لا يمكن اختزال التغيرات التي قلبت صورة الحياة رأساً على عقب، وحولتها إلى صورة أخرى جديدة مغايرة لصورة الحياة القديمة… لا يمكن اختزال ذلك في الجانب المادي فحسب بل لا يمكن فك العلاقة بين الجانب المادي وبين الجانب المعنوي والمفاهيمي، الذي أنتج تلك الصورة المادية الحديثة.
ومن جملة الأمور المتعلقة بصورة الحياة الحديثة، موضوع الدين والتدين، بوصفهما أمرين يتعلقان بالحياة القديمة، سواء بالفهم أو بممارسة الحياة الإيمانية والغوص في التدين، فالفهم الديني وما يتعلق به من لاهوت[1] وطقوس[2] وممارسات لا بد أن يتعلق بجوهر التغيير الحاصل في الحياة، باعتبار أن الدين هو من موضوعات الحياة الاجتماعية للبشر لا الحياة المادية، كما أن فهمه سيتأثر بالمفاهيم البشرية الحديثة شأنه شأن جميع القضايا والموضوعات المادية والاجتماعية.
ومن أبرز من ساهم في إيران الإسلامية في إرساء نظرية جديدة إلى فهم الدين على العموم والإسلام على الخصوص، فيما يخص علاقة الدين بالحياة الجديدة وبالحداثة وما يتعلق بذلك من ضرورة تغيير وتطور شكل التدين، هو الأستاذ والمفكر مصطفى ملكيان.
وما يرد هنا يشكّل بعضاً من أفكاره حول الحداثة والاتجاه المعنوي في الدين، الذي يقول المؤلف بأنني انشغلت خمس سنوات من عمري أفكر في هذا الموضوع، وقد بذلتُ مساعي كبيرة في لملمة أطراف هذا الموضوع، عساني أوفق في العثور على طريقة للتوفيق بين الحداثة والاتجاه المعنوي (العقلانية والمعنوية) في الدين[3].
ولادته ونشأته
مع أن الأستاذ ملكيان لم يرغب الحديث عن نفسه كثيراً، وبالتالي لم نتمكن من استيعاب حياته الغنية، لكن مع ذلك ما حصلنا عليه فيه الشيء الكثير والمفيد، فقد اهتم ملكيان خلال مسيرته العلمية بالكتاب أكثر من اهتمامه بالأستاذ، حيث كان يرغب في (المكتوب) أكثر من (المسموع). يقول أبرز أساتذتي في الأدب والفلسفة والعرفان هم: الأستاذ مرتضى مطهري (1979م)، الدكتور أمير حسين يزد گردي (ت 1986م)، الدكتور عبد الحسين زرّين كوب (ت 1999م)، الدكتور غلام حسين صدّيقي (ت 1991م)، والدكتور مهرداد بهار (ت 1994م).
يقول ملكيان: أنا لم أكن أعتني بالدروس الرسمية سواء في الجامعة أم الحوزة العلمية (معاهد الشريعة)، ولكن إذا كنت أجد أستاذاً قويًّا في المادة التي أبحث عنها كنت أشارك في درسه ولو بشكل مستمع.
ولد مصطفى ملكيان في عام 1955م في قضاء «شهرضا» التابع لمحافظة «أصفهان» (وسط إيران)، وأتم مرحلة التعليم الثانوي هناك، ثم انتقل إلى جامعة طهران وتخرج من كلية الهندسة قسم الميكانيك في عام 1973م. وبعد ذلك انتقل إلى مدينة قم والتحق بالحوزة العلمية الدينية، بسبب اهتمامه بهذا الجانب منذ يفاعته، وتضلع في الفلسفة والإسلاميات، ثم حصل على شهادة الماجستير من جامعة طهران (كلية الإلهيات) قسم الفلسفة وذلك في عام 1986م.
وهو اليوم أستاذ الفلسفة، وفلسفة الأخلاق، وفلسفة الدين، والوجودية و… في جامعة طهران، وجامعة (تربيت مدرس) فرع قم، والحوزة العلمية (مكتب الإعلام الإسلامي) في قم، ومشرف على العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه التي غالباً ما تحمل طابعاً تجديديًّا في الدين، وصاحب آراء وأفكار المنهجية التربوية في المؤسسات التعليمية في إيران. صدر لـه عدة كتب من تأليفه وترجمته حول فلسفة الدين وفلسفة الأخلاق والمدارس الفكرية والفلسفية في الغرب، منها: (راهى به رهايى) الطريق إلى الحرية، (مشتاقى ومهجورى) الشوق والهجران، (مهر ماندگار) الحب الخالد، (سيرى درسپهرجان) سياحة – جولة – في عالم النفس[4]، وسيصدر لـه قريباً كتاب: (أخلاق دينى واخلاق سكولار)، الأخلاق الدينية والأخلاق العلمانية.
مشروع مصطفى ملكيان
يُبحث هذا المشروع عادةً على صعيدين:
أحدهما: تفسير[5] الاتجاه المعنوي للدين تفسيراً سلبيًّا، من قبيل أن الله تعالى ليس بظالم، وليس بكاذب، وغير ذلك، والثاني: تفسيره بالإيجاب، من قبيل أن الله تعالى عادل وحيّ وعزيز وقدير وغير ذلك، فتارةً تُستخدم صيغ الجمل الخبرية السالبة، وأخرى تستخدم الصيغ الخبرية المثبتة.
قبل أن نشرع بالحديث عن هذا الاتجاه، ينبغي أن نحدد تصور الدكتور ملكيان للحداثة على مستوى جمعه مع (الاتجاه) المعنوي، ثم نتحدث عن تفسير الدين، وما هي تصوراته في تفسير الدين.
أما عن الحداثة فيقول الدكتور ملكيان: إذا أردنا أن نحل معضل الدين والحداثة، فلا بد أن نقسم عناصر الحداثة إلى قسمين:
والملاحظ هنا أنه يعبر بقوله: (يمكن اجتنابها) ولم يقل: (يحسن اجتنابها)، مما يعني أن التقسيم ليس انتقائيًّا على أساس التحسين والتقبيح، وليس على أساس موقف معياري مسبق، إنما هو تقسيم على أساس إمكانية الاجتناب عمليًّا على أرض الواقع اليوم أم لا، فهو تقسيم على أساس الأمر الواقع. أي أنه يقول: أنا أقسم على أساس الإمكانات الواقعية، لا على أساس الحسن والقبح، أو الإيجاب والسلب، أو الرغبة وعدم الرغبة، أو الإيمان وعدم الإيمان.
إذن بعض العناصر في رأيه يمكن اجتنابها، ولا ضرورة لها، ويمكن للإنسان أن يكون حداثيًّا دون أن يتحلى بها، والأمثلة عليها كثيرة، فمن الممكن أن يعيش المجتمع الأمريكي على طريقة ما في حداثته، فيما يكون المجتمع الألماني أو الفرنسي له طريقة أخرى، فاختلاف الطرق بحد ذاته يعتبر حداثة، ومن الممكن اجتناب بعض هذه الطرق الجزئية ويبقى الإنسان حداثيًّا.
2-عناصرلايمكناجتنابها
يقول صاحب النظرية: أن هناك عناصر في الحداثة لا يمكن اجتنابها، خيراً كانت أم شراً، حسنة أم قبيحة، رحمة أم نقمة، فليس المهم في ذلك الموقف المعياري منها، إنما المهم الموقف الوصفي، أي هل يمكنني كإنسان معاصر أن أجتنبها أو لا؟
فأول خطوة قام بها هي تقسيم الحداثة إلى عناصر يمكن اجتنابها، وهذه لا مشكلة بينها وبين الدين، باعتبار إمكانية اجتنابها. وعناصر لا يمكن اجتنابها، وهي أمر واقع يجب أن نتعايش معه، شئنا أم أبينا[8].
فهو إذن مارس انتقائيةً وتشطيراً. يقول إنه ليس على أساس المعايير، إنما على أساس الواقع.
يقول ملكيان: أنا دائماً أقصد من الدين، المعاني الثلاثة التي طالما صرّحت بها، وهذا التعريف لا يختص بدين معين، بل مطروح أمام جميع الأديان والمذاهب:
1- تارة أريد من الدين مجموع النصوص المقدسة للأديان والمذاهب الموجودة في عالم اليوم (الدين الأول).
2- وتارة أخرى أقصد من الدين مجموع الشروح والتفاسير التي أحاطت بتلك الكتب والنصوص (الدين الثاني).
3- وتارة ثالثة أقصد منه جميع الأعمال والممارسات التي قام بها أتباع دين معين على مر التاريخ، مع إلحاق النتائج والآثار التي ترتبت على تلك الأعمال والممارسات (الدين الثالث).
مرادي من الدين دائماً، لا يخرج عن هذه المعاني الثلاثة، وذلك حسبما يقتضيه سياق البحث. وقد ينطبق كلامي أحياناً على أحد هذه المعاني فقط، وأخرى على اثنين منها، وقد ينطبق في بعض الحالات على الدين بمعانيه الثلاثة. ولا أحمل في ذهني تصوّراً عن الدين خارج هذا الإطار[9].
الدين الثاني والثالث ظاهرتان اجتماعيتان بلا ريب، غير أن اجتماعية الدين الأول تكون باعتبار أن الدين بهذا المعنى ظاهرة ملموسة على الصعيد الاجتماعي، وليس كالغضب الذي لا يمكنني أن أبرزه للناس (إلاّ بالإثارة). فالدين بمعانيه الثلاثة أمر اجتماعي، مع اختلاف طفيف في هذه الحقيقة الاجتماعية بين الدين الأول، والدينين الثاني والثالث[10].
ويرى ملكيان أن «الإنسان لا يختار دينة»[11]، وإنّما يسوغه فقط. والبشر على مدى التاريخ كانوا دائماً وارثين للدين، والذين اختاروا دينهم وتجاوزوا الموروث هم نادرون جدًّا، ومن أراد أن يختار ديناً عليه أن يطالع كل الأديان، وعندئذٍ يكون الاختيار ترجيحيًّا لدين على آخر، لكن بعد التروي والتأمل والتحقيق والدراسة، فالاختيار هو من الخير، لكن من ينهض للتصدي معرفيًّا للديانات كلها، فعليه أن يختار الأفضل[12].
مع العلم بأن معظم إدعاءات الأديان هي من النوع الذي لا يمكن التحقق من صدقه أو كذبه، فكيف يمكننا الوصول إلى حكم قاطع؟ فإذا أدعى دين أن الإنسان يتناسخ بعد الموت، ودين آخر قال عكس ذلك، ومادمنا نحن في هذه الدنيا، فكيف يمكننا القول إنّ هذا مطابق للواقع والآخر غير مطابق[13]؟
يقول ملكيان: إنَّ المعنوية جوهر الدين، وهنا من اللاّزم إيضاح معنى كلمة «جوهر»، فلهذه الكلمة ثلاثة معان:
1- المعنى الأولى لجوهر الدين، هو جوهر التدين، وهو الغاية القصوى المنشودة من ممارسة التدين، والتي تمثل الشيء المطلوب بالذات لا بالغير. وهو ما يرمي إليه الإنسان المتدين كهدف أعلى، من سعادة أبدية، أو تقريب إلى الله، أو طمع بالجنة، أو رغبة بتخفيف الألم والمعاناة ونحو ذلك.
2- المعنى الثاني لجوهر الدين، هو الوجه أو الوجوه المشتركة بين الأديان، والجوهر هنا بمعنى (الذات) عند أرسطو. والدين هنا: الوجه المشترك بين الكتب والنصوص المقدسة، وقد يراد منه: العثور على الآراء والعقائد المشتركة بين الأديان.
3- المعنى الآخر لجوهر الدين، هو الجهات العامة الموجودة ضمن الدين الخاص بعد تجريده من جهاته الخاصة والمحلية. وبتعبير آخر الرسالة الرئيسة التي جاء الدين من أجل إبلاغها.
إذن أنا لا أقصد من «جوهر الدين»، القواسم المشتركة بين الأديان المختلفة، لأن الجوهر بهذا المعنى له مفهوم أرسطي، ويعني (الذات)، كأنّك تقول هنا بالماهوية والجوهريّة[14]. وأنا لا أؤمن بهذا المعنى لجوهر الأديان، لأنّي أساساً لا أقر بوجود (الذات).
وكذلك لا أقصد من «جوهر الدين»، الجهات العامة الموجودة ضمن الدين الخاص بعد تجريده من جهاته الخاصة والمحلية، لأن لكل دين جنبة محلية[15] وأخرى عموميّة[16]، فمثلاً في الدين الإسلامي جهات محلية خاصة، بكونه ظهر في جزيرة العرب قبل زهاء أربعة عشر قرناً من الزمن، وهذه الجهات تتبع بطبيعة الحال الوضع الثقافي والسياسي والاقتصادي الذي كان رائجاً حينها، وثمة أيضاً في هذا الدين جهات عامة ذات طابع عمومي، لا يرتبط بوضع خاص، أو ظرف خاص. والواقع أنا أقصد المعنى الأول من جوهر الدين، أي جوهر التدين الذي هو محل كلامنا. والسبب في استخدام مصطلح «جوهر الدين» بدلاً من «جوهر التدين» هو عدم التمييز الكافي بين الدين والتدين في ثقافتنا التنويرية. عندما أقول إن المعنوية جوهر الدين، أي أنني أعتقد أن الأشخاص المتدينين سيقود تدينهم بالتالي إلى تحصيل السكينة والبهجة والأمل، وحتى حين يفصحون عن رغبتهم في الوصول من خلال التدين إلى أمور أخرى غير الثلاثة (السكينة والبهجة والأمل)، فهم -بعد التحليل الدقيق- لا يطلبون غير هذه الأمور الثلاثة، وإن تصوّروا أن مصداقها شيء آخر.
يمكن العثور -في تقديري- على جهة اشتراك بين الأديان جميعاً. وأتصوّر أن أغلب المعنويين في العالم يؤمنون بوجود هذا القاسم المشترك، لا بمعنى أخذه من دينهم. إذا فسرنا «جوهر الدين» بالوجه المشترك بين الأديان والمذاهب المختلفة، فبوسعنا أن نعثر في هذا الوجه المشترك، على عدة مبادئ أساسية يؤمن بها معظم المعنويين في العالم (وليس كلهم بالطبع).
