القرون المنصرمة من النشاطات العقليّة والذهنية الصرفة شعاراً لهم، وكذلك العلم والفلسفة، دون اكتراثٍ بالذي يجري في عالم الطبيعة مماشاةً لسلسةٍ من القواعد الذهنية المحضة، ولم يحققوا أيّ تطورٍ أو يشيدوا صرحَ فلسفةٍ مؤثرة، مما يعزى برمّته لوضعهم الشخصي، وهو تمرّد جليّ على الأبعاد القيمية للنشاطات العقلية في الإسلام، إننا ــ وبما لا يُحصى كثرةً ــ نجد هذه الحقيقة في النصوص والمصادر الأساسية للإسلام، وهي تنادي بأن التفكير والعقل بعيداً عن العلم لا نتيجة لهما! والعلمُ من دون تماسّ مباشر بمعلومه لا يُسمّى علماً! إنّ من يريد أن يتعرف على العالم الخارجي ويوجّه إمكاناته ونشاطاته العقلية نحوه لا بُدّ من كونه على تماس معه أولاً، وهو ما دأب القرآن على ذكره كقوله تعالى: >سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ<.
العقل والشريعة الإسلامية، تصادم أم توافق؟ ــــــــــ
هل هنالك مدخلية للعقل في التشريعات الأسلامية؟
نسمع هذه الأيّام في البلدان الإسلاميّة ــ وبكثرة ــ ما يُقال من أنّ bالأحكام الإسلامية تعبديّةv، أو بعبارة أخرى: bإن الأحكام الإسلامية تتعالى عن التفاسير العلميّة المنطقيّةv وما إلى ذلك.
ولدفع هذه الأوهام التي انحدرت إلى حواضرنا الإسلاميّة من النظريات الغربيّة، يتحتّم علينا دراسة قضيّة على مستوى من الأهميّة وهي أن الأحكام الإسلاميّة تنقسم ــ وبصورةٍ عامة ــ إلى قسمين رئيسيين، ينقسمان بدورهما إلى أقسام متعددة:
1 ــ الأحكام التي تتولّى بيان الصلة بين الإنسان وخالق الكون، الذي هو جزء منه.
2 ــ الأحكام المرتبطة بالإنسان في عالم الطبيعة أو مع الآخرين الذين يتمتعون بغرائز وأنظمة نفسيّة مثله، ويشكلون مع بعضهم حياةً جماعيّة.
1 ــ التشريعات المنظّمة لعلاقة الإنسان بالله ــــــــــ
تستقى هذه الأحكام جميعها من دليلٍ عقليّ واحد صريح وواضح، لا يستطيع أيّ عاقلٍ ذو لُبٍّ أن يطعن فيه، وهو أنّ عقل الإنسان السليم ذي الرؤية الواقعيّة يدرك أن العالم بعظمته المدهشة والإنسان بتكوينه المذهل لا يمكن أن يكون عبثاً؛ لأنّ النظام المنسجم والمتناسق إلى هذا الحد حتى على رأي برتراند راسل، لا يمكن أن يكون بلا قصدٍ وغاية، ومن طرفٍ خفي يَهمس وجدان الإنسان ــ وقد لاحت على محيّاه قسمات الأصالة والاهتمام التي لا تجدُرُ إلا به ــ قائلاً: bأيّها الإنسان لكي تُحلّق نحو الكمال الذي هو من شؤونك الذاتية لا طريق لديك إلاّ قصد بلوغهv.
ويتلقى العقل الإنساني هذا الحكم المتمثل بعدم عبثيّة العالم والإنسان، وانحصار طريق الكمال في قصد بلوغه.. يتلقاه بحيادية تامة بوصفه مقدمةً بديهيّة، ومع ضمّ المقدمة الثانية القائلة: bإن الأنبياء مبعوثون من قبل الله تعالى، وهم أصدق البشر، وأن سبيل الوصول إلى الكمال قد حُدّد بكيفيّات وشعائر خاصّة كالصلاة و..v، بضمّ هاتين المقدّمتين إلى بعضهما يحكم العقل ــ وبشكل قاطع ــ بلزوم تأدية الإنسان الشعائر وممارسة الطقوس التي شرّعها الأنبياء ( ، وهم خبراء عالم الغيب وأئمته، بغية مدّ أواصرالارتباط وجسور التواصل بين الإنسان وخالق عالم الطبيعة.
