ترجمة: منال باقر
المقدمة
ثمّة أساسان من المبادئ الرئيسة في الفقه الإسلامي، لم يدرجا ضمن القواعد الفقهيّة المعروفة، وإنّما طواهما ـ مع الأسف ـ الإهمال والنسيان، إلاّ أنّ مراجعة الأدلّة والشواهد مع الأخذ بعين الاعتبار النتائج والآثار الحسنة لهما، تؤكّد لنا أهميّتهما الفائقة بل كونهما أرجح من أكثر الأصول المدّونة التي تدرّس في الفقه وأصوله، فدراسة تلك القواعد التي قد يكون لبعضها نتائج سلبيّة مع إهمال هاتين القاعدتين ممّا يصدق عليه تأخير ما حقّه التقديم وتقديم ما حقّه التأخير، وجعل الأصل فرعاً والفرع أصلاً.
وعلى الرغم من وحدة هدف هذين الأصلين ووحدة نتيجتهما إلى درجة يمكن اعتبارهما أصلاً واحداً، إلاّ أنّهما طُرحا في القرآن الكريم بوصفهما مبدأين مستقلّين ووردا كذلك في أحاديث العلماء، وثمّة ـ أيضاً ـ شواهد عديدة على كلّ منهما.
يُذكر أنّ الأصل أو القاعدة في القرآن والحديث لم يردا بهذا العنوان وعلى شكل تقعيدي، وأنّ مثل هذه الاصطلاحات إنّما ظهرت بالتدريج على امتداد تاريخ الفقه وأصوله، وتكاد تكون أكثر القواعد الفقهيّة والأصوليّة من هذا النوع.
ومع وضوحهما وبداهتهما في الدين الإسلامي المبين، إلاّ أنّنا ـ ولمزيد من إجلائهما وتوضيحهما ـ نذكر بعض الآيات والأحاديث فيهما، وأقوال بعض أهل النظر والرأي.
المبدأ الأول: سهولة الشريعة الإسلامية وسماحتها
1 ـ إطلالة على مبدأ السماحة في التراث الإسلامي الفقهي
كون الإسلام شريعةً سمحة سهلة أصلٌ من أصول الدين الإسلامي، أي من المسائل التي تختصّ به وتميّزه عن سائر الأديان السماويّة؛ وقد سلّم جميع علماء المسلمين بهذا المبدأ؛ فاعتبروه أمراً مفروغاً منه، مستندين إليه في موارد مختلفة، نذكر منها على سبيل المثال:
أ ـ يقول المحقّق الأردبيلي (993هـ) ـ بعد تفسيره للآية الشريفة: >مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ< (المائدة: 6): <وهو مقتضى الشريعة السمحة>([1]).
ب ـ يذكر المحدّث البحراني (1186هـ) لدى بيانه قواعد الفقه العامّة، فيقول: <ومنها رفع الحرج؛ لقوله سبحانه: >مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ< و >يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ<([2]) وغيرها من الأحاديث التي استند إليها.
ج ـ يقول ابن شهر آشوب: يختلف الرسول الأكرم 2 عن سائر الأنبياء في مائة وخمسين خصلة ـ ويقوم بعدِّ هذه الخصال إلى أن يقول ـ: <وتسهيل شريعته>، مضيفاً: <وفي باب الأحكام تخفيف الأمر على أمّته>([3]).
د ـ ويكتب الطريحي في مجمع البحرين تحت مادة السمح، فيقول: في الحديث: <ما بُعثت بالرهبانيّة الشاقّة ولكن بالحنيفيّة السمحة، أي السهلة التي لا ضيق فيها ولا حرج>.
هـ ـ ويقول العلاّمة الطباطبائي (1983م) في ذيل الآية الشريفة: >مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ< (المائدة: 6): دخول من على مفعول ما يريد لتأكيد النفي فلا حكم يراد به الحرج بين الأحكام الدينيّة أصلاً، ولذلك علّق النفي على إرادة الجعل دون نفس الحرج([4]).