بعبارة أخرى، حين نستقرئ التاريخ نلاحظ أن أغلب المعنويين في العالم يلتزمون بتلك المبادئ وينادون بها، وهي:
1 ـ إنّ نظام العالم نظام أخلاقي، على أن هذا المبدأ يمثل الوجه المشترك بين جميع الأديان في العالم.
2 ـ إنّ جميع الأديان التي نعرفها، تقبل بالقاعدة الذهبية القائلة: عامل الناس كما تحب أن يعاملوك. جدير بالذكر أن المعنويين أيضاً يعتقدون بهذا المبدأ ويعتبرونه من العقائد المشتركة بينهم وبين الأديان.
لاحظ هنا أنني لم أقل أن المعنوية جوهر الدين بالمعنى الثاني، وذلك لعلمي بأن الكثير من العقائد المشتركة بين أهل الأديان، مما لا يقبله أهل المعنوية. نعم، ثمة تداخل بين جوهر الدين بالمعنى الثاني وبين ما يؤمن به المعنويون في العالم، أي أن بعض الأمور الموجودة هناك موجودة هنا أيضاً. ومن الواضح أن هذا لا يتيح لنا القول بأن المعنوية هي جوهر الدين بالمعنى الثاني. وكذلك الحال لو أخذنا الجوهر بمعناه الثالث، وقلنا بأن جوهر الدين هو الجهات ذات الطابع العمومي دون الجهات المحلية. وحينئذٍ يمكن القول أيضاً بوجود نوع من التداخل والانطباق الجزئي بين المعنوية وبين الجوهر بمعناه الثالث. وهذا لا يبرر التسوية بين المعنوية والجوهر في الاصطلاح.
إذن عندما نقول بأن جوهر الدين يتمثل بالمعنوية، كان مرادنا من الدين، التدين، فتكون المعنوية جوهر التدين[17].
بحسب رأي ملكيان، هناك ثلاثة تفاسير للدين:
1- التفسير السلفي[18] أو المتحجّر (أو القراءة السلفيّة).
2- التفسير التقليدي -التراثي[19]– (أو القراءة التقليدية).
3- التفسير التجديدي[20] (أو القراءة التجديدية).
يتمحور كل من التفاسير الثلاثة حول مجموعة من الأفكار والأسس. والدارس لهذه التفاسير لا بد وأن يلحظ مأزقاً إبستمولوجيًّا (معرفيًّا) يعتري كلاًّ منها، وفيما يلي سنبيّن مرتكزات كل من التفاسير الثلاثة:
1- حجية العقل الاستدلالي، ويقصدون به كشف العقل عن المعاني الواردة في الكتاب والسنة. وبعبارة أخرى، العقل خادم النص أي أنّ دوره مجرد الفهم والتفهيم لما ورد في النص من الأحكام والتعاليم والإرشادات، إن هذا العقل تابع وليس بمتبوع، ولا يأتي في عرض الكتاب والسنة، أو الكتاب المقدس عند النصارى والتوراة عند اليهود و…، ولذلك فإن المعتمد الأول والأخير عندهم هو النص والنقل فقط، وله الأولوية على الواقع بل هو فوق الواقع وفوق الزمان والمكان، ومستعصٍ على التاريخ، بمعنى أن النص لا تاريخي.
2- تأويل النص، وغالباً ما يكون تأويل النص تأويلاً نفعيًّا عقائديًّا وأيديولوجيًّا.
3- الحرص على الطقوس والشكليات، أي أنهم يقدمون الصَّدف على الجوهر أو المظهر على المخبر.
4- الشريعة مساوية للدين، وهي ثابتة غير متبدلة وغير قابلة للنقاش.
5- المطالبة بتطبيق أحكام الشريعة ولو بالفرض.
6- التعارض بين المجتمع الشرعي والحكومات العلمانية والمؤسسات التابعة لها، ولذلك فهم لا يقرون بمشروعيتها أو مشروعية التعامل معها.
7- رفض التعددية الدينية، إذ إنهم يعتقدون بتمامية معتقدهم دنيويًّا وأخرويًّا. ولذلك فهم يرفضون كل تأويل آخر.
8- رفض التعددية السياسية، وهذا فرع لرفض التعددية الدينية، إذ إن السياسة بنظرهم ليست إلاّ تطبيقاً للشريعة، والحكومة الدينية بالنسبة لهم هي المدينة الفاضلة وجنة الله.
9- إلقاء مسؤولية النكبة والتخلف في المجتمعات على الآخرين.
10- رفع شعار التغيير دون الاعتماد على برامج متكاملة[21].
1- حجية العقل، يعترفون للعقل بدورٍ في دراسة حقائق الكتب المقدسة، ولكن لا يجعلون هذا العقل في مرتبة الكتب المقدسة والسنة، والمقصود بالعقل عندهم هو العقل الشهودي أو الكشفي، لا العقل الحر البرهاني.
2- تأويل النص: يعتمدون التأويل في فهمهم للكتاب المقدس والسنة، تأويلاً باطنيًّا شهوديًّا.
3- لا يعارضون مفهوم التعبد في الدين.
4- القول بوجود حقيقة وروح للدين خلف الظواهر والقشور.
5- الإيمان الباطني كوسيلة للوصول إلى السعادة، ويفسرون التديّن بأنه نوع من السلوك الباطني. ومن هذا المنطلق ينظرون إلى الالتزام بالشرع والفقه كشرط لازم، ولكنه غير كافٍ للحصول على السعادة. والشرع ليس غاية وهدفاً. بل هو آلة لا بد من التمسك بها لبلوغ الهدف، ولذلك فهم يشنعون على كل من يعتقد أنّ الشريعة هي غاية الدين، وعلى من لا ينظر إليها باعتبارها مجرد آلة.
6- ركيزة المجتمع المثالي، الأخلاق، لا الشرع والفقه. ومن أهم القواعد الأخلاقية لأصحاب هذا الخطاب: «لا ترض لغيرك ما لا ترضى لنفسك. وكن متسامحاً مع الآخر ومتصلباً مع نفسك».
7- المطالبة بانخراط النخب في المجتمع، وممارسة الشأن العام مع الاستمرار في تهذيب النفس.
8- لا يبالون بفصل السياسة عن الدين، إذ إن التجربة الروحية تجربة فردية، ويمكن تحقيقها بمعزل عن المجتمع السياسي، سواء كان دينيًّا أو غير ديني.
9- القبول بالتعددية الدينية والأفهام المتنوعة للنص، وتالياً التعددية السياسية، إذ إن الدين بنظرهم يستجيب للحاجات المعنوية لا المادية والدنيوية، ولا ينتظرون منه تحقيق ملكوت الله على الأرض[22].
1- حجية العقل، ويقصودن به العقل الاستكشافي والعقل الاستدلالي، ويقع في عرض الكتب المقدسة وسنن الرُّسل.
2- الإقرار بمقاصد الشرع وفلسفة الدين كأساس تشريعي ومناط للأحكام، حيث هو استبعاد للتعبد كمسوغ للالتزام الشرعي، وعقلنة للشرع والشريعة.
3- تقديم العقل على النص في حالة تعارض النص معه.
4- التركيز على روح الدين وجوهره دون إغفال غايته، وهي إرساء القيم الأخلاقية الفردية والاجتماعية.
والأخلاق بهذا المعنى ليست طريقاً للسعادة المعنوية الأخروية فحسب، بل الدنيوية والمحسوسة أيضاً وكل من الحسن والقبح يدوران على فلك لذائذ وآلام البشر، ماديًّا ومعنويًّا.
5- أحكام الشريعة عندهم ليست ثابتة بل تتغير بتغيّر الأزمة والأحوال، والاقتصار على فهم واحد للدين هو إخراج له من الشمولية والعالمية وحجر عليه في شرنقة الفرد والشخص.
6- عدم التمسك بتقليد السلف، بل فتح العقول على مشكلات العصر، وجواز قبول بعض المقولات الوضعية.
7- التمييز بين الدين والسياسة كحقلين مستقلين، يمكن الجمع بينهما كما يمكن الفصل، فالمجتمع الديني برأيهم يمكن أن يوجد في دولة لا دينية.
8- القبول بالتعددية الدينيّة كلازم من لوازم تعدد العقول والإفهام، وتالياً التعددية السياسية، ويرونها أقرب إلى التقوى والعدالة.
9- تحصيل الرفاه والعدالة الاجتماعيين عبر الحكومة الدينية أمر غير ضروري، بل يمكن تحصيلهما في دولة مدنية، ومن هنا كان نجاح الحضارة الغربية في تأمين الحاجات المادية[23].
(الفرقبينالتفاسير أوالقراءةالدينية)
فهذه ثلاث قراءات وتفاسير للدين يقول إنها موجودة في ساحتنا، ويقول إن هناك 11 فرقاً بينها، نذكر منها على سبيل المثال بعض الفروق الأساسية التي ركز عليها:
1- إن القراءة المتحجّرة للدين -بحسب تسميته- تهتم بالظاهر ولا تهتم كثيراً بروح ومضمون القضية. كما يقول الشاعر العربي الكبير أبو الطيّب المتنبي (354هـ) عن هؤلاء:
أغايةُ الدينِ أنْ تَحفوُ شواربَكم
يا أُمةً ضَحِكَتْ مِنْ جَهلِها الأُممُ[24]
ويقول الشاعر والفيلسوف أبو العلاء المعرّي (ت 449هـ):
ما الخيرُ صومٌ يذُوبُ الصّائمونَ لهُ
ولا صلاةٌ، ولا صُوفٌ على الجسدِ
وإنّما هُوَ ترْكُ الشرِّ مُطَّرِحاً
ونفضُكَ الصّدْرَ من غِلٍّ ومن حَسَدِ[25]
فهؤلاء يهمهم الظاهر كثيراً، مثل شكل اللحية، وطول الثوب، وما إلى ذلك من المظاهر التي يقفون عندها كثيراً، ويجادلون حولها جدلاً كبيراً.
أما القراءتان التجديدية والتقليدية، فلا تركزان على الظواهر والحرفيات، وإنّما يهمّهما المعنى والغاية، وتحاولان أن ترسما الهدف من وراء تلك الظواهر التي يريدها الدين.
2- إن القراءة المتحجرة قراءة فقهية، تعتبر الفقه (الشريعة)[26] أساس الدين، وهو القادر على أن يحتل من الدين مساحة 80% أو أكثر، وأن كل شيء سوى الفقه (الشريعة) يقع على الهامش، فمركز الدين ومحله الرئيس هو الفقه وعلوم الشريعة، أما أطراف المركز فهي العقيدة[27] والأخلاق[28] والفلسفة وغير ذلك، فالفقه هو معيار تدين المجتمع وعدم تدينه.
فمثلاً: من يقرأ الدين قراءة متحجّرة، يعرف أن المجتمع متدين أم لا، من خلال المناسبات الدينية، كالحج والصوم وصلاة الجماعة والجمعة، وتربية اللحى، وحجاب النساء وغير ذلك من المظاهر. وكذلك على الصعيد الفردي، تعتبر هذه القراءة مقياس التدين لدى الفرد الالتزام بالأحكام الفقهية (مثل الرسائل العملية لمراجع الدين عند الشيعة الإمامية أو الفتاوى الفقهية والمفتي عند السُنّة) والمظاهر. فالفقه هو الذي يشغل المساحة الأكبر للدين على مستوى الفرد والمجتمع والدولة.
أما القراءة التقليدية والتجديدية للدين، فهي لا ترى للفقه مثل هذه المساحة، ولا هذا الحجم الضخم، إنما هو أصغر بكثير من ذلك، فآيات الأحكام والفقه أقل من عُشر القرآن كما يقولون (حدود 500 آية في القرآن).
الفرقبينالقراءةالتقليديةوالتجديدية
صحيح أن الفقه ينحسر في القراءة التقليدية نسبةً إلى القراءة المتحجرة لكنه انحسار نسبي، ويشغل مساحة جيدة، ويُنظر إليه أنه وسيلة للوصول للغايات والأهداف.
أما في القراءة التجديدية فيقول: إن الفقه لا وجود لـه إلا نادراً، ويشغل مساحة بسيطة جدًّا.
إذن ما الذي يأخذ مكان الفقه؟ وهل تؤول الأمور إلى الفوضى؟ أو تشغل الأخلاق مثلاً محل الفقه؟
حسب هذه النظرة التي يتبناها ملكيان، تشغل الأخلاق محل الفقه، فالمتدين ليس من يلتزم بالحكم الشرعي، بل من يتمسك بالأخلاق، وصاحب ضمير حي ونية صافية، واندفاعة طيبة.
هذا هو مجمل الكلام في المميزات الرئيسة المتعلقة بهذه المدارس أو القراءات الثلاث، وعلى ضوء تلك الميزات تختلف المدارس المذكورة في مواضيع كثيرة، مثل: قراءتها للفقه السياسي الإسلامي، ولمسألة المرأة، والإرث، وما يتعلق بالحقوق وغير ذلك، فاختلاف القراءات في الموضوعات المختلفة ناتج عن اختلاف الموقف من الفقه، سلباً أم إيجاباً أم وسطاً.
يقول ملكيان: وأنا من أنصار القراءة الثالثة (التجديدية).
ويقول أيضاً: ومن القراءة الثالثة (التجديدية) يظهر اتجاهي، وهو «الاتجاه المعنوي في الدين»[29].
التجربة التاريخية أثبتت للبعض أن الدين، وإن كانت الغاية من ظهوره التخفيف من آلام البشرية ومعاناتها، وأن الناس يقبلون عليه لهذا السبب أيضاً، إلا أنه في موارد عديدة بات سبباً لظهور هذه الآلام وخلقها، فظهر لديهم تساؤل جديد حول إمكانية العثور على طريق يعينهم في التخفيف من الآلام البشرية، دون أن يكون في موارد أخرى سبباً لإيجادها. هاهنا كانت نقطة البداية لظهور المعنوية.
إنّ نقطة الانطلاق لتيار المعنوية تبتدئ من حيث نريد -أنا وأنت- التقليل من درجة الألم والمعاناة التي نقاسي منها، ولكن يبدو في الوقت نفسه أن هذا السبيل لم يكن سبيلاً مؤدياً إلى الهدف.