أمّا عندما نتساءل: ما هي علل هذه الشعائر والطقوس؟ نجد العقل إمّا غير قادر على أن يعطي إجابة قاطعة حول حقيقة الشعائر ونوع عللها، أو أنه يعطي ضمانات عمليّة على أن العلل تتضح أثناء الممارسة والتطبيق، وقد قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم: >لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ<، وقال الإمام علي %: bألا ترون أنّ الله سبحانه اختبر الأوّلين من لدن آدم صلوات الله عليه إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار لا تضرّ ولا تنفع ولا تسمع ولا تبصر، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياماً، ثم وضعه بأوعر بقاع الأرض حجراً.. ثمّ أمر آدم وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه.. ابتلاءً عظيماً وامتحاناً شديداً… ولكنّ الله يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبدهم بأنواع المجاهد، ويبتديهم بضروب المكاره، إخراجاً للتكبّر من قلوبهم، وإسكاناً للتذلّل في نفوسهمv ([8]).
ومن الممكن أن يقال: لِمَ لَم يوكل الأنبياء ( مهمّة تحديد لون العبادة وكيفيتها إلى العباد أنفسهم؟ حتى يختار كلّ إنسانٍ لوناً وكيفيّة ترتضيها نفسه ويصدقها وجدانه وعقله!
ونذكر ــ في معرض الإجابة على هذا التساؤل ــ ما ورد عن الإمام الرضا %: bفإن قال قائل: فَلِم تعبّدهم؟ قيل: لئلا يكونوا ناسين لذكره، ولا تاركين لأدبه، ولا لاهين عن أمره ونهيه إذا كان فيه صلاحهم وقواهم، فلو تركوا بغير تعبد لطال عليهم الأمد فقست قلوبهمv ([9]).
ولنعتبر التعبّد سلوكاً يتقاطع مع العقلانية، ثم نبحث بشكل أدقّ ونتقصّى، عندها سيقودنا بحثنا إلى قضيّة مفاجئة ومذهلة إلى حدّ كبير، مسألة لا يهضمها ولا يستسيغها أولئك الذين يقفون موقفاً مناوئاً للتعبّد وبألوانه جميعها، ولكن ما العمل؟ فالقضيّة بمنتهى الواقعيّة، ولأن اقترنت الحقيقة بالمرارة فليس بالأمر المستغرب! فلا بدّ من تجرّع مرارتها مهما بلغت، وهذه القضية كما يقول السيّد بول جوش: bفي الحقيقة، لا بُدّ من التصديق بأن النظريات العامة في مجال الحقوق تعاني إبهاماً وغموضاً، وكذلك أبعاد وحدود المفاهيم الفكرية الأساسيّة؛ إذ لا تتمتّع بالقاطعيّة التطابقيّة ويغزوها التشابك والتداخل، ومما لا شك فيه أن هذا الأمر هو الذي أبعد الحقوقيين عن البحث فيه وملابساتهv([10]).
إذا دققتم في هذا النّص فستخرجون ــ وبلا أدنى شك ــ بالنتيجة التالية: إنّ الفلسفة والعلل الأساسيّة الأصوليّة لحقوق الإنسان المدنيّة قامت على أُسُسٍ عقلية مليئة بالغموض والإبهام، وأن المفاهيم الرئيسة في مجال الحقوق المدنيّة للإنسان خاضعة للأخذ والردّ دون أن تتصف بالقاطعيّة! ومع هذا نجد أن المجتمعات البشريّة على سطح هذا الكوكب مسلّمة بهذه الحقوق، ومما يدعو للعجب هنا أن تلكم القضايا ومع كونها محاطة بالغموض والإبهام عند الفلاسفة والحقوقيين الباحثين في علل وملاكات هذه القضايا والأحكام، إلا أنها تحظى بإقرارهم جميعاً دون إثارة تساؤلاتٍ أو المطالبة بعلل نهائية قطعيّة.