2 ـ معنى مقولة: الشريعة السمحة السهلة
ويمكن تفسير هذه المقولة بمعنين:
المعنى الأوّل: أنّ الإسلام لا يعني الرهبانيّة، أي أنّه لا يعني الزهد وترك المباحات واللذّات، والإفراط في العبادات على وجه يعرّض حياة الإنسان للمخاطر. إنّ ما يؤكّد
لنا هذا المعنى قول الإمام علي% لعاصم بن زياد في نهج البلاغة: <يا عُدَيَّ نفسه!
لقد استهام بك الخبيث، أما رَحِمت أهلك وولدك؟! أترى الله أحلّ لكم الطيّبات وهو يكره أن تأخذها>([5])، كما أنّ قول الرسول الأكرم 2 يؤكّد على هذا المعنى، حيث قال 2: <النكاح سنّتي فمن رغب عن سنّتي فليس مني>؛ وعليه، فتدلّ هذه الأحاديث على معنى السهولة والسماحة في الدين، إلاّ أننا نقصد هنا معنى آخر لهذه المقولة يبين بعد قليل.
المعنى الثاني: وهو تشريع الأحكام وسنّ القوانين وفق مبدأ عدم وضع تشريعات شاقّة وصعبة في الدين الإسلامي.
3 ـ الشريعة السمحة السهلة في الكتاب والسنّة
على الرغم من وضوح وبداهة هذا المبدأ المسلّم في الدين الاسلامي، إلاّ أننا سنذكر بعض الشواهد من الآيات والأحاديث تبيّنه للذين لا فكرة لديهم عنه، ولا يعرفون أبعاده ولوازمه، ولترسيخ صورته للانتباه إلى مواضع تطبيقه.
أـ الشريعة السمحة السهلة في الآيات القرآنية:
تقسّم الآيات هنا إلى قسمين:
القسم الأوّل: وهو عبارة عن الآيات التي تنهى عن تحريم ما حلّله الله تعالى، وهي: 1 ـ > قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ< (الأعراف: 32). 2 ـ >يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ< (المائدة: 87). 3 ـ >أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ..< (البقرة: 187).
القسم الثاني: وهو عبارة عن الآيات التي تبيّن مدى رحمة الله تعالى بعباده ولطفه بهم، أي إرادته اليسر بهم، ومن هذه الآيات:
1 ـ >يُرِيدُ اللَّهُ بِكُم الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُم الْعُسْرَ<، وهي من جملة آيات الصوم التي وردت ترخّص بعدم الصيام لكلّ من المريض والمسافر.
2 ـ >رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا< (البقرة: 268)، حيث تأتي كلمة <إصر> في اللغة العربيّة بمعنين: أحدهما العهد والميثاق، وثانيهما الحمل الثقيل، وهو المراد من الآية الشريفة.
3 ـ >يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً< (النساء: 28)، حيث تتحدّث الآية وبعض ما قبلها عن الزواج، يقول العلامة الطباطبائي في هذا السياق: إنّ التخفيف من مختصّات الدين الإسلامي، والهدف الذي تدور حوله هذه الآية هو الزواج المؤقّت حيث شُرّع بسبب ضعف الإنسان أمام التمايلات الجنسيّة، فهو أيسر وأسهل من الزواج الدائم([6]).
4 ـ >مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ< (المائدة: 6).
5 ـ>وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ< (الحج: 78).
ولا تحتاج هذه الآيات إلى تفسير؛ لوضوحها وسهولتها.
ب ـ الشريعة السمحة السهلة في الأحاديث الشريفة:
ومن أبرز الأحاديث:
1 ـ قال الإمام علي %: <الحمد لله الذي شرع الإسلام فسهّل شرائعه لمن
ورده>([7]).
2 ـ وورد عنه أيضاً: <ولا ضَنْك لطرقه ولا وعوثة لسهوله ولا وعث لفجّه>([8])، وتعني كلمة الضنك الضيق، والوعوثة والوعث المشي على الأرض الطريّة التي يصعب المشي عليها، والفجّ هو الطريق الوسيع بين جبلين، يكتب ابن ميثم ـ بعد <ولا ضنك لطرقه> ـ فيقول: <وكنّى بعدم الضيق عن عدم صعوبة قوانينه على أهل التكاليف، أو لازم الضيق وهو مشقّة السالكين به إلى الله؛ كما قال 2: بُعثت بالحنيفيّة السمحة>([9]).