بهذا المعنى يجب القول: إن للمعنوية جذورها في عمق التاريخ، وبهذا المعنى ينبغي أن يقال: إن بوذا كان إنساناً معنويًّا، (نفس بوذا لا مذهبه)؛ لأن بوذا كان يحتج ويتمرد على الموانع والعوائق الموجودة في الأديان الأخرى، والتي كانت تتسبب في زيادة الألم والمعاناة الإنسانية. تعلمون أن البوذية كانت بمثابة فرع من الديانة الهندوسية، انفصل عنها لثلاثة أسباب، كان بوذا يعتقد أنها مسببة للألم والمعاناة:
1- العصمة والقداسة التي تمنحها الديانة الهندوسية للأفراد.
2- النظرة الأحادية في هذه الديانة.
3- نظام الطبقات الموجود في الهندوسية.
يقول ملكيان: ففي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تضافرت ثلاثة عوامل وأدّت معاً إلى تحول الاتجاه نحو المعنوية -بمعناها عندي- إلى شيء جدير بالدفاع عنه منطقيًّا. وهذا هو الذي يدعوني لاعتبار النصف الثاني من القرن التاسع عشر، الزمان الحقيقي لولادة هذا الاتجاه، وهذه العوامل الثلاثة كما يلي:
1- اتساع المعرفة بخصائص الأديان والمذاهب الأخرى، فبمقدار ما يبقى أتباع الأديان والمذاهب المختلفة بعيدين عن بعضهم وجاهلين ببعضهم يكون تعلقهم بدينهم أكثر وأشد تطرفاً، وما أن يكتشفوا الجوانب المشرقة في الأديان والمذاهب الأخرى، حتى يتطور فهمهم لدينهم ومذهبهم الخاص، ويدركوا على الأقل أنه واحد من بين مجموعة أديان. الأمر الذي لم يكن متاحاً قبل تنامي الدراسات الدينية إبان القرن الثامن عشر وفي غضون النصف الأول من القرن الذي يليه، حيث عكف علماء الاجتماع على بحث خواص الأديان والمذاهب على تنوعها، وآمنوا بما تمخضت عنه هذه الأبحاث من نتائج جديرة بالاهتمام.
2- اعتباراً من بداية القرن التاسع عشر إلى الآن، تجلت أكثر من ذي قبل، آثار ونتائج الاختلاف الحاصل بين الأديان، وتبيّن حجم المخاطر التي يمكن أن تسفر عن الخلافات التي توجدها الأديان بين الناس.
3- أما العامل الثالث، فهو محسوب على الحقل المعرفي «الإبستمولوجي»، حيث تبيّن منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر، عدم إمكانية إثبات المزاعم الغيبية «الميتافيزيقية» لأي دين من الأديان. إنّ إحدى الخواص الدوغمائية في الأديان، هو قناعة صاحب الدين بإمكانية إثبات الجانب الغيبي في دينه، ومن هنا يقول: إن كل من لا يذعن لهذه الغيبيات، فهو معاند للحقيقة. ولكن ما أن يعلم أن أيًّا من الدعاوى الغيبية «الميتافيزيقية» للأديان غير قابلة للإثبات، وأن لا دليل لإثبات هذه الدعاوى، أو إن الدليل -إذا وجد- فنسبته إلى هذه الدعاوى المختلفة على حد سواء، آنذاك تتراجع درجة تعلق الإنسان وافتتانه بدينه، وتفقد حدتها وشدتها، وبعدها يصبح من الطبيعي ظهور إنسان يقول: إنه يقبل بالخصائص الإيجابية للدين، ويتحفظ على الخصائص السلبية فيه. ويعود هذا في الحقيقة إلى قبوله لذلك المقدار من الدين الذي من شأنه التخفيف من الآلام والمعاناة، ونبذه كل أمر ديني يفاقم ذلك الألم ويضاعف من تلك المعاناة، هذا التوجه الواعي نحو المعنوية لم يحصل إلاّ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وكان لشوبنهور[30] في ألمانيا دور بالغ الأهمية في هذا الإطار. كان فيلسوفاً ذا نزعة معنوية، وكان يكنُّ لبوذا احتراماً فائقاً، بل كان بوذي المذهب والمنحى، في حدود ما أنسبه لبوذا أحياناً من شخصية معنوية.
يصرّح ملكيان بأنّ رأيه في المعنوية يشبه إلى حد كبير رأي الفيلسوف والعالم الألماني «فايرابند»[31] في العلم. كان يقول: إنّ العقلانية والشمولية يتطلبان الإصغاء حتى إلى كلام قراء الطالع والفأل والمجانين ونظرائهم، ولا يمكن تجاهلهم لمجرّد كونهم كذلك. إذ على الإنسان أن يفيد من كل النتاج البشري، ولا يوجد برهان على أن الوصول إلى الحقيقة، أو إلى جزء منها، يتوقف على سلوك طريق معين.
إلى هنا حاولنا أن نؤسس لأرضية واضحة، لكي نفهم من أي رحم يتولد الاتجاه الذي يقول الدكتور ملكيان أنه يحل المشكلة؟
إنه يتولد من:
1- تقسيم الحداثة وتشطيرها، وصفيًّا وواقعيًّا إلى ما يمكن اجتنابه وما لا يمكن.
2- تشطير قراءة الدين إلى ثلاث مدارس، وتبني الثالثة منها. بمعنى أنه يقول للفقه: لست أنت الذي تحل مشاكل الإنسانية[32]، وإنما هناك بديل آخر وهو القيم والأخلاق والروح والعرفان.
من هذا المناخ اتجه الباحث لفكرته في الاتجاه المعنوي، وقال: إن تبني الاتجاه المعنوي للدين يحل مشكلة تصادم الدين مع الحداثة، فكأن المشكلة الأساسية في هذا الموضوع هي الفقه على وجه الخصوص، يليها العقائد بالدرجة الثانية.
أما ما هو الاتجاه المعنوي الذي يطرحه في هذا الإطار؟
فيقول: إنني انشغلت خمس سنوات من عمري أفكر في هذا الموضوع، لوضع حل للمشكلة، إلى أن عثرت على الحل في الاتجاه المعنوي.
ومن الجدير بالذكر هنا أنه يُقر بأن الاتجاه المعنوي في الدين ليس فكرة جديدة، فقد ظهر في الغرب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، واشتهر في القرن العشرين، وهذا هو اتجاه المسيحية[33] اليوم تقريباً، فنلاحظ أن الكنيسة يقترب خطابها من الاتجاه المعنوي، خصوصاً بعد عام 1963م، بعد ما أعلنت الكنيسة التسامح وتعددية الأديان وما إلى ذلك.
لكنه مع ذلك يقول: إن هذا الاتجاه الذي يتبناه، يمتاز عن كل الاتجاهات المعنوية التي ظهرت منذ قرن ونصف من الزمن.
وهذه دعوى ينقصها الدليل، فلا بد من المراجعة والبحث، ثم الجزم بالأمر، وهل أنه أتى فعلاً بجديد أو لا؟
ثم إن هذا الذي يقوله إنما هو اتجاه وليس مذهباً، وهناك فرق كبير بين الاتجاه والمذهب، فمن الممكن أن تجد لدى فقيه ما اتجاهاً تجديديًّا في الفقه، لكن فتاواه لا تختلف عن فتاوى غيره.
فالاتجاه نوع من النزوع نحو الشيء، وليس مذهباً له معالم وأطر محددة.
لذلك يقول ملكيان: إن «المعنوية» عبارة عن اتجاه، وليست مذهباً، وشأنها في ذلك شأن «الوجودية» التي هي الأخرى ليست مذهباً، وإنّما اتجاه في الرؤية إلى العالم. وبالتالي قد تجد خمسة أشخاص يذهبون في هذا الاتجاه، ولكن لكل منهم نظريته الخاصة به ومذهبه في التفكير. ثمة فرق بين المذهب والاتجاه والنهضة، كل واحد من هذه المقولات الثلاث يعني شيئاً غير ما يعنيه الآخر. ليس من الضروري أن يتوصل جميع أنصار المعنوية في العالم إلى السلسلة نفسها من المبادئ الثابتة بينهم على سبيل الاشتراك، كلا، فالمعنوية ليست أكثر من اتجاه في الرؤية إلى العالم عموماً، وإلى الدين كظاهرة خاصة. ولذلك من الطبيعي جدًّا مشاهدة مذاهب عديدة تنضوي جميعاً تحت اتجاه المعنوية. لذلك من الممكن أن يكون في العالم اليوم خمسة أشخاص لهم اتجاه معنوي واحد، ولكل منهم مذهب مختلف، لكنهم يصبون في اتجاه واحد، ونزعة واحدة[34].
فهو يفرّ من موضوع المذهب، لأن المذهب يمثل عادةً أطراً من جُمل خبرية، وهو لا يُريد أن يتعامل مع الدين كجمل خبرية، لذلك يعتبر أن العقائد درجة ثانية في الدين -وهذه هي نقطة الحساسية في نظريته-، فهو يعتبر أن الاعتقاد بالمسيحية واليهودية والبوذية والهندوسية والإسلام والتشيع والتسنن و… في الدرجة الثانية من الدين، فلا يريد أن يؤطّر نفسه في إطار جُمل خبرية تلزمه أن يتبنى أو يتحيّز لطرف، إنما يُريد أن يبقى كاتجاه، يحمل في داخله المسيحيين أو اليهود أو السنة أو الشيعة أو البوذيين أو الهندوس أو الملحدين أو غير ذلك. لذا يصر على اعتباره اتجاهاً لا مذهباً.
وقد سئل في بعض الحوارات: هل هناك أحد معنوي في العالم اليوم ؟ فيجيب: نعم، أعرف شخصاً من هذا القبيل. فكأنه لا يتحدث عن مدارس، إنما عن أفراد لا يتجاوزون عدد أصابع اليد.
1-حلالآلامالبشريةالتيلاحلّلها
سؤال يطرح نفسه: ماذا تُريد النزعة المعنوية في الدين، التي يُدّعى أنها تحل المشكلة بين الدين والحداثة؟
الجواب عن ذلك: إن لدينا مشاكل وآلام ومصاعب كثيرة في العالم اليوم، بعضها يتكفل علم الطب بحلها لنا، والبعض الآخر يحله علم الفيزياء، أو الكيمياء أو غير ذلك.
ولكن هناك نوع من الآلام والمصاعب والمشاق في حياة الإنسان، لا يمكن أن يُزيلها من حياته إلا الدين، أو إن لم يستطع إزالتها، فعلى الأقل يستطيع أن يجعلك تتكيف معها، ولا يجعل المردود السلبي عليك صعباً.
فالموضع الذي نحتاجه من الدين هو هذه الدائرة، وهذه النقطة فقط، باعتبار أن النقاط الأخرى قد حلها العقل[35]، عبر الفيزياء والكيمياء والسياسة وعلم النفس، وعلم الاجتماع، وغير ذلك. فنحن لسنا بحاجة للدين في هذه الدوائر حسب رأي هؤلاء، إنما نحتاج إليه في مصاعب لم تتمكن العلوم من حلها، كما في مشاكل الفراغ والعبثية وظاهرة الانتحار وغير ذلك من المشاكل.
فالاتجاه المعنوي للدين يعني اعتبار الدين وسيلة لحل الآلام البشرية التي لا حل لها بطريق آخر، أو جعل الإنسان قادراً على التكيف معها دون ألم ومصاعب.
مثلاً: عندما يتوفى للإنسان عزيز، لا شك أنه سوف يعاني من ألم، وهذا النوع من الألم لا يعالجه الطبيب، ولا علم النفس ولا الاجتماع ولا غير ذلك، إنما يعالجه ما يُذكّره بالله، وما أعد من ثواب للصابرين، وما إلى ذلك من أمور الدين. فالدين هو الذي يمنح الإنسان ما يسمى بـ«الرضا الباطني» أو السكينة والطمأنينة والبهجة والسعادة، وهي الغاية التي يبحث عنها الإنسان.
هذا هو المنطلق الذي انطلق منه من يتبنى هذه الاتجاه، فهناك ثغرة كبيرة في حياة الإنسان يملؤها الدين، وبحجم ضيق وسعة هذه الثغرة تكون سعة القضية الدينية وضيقها، فإن كانت مساحة الثغرة كبيرة، يكون حضور الدين في حياة الإنسان كبيراً، والعكس بالعكس.
لذلك فإن العقائد ليست هي الحل للمشكلة، للأسباب التالية:
أولاً: إن الدين المسيحي على مستوى العقائد يحل المشاكل عند المسيحيين، وكذلك الدين الإسلامي عند المسلمين، واليهودي عند اليهود، وهكذا كل دين عند أتباعه، حتى في الأديان الأخرى كالبوذية والزرادشتيّة والهندوسية مثلاً، فاختلاف الأديان، أعطى النتيجة نفسها، وليس هناك دين يحل المشكلة دون دين آخر، والأديان من هذه الناحية مشتركة، فليس العنصر المقوّم في الدين، الذي يحل المشاكل هو «العقيدة»، والعقيدة ليست هي الجزء المقوّم للدين، بل هي الجزء المكمل.
ثانياً: إن العلوم الطبيعية والتجريبية لم يكن لها أي دور، لأن الدين في عصر الجهل المطلق في العلوم الطبيعية في العصور القديمة، كان قادراً أن يحل المشكلة، ويسد الثغرة في حياة الإنسان، وكذلك في عصر التطور العلمي.
فليست العلوم الطبيعية والإنسانية جزءاً مقوماً في الدين، إنما هي جزء خارج عنه ومكمل له.
ثالثاً: النظم الاجتماعية غير قادرة أيضاً على حل المشكل، لأنه من الممكن أن يكون نظام اجتماعي ما دينيًّا طبقيًّا، كما كان في أوروبا في القرون الوسطى وعصر النهضة[36]، ومن الممكن أن يكون نظاماً زراعيًّا، كما هو الحال في صدر الإسلام، أو أن يكون صناعيًّا، كما هو الحال اليوم في المجتمعات الغربية، ويمكن أن يكون إقطاعيًّا، وهكذا، ولكن الدين استطاع أن يؤدي الدور نفسه مع هذه النظم الاجتماعية كلها، بدليل أن هذه الأنظمة تتغير، لكن الدين يبقى مؤدياً دوره.