من جهة ثانية، ومع الأخذ بعين الاعتبار انشعاب مجالات المعرفة الى فروع متنوّعة وحقول اختصاصيّة تجعل تبنّي الآراء لمن هو خارج الحقول الاختصاصيّة أمراً مرفوضاً وشاذاً، بل يجب عليهم ويلزم الاتباع لما تنتجه فروع الاختصاص الأخرى، رغم ذلك كلّه لا يقرّ هؤلاء بتسمية هذا تعبُّداً!!
وعلى كلّ حال، فإذا كان بعضهم يحاول أن يقرن حركة الإنسان ونشاطه ويجعلها حكراً على الفعّاليات الحياتية العلميّة القطعيّة فلا أظن أنه سيحقُّ لخمسة أشخاص العيش على سطح هذا الكوكب! ولكن لا يفوتنا أن قضية التعبّد في الشعائر الإسلاميّة خارجة تخصصاً عن قضية التعبد فيما هو خارج الاختصاص، إذ إنّ التعبدية في الإسلام قائمة على أدلةٍ عقلية قطعيّة.
2 ــ التشريعات المنظّمة لعلاقة الإنسان بالإنسان والطبيعة ــــــــــ
تنقسم هذه التشريعات إلى قسمين أساسيين، لكن قبل أن نوضحهما ينبغي الإشارة إلى أن الأحكام الإسلاميّة برمتها قائمة على ملاكات المصلحة والمفسدة، وهي حقيقة واضحة وثابتة داخل نسيج النصوص والمصادر الإسلاميّة.
إن أوضح وأعم نصّ يتناول هذه الحقيقة ويثبتها هو الرواية المعروفة في باب المكاسب للعالم المدقق الحسن بن علي بن شعبة الحرّاني والتي جاءت في كتابه: تحف العقول، ونقلها الشيخ الحرّ العاملي في الوسائل، والشيخ البحراني في الحدائق، والشيخ الأنصاري في أوّل كتاب المكاسب، وكذلك في كتاب فقه الرضا %، وهي تضع المعيار الأساسي والملاك العام في الأحكام، ألا وهو الصلاح والفساد أو ما فيه صلاح الناس أو فسادهم، لا أنّها قائمة على تعبديّة صرفة لا تتمتع بأيّ ملاك أو علّة.
1 ــ علاقات الإنسان مع عالم الطبيعة: في هذا القسم، فتح الإسلام باب الحرّية العقلانية على مصراعيه؛ كي يحدّد الإنسان الطريق الذي يتعرّف من خلاله على عالم الطبيعة.
وليس فقط لم يعترض الإسلام طريق المعرفة هذا أدنى اعتراض، بل إنّه أشار ــ ومن خلال مئات الآيات والروايات المعتبرة الصريحة ــ إلى أنّ معرفة عالم الطبيعة جزء أساسيٌّ من إيمان الإنسان المسلم.
كذلك حثت الآيات القرآنية والروايات وأكّدت على ضرورة استثمار هذا العالم واستغلاله في سبيل إدامة الحياة وحفظها، كما في قوله تعالى: >الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ<، الأعراف: 157، >يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ<، المائدة: 4، >هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً<، البقرة: 29، >وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَين وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا<، إبراهيم:
31 ــ 33.
وأعم الآيات في هذا الخصوص: >أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ<، لقمان: 20.
وقد وقعت بعض الموارد الطبيعية المحدودة محلّ نهي الشارع وتحذيره، وهي تقع في مجموعتين:
المجموعة الأولى: يشهد العقل والحسُّ بلزوم اجتنابها والحذر منها، مثل تناول السموم وكلّ ما فيه ضرر جسماني بشكل عام، ومهمّة تحديد الموضوعات الخارجيّة تعود إلى الحواس والعقل.