3 ـ ويقول الإمام الصادق %: <إنّ الله تبارك وتعالى أعطى محمّداً شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى: التوحيد والإخلاص وخلع الأنداد والفطرة الحنيفيّة السمحة>([10]).
4 ـ وعن الرسول الأكرم % أنّه قال: <يسّروا ولا تعسّروا؛ وبشّروا ولا تنفّروا>، وهو خبر متّفق عليه من حديث أنس([11]).
5 ـ عن ابن عباس، في قوله تعالى: >لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا< (البقرة: 286)، قال: هم المؤمنون وسّع الله عليهم أمر دينهم فقال: >مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ< (المائدة: 6)؛ وقال: >يُرِيدُ اللَّهُ بِكُم الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُم الْعُسْرَ< (البقرة: 185)؛ وقال: >فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ< (التغابن: 16)([12]).
6 ـ عن رسول الله: <إنّ خير دينكم أيسره؛ إنّ خير دينكم أيسره>([13]).
7 ـ وعن رسول الله: <أيها الناس إنّ دين الله يُسر> ثلاثاً يقولها([14]).
8 ـ وعنه: <الإسلام ذلول لا يركب إلاّ ذلولاً>([15]).
9 ـ وسئل: <أيّ الأديان أحبّ إلى الله؟ فأجاب 2: الحنيفية السمحة>([16]).
10 ـ وعنه: <أحبّ الأديان إلى الله الحنيفيّة السهلة>([17])، وقد وردت ثلاثة أحاديث أخرى بالعبارة نفسها([18]).
11 ـ وعنه: <بعثتُ بالحنيفيّة السمحة، ومن خالف سنّتي فليس منّي>([19]).
ونكتفي بهذا القدر من الأحاديث؛ نظراً لكون هذا المبدأ من مسلّمات الدين الإسلامي.
المبدأ الثاني: النهي عن التدقيق وكثرة السؤال
إنّ النهي عن التدقيق وكثرة السؤال أصلٌ آخر من الأصول العامّة للدين الإسلامي وأسسه التي تتعلّق مباشرةً بطريقة تحصيل العلم والبحث والتفتيش في المسائل الإسلاميّة. ونعرض في هذا القسم أيضاً بعضاً من الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة وآراء العلماء في هذه المسألة، وهي:
1 ـ قال الله تبارك وتعالى: >يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ< (المائدة: 101 ـ 102).
أ ـ فقد ذكر في تفسير جوامع الجامع: <أي لا تكثروا مسألة رسول الله 2 حتّى تسألوه عن تكاليف شاقّة إن أفتاكم بها وكلّفكم إيّاها وجبت، وربما غمّكم ذلك وشقّ عليكم>([20]).
ب ـ وجــاء فـي تــفسيـر مـجمـع البـيـان: <وإلــى هـذا المعـنى أشــار أمـيــر
المؤمنين % في قوله: إنّ الله افترض عليكم فرائض فلا تضيّعوها، وحدّ لكم حدوداً فلا تعتدوها، ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها، وسكت لكم عن أشياء ولم يدعها نسياناً فلا تتكلّفوها>([21]).
ج ـ ويقول العلاّمة الطباطبائي: <وكيف كان، فالتعليل بالعفو يفيد أنّ المراد بالأشياء هي الخصوصيات الراجعة إلى الأحكام والشرائع والقيود والشرائط العائدة إلى متعلّقاتها وأنّ السكوت عنها ليس لأنّها مغفول عنها أو ممّا أهمل أمرها بل لم يكن ذلك إلا تخفيفاً من الله سبحانه لعباده وتسهيلاً، كما قال: وهو الغفور الحليم. فما يقترحونه من السؤال عن خصوصيّاته تعرّضٌ منهم للتضييق والتحريج، وهو ممّا يسوؤهم ويحزنهم البتّة؛ فإنّ في ذلك ردّاً للعفو الإلهي الذي لم يكن البتة إلاّ للتسهيل والتخفيف وتحكيم صفتي المغفرة والحلم الإلهيين؛ فيرجع مفاد قوله: لا تسألوا عن أشياء.. إلى نحو قولنا: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا النبي عن أشياء مسكوت عنها في الشريعة، عفا الله عنها ولم يتعرّض لبيانها تخفيفاً وتسهيلاً>([22]).