خذ هذا المثال الذي يضربه المفكر العراقي محمد باقر الصدر (1980م) في أصول الفقه، في بحث التواتر والقضية التجريبية، وهو حبة الأسبرين: فلو أعطينا هذه الحبة لمصاب بوجع الرأس، وقلنا له: تناول الحبة واشرب الماء، ثم قلنا له مرة ثانية: تناولها ولا تشرب الماء. فإن كانت النتيجة في الحالين واحدة، وهي أن الوجع يخف، عرفنا أن الماء لا علاقة له بالموضوع. وكذلك لو قلنا له في حالين مختلفين: تناولها وكل الخيار، ثم تناولها ولا تأكل الخيار، فإن كانت النتيجة واحدة عرفنا أن الخيار لا علاقة له بالموضوع، لأن المعلول لا يتخلف عن علته، والعلة إذا تمت لا تنفك عن المعلول[37].
فإذا عرفنا أن الدين بتنوعاته العَقَدية يعطي الدور ذاته، ويحل المشكلة الأساسية عند الإنسان، مع كل العلوم البشرية التي صاحبت الإنسان في فهمه للدين، ومع مختلف أشكال النظم الاجتماعية والسياسية، فإننا نعرف أن هذه الثلاثة ليست جزءًا مقوماً للدين، إنما هي مكملة له. فلا إسلامية الإسلام جزء مقوم للدين، ولا مسيحية المسيحية ولا يهودية اليهودية، ولا شيعية التشيع، ولا سنية التسنّن، وهكذا. وكذا الحال في الفقه أيضاً.
لذلك برأيي، أنه من أبرز مصاديق الصنمية (علّة العلل) هي عبادة العقيدة، وجعلها الوحيدة والمطلقة والحقة في العالم[38].
الحلهوالبعدوالاتجاهالمعنوي
إذن الجزء المقوّم للدين الذي نريد منه أن يحل لنا المشاكل المعاصرة في الحياة، تلك المشاكل التي لا بديل فيها عنه، هو البُعد المعنوي والروحي للدين فقط، وهو الذي يجب أن نركز عليه.
ومن هنا استبعد القضايا الإنشائية الفقهية، والقضايا الخبرية، وقال: نحن نأخذ بالقاسم المشترك بين البشر، ونقول: إن الدين قائم على أساسه، فلا نميز بين مسيحية المسيحي، وإسلامية المسلم، ويهودية اليهودي، وبوذية البوذي، وغير ذلك.
إلى هنا انتهى المدخل الرئيس لفهم نظريته، ويبقى أن نتحدث عن العناصر السلبية التي سيطرحها، ومن خلالها يرى أنه يحل المشكلة مع الحداثة، وكذلك العناصر الإيجابية التي يطرحها، لتكتمل نظريته[39].
ولنبدأ أولاً باستعراض الشق الأول: وهو الجانب السلبي، أي العناصر التي لا يمكن اجتنابها في الحداثة.
فقد قسم الباحث العناصر التي تتكون منها الحداثة إلى قسمين: عناصر يمكن اجتنابها وأخرى لا يمكن اجتنابها.
العناصرالتيلايمكناجتنابهافيالحداثة
البرهانيةالاستدلالية،أونزعةالبرهانوالاستدلال
من معالم الحداثة الأساسية هو البرهان والاستدلال، فلا تقبل الحداثة بأي شيء إلاّ عن برهان واستدلال وحجة ومنطق، وفي مقابل هذه الأمور تماماً يقع الدين بمفهومه التاريخي التقليدي السائد، لأن الدين بمفهومه السائد، من أبرز أصوله «التعبّد»، والاحتكام إلى قول الغير بلا دليل، فهناك إذن معارضة وتناقض وتنافر بين الدين من جهة وبين أحد العناصر الأساسية التي لا يمكن اجتنابها للحداثة من جهة أخرى، ولا يمكن الجمع والتوفيق بينهما، وكل من قال بإمكانية التوفيق والجمع فهو مخطئ. والحل هو التخلي عن كل فهم للدين يشتمل على «التعبّد»، لأن تلك العناصر لا يمكن اجتنابها، وهي الأصل الثابت، فلا بد من قبول كل ما انسجم معها، ورفض كل ما خالفها. فمن الطبيعي أن التعبّد عندما لا ينسجم مع عنصر البرهان والاستدلال في الحداثة، فلا بد من طرح التعبد وعدم الأخذ به.
وحيث إن الفهم التقليدي السائد للدين متقوّم بمفهوم التعبد فلا بد من تنحية هذا الفهم جانباً لصالح فهم آخر للدين، وهو الفهم المعنوي، لأن المعنوية (لا تؤمن بالتعبّد)، وهذا هو التفسير السلبي الذي أشرنا إليه في مدخل البحث.
فمن ينحو منحىً معنويًّا لا يؤمن بحجيّة قول الغير، إنما يأخذ بما يدخل في قناعته، ويردّ خلاف ذلك، وبذلك فهو ينسجم مع هذا العنصر للحداثة.
أما المتدين بالتدين السائد فهو إنسان متعبّد، وقوام دينه وأهم عناصره الأساسية هو التعبّد، فلا يمكن أن ينسجم مع الحداثة في هذا العصر، ولا بد أن يبقى يتصادم معها.
فالإنسان المعنوي لا يتعبد عادةً، لأنه يرى في التعبّد سلبيتين:
الأولى: التعصّب؛ فالتعبّد يؤدي إلى التعصّب، وحينما تتعبّد بقول شخصٍ تتعصّب له، ومن لا يتعبّد بشيء لا يتعصّب.
يقول: «التعصّب من آفات التعبّد، والمعنوي لا يتعصب».
الثانية: الأحكام المسبقة. إن الذين يعملون بنظام التعبّد، لديهم دائماً أحكام مسبقة على الأشياء، فقبل أن يتحدّث الطرف المقابل، تكون لديه أحكام مسبقة على فكره ومنهجه وأخلاقه ودينه وغير ذلك، ومن الطبيعي أن الأحكام المسبقة تُزيغ الإنسان عن الحق، ويجب أن يكون الإنسان منصفاً موضوعيًّا.
أما الإنسان المعنوي، فلا يحكم حكماً مسبقاً على أي شيء، لأنه لا يهتم كثيراً بالقضايا العَقَدية، وقضايا الجمل الخبرية -كما قلنا- لذلك فهو لا يتعصّب لشيء، ولا معنى للتعصّب عنده.
فزوال مفهوم التعبّد وما معه من الأحكام المسبقة على الأشياء كالتعصّب للأشياء أو الأفكار أو الأشخاص، يؤدي إلى انسجام المعنوية[40] مع الحداثة أو على الأقل مع العنصر الأول المقوم للحداثة.
لن تكون حداثيًّا ما لم تكن مستعداً للمضي قُدماً بالاستدلال، ما دام الطرف المقابل ما تزال عنده أسئلة واستفهامات، فلو وصلت في الاستدلال إلى مرحلة أن (A) تعني (F)، وسألك المقابل عن الدليل فعدمته، وتشبث بقول فلان أو فلان، تكون بذلك قد لجأت إلى التعبد، وهجرت دائرة الحداثة، لان الأخيرة منوطة بعدم التهرب من الاستجابة المواكبة للمطالبة المستمرة بالدليل. وإذا بلغنا النقطة نعدم فيها الدليل، فلابد لنا من السكوت حفاظاً على سمة الحداثة في سلوكنا، وإلا فإن الإصرار على النتيجة دون تقديم دليل هو التعبد بعينه، ومعه لا مجال لدعوى الانتماء إلى الحداثة.
هنا يطرح تساؤل: ما مدى الحجية الإبستمولوجية (المعرفية) للنصوص الواردة عن الوحي؟
يقول ملكيان: لا يوجد توافق عُرفي على القبول بالوحي مصدراً معرفيًّا، والسبب في ذلك أمران:
1- عدم قبول الكثير من الناس بالوحي، ولا بكونه حجة معرفية.
2- بروز تناقضات في بعض الأحيان في هذا المصدر، ما يحول دون الاعتماد عليه والتسليم بكونه حجة منطقية.
إنّ المصادر الوحيانية (الدينية) تنطوي على موارد تناقضات، ولا توجد آلية ذاتية في هذه المصادر لإصلاح تلك الموارد المتناقضة. طبعاً، قد نواجه حالات تناقض على صعيد الحس، ولكن الحس، حسب علماء المعرفة يتضمن آلية لتصحيح أخطائه. فالعين تخطئ لدى رؤيتها القلم مكسوراً في إناء الماء، ولكن اليد قادرة على تصحيح هذا الخطأ عبر لمسها القلم، حتى دون الحاجة إلى إخراجه من الماء.
هاتان الحيثيتان تحولان دون حصول اتفاق بين العقلاء على اعتبار الوحي مصدراً معرفيًّا معتمداً، وحيث لا يوجد ثمة اتفاق من هذا القبيل، لا يمكن القول بحجية المعرفة للوحي، على غرار القول بحجية العقل والحس والشهود[41].
إن أول عمل في طريق تحقق المعنوية هو إلغاء عنصر «التعبد» من الدين، قدر الإمكان. وأورد القيد الأخير (قدر الإمكان) لسببين أذكرهما لاحقاً. وتعود الاستدلالية في جوهرها إلى ما يعبر عنه المفكر الألماني تيليتش[42] بالاحتكام بالذات[43] لا الاحتكام للغير[44]. الإنسان الاستدلالي ليس مستعداً إلا لقبول حكم نفسه، في حين أن الإنسان المتعبد مستعد للاحتكام للغير.
فلا يمكن بواسطة التاريخ التوصل إلى شيء، ولا ينبغي للإنسان أن يبني حياته على معطيات ومعلومات تاريخية، لأنه لا يوجد شيء مؤكد في التاريخ[45].
يقول: هذه المقولة تخالف التفسير الديني السائد، والفهم التقليدي المدرسي للدين، لأنك إذا حذفت التاريخ من الفهم الديني السائد، لا يبقى من الدين سوى بعض الأصول الفلسفية والعقائدية العامة. فلكي تثبت النبوة الخاصة كنبوة النبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وصفاته وسلوكه وما إلى ذلك، لا بد لك من الرجوع إلى التاريخ. وكذلك عندما تريد أن تثبت إمامة علي (عليه السلام) وسائر الأئمة. وكذلك في مدرسة الخلافة (كخلافة أبي بكر الصديق مثلاً) لا يمكن لأحد أن يثبت خلافة شخص، ما لم يرجع إلى التاريخ. بل حتى في الدراسات القرآنية، لا يمكن لك إلا أن تعود إلى التاريخ، فالقرآن نفسه ثبت بأدلة وبراهين تنتمي إلى دائرة التاريخ، ومنها التواتر، وهو من شؤون علم التاريخ.
وكذا الحال في الفقه والأخلاق وغيرها، كل ذلك لا بد فيه من العودة إلى التاريخ، فإذا نَحّينا التاريخ جانباً لا يبقى من الفهم السائد للدين شيء.
إذن هناك تناقض بين الفهم السائد للدين، وبين العنصر الثاني المقوّم للحداثة، وهو عدم الوثوق بالتاريخ. فكل حداثي لا يمكنه أن يبقى معتمداً على الفهم السائد للدين.
والحل هو المعنوية، لأن الإنسان المعنوي والمدرسة المعنوية لا ترى أن التاريخ جزء مقوم للدين، فالدين عندها هو الحالة النفسية والروحية في التفاعل مع شيء مقدس متعالٍ، لحل مشكلة آلام الإنسان. فلا يعنيها إن كان عيسى أو موسى أو محمد نبيًّا أم لا، أو كان علي إماماً أم لا، أو كان أبو بكر هو الخليفة الأول أم لا، أو أن القرآن بهذا الشكل صحيح أم محرَّف، كل هذا ليس مهمًّا لديها، وهذه كلها أشكال، إنما المهم عندها أن العنصر المقوم في الدين أنه يحل مشكلة الألم الدائم عند الإنسان، وهذا العنصر تشترك فيه جميع الديانات، وجميع النظم الدينية الاجتماعية، سواء كان نظام الإمامة أو ولاية الفقيه عند الشيعة، أم نظام الخلافة والبيعة والشورى عند السنة، أم نظام الديمقراطية والعلمانية والليبرالية عند الغرب، وسواء تطورت العلوم الطبيعية التجريبية أم لم تتطور، وسواء كنا في القرون الوسطى أو الحالية. فلا فرق عندئذٍ بين الأديان والمذاهب من هذه الناحية. وجوهر الدين هو «المعنوية»، وهي كفيلة بحل مشكلة الألم والصراع والفراغ والعدمية والعبثية التي يعيشها الإنسان في هذا العصر.
إذن لم تعد هناك أهمية للتاريخ، بكل ما يحمله من مضمون ديني، وإذا لم تكن هناك أهمية في المدرسة المعنوية للتاريخ، فالمعنوية إذن لا تتناقض مع الحداثة، بخلاف المدرسة السائدة لفهم الدين، فإنها تتناقض مع الحداثة.
يقول: وعلى أي حال، فإن هذه السمة من سمات الحداثة (أعني عدم الوثوق بما في التاريخ) يظهر أنها مناقضة للدين، وبالتالي نكون مضطرين إذن للتقليل من درجة اعتماد الدين على الحوادث التاريخية، في حين أن الأمر يختلف على صعيد المعنوية، إذ هناك لا تعد الحوادث التاريخية ركناً من أركان الفكر والسلوك الديني.
هذا هو المبدأ الثاني المقوم للحداثة، فالمبدأ الأول: لا تعبّد في المعنوية، والمبدأ الثاني: لا تاريخية في المعنوية[46].
(النزعةالدنيويةأوالنزعةالزمكانيةفيالحداثة)
فالحداثة هي اللحظة، والإنسان الحداثي هو إنسان اللحظة، ولا معنى لمقولة: علينا أن نطبق التكليف الشرعي بغض النظر عن النتائج. لا شأن لنا بها، فهذا تفكير فقهي لا يؤمن به الحداثيون ولا يقبلونه، إنما يعنيهم أن يلمسوا نتائج الدين، وأن يروها بأم أعينهم الآن، وهم يشبهون في ذلك ما يراه العرفاء في تفسير الدين والقرآن: {وإنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكَافِرين}[47]، من أن جهنم محيطة بالكافرين الآن، غاية ما في الأمر، أن بدن الإنسان والعالم المادي يحجب عن فهم الإحاطة والإحساس بها.