المجموعة الثانية: وهو ما لا يمكن للعقل والحواسّ العثور على علل وأسباب تحريمه ومنعه أو تحديد الحكمة من ذلك، كحرمة أكل لحوم السِّباع وبعض من الحيوانات المائيّة التي لا فلس لها وغير ذلك، ويُمكن أن توضّح علّة تحريمها بطريقتين:
أ ــ تكمن علل تحريم منع هذه الأمور فيها، غير أنّها ما تزال عصيّة على العقل والحواس إلى الآن، ومن الممكن أن يكشف العقل النقاب عنها لاحقاً من خلال التقدّم العلمي، كما وقف ــ وبمرور الزمان ــ على حقيقة بعضها، مثلاً فيما يرتبط بحرمة الخمر فما كان يشعر به من يتعاطاه في صدر الإسلام لا يتجاوز السكر وخروج النفس عن السيطرة مؤقتاً وهي علامات عارضة للخمّار، لكننّا اليوم نعرف أضراراً أكثر من تلك، بل رُبّما تُمسي الثمالة إذا ما قورنت بهذه الأضرار في غاية البساطة، كالأضرار التي يحدثها السّكر في الجهاز العصبي والكبد و… وكذلك ما ينقل عن بعض المجلات العلمية من أنّ أفضل لحم الحيوانات المائية ما كان له فلس.
ب ــ ولنفترض جدلاً أنّه ليس ثمّة ضرر حقيقي لأيّ من الموارد المتقدّمة المحرّمة، وليس فيها جميعاً أيّ ضرر على الإنسان مطلقاً، بل كانت لذيذةً منعشة، فهل يا ترى يجوز ــ مع هذا الحال ــ التغافل عن ضرورة وجود كوابح تمكّننا من السيطرة على الجموح البشري والحرّية التي لا حدّ لها ولا قيد، وتمتين البعد الروحي؟!
وكما يبدو في مقاطع من خطبة القاصعة لأمير المؤمنين % ، فإن أعمال الحج لم تُدرج ضمن نسيج الأحكام الشرعية الإسلاميّة لما تتمتّع به من منافع ظاهرية، بل لما فيها من تمتين للبعد الروحي؛ لهذا دعي الناس إلى ممارسة شعائر لا يعرفون حقيقة عللها، وبالمنطق نفسه يمكن أن يجاب عن النواهي التي ترتبط ببعض الممارسات الحياتيّة التي لا تعدّ بنفسها ذات أضرار أو أخطار واضحةٍ بيّنة، بل لصقل الروح وتصفية الباطن.
وعندها يتناول المنع والتحريم أموراً تعدُّ ذات نفع وفائدة، لا بوصفها مُضرة، فلنفرض أن حرمة لحم الخنزير لم تؤدّ إلى ابتلاء الإنسانية بضرر أو أزمة، لا بل أحدثت نفعاً وفائدة، ففي هذه الحالة إنّما يمنع النفع الظاهري علينا، وبناءً على هذا لا وجود لحكم العقل المنطقي الذي يُقصي هذه النواهي، وإذا ما افترضنا أن حياة فردٍ أو أمةٍ توقّفت على هذه الأمور في يوم من الأيّام، كما هو الحال إبّان الحروب والقحط وفي الحالات الاستثنائية، فطبقاً لقانون bالضرورات تبيح المحظوراتv يمكننا الانتفاع بها والاستفادة منها.
علاقة الإنسان بالإنسان: وتعني ما يمثلُ علاقةً بمن يشاركه في الغرائز والأنظمة النفسيّة، ويشكّلون معاً بنية الحياة الاجتماعيّة، وفي هذا القسم نستذكر عدداً من الأصول الإسلاميّة المسلّمة لنرى هل الرؤى الإسلاميّة المقدسة تلتقي أم تتقاطع مع المسارات العقلانيّة؟!
الأوّل: وجود دعامة وقاعدة أساسيّة لا تستثني واحداً من البشر الذين يحيون على هذه الأرض بصفتهم خلائف الله فيها، هذه القاعدة الأساسيّة ومن خلال استشرافها لحقيقة مذهلة أقصت المعيارية القيميّة الكميّة لتؤسّس لمعياريّة قيميّة كيفيّة: >…أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا<، المائدة: 32.