د ـ ويقول محمد فريد وجدي في هذه الآية: <نزلت حين سأل سراقة بن مالك، وقد أوحيت إلى رسول الله آية الحج قائلاً: أكلّ عام يا رسول الله؟ فأعرَضَ عنه 2 حتّى أعاده ثلاثاً، فقال: لا، ولو قلت: نعم؛ لوجبت لما استطعتم فاتركوني ما تركتم؛ ونزلت هذه الآية. ثم يضيف: هذه من حكمة الإسلام البالغة فإنّه سلك في تفسير الدين على الناس كل طريق حتّى سدّ عليهم طريق السؤال خشيةً من تعقيد الأمور وتقييدها، فأين هذا من أسلوب الذين يفترضون ما لا يكون ويجيبون عنه؟!>([23]).
هـ ـ ويكتب الشاطبي (790هـ): <الإكثار من الأسئلة مذمومٌ، والدليل عليه المستفيض من الكتاب والسنّة وكلام السلف الصالح، من ذلك قوله تعالى: >يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ<، ثم يكتب بعد نقل الأدلة وأقوال العلماء بالتفصيل: ويتبيّن من هذا أنّ لكراهية السؤال مواضع نذكر منها عشرة: أحدها السؤال ممّا لا ينفع في الدين.. والثاني أن يسأل بعدما بلغ من العلم حاجته.. والثالث السؤال من غير احتياج إليه في الوقت.. والرابع أن يسأل عن صعاب المسائل وشرارها.. والسادس أن يبلغ بالسؤال إلى حدّ التكليف والتعمّق.. والثامن السؤال عن المتشابهات.. والتاسع عما شجر بين السلف الصالح..> مبيّناً الأدلّة والأمثلة لكلّ قسم منها([24]).
2 ـ وعن الإمام علي % أنّه قال: <إنّ الله افترض عليكم فرائض فلا تضيّعوها؛ وحدّ لكم حدوداً فلا تعتدوها؛ ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها وسكت لكم عن أشياء ولم يدعها نسياناً فلا تتكلّفوها>([25]).
3 ـ ويقول الإمام علي % في سياق حديثه عن الراسخين في العلم: <فمدَحَ الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً، وسمّى تركهم التعمّق فيما لم يكلّفهم البحث عن كنهه رسوخاً>([26]).
4 ـ وقال % ـ خلال حديثه مع ولده الإمام الحسين % ـ: <واعلم يا بني! أنّ أحَبَّ ما أنت آخذ به إليّ من وصيتي تقوى الله والاقتصار على ما فرضه الله عليك، والأخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك والصالحون من أهل بيتك؛ فإنّهم لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم كما أنت ناظر، وفَكّروا كما أنت مفكّر، ثم ردّهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا والإمساك عمّا لم يكلَّفوا>([27]).
وقد شرح ابن ميثم البحراني هذه الكلمات الرائعة في نهج البلاغة، فقال: فمن الأحبّ إليه تقوى الله الذي هو الزاد المبلّغ إليه، ثم الاقتصار على ما افترضه الله عليه من النظر في ظواهر الأدلّة دون التوغّل في الفكر وخوض الشبهات ممّا لم يُكلَّف به أخذاً بما مضى عليه الصالحون من أهل بيته، كحمزة وجعفر والعبّاس وعبيدة بن الحارث وغيرهم من بني هاشم([28]).
5 ـ وقال الرسول الأكرم 2: <ذروني ما تركتم؛ فإنّهم هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه>([29]). وثمّة ثلاثة أحاديث أخرى بالمضمون نفسه([30]).
6 ـ ويقول 2: <إن الله عزّ وجلّ فرض فرائض فلا تضيّعوها، وحدّ حدوداً فلا تعتدوها، وحرّم أشياء فلا تقربوها، وترك أشياء غير نسيان رحمةً لكم فلا تبحثوا عنها>([31]).
7 ـ وقال 2 أيضاً: <آمُرُكم بثلاثٍ وأنهاهم عن ثلاث.. وأنهاكم عن قيلٍ وقال وكثرة السؤال>([32]).