يقول الفيض الكاشاني (ت 1091م): «أي بهم، لأنَّ آثار إحاطتها بهم معهم فكأنّهم في وسطها»[48]. أي: الجنة والنار حالتان من حالات قلبك، فأنت الآن في الجنة أو في النار، لكنك لا تشعر بذلك.
وهكذا الحداثي، يهمه أن يحصل على نتيجة الدين الملموسة والعمل الصالح أو السيّئ الآن.
وهذا التوجه والتفكير ليس خطأً إذا لم نجعله حصريًّا، كما أنه ليس جديداً، وكان مطروحاً للتداول عند علماء المسلمين في السابق، أي أننا نريد من الدين أن يعطينا نتائج ملموسة في الدنيا. لكن العنصر الجديد في الحداثة هو عدم السؤال عن الآخرة، فالحداثة وإن كانت لا تنكر الآخرة، لكنها عندما تعمل وتطلب من الدين شيئاً، تطلبه في إطار الدنيا فقط. فهي لا تسأل عن الآخرة، إنما المهم عندها أن تستفيد من الدين.
يقول الحداثيون: إذا كانت الآخرة صحيحة فإننا استفدنا من الدين في الدنيا والآخرة، وإن لم تكن كذلك فإننا استفدنا من الدين في الدنيا. أما الطرف الآخر الذي لا ينظر إلى نتائج الدين في الدنيا وكل همه الآخرة، فإن كانت هناك آخرة فهما في الفائدة سواء، وإن لم تكن آخرة فقد خسر هذا الطرف الدنيا والآخرة، لأنه لم يحصل على نتائج الدين في الدنيا.
وهذا أشبه بقول أبي العلاء المعرّي (ت 449 هـ):
قال المنجّمُ والطّبيبُ كلاهما: لا تُحشرُ الأجسادُ، قلتُ: إليكما
إن صَحّ قولُكما فلستُ بخاسرٍ وإن صحّ قولي، فالخَسارُ عليكمَا[49]
(فما نعلمه يقيناً هو أمر الجسد الصائر إلى التراب، وأمّا الرّوح فلا ندري مِن أمرها شيئاً وهي بعد في الجسد، فكيف إذا غادرته؟).
هذا المثال المبسط، دوره في بحثنا بيان حقيقة إن ديننا من الأديان إذا ادعى شيئاً معيناً، فلا بد من اختيار أثر هذا الشيء، في هذا الزمان وهذا المكان، لا في زمان ومكان آخر. ومن ثم إذا كانت هناك آخرة، فستمثل النتيجة الاستمرارية لما لمسته في الدنيا واستفدت منه، وإن لم تكن هناك آخرة، فأنا لم أخسر الدنيا على كل حال. أما إذا قيل بأنه لا يمكن التحقق من صحة هذا الحل المقترح للمسائل والمعضلات، إلا بعد الموت والدخول في عوالم أخرى، فهذا الكلام مما لا ينسجم مع المنهج العلماني في التعامل مع الأشياء.
هذا العنصر يعتبره ملكيان من أصول الحداثة، وأهم عناصرها، ولا مجال لانفكاكه عنها، وهو النزعة الدنيوية العلمانية[50] أو كما يطلق عليها حديثاً بعلمنة الدين[51]، وعدم الاهتمام بموضوع الآخرة. ويرى أن القول المنسوب للإمام عليبن أبي طالب: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً» يتناقض مع الفهم السائد للدين، لأن الفهم السائد للدين هو الآخرة، وهي المعيار الرئيس، أما الدنيا فهي دار ممرّ، ومن الممكن ألَّا تحصل على الكثير من الأمور في الدنيا، وتتحمل الآلام والعذاب والخسارة فيها لتحصل على ما تريد في الآخرة، فهي المعيار في العمل وليس الدنيا[52].
ومن هنا يرى أن المعنوية هي الحل الناجح للتناقض بين الفهم السائد للدين في الاعتقاد بالآخرة، وبين الحداثة. لأن الدين في الاتجاه المعنوي يعني رفع آلام الإنسان، وإعطاءه السكينة والبهجة والطمأنينة والراحة في الدنيا اليوم، وليس في الآخرة، وهذه الحالة الروحية التي يحصل عليها سوف يستأنس بها، ويطمئن اليوم وليس في عالم آخرة.
وبعبارة أخرى، إن الفهم السائد للدين هو تجربة الدين في الآخرة، أما الفهم المعنوي للدين فهو: تجربة الدين في الدنيا.
وقد سئل الدكتور ملكيان حول هذه النقطة: ما هو المعيار الزمني للحصول على نتائج الدين في الدنيا؟
فأجاب: ليس هناك معيار زمني، ولكن بالتأكيد هناك زمن يختلف باختلاف الأمكنة والحالات والظروف، فهناك عمر محدد للإنسان فرداً كان أو جماعة، إذا طبق فيه الدين فإنه يحصل على نتائج في هذا المضمار.
فالمعنوية دنيوية لا أخروية، وهي تختبر الدين في الدنيا لا في الآخرة.
لقد تزلزلت الأحكام والقوانين الشمولية والجامعية[54] لما وراء الطبيعة في ذهن الإنسان الحديث، هذه المنظومات الكبيرة للعالم تزول كلها في الفهم الحداثي.
ويضرب الباحث لذلك مثلاً فيقول: إذا أعطيت ابن سينا (ت 428هـ) أو الملا صدرا (ت 1050هـ) أو سبينوزا (ت 1677م)[55] أو هيغل (ت 1831م)[56] وآخرهم هويتهد (ت 1947م)[57] عن أي جزء من هذا العالم وقلت لهو: فسّره لي، فإنه يفسره لك، لأنه ينظر إلى العالم بجميع أجزائه، ويعرف محل كل جزء منه[58].
ثم يقول: هذه النزعة مرفوضة في التفكير الحداثي، ولا يفهم الحداثيون تلك الصور الفلسفية والمنظومات الكاملة للعالم لصالح صور جزئية، وعقل جزئي أداتي براغماني نفعي[59]، يتابع اللحظة ويدرس الجزئيات والتفاصيل. فالحداثة متقوّمة بالعقل الجزئي الأداتي، والدين السائد اليوم -وهو الدين الميتافيزيقي- متقوّم بالعقل الشمولي الكلي، الذي يفسر لك الوجود: من أين وإلى أين، ولماذا ؟ فهناك إذن تناقض بين الدين بالمعنى السائد اليوم، وبين الحداثة. ولا يكون الحل إلا بالمعنوية.
فالمعنوية لا يهمّها تصور العالم والرؤية الكونية، وبالتالي فإن البعد الشمولي والميتافيزيقي في الدين لا بد من حذفه هنا، باعتبار أن الحداثة أصل عنده، وهذا العنصر منها لا يمكن اجتنابه.
والملاحظ هنا أن حجم الدين مع هذه النظرية يتقلص إلى أبعد الحدود، وذلك بالابتعاد عن البعد الميتافيزيقي لصالح البعد الروحي، وعن البعد الخبري لصالح البعد الإنشائي في الدين، وهكذا.
ثم إنه يلفت النظر إلى شيء مهم، وهو أن المعنوية لا تلغي البعد الميتافيزيقي في الدين، لكنه يبقى في الحد الأدنى، لا في الحد الأعلى، لكنه مع ذلك لم يبين ما هو الحد الأدنى.
فمن ذلك مثلاً وجود الله، سواء كان الإله المعروف عند المسلمين، أو الإله غير المتشخّص، فهو يرى أن الإله غير المتشخّص له ذلك الدور في المعنوية. خذ مثلاً العدل، الذي ينشده الكثيرون ويضحون في سبيل تحقيقه، فإنه يعتبر عندهم إلهاً غير متشخّص، ويمكن أن يكون من هؤلاء معنويون حسب نظره. وبناءً على ذلك يمكن أن يكون الفيلسوف وعالم الاجتماع والاقتصاد الألماني كارل ماركس[60] معنويًّا، لأنه ينشد قيماً يعتبرها سامية، وهي عودة البشرية إلى العصر الشيوعي، وزوال الإمبراطورية الرأسمالية، وتساوي الناس. فهذه قيم يسميها الدكتور ملكيان (الله غير المتشخّص).
إن أحد سمات الحداثة هو الدعوة للمساواة[61]. الحداثة تنظر إلى جميع أبناء البشر بنظرة واحدة من الناحية المعرفية. المساواة تعني النظر إلى الجميع بعين واحدة، ومعنى ذلك أن كل من يدعي شيئاً فلابد أن يأتي بالدليل عليه، فإن فعل قُبِل كلامه، وإلا فلا، وهذا يعني تجريد الأشخاص من (القدسية)[62] التي هي لفظ مبهم وغير مفهوم لكنني لم أعثر على غيرها.
فمن مقومات الحداثة التي لا يمكن اجتنابها أنه ليس هناك فرد مقدس[63]، والدين بمفهومه السائد لا يمكن أن تفصله عن تقديس[64] الأفراد. فهل يبقى من الإسلام شيء مع عدم تقديس النبي مثلاً؟ وهل يبقى معنى للتشيع إذا لم نقدس الأئمة وفي التسنّن إذا لم نقدس الصحابة و…؟
والمقدس هو المُنزَّه، الذي لا يُسأل عما يقول وما يفعل ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾[65]. وأيضاً: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾[66]. وكذا الحال في الأديان الأخرى، إذ ليس هناك دين من الأديان ليس فيه تقديس للأشخاص إلا نادراً[67].
يقول بوذا في هذا المجال: أخضعوا ما أقوله للاختبار، فإن صحّ فاعملوا به، وإلاّ فلا. وكان يؤكد دوماً على عدم كونه معصوماً من الخطأ، ويحذر أتباعه من التعامل معه على غير هذا الأساس[68].
فهناك إذن تناقض بين الحداثة والدين بمعناه السائد، والحل هو إلغاء هذا التقديس في جميع الأديان، ولا يكون ذلك إلاّ بالمعنوية، لأن الاتجاه المعنوي لا يهمه أن يكون النبي محمد أو السيد المسيح أو النبي موسى مقدّساً أو غير مقدّس، أو أن يكون صادقاً أو غير صادق. إنما يعنيه ذلك اللون من الارتباط بالقيم المتعالية، سواء كانت هذه القيم مطابقة للواقع أم لا.
وهنا لا بد من إثارة مهمة، وهي: إذا كان المقدس هو من لا يُسأل عن دليل، فإن بني البشر جميعهم يرجعون إلى أهل الخبرة وإلى الشهود، فالقاضي مثلاً لا يسأل الشهود عن الدليل، وإلا لزم التسلسل، أو لزم عدم البتّ في أية قضية في العالم إلا نادراً، وهذه سيرة العقلاء من البشر، فهل يمكن أن نعتبر هؤلاء جميعاً من السذج الخرافيين؟
فالسؤال الملحّ والجدير بالطرح هنا هو: هل من العقلانية الاعتماد على قول الغير أحياناً؟ ومتى؟
يقول ملكيان: التقليد خلاف العقلانية، إلاّ في الحالات الآتية:
1- حالة الاستقراء التاريخي: كأن نستقرئ تاريخيًّا عودة الناس إلى الأطباء دون سؤالهم عن دليلهم، فنرى أنها مفيدة في الغالب. فلو قلنا للناس: لا تأخذوا بقول الطبيب إلا بعد الدليل والحجة، لزم من ذلك وقوع الفوضى والهرج والمرج.
2- التجربة الشخصية: كأن تدرس عند أستاذ للموسيقا، وتستفيد منه دون أن تسأله عن دليله، في صحة الإيقاع أو عدم صحته أو غير ذلك، إنما بالتجربة الشخصية تحصل لك قناعة عقلائية بأن الاعتماد على قول زيد (الموسيقار) يؤدي إلى حصول الفائدة.
3- الرجوع إلى أهل الخبرة: من ذوي الاختصاص في مجال عملهم.
هذه هي الحالات التي يوافق فيها الدكتور ملكيان على التقليد.
إذن المعنوية نوع ديانة، تختزل فيها الجوانب الميتافيزيقية إلى حدود الدُّنيا. هذه الأيام هناك من يروج لأساليب علاج روحي، فيقول مثلاً: أعمل هذا «التأمل»[69]، وسترى النتيجة في غضون ثلاثة أشهر دون أن يلزمك الاعتقاد بشيء. لقد أصبح طبعهم الروحي شبيهاً جدًّا بطبعهم البدني الجديد، حيث لا ضرورة فيه للاعتقاد بأي شيء، كي تكون الوصفة الطبية مؤثرة. هذا النوع من الطب الروحي يمثل مظهراً من مظاهر المعنوية، وذلك أن البعد الميتافيزيقي فيه مخفف إلى أبعد الحدود[70].
فكل دين -حسب الفهم الحداثي- هو في الأصل دين محلي، وكما أن الماء بعد نزوله من السماء يتشكل بشكل أودية وغُدران وغيرها، فهو يتشكل بشكل الأرض التي نزل فيها.
جاء في القران: ﴿فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا﴾[71]. فالقابل هو الذي يشكل الفيض -بحسب تعبير الفلاسفة- ويصنّعه ويقولبه. والأديان على هذا المنوال في التفكير الحداثي، فالدين محلي شعوبي، فإذا نزل القرآن في بلاد العرب يقول: ﴿أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾[72]. ولا شك أن الإسلام لو كان قد ظهر في جزيزة بريطانيا فإنّهُ لا يطرح هذا الكلام، لعدم وجود الإبل في بريطانيا. بينما تُقْسِم الكتب المقدسة الهندية[73] عند البوذيين والهندوس بالفيلة، لأن الدين يتشكل بشكل المكان الذي وجد فيه.
ولكن مع ذلك يقول الحداثيون: إن هذا لا يدل على بطلان القرآن، لكنه ليس فوق التقولب الزمكاني.