ليتَ كُتّاب الاعلان العالمي لحقوق الإنسان كانوا يتمتّعون بفطنةٍ وتتبُّع أوسع ليجعلوا من هذه الدرّة القرآنية النفيسة حجر زاوية لفقرات المواد الثلاثينية، ثمّ ينسبوا هذه المسودة الحقوقية إلى الله تعالى؛ لكي تشترك المجتمعات البشرية كافّة في العمل وفقها من أعماق القلوب وأقاصي الوجدان.
إذن، فالإنسان ــ وفق الرؤية الإسلاميّة ــ هو الذي ترمز إليه الآية القرآنية مصرِّحةً، والنتيجة الواضحة المؤكّدة التي تُستقى من هذا الأصل الأصيل أن الإسلام ينظر إلى أفراد النوع الإنساني جميعهم على أساس أنّهم كيانات تتمتّع بشخصيّة ينبغي أن يعزّز وجودها من خلال خلقِ علاقات متناسقة متجذرة.
الثاني: في الوقت الذي يشترك فيه الجميع في الإنسانيّة، لا بدّ ــ في سبيل دفعهم نحو الكمال ــ من عدّ الفضيلة المكوِّن الثانوي للذات التي كانت الإنسانية مكوِّنها الأول، وهذا المكوّن هو مثلُها الأعلى، قال الله تعالى: >يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ الله أَتْقَاكُمْ<.
والنتيجة التي تُستخلص من هذا الأصل أنه لا بدّ للناس ــ بالإضافة إلى اشتراكهم في نفس المادة الحيّة والنوع ــ من السعي والكدح في سبيل تخصيب البعد المعنوي وتمتينه، وعدم الرضى والقناعة بالصبغة الحيوانية.
الثالث: يحتاج الناس عادةً إلى انتاج واستهلاك العناصر الاقتصادية لديمومة حياتهم، قال النبي 3: bاللّهم بارك لنا في الخبز؛ فإنه لولا الخبز ما صلّينا ولا صُمنا ولا أدينا فرائض ربّناv ([11]).
ونحاول هنا في هذا الأصل تسليط الأضواء على بعض المسائل التي قد تبدو خفيّةً على بعضنا من الناحيّة العقلية، فمثلاً يشيع أنه مع ملاحظة القضايا الاقتصادية العامة يكون إنتاج أيّ عنصر اقتصادي بالكيفيّة المحبّذة لدى الناس ظاهرة عقليّة، في الوقت الذي يحرّم فيه الإسلام بعض النشاطات الاقتصاديّة.
وللإجابة عن هذه الإشكاليّة نقول: لا ينبغي لنا أن نسمّي الظواهر النفعيّة والانتهازيّة التي تتحرك داخل البنية الاجتماعيّة عقلانيّةً؛ لأننا إذا أطلقنا شياطين الرّغبة ودوافع النفعيّة دون أن يكون هنالك أدنى التفات إلى مصير المجتمعات فسيتحوّل كلّ إنسان ــ من خلال هذه الدوافع والرغبات ــ إلى سبعٍ ضار يحاول افتراس كلّ شيء؛ ليخضعه لحسابه، ولا يقف عند حدّ حتى يستحوذ على الأشياء جميعها، ويستولي على موارد الطبيعة برمّتها.
وتأسيساً على ذلك، شرّع الإسلام تحريم الربا؛ لما يتمتّع به من نظرةٍ شموليّة لمختلف مكوّنات المجتمع، وحارب بضراوة الفوائد الربويّة على رؤوس الأموال التي يتقاضاها الرأسماليّون بلا جهدٍ وحركة، وذلك خطوةً منه على طريق تنشيط الأموال ومداولتها، إذ إنّ إخراجها من مدارات الفعّالية والحركة وكنزها وتجميدها يُلحق أضراراً كبيرة بالمجتمع، فلهذا رفض الإسلام ذلك وحرّمه، كما حرّم العناصر المضرّة حتى وإن تمتّعت ظاهراً بإنعاشٍ وإمتاع.