8 ـ ويقول الإمام الباقر %: <إذا حدّثتكم بشيء فاسألوني عنه من كتاب الله>، ثم قال في بعض حديثه: <إنّ رسول الله 2 نهى عن القيل والقال وفساد المال وكثرة السؤال؛ فقيل له: يا ابن رسول الله! أين هذا من كتاب الله؟ قال: إنّ الله عزّوجلّ يقول: لا خير في كثير من نجواهم إلاّ من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، وقال: ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً، وقال: لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم>([33]).
9 ـ وجاء عن أحمد بن محمد في تفسير العيّاشي: <كتبت إلى أبي الحسن الرضا % وكتب في آخره: أولم تُنْهوا عن كثرة المسائل؟ فأبيتم أن تنتهوا، إيّاكم وذلك؛ فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم؛ فقال الله تبارك وتعالى: يا أيّها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء..>([34]).
ونكتفي بهذا القدر من الآيات والأحاديث على الرغم من وجود الكثير غيرها.
إهمال مبدأي السهولة والبساطة التشريعيّين، المعطيات والنتائج الكارثية
من الواضح أنّ هذا التأكيد المكرّر والمشدّد على النهي عن كثرة السؤال والتدقيق والغوص في جزئيات الكتاب والسنّة وبيانات العلماء السابقين، إنّما كان بهدف فهم الدين بشكلٍ مبسّط وسهل؛ لما يستلزمه العكس من محاذير، حتّى أنّه تمّ التصريح ـ في موارد عديدة ـ بأنّ هذا العمل يشابه بلاءات الشعوب السابقة التي صعّبت التكاليف عليها بسبب كثرة أسئلتها وخوضهم في جزئيّات المسائل؛ ممّا أدّى إلى ضياع الأجيال اللاحقة وضلالها؛ وإحساساً بهذه المسؤوليّة الخطيرة، نهى الأنبياء العظام وأوصياؤهم عن الخوض في الفروع والتدقيق في الجزئيات؛ بغية حفظ السهولة والسماحة في فهم الدين.
لكن مع الأسف الشديد، تمّ تخطّي هذا المبدأ المقدّس، ومخالفة الوضع الذي حدّده الإسلام 180 درجة، وتكثير الفروع ومضاعفة حجم فرض الفرضيات ذات الطابع الغريب، ولو تمّ الاعتناء بهذا المبدأ والاهتمام به لاستمرّت عظمة الإسلام ورونقه، بل يمكن القول: إنّه كان ـ لولا ذلك ـ أشدّ رونقاً وتكاملاً الآن، ولما تبدّلت عزة المسلمين وشموخهم إلى ذلّةٍ أمام الصهاينة والغرباء؛ فاعتبروا، اعتبروا، اعتبروا، يا أولي الأبصار.
إنّ من مصائب المسلمين الكبرى في هذا العصر توقّف فهمهم للإسلام على المئات من المجلّدات والكتب، وسوف يتوقف في القرون القادمة على الألوف من الكتب، بينما كانوا في صدر الإسلام يكتفون بمعرفة القرآن ومائة حديث مثلاً حول الإسلام وأحكامه. ونتيجة هيمنة هذا الوهم أن دخلنا في متاهات التحريف والاستغلال وإحداث التفرقة بين المسلمين أكثر فأكثر.
شبكة الفتاوى الصعبة والمعقّدة وظاهرة الانكفاء عن الدين
ومن مصائب المسلمين الأخرى في هذا الزمان، ذهاب الكثير منهم إلى الأماكن المقدّسة ـ وحتّى إلى الحج ـ دون أداء فريضة الصلاة، وعندما يُسألون عن السبب في عدم القيام بالصلاة على الرغم من كونهم مسلمين يردّ أكثرهم بالقول: إنّهم لا يعرفون كيفيّة الوضوء والغسل والطهارة والنجاسة وما إلى هنالك من أمور تتعلّق بها؛ أليس السبب في هذا هو اعتبار غير الممارسين للعبادات أنّ الوضوء والطهارة والنجاسة وكلّ العبادات ومقدّماتها ـ بشكل عام ـ من الأمور الصعبة والمعقّدة التي لا يمكن تعلّمها؟؟! بل حتى الممارسين للعبادات يخطؤون في الكثير من الموارد عند سؤالهم، وفي كثير من الأحيان لا يمكنهم توضيح الأحكام للناس، وقد يتطرّقون لبعض المسائل الفرعيّة وغير العلميّة أحياناً بما يؤدّي إلى تشوّش أذهان الناس.