خذ مثالاً ثانياً: لدينا في القرآن العديد من الآيات التي تتحدث عن الأنهار والمياه في الجنة، فلو أن القرآن نزل في النرويج[74] أو السويد[75]، لما كان ذلك يعني لهم شيئاً، لأنهم بحاجة إلى الشمس، ولو أنه وعدهم بالشمس في الجنة لكان أبلغ وأكثر أثراً في نفوسهم. لكنه يقول: ﴿لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا﴾[76] لأن البيئة العربية لا تحب الشمس، ولا تتفاعل معها بسبب شدة الحرارة. فالقرآن لا يريد على وجه التحديد أن يقول: إنهم لا يرون شمساً، إنما يستخدم الرمز لما لا يريحهم، أي أنهم لا يرون ما لا يريحهم. وهذا مثال على ترابط القرآن مع الواقع.
يقول القران الكريم: ﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ﴾[77] وهذه عادات العرب، أما في أوربا والغرب فلا يستسيغون ذلك، في عصر انتشرت فيه مختلف أنواع الكراسي المتحركة ووسائل الراحة.
أو عندما نقرأ في القرآن أنّ الجنّة فيها (حور العين)، وهي النساء ذات العيون الكبيرة بحيث أن بياض هذه العيون في غاية البياض وسوادها في غاية السواد، وذلك أن الذوق العربي للجمال في ذلك العصر، يرى الجمال في العيون الكبيرة جداً، يقول الشاعر العربي (محمود سامي البارودي):
مَحا البينِ ما أبقَتْ عُيونُ المها مِنّي فَشَبّت وَلَمْ أقضِ اللُبانةَ مِن سِنّي
أي (إنّ عيون معشوقي الواسعة قتلتني) فعين معشوقة ذلك الشاعر، إلى درجة من الوسع كأنها عين بقرة. وهذا يرتبط بالذوق الجمالي للعرب آنذاك، ومن الطبيعي أن القرآن عندما يعدهم بالجنّة والنساء الجميلات هناك، فلا بد أن يقول: أن عيون هذه النسوة واسعة.
والآن لو تصورنا أن هذا الدين قد ظهر في اليابان، ومن المعلوم أن الذوق الجمالي لدى اليابانيين يرجح العين الصغيرة، بحيث أنّ الشاعر الياباني وفي مقام الافتخار على شاعر آخر يقول: إن عين معشوقته مثل عين الديك، فإن عين معشوقتي إلى درجة من الصغر حتى أنك تشك أحياناً في أن لها عين أم لا. ومع هذه الحال إذا أراد الدين أن يعد الرجل الياباني بالجنّة فإنّهُ لا يعده بنساء واسعات العيون هناك، وسعة العين تنطلق من خلفية الذوق الجمالي في الجاهلية.
ولو أن الإسلام لم يكن قد ظهر في شبه الجزيرة العربية، فهل ستكون أوقات الصلاة بهذا الشكل الحالي؟
بما أنَّ شبه الجزيرة العربية تعتبر منطقة استوائية وتتمتع بسماء صافية جدًّا، فبالإمكان ومن خلال نظرة إجمالية للسماء تحديد طلوع الفجر، الظهر، وغروب الشمس، فإذا كان الإسلام قد ظهر في إحدى البلدان الإسكندنافية، مثلاً في فنلندا أو السويد، فهل يمكنكم الحديث عن أوقات الصلاة، والصبح والظهر والمغرب[78]؟
فالحداثة هكذا تفهم الأمر، وهذا بعكس المفهوم السائد والكلاسيكي للدين، لأن هذا الفهم يرى أن الله يعلم من بطنان عرشه أن هناك خصوصية لإنزال القرآن في بيئة العرب، وهذه الأمثلة مقصودة، ولم تأت صدفة، وليس من الصدفة أن يكون القرآن نزل في ذلك المجتمع.
إذن هناك تناقض بين الدين والحداثة في هذا الجانب، والحل هو المعنوية، لأن الاتجاه المعنوي يؤمن بمحليّة الدين، وزمانيته، لذلك فإن المعنوية لا تتقيّد بدين معيّن، وهي منفتحة على الأديان كلها. فمن الممكن أن تكون مسلماً أو يهوديًّا أو مسيحيًّا أو بوذيًّا أو هندوسيًّا أو طوطميًّا[79]، لكن هذا لا يعني أن تكفر الآخرين، أو تحط من شأنهم.
فالمعنوية تقوم على أساس هذه المبادئ الستة، وهي حذف لستة مبادئ في الفهم التقليدي للدين، لصالح مبادئ ستة في العناصر المقومة للحداثة. والعقلانية هي أكبر وأبرز خصائص الحداثة الغير قابلة للاجتناب. ومن هنا فإن أول خصائص المعنوية، قدرتها على التوافق مع العقلانية والانسجام معها. حينئذٍ يمكن تعريف المعنوية بنحو آخر، والقول بأنها «الدين المعقلن».
هذا عن الصورة السلبية، أما الصورة الإيجابية فيمكن تلخيصها في النقاط التالية:
ففي فلسفة الأخلاق[80] يقال: إن أي نظام تريد له أن يكون ناجحاً، جرِّبه أولاً في المجتمع البشري، فإذا طبق من أدنى الأرض إلى أقصاها، وانتفعت به البشرية فهو ناجح، وإلاّ فهو فاشل. أما المعنوية فتقول: نحن لم نطرح الاتجاه المعنوي ليكون سائداً في العالم، بل لا يمكن أن يكون سائداً.
وهذا يشبه كلام العرفاء، فكما أن العرفان (التصوّف)[81] شأن محدود في الحياة، فإن المعنوية وأنصارها محدودون، ولا يدعون إلى تعميم تجربتهم. فهم يقولون: إن تجربتنا مهما عمّمناها لكنها ستبقى محدودة، وسيبقى أنصارها قلائل، كما بقي العرفاء والمتصوّفة قلائل في تاريخ الديانات والعالم. يقول المفسر محمد حسين الطباطبائي (ت 1981م) صاحب الميزان في تفسير القرآن (من أشهر تفاسير الشيعة في القرن العشرين): نحن لم نأت بالعرفان لنطرحه على الناس جميعاً، ليكون الناس كلهم عرفاء، وإلا فإن الأمور سوف تتعطل.
فأصحاب الاتجاه المعنوي لا يدعون إلى غزو العالم بنظام حياة جديد اسمه المعنوية، لأن هذا قد يضر أولاً، وثانياً: إنه ذو طابع خصوصي لا يتعمم[82].
المعنويةمقولتشكيكيذومراتب،وليسبمتواطئ
فالمعنوي لا يدّعي أنه وحده كذلك، ومن ليس على شاكلته فليس بمعنوي، فمن الممكن أن يكون لشخصين اتجاه معنوي، ولكن بمراتب، كما أن الحداثة مراتب، والتدين مراتب، فليست هناك صيغة واحدة في الاتجاه المعنوي، إنما هناك صيغ واتجاهات ورتب وألوان متعددة كلها يجمعها هذا الإطار، لذلك ركز ملكيان على مفهوم «الاتجاه» في مقابل مفهوم «المذهب».
وذلك لسببين:
1- ما تقدم معنا سابقاً من أن الفهم السائد للدين يتناقص مع الحداثة، وقد أصّل الباحث أصلاً سابقاً يقول: إن كل فهم للدين يتناقض مع العناصر التي لا يمكن اجتنابها للحداثة سيفشل ويتلاشى في عصرنا، سواء كان حقًّا أم باطلاً. وحيث إن الفهم السائد للدين يتناقض مع الحداثة، فهو إذن فاشل لن يحقق نجاحاً، مهما حاول المشروع الإسلامي أن يعيد الفهم للدين ويحييه، وهذا أشبه بوجهات نظر الكثيرين، ومنهم عالم الاجتماع والمؤرخ الإنجليزي أرنولد جوزيف توينبي (ت 1974م)[83] أحد أكبر فلاسفة التاريخ في الغرب، يقول: إن الحضارات تنمو وتصعد بشكل مفاجئ -كما هو الحال في الحضارة الإسلامية التي هيمنت عدة قرون على العالم- ثم تسير بخط مستقيم، ثم تنزل بالتدريج، وقبل أن تصل إلى القاع تستعيد كل الشحن الحضاري الذي كان لديها دفعة واحدة، كشحنة كهربائية هائلة، فتصعد صعوداً بزاوية 90 درجة، وتصل إلى القمة، وتحقق نجاحات هائلة، ثم تنهار دفعة واحدة.
هكذا أيضاً يدَّعي ملكيان، أن الدين مهما حقق من نجاحات اليوم فإنه سوف يفشل في مواجهة العناصر الأساسية للحداثة، وإذا فشل فلا بديل سوى المعنوية، ولا بد من الاتجاه المعنوي ليعيد تشكيل الدين من جديد، ويضخ به الحياة في عصر الحداثة، ويعيد حضوره في هذا العصر، وإلاّ فإنه لن يصاب في هذا العصر إلاّ بمزيد من الفشل والكلل والتراجع والانكسار.
2- إن البشرية تتنامى قدرتها، فإذا قسنا قدرة الإنسان في الهيمنة على العالم، قبل ألفي سنة لن نجدها تساوي واحداً بالمئة من قدرته اليوم في الهيمنة على العقل والطبيعة والفضاء والكون والإنسان والحيوان والنبات وغير ذلك. فالقدرة البشرية اليوم تعادل ملايين المرات من قدرتها قبل ثلاثة آلاف سنة. وهذا التنامي في القدرة وطغيان المخلوق الإنساني، يعني أنه قادر على أن يفعل أشياء كثيرة، ولكن من الناحية الأخلاقية، لايؤذَن له إلاّ أن يفعل القليل مما يقدر عليه، فهو قادر على تدمير العالم مثلاً بالقنبلة النووية، ولكن العقل والوجدان والضمير لا يسمح له بذلك.
وفي ظل انهيار قيم الدين السائد في مواجهة الحداثة وطغيان الحداثة والإنسان الجديد، لا يوجد من يكبح جماح ذلك سوى المعنوية، فالدين التقليدي لم يعد قادراً على حل المشكلة، أما دين السلوك والضمير والطمأنينة والأخلاقيات والسلوك الباطني، فهو الكفيل بأن يكبح جماح الإنسان ويشده نحوه، وألَّا يطغى في دنيا المادة.
لاحظوا كيف أن طغيان الحداثة يؤدي إلى كوارث لا حصر لها، ففي الهند مثلاً يؤدي قطع الأشجار في جبال الهملايا إلى فيضانات مدمرة تقتل الآلاف في كل سنة. وفي أمريكا ترمى ملايين الأطنان من القمح في البحر للمحافظة على سعر القمح في العالم، فيما يموت الناس جوعاً في أصقاع كثيرة من العالم.
وهذا الطغيان لا يكبح جماحه، ولا يؤدي إلى توازن الإنسان بين ما يؤذن له، وما هو قادر عليه في عصر المادة، إلا الدين المعنوي، كما يرى.
من هذين المنطلقين يرى أن المعنوية ضرورة وليست خياراً.
أي: الدنيوية والآنية. بمعنى أن الاتجاه المعنوي يهمه دائماً النتائج الموجودة في الدنيا الآن، ولا تهمه الآخرة كثيراً.
ويراد بها أننا في حركتنا الدنيوية لابد أن نجرّب كل طريق للحل يعرض علينا ونختبره في هذه الدنيا لنطمئن إلى صحته وحقانيته، فهناك الكثير من المسائل والمشاكل التي تواجهنا في حركة الحياة، سواء كانت من قبيل (المسائل) النظرية، أو (المشاكل) العملية، فنحن في الحياة نعيش حالة مواجهة كل هذه المسائل والمشاكل وفق رهانات الواقع وشجونه، والمراد من حالة التواجد العقلي والآني هو أنه لو اقترح علينا شخص حلاًّ لمشكلة أو مسألة معنية، فإننا لابد أن نكتشف نتائج ومعطيات هذا الحل في هذه الدنيا، وهذا لا يعني أن الإنسان المعنوي أو الحداثي لابد أن يعيش الإنكار لما بعد الموت. فالإنسان المعنوي يمكنه أن يعتقد بالآخرة والقيامة ومع ذلك يريد أن يجرّب صحة الحلول المقترحة أو عدم صحتها (الدينية أو غير الدينية) في هذه الدنيا بعيداً عن آفاق السماء، فليس المهم مجرد الإيمان بالآخرة، بل المهم هو أن المختبر الذي يساهم في تشخيص الداء والدواء يقع في هذه الدنيا، وهذه هي إحدى معاني العلمانية، بأن يكون اختبار الحلول في هذه الدُّنيا.
فلو اقترحت لنا ديناً أو مذهباً أو مسلكاً لحل مسألة أو مشكلة، ومن ثم وقف على رؤوسنا وأمرنا بأن نتبع هذا الحل المقترح بلا نقاش، على أمل أن تظهر نتائجه الإيجابية بعد الموت (عالم الآخرة)، فإن إنسان الحداثة والإنسان المعنوي يرفض التعامل مع القضية بهذا الأسلوب، إذ لا معنى له في نظره.
كما إذا ادّعى دين من الأديان شيئاً معيناً، فلا بد من اختبار أثر هذا الشيء، في هذا الزمان وهذا المكان، لا في زمان ومكان آخرين. ومن ثم إذا كانت هناك آخرة، فستمثل النتيجة الاستمرارية لما لمسته في الدنيا واستفدت منه، وإن لم تكن هناك آخرة فأنا لم أخسر الدنيا على كل حال. أما إذا قيل بأنه لا يمكن التحقق من صحة هذا الحل للمسائل والمعضلات، إلاّ بعد الموت والدخول في عوالم آخرى، فهذا الكلام مما لا ينسجم مع المنهج والاتجاه المعنوي (العلماني) في التعاطي مع الأشياء.
هذه الخصوصية للمعنوية، تجعلها على غير وفاق مع نزعة الاهتمام بالآخرة التي تشترك بها الأديان. الإنسان المعنوي شبيه بعرفاء (متصوفة) الثقافات السابقة، من ناحية كونه يتعامل بالنقد لا بالنسيئة. ومعنى هذا الكلام على مستوى المصداق، أنه إذا كان يجب عليَّ أن أصلّي وأصوم وأحج، فلا بد لي من استشعار آثار هذه الأعمال والممارسات الدينية، أثناء حياتي بهذه الدنيا، عبر الإحساس بالبهجة والراحة والسكينة والأمل والرضا الباطني المعنوي. أما إذا كنت أؤدي جميع الطقوس والعبادات دون أن أجد في نفسي أثراً ملموساً لهذه الأعمال، ويكتفي بالقول لي إنّ هذا الأثر سيظهر في العالم الآخر، فمن الطبيعي أن أميل إلى الاعتقاد حينئذٍ بأن هذه الأعمال لا فائدة منها في هذه الدنيا.