لو تحرّكنا على أساس دوافع الانتهازيّة والنفعيّة التي يحاول بعضهم وسمَها بالعقلانية مع الأسف الشديد، فسنشهد انهيار الأسس الفلسفيّة للعدل الاجتماعي في الحياة، وعندها ستتلبّد السماء بسُحب الرأسمالية القاتمة؛ مما يجعلنا عاجزين عن توفير ما يسدّ الرمق.
وخلاصة الكلام، سنغدو ــ عند الأخذ بعين الاعتبار نظرة الإسلام إلى الحق والملكيّة بوصفهما وسيلتي حياة لا هدفاً جامداً ــ واثقين بالحقيقة التالية، وهي أنّ القطيعة التي أعلنها الإسلام مع بعض الممارسات الاقتصاديّة لم تكن مبنيةً على أساس تعبديّ صرف بقدر ما تقوم على منظومة متعددة الآفاق، ترشّ كلّ الاتجاهات الاقتصاديّة بالضوء وتمنحها حركيّة إيجابية توازن بين استحقاقات الجسد ومتطلبات الروح.
الرابع: يشاد صرح هيكليّة الحقوق الإنسانية داخل الرؤية الإسلاميّة على تحجيم الرغبات والمطامع الفرديّة وكبحها؛ في سبيل المجتمع الإنساني، وهذا التحجيم لإرادة الفرد يمكن أن يكون ضامناً لاستقامته العملية داخل المجتمع، أمّا لو تمتع الجميع بالرغبات اللامحدودة بلا صمّامات أمان وكوابح! فسنشهد نشاطات فاسدة مفرغة من محتواها، وسوف لن تلبى حاجات المجتمع مهما كانت ضئيلة.
علاقات الناس مع بعضهم وكذلك علاقات الأفراد بالطبقات وعلاقات الطبقات الاجتماعيّة ببعضها غير قائمة على أساس حياتي صرف، بل لوحظ فيها العدالة والانسجام الاجتماعيين، وقد أشاد الإسلام صرحَ نظام يُبقي العائلة بعيدةً عن شبح الانهيار والتفكّك وفق رؤيته القائمة على كون الأسرة حجرَ الزاوية في البناء الاجتماعي.
أمّا فيما يرتبط بالعلاقات الأخرى المتنوعة التي يتمتع بها أفراد المجتمع وطبقاته، فإنّ الرؤية الإسلاميّة تدعم كل صلة تصبّ في مصلحة الإنسان الواقعيّة على أساس أنّها حقوق طبيعية ممضاة، وهو لا يقعُدُ مكتوفَ الأيدي ينتظر ظهور هذه الصلات المهمّة وبروزها، بل يتحرّك ويمضي بجديّة في سبيل اكتشافها وإرسائها.
وهنا، لا نلاحظ دوراً بارزاً وحضوراً للاتجاه الحقوقي الإسلامي على الصعيد الحقوقي إيماناً منه بأنّ حَلْحَلَة الموضوعات الخارجية مهمّة العقل والوجدان البشري الذي يحدد كل موضوع يعود بالنفع والصلاح على الإنسانيّة.
وإذا حدث أن خفيت علينا في بعض الحالات علّة حكم صلة من الصلات فلا يُعَدّ هذا خلافاً للعقل، بمعنى أنّ أيّ لون من ألوان التعبّد في عالم التشريعات القائم على أساس حفظ صلة الفرد بالله تعالى في ثبوته لا وجود له في مجال الحقوق البشريّة، بل تقوم جميعها على عللٍ حتى وإن كانت هذه العلل خفيّةً في بعض الأحيان علينا.