وعلى سبيل المثال أذكر هذه الحادثة: في يومٍ من أيام شهر رمضان المبارك، كنت أستمع من الراديو إلى عالم دينٍ يوضّح مبطلات الصوم، إلى أن وصل إلى مسألة الارتماس في الماء ـ والتي تبطل الصوم ـ بعد سؤال أحدهم عن بطلان صوم الصائم الذي يمشي تحت الثلج، فطبّق مفهوم الارتماس على هذه الحالة، وعندها شعرت بالانزعاج إلى درجة لم أستطع أن أستمع بعدها إلى بقية حديثه. وأمثال هذه الحادثة كثير..
وثمّة مسألة أخرى خرجت عن مبدأ السماحة والسهولة، وهي مسألة صلاة المسافر وصومه؛ فمن المسلّم به أن سبب تشريع هذا الحكم هو التخفيف والتسهيل؛ حيث نقل الفضل بن شاذان عن الإمام الرضا %: <إنّ الصلاة قُصّرت في السفر؛ لأنّ الصلاة المفروضة أوّلاً إنّما هي عشر ركعات، والسبع إنّما زيدت فيها بعدُ؛ فخفّف الله عزّوجلّ عن العبد تلك الزيادة لموضع سفره وتعبه ونصبه واشتغاله بأمر نفسه وظعنه وإقامته لئلا يشتغل عمّا لابدّ منه من معيشته، رحمةً من الله عزّ وجلّ وتعطّفاً عليه>([35]).
وقد أدّت كثرة الفروع واختلاف الفتاوى ـ في هذه المسألة ـ خاصّة في المذهبين: الشيعي والحنفي، واللذين يعتبران القصر والإفطار من الأمور الإلزاميّة لا الاختياريّة، أدّت إلى اعتبار هذين الحكمين أعقد من صلاة غير المسافر وصومه، فتعقّدت المسألة على الرغم من كونها سهلة بسيطة! لكن ثمّة ما هو أعجب من هذا، وهي فتوى الاحتياط التي يعطيها العلماء أحياناً، أي أنّ المكلّف يحتاط في صلاته بأن يصلي تماماً وقصراً، وأن يصوم ثم يقضي صومه بعد انتهاء سفره، ولمزيد من وضوح هذا الأمر يكفي مراجعة كتاب العروة الوثقى وحواشيه، للسيد اليزدي وسائر العلماء المتأخرين.
وإذا راجعنا استفتاءات الناس والأسئلة التي توجّهها إلى مراجع التقليد، نرى أن معظمها يدور حول أحكام الصلاة والصيام ومدى انشغال ذهن الناس بها.
مسألة تقليد الحي ومواجهة مبدأ السهولة والسماحة
وثمة ما يلفت، وهو وجوب تقليد المرجع الحي وتعلّم فتاواه، فمثلاً إذا كان هناك شخصٌ عمره سبعون سنة توفي مرجعه، عليه تقليد آخر وتعلّم فتواه، أليست هذه مشكلة صعبة بالنسبة إليه، خاصة وأن الفقيه لا يكون مرجعاً إلا في أواخر عمره؟! وعندها يترتب على هذا الشخص أن يقلّد عشرة مراجع ويتعلّم جميع فتاواهم. أهذا هو معنى الشريعة السمحة السهلة؟!
يقول الإمام علي حول اختلاف العلماء في فتوى ما: <أفأمرهم الله تعالى بالاختلاف فأطاعوه، أم نهاهم عنه فعصوه، أم أنزل الله ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه، أم كانوا شركاء له؛ فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى، أم أنزل الله سبحانه ديناً تاماً فقصّر الرسول 2 عن تبليغه وأدائه>([36]).