الفهم الذي يحمله الإنسان التقليدي المحافظ عن الدين، هو أننا نقوم بهذه الأعمال والعبادات دون أن نعرف ما الذي يسجله الله في صحائف أعمالنا. لا مكان في القاموس الديني التقليدي لشيء اسمه الشعور بالراحة والأمل والطمأنينة في الدنيا. المهم عنده هو العالم الآخر، في حين أن الإنسان المعنوي يرى أن الدين لا بد أن تُؤمَّن له هذه الأمور في هذا العالم، في الدنيا التي يعيش فيها الآن، لا بد أن يكون للعبادة آثار روحية محسوسة وملموسة، على نحو ما نشعر بالشبع بعد عملية الأكل. لذلك يرى ملكيان أن الحق مع «الرواقيين»[85] حين قالوا: ما دام الأمر كذلك، فالأفضل أن تركز على معالجة العوامل التي هي في متناول أيدينا دون العوامل الآخرى، ويقصد بالأولى العوامل الذاتية، وبالثانية العوامل الموضوعية[86].
الواقع أن المعنوية تقتضي تجريد الأديان من كل المتعلقات المرتبطة بخصوصية كونها محلية[87]. الخصوصية المحلية موجودة في جميع الأديان والمذاهب. وتنسحب هذه الخصوصية على الأحكام والتعاليم نفسهما. وحتى نصل إلى (المعنوية) لا بد من تقليم الأمور المحلية وصولاً منها إلى الأمور العامة[88].
حينما نعتقد بأن جميع الناس المتواجدين في أمكنة وأزمنة مختلفة، من الممكن أن يكونوا من أهل السعادة بالرغم من اختلاف عقائدهم، فهذا يعني أنك تذعن بأن تلك العقائد المختلف حولها لا دخل لها في تحقيق السعادة أو الشقاء. وهذا يعني أن تلك العقائد ذات خصوصية محلية.
إن الرؤية التاريخية التي يحملها الإنسان الحديث عن الأديان قادته إلى الإيمان بأن بعض عقائد الأديان وأحكامها وتعاليمها ذات طابع محلي مرحلي وموضوعي وظرفي، وفي رأيي أنه بإمكان الإنسان بلوغ السعادة حتى دون التشرع بشريعة خاصة[89].
اليوم، ثمة روح حاكمة على فضاء المعنوية مؤداها: أن الدين للإنسان وليس الإنسان للدين، أي أن الدين جاء لخدمة البشرية. وعلى حد التعبير العيسوي (السبت للإنسان وليس الإنسان للسبت). لا يمكن في ضوء ذلك أن نعطل الخدمة للإنسانية مراعاة لحرمة السبت. هذه القراءة قراءة معاصرة مفادها أن لا شيء أكرم من الإنسان. فمعنى المعنوية هو أن لا نرى شيئاً وهدفاً يتجاوز في آفاقه ذات الإنسان.
وفي تقديري، أن المسألة والمشكلة الأساسية للبشرية تكمن في العذاب والألم والمعاناة، ولا بد من العمل على تحديد سبب هذا الألم، والسبل العملية لرفعه، وما هي الضمانة للسعادة والنجاة[90].
ويقسم ملكيان آلام البشر وحالات توترهم وقلقهم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما هو قابل للزوال والشفاء، بمعنى أنها ظرفية يمكن شفاؤها، كألم الأضراس، فإنه يزول بمجرد تناول المسكنات أو المعالجة لدى الطبيب المختص.
القسم الثاني: هو غير قابل للزوال، كمصاعب الإنسان في الحياة بفعل صراعه مع الطبيعة، وهذه قد ينحسر وجودها بتراكم الخيرات وتطور العلوم والتصنيع، وهذه لا يكون زوالها مرتبطاً بزمن محدد، أي أن الزمن ليس هو علة زوالها، وإنّما تطور العلوم هو الذي يزيلها، غير أن مثل هذه الآلام قد تزول بفعل التطور، لكن سرعان ما تحل محلها آلام جديدة، وهي بهذا المعنى مستمرة، تماماً كمشكلة البيئة، فهي لم تشغل الإنسان قبل هذا العصر، وعندما توسعت معارف الإنسان العملية وانتقل إلى التصنيع المتطور، داهمته هذه المشكلة.
القسم الثالث: ثمة أشكال أُخرى: كالوجوم والملل والتوتر، تداهم الإنسان باستمرار وتؤلمه جميعاً، ومعلوم أن الإنسان في الحياة لا يقوم بأعمال الخير فحسب، ولكنه يفعل الشر، وإن كان لديه توق إلى معرفة الواقع الموضوعي كما هو، فإنّ التجارب أثبتت نسبية هذه المعارف، مما يولّد فيه شعوراً بالألم.
في هذا الإطار لا يكون رجوعنا إلى الدين لإزالة الآلام والتوترات كالمسكنات، وإنّما لإزالتها بعهدة العلم، أما ما لا يمكن إزالته منها فالدين يساعد على تحمله[91].
بعد هذا الاستعراض لمعالم النظرية نتناول بالحديث خصائص الإنسان المعنوي وميزاته من سائر المتدينين، كما يراها صاحب هذه النظرية، وهي كما يلي:
استبدالالأسئلةالمعرفيةالكبرىبسؤالواحد،هو: ماذاأصنع؟أوماذاأفعل؟
فالأسئلة الكبرى -كما يسميها الفلاسفة- التي يسأل عنها العقل البشري عادة، هي: من أين أتيت؟ وإلى أين أذهب؟ وما هو المبدأ؟ وما هو المعاد؟ وما يعرف على ألسنة الفلاسفة المسلمين حين ألّفوا كتباً كثيرة تحمل عنوان (المبدأ والمعاد)[92].
وهذا ما نلاحظه عند الإنسان منذ زمن الطفولة. كل هذه الأسئلة هي أسئلة وجودية أنطولوجية[93].
هذه الأسئلة في نظره ليست مهمة، فمن الممكن أن نسألها، ولكنها ليست مهمة، إنما المهم برأيه هو سؤال آخر، وهو: ماذا أصنع؟
وهذه الفكرة ليست جديدة في عالم الفكر، وبالذات في المذهب البراغماتي (النفعي)، فكل شيء حسب هذه النظرية يوزن بميزان العمل، فليس المهم عندهم أن نعرف شجرية الشجر ولا حجرية الحجر ولا مائية الماء وأن نضيع الوقت في هذه المباحث المعقدة، إنما المهم أن نعرف كيف نستفيد من الشجر والحجر والماء وغير ذلك.
فالمهم إذن هو كيفية التعامل مع الظواهر والأشياء من حولنا، أمّا ماهيّتها وحقيقتها فليست مهمة، ويعتبر ملكيان أن السؤال عنها من الأسئلة المقدمية التمهيدية، ولا يعتبرها أسئلة أصيلة. لأن الإنسان يبحث عن هذه الأشياء مقدمة ليحدد ماذا يفعل. فأنا عندما أبحث عن الله، إنّما أبحث عنه من جهة أنه موجود أو ليس بموجود، وذلك مقدمة لكي أحدد مواقفي العملية، فلكل من المؤمن بالله والملحد مواقف عملية يختلف بعضها عن بعض، وهذا أمر طبيعي.
فعندما أوجه هذه الأسئلة الكبرى الأنطولوجية، إنما أوجهها لأدخل إلى دائرة العمل والتأثير والحياة الإنسانية، وأترجم تلك الأسئلة إلى أفعال وأعمال. فمعرفة القضايا الميتافيزيقية والخبرية وحقائق الوجود والعالم ليست مهمة، إنما تكتسب أهميتها من مقدار تعلق العمل بها، فلأن تحديد كيفية عملي متوقف على أن أعرف أمراً وجوديًّا ما، يجب أن أعرف ذلك الأمر الوجودي.
مثلاً: إذا أردت أن أدخل غرفة ما، فلا يهمني ما في داخلها، أسداً كان أم طيراً، ولكن لأنني أريد أن أعرف (كيف أفعل) إذا دخلت الغرفة، وما الذي يجب عليّ اتخاذه من إجراءات، لا بد لي أن أبحث لأعرف ما فيها، وهل هو أسد أو طير، لأنه إن كان أسداً يجب أن أدخل بطريقة معينة وأن أحمي نفسي، وإن كان طيراً يجب أن أدخل بطريقة أخرى.
فذو المقدمة أهم من المقدمة في نظره، ومن هنا فإن العمل أهم من المعرفة، لأن المعرفة الوجودية طريقية، وهي وسيلة وآلة وأداة للوصول إلى تحديد العمل وتعيينه.
فالإنسان المعنوي لا يهمه كثيراً في الحياة أن يبحث في أصالة الوجود والماهية، وهل أن الوجود مشترك معنوي أو لفظي؟ كما في المباحث الفلسفية، أو أن صفات الله هل هي عين ذاته أو لا؟ كما في المباحث الكلامية، كل ذلك ليس مهمًّا كثيراً عنده، إنما المهم أننا خُلقنا، ويجب أن نعمل شيئاً ما يكون مفيداً ومثمراً لنا، أما بقية الأشياء فغير مهمة إلاّ بمقدار تعلقها بدائرة العمل.
المعنويةفيمقابلالعدميةوالعبثية
فالنقطة المقابلة للإنسان المعنوي ليست الإنسان الملحد، والمعنوي لا يريد حذف الإلحاد[94] من العالم، وليست لديه مشكلة مع الإلحاد، إنما هو في مقابل الإنسان العدمي العابث، الذي لا قيم ولا مثل عليا عنده، ولا هدف لـه في الحياة يضحي من أجله، وهذه هي مشكلة الإنسان المعاصر في نظره.
فالإنسان المعنوي هو أطروحة ومشروع وفعل ووجود، في مقابل الإنسان العبثي العدمي، وليس في مقابل الإنسان الملحد.
أما في الإسلام فحينما تطرح الدين، إنما تطرحه في مقابل أشياء عديدة، من بينها الكفر والإلحاد و…، وهذا من أوضح الأمور.
( الإنسانالمعنوييعيشحياةأصيلة،أمّاغيرالمعنويفيعيشحياةمستعارة)
وهذه الفكرة جديرة بالملاحظة والدراسة والتقويم، ويستشهد الكاتب لذلك بالكثير من أقوال علماء النفس الغربيين. ومن جملة ما يستشهد به، أن العاشق لا يحب معشوقه -كما يقال- فزيدٌ يُحِبُّ هنداً، لكنه في واقع الأمر لا يُحِبُّ هنداً، وإنّما يُحب (صورة) عنها ليست مطابقة لها. وهذا الإطار مطروح في علم النفس في الغرب، وهو مهم جدًّا.
ولبيان ذلك لا بد أن نعرف أربعة أشياء على الأقل، وهي:
1- صورتي عند نفسي، أي: الصورة التي كونتها أنا عن نفسي.
2- صورتي عند غيري.
3- صورة غيري عند نفسه.
4- صورة غيري في نفسي.
بالإضافة إلى هذه الصور الأربع هناك الواقع، فهل أن الإنسان إذا أخذ صورة عن نفسه تكون مطابقة للواقع دائماً؟ في كثير من الأحيان يعرفك غيرك أفضل من معرفتك نفسك، ويقيّمك أفضل منك، فيعرف أكثر منك أنك ذكي أو غبي أو شجاع أو جبان.
فصورة الإنسان عن نفسه قد تتطابق مع الواقع وقد لا تتطابق. وصورة غيره عنده، أيضاً قد تتطابق أو لا.
فقد نتصور أن فلاناً غير ذكي، لكنه في الواقع ذكي، وقد نتصور أنه خبيث لكنه من أطيب الناس.
فالأمر في باب الحب[95] والعشق[96] هكذا، فأنت عندما تحب فتاة، إنما تحب صورة تحملها عنها، بأنها جميلة ومهذبة وذكية وغير ذلك، فأنت في الحقيقة، تعشق الصورة التي تحملها عن المحبوب، وليس المعشوق الحقيقي الواقعي. وفي كثير من الأحيان لا تطابق تلك الصورة معشوقك.
وفي مقابل ذلك، يكون معشوقك حريصاً دائماً على أن يكون مطابقاً لتلك الصورة التي رسمتها أنت له في ذهنك، فالفتاة التي تحبها تدرك أنك رسمت لها صورة غير مطابقة للواقع، فتسعى دائماً لأن تكون مطابقة لتلك الصورة، لتدوم علاقة الحب بينكما.
والسؤال الآن: لماذا يحاول المعشوق دائماً أن يكون مطابقاً للصورة المرسومة في ذهن العاشق؟
الجواب: أن المعشوق يعيش ليُرضي العاشق، لا ليرضي نفسه، ويعيش حياته الأصيلة. ومن هنا فإن كثيراً من جوانب الحياة عند الناس، فيها واقع ودرجة ما من الازدواجية. علماً أن الازدواجية توصيف وليست ذمًّا، وأكثر الناس في حياتهم هكذا. بل إن الكثير من الازدواجيات مبرر، ولا تقوم الحياة إلاّ به، وحياة الناس فيها ما هو مستور وما هو ظاهر. ولو علم الإنسان ما يقال عنه في غيبته لما بقيت صداقة في الدنيا، كما تقول الحكمة[97].
من هذه المقولة، التي هي عبارة عن تحليل اجتماعي نفسي لحياة الناس، وهي أن الناس تسعى دائماً أن تقمع نفسها لصالح غيرها، لأن لها في إرضاء غيرها مطلباً، يرى ملكيان أن المعنوية تقلل من الازدواجية، لأن المعنوي يسعى إلى الرضا الباطني.
فالإنسان في الواقع يسعى لإرضاء غيره، على العكس من حياة الطفولة لأن الطفل لا يفهم أن يُرضي أمه وأباه، وكل همه أن يأكل ويلعب وإن انزعج الجميع، فهو لا يُريد أن يُرضي الصورة المرسومة في ذهن الغير عنه.