ولأجل إيضاح حالة عدم الخصام بين الحقوق الإسلاميّة والعقل لا بُدّ من الإشارة إلى أصل أساسي تنفرد بوجوده الحقوق الإسلاميّة عن جميع مدارس الحقوق الأخرى، وهو أن الإسلام يتعامل مع الحيثيات البشريّة والاستحقاقات الإنسانيّة على أنها وحدة واحدة وكيان فارد منسجم، ثمّ يصيغها على هيئة قوانين يقدّمها للبشريّة؛ فالاقتصاد الإسلامي ينبع من رؤيته الحقوقيّة، وحقوقه تنبع من منظومته الأخلاقيّة، وأخلاقه هي سياسته التي تنبع من قيامه لله تعالى، ولا يمكن التفكيك والفصل بحالٍ من الأحوال بين هذه الأسس المتناسقة، وكما يقول روبرت هوكوت جاسكون bنائب رئيس المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكيّةv: bلا يمكن الفصل بين النظريّات القضائيّة والسياسيّة وتعليمات النبي ووصاياه التي ترسم لون السلوك وفق الأسس الدينيّة، بل تحدّد طبيعة الحياة الشخصيّة والاجتماعيّة والسياسيّةv ([12]).
وبناءً على هذا، فالنظام الذي ينظر إلى الشؤون الإنسانيّة ــ سواء في واقعها الفردي أم الاجتماعي ــ على أنّها واقع واحد متصل، لا ينبغي لنا عند دراسة مسائله الحقوقيّة أن نتعامل معها على أنّها أصول حقوقيّة جامدة فحسب، بل لا بدّ عند تحليلها من ملاحظة خضوع سائر الشؤون الفردية والاجتماعية لأي لونٍ من ألوان القواعد الاقتصادية والاجتماعية الأخلاقية كذلك.
ولأجل إثبات هذا الانسجام والتوافق في البنية الحقوقية الإسلامية نُبيّن أنموذجاً بارزاً مع شيء من إمعان النظر والدقة، فعند تطبيق عقوبة القتل بحقّ أحد المجرمين لا بُدّ من العمل وفق الآتي: لابدّ للشهود من الاشتراك عند تنفيذ حكم الإعدام، وليست هذه فتوى أكثر الفقهاء فحسب، بل ادعى الشيخ الطوسي في كتابيه bالخلافv وbالمبسوطv الإجماع عليها.
أما رواية زرارة بن أعين في هذا الباب والتي هي محلّ اعتماد الفقهاء فقد جاء فيها المبدأ التالي: إذا كان ثبوت الجرم من خلال شهادة الشهود فأوّل من يشترك في إقامة العقوبة وتطبيقها الشهود أنفسهم، ثم الحاكم، ويأتي بقيّة الناس في المرتبة الثالثة، أمّا إذا ثبتت الجريمة عن طريق إقرار المجرم فأوّل من يشترك في تطبيق العقوبة هو الحاكم الشرعي، ثمّ الناس بالدرجة الثانيّة،وقد أنفذ الإمام علي % هذا الأمر عندما أنزل العقوبة بشراحة الهمداني.
ويلاحظ أن فلسفة اشتراك الشهود والحاكم في تطبيق العقوبات يكشف عن طبيعة الانسجام بين الحقوق والأخلاق في الرؤية الإسلاميّة، فهل تمتلك أجندة العقل الحقوقي البشري أُسساً عميقة متوافقة إلى هذا الحد والمستوى من المثالية خارج بنية الحقوق المدنية الاسلامية؟!
إنّ كل نظرية لا تأخذ على عاتقها ملاحظة المنظومات الإسلاميّة كواقع متصل توافقي بل تستغرق في النظرة الانفصاليّة الجامدة للأخلاق أو الحقوق أو السياسة أو الفلسفة أو الاجتماع لن تكون رؤيةً صادقة دقيقة علميّة.
مبدأ عدم التعارض بين العقل والأحكام الإسلاميّة ــــــــــ
هل من الممكن أن يتعارض العقل مع الأحكام والقوانين الإسلاميّة؟ وعلى فرض تعارضه أيّهما يُقدّم؟
تناول الفقهاء والحقوقيون الإسلاميون المسألة بالبحث والدراسة في كتبهم المختصّة، والذي يُستنتج من مجموع الدراسات والاستدلالات المتوفرة عدم وجود تنافٍ حقيقي وتقاطع بين الأدلة والنصوص الدينيّة وبين الأحكام العقليّة، فكيف يمكن للنصوص المعتبرة الإسلاميّة أن تضادّ أو تعارض العقل فيما تعتبره أسمى وأرقى آلية استدلاليّة وتعدّ نشاطه أفضل وأمتن نشاط في استكشاف الواقع بمعناه العريض؟!