إنّ أحكام الوضوء من المسائل التي توسّعت وتعقّدت بسبب عدم رعاية هذا المبدأ والخوض في الجزئيات والتفاصيل، ولقد اخترت مسألة الوضوء كمثال لأن الأمر به جاء واضحاً في القرآن الكريم، ومن المسلّم أن آية الوضوء من المسلّمات وليست المتشابهات، إضافة إلى هذا، إنّ الرسول الأكرم 2 كان قد توضأ مئات المرّات أمام الناس، بل يمكن القول: إنّ ألوف الأشخاص تعلّمت الوضوء منه ومن كبار الصحابة ومنهم الإمام علي %، وكذلك سائر الأمور الأخرى، على خلاف مثل الغسل وإزالة النجاسة وصلاة المسافر و.. لأن أحكام تلك المسائل لم تكن مورد ابتلاء ولا تطبّق عادةً أمام الملأ بخلاف الوضوء، لكن ما هو السبب في كثرة الاختلافات في مسائل الوضوء؟!! ولو فرضنا أن آية الوضوء مجملة ومبهمة، لكنّ عمل الرسول الأكرم 2 والإمام علي % لم يكونا مجملين ولا مبهمين. ألا تُعدُّ هذه المسألة دليلاً على أنّ تصور المتأخرين وكثرة الأسئلة وإلقاء الشبهات على الوضوء أدّى إلى تقديم صورة مختلفة عن الوضوء، وإلى ظهور الوساوس والشكوك غير المتعارفة، وإلى فقدان معناه الأساسي على مرور الزمان؟!
ويكفي مراجعة كتابَي: <الفقه على المذاهب الأربعة> و <العروة الوثقى> وحواشيه للجزيري واليزدي وسائر المتأخرين من مراجع التقليد؛ للتدقيق في هذه المسألة على الرغم من عدم كونهما لنقل الاستدلال.
* * *
الهوامش
([1]) الأردبيلي، زبدة البيان في أحكام القرآن: 21.
([2]) البحراني، الحدائق الناضرة 1: 151.
([3]) المجلسي، بحار الأنوار 16: 332، 333 نقلاً عن مناقب آل أبي طالب 1: 98، 99.
([4]) الطباطبائي، الميزان 5: 230.
([5]) نهج البلاغة، الخطبة: 209.
([6]) الطباطبائي، الميزان 4: 282.
([7]) نهج البلاغة، الخطبة: 106.
([8]) المصدر نفسه، الخطبة: 198.
([9]) ابن ميثم البحراني، شرح نهج البلاغة 3: 454.
([10]) الكليني، أصول الكافي 2: 17؛ والمجلسي، بحار الأنوار 16: 330، و65: 317.
([11]) محمد رشيد رضا، المنار 2: 164.
([12]) السيوطي، الدر المنثور 1: 376.
([13]) المصدر نفسه : 192.
([14]) المصدر نفسه.
([15]) المصدر نفسه.
([16]) المصدر نفسه: 193.
([17]) المتقي الهندي، كنـز العمال 1: 178، ح 899.
([18]) المصدر نفسه: 73، ح 289 ـ 291.
([19]) المصدر نفسه: 178، ح 900.
([20]) الطبرسي، جوامع الجامع 1: 406.
([21]) الطبرسي، مجمع البيان 2: 205.
([22]) الطباطبائي، الميزان 6: 153، 154.
([23]) المصحف المفسّر: 163.
([24]) الشاطبي، الموافقات 4: 184.
([25]) نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم: 105.
([26]) المصدر نفسه، الخطبة: 91؛ والميزان 3: 69، عن تفسير العياشي مع اختلاف طفيف.
([27]) نهج البلاغة، كتاب: 31.
([28]) ابن ميثم، شرح نهج البلاغة 5: 18.
([29]) الهندي، كنـز العمّال 1: 181، ح 916.
([30]) المصدر نفسه: 192، ح 972 ـ 984.
([31]) المصدر نفسه: 193، ح 890، وهو بنفس معنى ح 981.
([32]) المصدر نفسه: 205، ح 1023.
([33]) الطباطبائي، الميزان 6: 155.
([34]) المصدر نفسه: 156.
([35]) الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه 1: 290.
([36]) نهج البلاغة، الخطبة: 18.