نعم، الأمر الذي يتطلّبُ دقّة ويسترعي الانتباه أنّ للعقل ثلاث حالات عند صدامه مع القضايا، إذ يتفق أحياناً صراحةً معها، وأحياناً أخرى يختلف بشكل صريح، وثالثةً يسكت ويمتنع عن التصريح والحكم، بمعنى أنّ العقل ــ وعلى أساس خزين الذهن الإنساني ــ لا يبدي حكماً صريحاً بالتأييد أو المخالفة.
ويُقسّم الأفراد في حالاتٍ كهذه إلى مجاميع مختلفة: فمجموعة ترى أنّ المعياريّة في صحّة وبطلان القضايا تعتمد على الأحكام العقلية الفعلية والصريحة، وقطعاً لا يستطيع هؤلاء تصوّر حالات سكوت وحياديّة للعقل، لذا فهم يعدّون العقل في حالات كهذه مخالفاً لا محايداً، أما الفريق الآخر فيربط بين محدوديّة المعلومات البشريّة والتي تستتبعها بالبداهة محدوديّة النشاط والفعّاليّة العقلية وبين هذا الأمر، لذا فهم لا يعتبرون حالات الحياد العقلي مخالفة ورفضاً، بل يُحيلون البتّ في الحكم النهائي إلى مرحلة لاحقة، أو يتلقون ــ اعتماداً على أحد الأصول العقلانية ــ القضية المفترضة وكأنّها مؤيّدة من قبل العقل بشكل واضح.
ولم نعثر في النصوص المعتبرة الإسلاميّة على مخالفة صريحة للعقل الى الآن، وهناك موارد كثيرة يسكت العقل عن تحديد أسبابها وعلَلها الواقعيّة، وإذا ما وجدت حالات يبدي العقل مخالفته الصريحة لها، كما في بعض الروايات المرتبطة بعالم الطبيعة، فإنّ هذه الروايات تسقط عن الاعتبار ويُقدّم الدليل العقلي عليها.
وبالتتبع الدقيق لهذه الروايات نكتشف أنّها لم تقم ــ أساساً ــ على أسانيد معتبرة، بل كانت من جملة الموضوعات والمصنوعات المدسوسة من قبل المغرضين في التاريخ، وعليه لا يستطيع الإنسان الحكيم المتأنّي، وبمصادفة رواية أو قل: مجموعة روايات تخالف العقل، أن يسندها إلى الإسلام الحقيقي.
* * *
الهوامش
(*) من الفلاسفة الإيرانيين البارزين، له شروح ضخمة على كلّ من نهج البلاغة والمثنوي المعنوي، خاض عشرات الحوارات الفكرية مع مفكّرين غربيين، توفي مطلع القرن الحالي.
[1] ــــ ورد عن الإمام الحسين % في دعاء عرفة المعروف: bلا تضرّهُ ذنوب عباده، وهو الغني عن طاعتهمv، وكذلك: bإلهي أنت الغني بذاتك أن يصلَ إليك النفع منك، فكيف لا تكون غنيّاً عني؟!v.
[2] ــــ أصول الكافي1: 10.
[3] ــــ المصدر نفسه: 14.
[4] ــــ المصدر نفسه: 22.
[5] ــــ المصدر نفسه: 23.
[6] ــــ المصدر نفسه: 29.
[7] ــــ المصدر نفسه: 29.
[8] ــــ نهج البلاغة، خطبة القاصعة: 171، 172، 173، شرح محمد عبده.
[9] ــــ عيون أخبار الرضا 2: 103.
[10] ــــ المقدّمة النظريّة الكليّة والفلسفة الحقوقيّة لكلود ديفو باكيه، أستاذ في جامعة نوشاتل وزنو، المقدمة الأولى للمؤلف: 1.
[11] ــــ الفروع من الكافي 5: 73.
[12] ــــ مجيد خدّودي، الحقوق في الإسلام، مقدمة روبرت هوكوت جاكسون.