وعندما ينضج قليلاً يبدأ بملاحظة حساباته، فيرى أنه لكي يُرضي نفسه أحياناً، يحتاج لأن يرضي غيره، وتبدأ عملية التداخل، وهكذا تتعقد الحياة الاجتماعية بمرور الأيام، حتى يبدأ بخدمة صورة أخرى غير صورته الواقعية.
لذلك فإن الناس الذين يعيشون داخل نظم دينية وسياسية واجتماعية عادة ما يُرضون غيرهم، ونادراً ما تجد أحداً يُرضي نفسه (بالمفهوم الذي ذكرناه).
ولكن الإنسان المعنوي يبحث عن الرضا الباطني النفسي، لذلك تقل الازدواجية عنده.
ولكن لا بد هنا من طرح هذا السؤال على الباحث: هل أنك تدعو إلى تشويه وتحطيم هذه الصورة الاجتماعية التي تقوم عليها حياة الناس؟ فحياة الناس قائمة على أساس هذا المزدوج من رضا الذات ورضا الآخرين، ورضا الآخرين عنّي يكون أحياناً جزءاً من رضاي عن نفسي وعملي، وهذا مبدأ نفسي وحضاري يسميه الباحث والمفكر الأمريكي صموئيل هنتنغتون[98] مبدأ الاعتراف بالذات. فهل أن الإنسان المعنوي في نظره يصرّح بكل ما يريد وما يعتقد وإن لم يرض عنه الآخرون؟
فمن يعمل في الأحزاب والتنظيمات السياسية يرضي زعماءه عادة، وأحياناً تكون نصف الآراء السياسية لا يؤمن بها، ولكنه يصرح بها في الإعلام، لأن تركيبة المجتمع، والتركيبة السياسية، تتطلب منه أن يأخذ موقفاً موحداً مع الحزب أو الجهة التي ينتمي إليها.
يقول ملكيان: هذا ليس من خصائص الإنسان المعنوي، لأنه يُرضي نفسه فقط، ويدعي أنه يبحث عن حياة أصيلة، بعيداً عن الازدواجية، لأنه يريد أن يرضي نفسه ولا يهمه قول الغير.
وعندما نقول: إنه يُرضي نفسه، فليس بمعنى إرضاء الأنا القبيحة الإباحية المفرطة، إنما يرضيها مع التزام القيم التي آمن بها، وليس التي آمن بها غيره.
التقليد هو أن تقول: إن (A) يعني (B) لأن (C) قال ذلك، هو شيء غير مبرر طبعاً، ولا يمكن أن يكون مقبولاً لدى الإنسان المعنوي. وكما شرحنا ذلك سابقاً بأن التقليد خلاف العقلانية والمعنوية إلاّ في ثلاث حالات:
1- الاستقراء التاريخي: كأن نستقرئ تاريخيًّا رجوع الناس إلى الأطباء دون سؤالهم عن دليلهم، فنرى أنها مفيدة في الغالب.
2- التجربة الشخصية: كأن تحصل لك تجربة شخصية وقناعة عقلانية بأن الاعتماد على زيد (الأديب أو الطبيب أو المهندس) يؤدي إلى حصول الفائدة.
3- الرجوع إلى أهل الخبرة: من ذوي الاختصاص في مجال عملهم.
أي أنه إنسان اللحظة، ويُمثَّل له بميزان الحرارة الذي يتغير في كل لحظة. وهذا لا يدل على أنه فوضوي، كما أن الميزان الحراري ليس فوضويًّا، إنما يخبرك عن اللحظة، ويحل لك قضايا اللحظة.
لاحظ مثلاً أن القوانين الوضعية متغيرة، وهذا أحد الإشكالات التي نسجلها نحن على القوانين الوضعية، فقانون الإجارة في فرنسا يتغير كل خمس سنوات، فلا يمكن أن نعتمد على مثل هذه القوانين. وهذا الإشكال ليس في محله، لأن واضعي هذه القوانين يعترفون سلفاً أنها متغيرة وليست دائمية، وهم مقتنعون أساساً أنه لا يمكن وضع قانون دائم، فمن علامة نضج القانون عندهم أنه يتغير بين فترة وأخرى بحسب تغير الظروف.
فالإنسان المعنوي متحرر من قيود الماضي والمستقبل. وفي الحقيقة، حاضر الإنسان المعنوي فارغ البال عن تبعات الماضي وهموم المستقبل. ولا يعاب على الإنسان المعنوي أنه قبل عشر سنوات -مثلاً- تبنى الرأي الفلاني، والآن راح ينقضه، بينما الإنسان اللا معنوي إما أن يكون مكبلاً بقيود الماضي والمستقبل، أو متكتماً على حاضره ويخشى إبرازه على صورته الواقعية.
فالإنسان المعنوي هكذا، ليس لديه نمط حياة ثابت، ولا صيغة عيش ثابتة، وإنما هو ابن اللحظة، يعيش مع الأوضاع كيفما تتطلب.
* مناقشة في الاتجاه المعنوي
بعد هذا الاستعراض الذي أوردناه للاتجاه المعنوي، لا بد من ذكر المداخل النقدية (أو التقويمية) لهذا المشروع، فهناك ثلاثة مداخل لهذا الاتجاه، وكل مدخل له آليته وخصوصيته:
الأول: المدخلالدينيالنّصي
أي أن نقوّم النظرية وفق الأسس المعرفية التي نؤمن بها، ومنها الكتاب والسنة، باعتبار أن المسلمين يؤمنون بالكتاب والسنة (حسب الفرض). فكما أن ملكيان قوّم الدين على أسس معرفية لا يؤمنون بها، فمن حق المؤمنين أن يقوموا نظريتهم على أسس معرفية يؤمنون بها.
وطبق هذا المدخل أعتقد أنهم سيتفقون مع ملكيان على القول: إن هذه النظرية ناقصة. فالقرآن يحوي مئات الآيات الدالة على التوحيد، والتوحيد قضية خبرية حقيقية، ولا يمكن أن نعتبرها من الأمور الرمزية. ثم ما قيمة البعثة أصلاً؟ ألم يكن لدى المشركين آلهة، وكان عندهم رضا باطني؟
أضف إلى ذلك أن ملكيان لم يبيّن لنا أن إحدى الوسائل -كالإسلام- أفضل من غيرها -كالمسيحية- في كسب الرضا الباطني، إنما اعتبرها متساوية، سواء على صعيد النظم الاجتماعية، أم على صعيد الدين، أم على صعيد المعرفة الإنسانية. فالأديان عنده في عرض واحد، بل إن الدين وغير الدين عنده يمكن أن يحقق المعنوية، فالإلحاد يحقق المعنوية، وماركس يحققها أيضاً، فمن الطبيعي إذن أن تتنافى هذه الفكرة مع المضمون القرآني، وكل من يعتقد بالقرآن (أو الكتب المقدسة) والنبوة بالمعنى المدرسي لتفسير الدين، من الطبيعي ألَّا ينسجم مع هذا الاتجاه، ويكون هذا المدخل ليس لصالح النظرية.
ويجدر بالذكر هنا أن ملكيان لا يهمه هذا المدخل، لأنه يقول لك: إنك تناقش على أساس ميتافيزيقي، اسمه الله والكتاب والنبي والسنة وغير ذلك، وأنا لا أؤمن بذلك من الأصل.
فهذا المدخل لا يجدي نفعاً معه، ولا مع الذين يؤمنون بنظريته.
إن أهم مبنى تقوم عليه هذه النظرية -في رأيي، بل في رأي ملكيان كما صرح بذلك في غير موضع من أبحاثه ودراساته وحواراته- هو عدم وجود دليل في العالم يؤكد أو ينفي وجود الله. وهو ما يسميه إيمانويل كنت[99] بتكافؤ الأدلة[100]، فليست هناك أدلة مهيمنة وأدلة ضعيفة، ولذلك فإن العقل النظري يعجز عن العمل، بسبب هذا التكافؤ، لأنك تأتي بعشرة براهين على وجود الله، فيؤتى لك بأكثر من ذلك على العكس، كما يقول كنت والكانتيون[101].
فالعلامة الحلي (ت 726هـ) مثلاً في كتاب «الألفين» يأتي بألف دليل ودليل على إمامة علي بن أبي طالب، فيأتي آخر بألف دليل ودليل على نقضها. فالأدلة إذن كلها متكافئة، ولا يمكن الحصول على الحقيقة في عالم الواقع الخارجي، خصوصاً فيما يرتبط بالميتافيزيقيا.
هذا هو المبنى الذي تقوم عليه النظرية، وما دام هو يعتقد بهذا المبنى فلا مشكلة في ذلك، والنظرية مقبولة. فلا يمكن أن يقال له: يلزم من كلامك أن لا فرق بين الملحد والمسلم، لأنه يجيبك: وليكن ذلك. وهذا أشبه بما دار بين علمين من أعلام المعتزلة والأشاعرة، قال المعتزلي للأشعري: يلزم من كلامك أن يكون الله كاذباً، قال الأشعري: وليكن ذلك، لأنني لا أقول بالتحسين والتقبيح العقليين، وإذا كذب الله تعالى فإن كذبه هو عين الحُسن. قال المعتزلي: يلزم من كلامك أن يكون الله ظالماً. قال: وليكن، فما يفعله الله هو عين الحسن، وإن سميته أنت ظلماً، لأنه تقبيح عقلي.
هذا هو الحال في النظرية موضع البحث، فمن يبني على الأرضية النسبية في علم المعرفة، وعدم إمكان الوصول في الميتافيزيقيا إلى نتيجة، فمن الطبيعي ألَّا يستفيد من الدين في الجانب الفقهي مثلاً، لأنه مشكوك فيه من الأصل عنده، ولا يستفيد من القراءة التاريخية للدين لأنها مشكوك فيها عنده أيضاً، وهكذا. وعندئذ يلجأ إلى الطرح المعنوي.
فأحد أشكال نقد النظرية إنما هو نقد البناء التحتي الذي قامت عليه، لا مناقشة في النظرية ذاتها. فإذا نسفت البناء التحتي جعلت الباحث يضطر إلى التسليم.
وهو أن تسلّم معه في المبنى، وتتجاوز النظم الفكرية والميتافيزيقية والمعتقدات الخاصة التي تحملها، وتدخل معه في الحلبة ذاتها التي دخل فيها.
وأذكر هنا بعض النماذج المختصرة لأسلط الضوء على هذا الأمر:
1- يسجل على ملكيان إشكال أساسي فيما يتعلق بتقسيم الحداثة إلى ما يمكن اجتنابه وما لا يمكن اجتنابه، فإنه لم يذكر دليلاً معيناً يثبت أن العناصر التي ذكرها هي التي لا يمكن اجتنابها، إنما افترض افتراضاً عارياً عن الدليل، وصوّر الحداثة بصورة خاصة، ثم قسمها إلى قسمين، فلم يبيّن لنا كيف عرف أن هذا يمكن اجتنابه وذاك لا يمكن؟ فكيف عرف مثلاً أنه لا يمكن اجتناب التعبد في عصر الحداثة، أو اجتناب المقدس؟ ألا يوجد عند الغربيين واليابانيين مقدسات وهم في قمة الحداثة اليوم؟ اللهم إلا إذا أراد ملكيان أن ينسج حداثة نموذجية جديدة.
فلم يبيّن لنا المبرر المنطقي لهذا التقسيم، ومن ثم فالمجال مفتوح، ويمكن لأحد أن يقول: لا تنافي بين المقدس والحداثة، نعم، من الممكن أن نتصور التنافي بين الحد الأعلى من المقدس وبين الحداثة، فالمجتمعات التي فيها حد أعلى من المقدس من الممكن أن تتنافى حياتها مع الحداثة، كما في حياة بعض القبائل أو العشائر في العالم. لكن ذلك ليس معناه عدم وجود إمكانية لتقديم مجتمع يؤمن بالحد الأدنى للمقدس وينسجم مع الحداثة.
هذه إحدى الثغرات في النظرية، ويمكن أن يكون لديه جواب لم يقدمه لنا. ومن ثم لا يمكن أن نجزم أن الدين بالمفهوم التقليدي لا يجتمع مع الحداثة.
ثم إن الدين بالمفهوم التقليدي الذي قدمه لنا إنما هو رتب ومراتب، كما أن المعنوية رتب ومراتب، وكما اعتبر هو أن الفهم المتحجر للدين غير الفهم التقليدي.
وبذلك فهو لم يحاول أن يعيد هيكلة الفهم التقليدي للدين، لنرى ما إذا كان من الممكن أن ننقص منه ما ينافي الحداثة، ويبقى على ما هو عليه.
ففي مجتمعنا مثلاً يقدس الناس عموماً، علماء الدين، فنقول: المقدس الأردبيلي[102]، ولكن هناك من التقليديين من لا يقدس العلماء، إنما يقدسون النبي والأئمة والصحابة فقط، فلماذا لم نلحظ هذا التفاوت التشكيكي زيادة ونقصاً عند حسابنا لدرجة التعارض بين الحداثة والدين بالفهم التقليدي له؟ فهناك مدارس كثيرة في داخل الفهم التقليدي للدين، ويمكن العثور على مدرسة قادرة على التكيف مع الحداثة. فلم يبذل ملكيان جهداً لتلمس هذا الموضوع، إنما أطلق الكلام، وجعل جميع المدارس على خصام مع الحداثة، لأنها تؤمن بالقداسة.
2- يعتبر ملكيان أن التعبد أو ما أسميناه بالاحتكام للغير في مقابل الاحتكام للذات هو نقطة الخصام الرئيسة بين الدين التقليدي والحداثة -حسب فهمي لنظريته- وأكثر النقاط، كالمقدس مثلاً، إنما يعود لهذه النقطة[103].
وهذه النقطة بحاجة إلى شيء من التحليل، ذلك لأن ملكيان سجل على نفسه نقطة مهمة، وهي أنه يقبل بالتقليد العقلاني، ووضع لذلك ثلاثة مناهج، وهي -كما ذكرنا سابقاً- استقراء التاريخ، والتجربة الشخصية، والرجوع إلى أهل الخبرة، فهناك إذن مجال لقبول التقليد عنده، والتقليد هو عين التعبد في المفهوم الحداثي.
فلنأخذ هذه المساحة في قبول التقليد، ونتفحص دائرة الدين، لنرى ما إذا كان في الدين تعبد عقلاني أم لا، أما ملكيان فقد قدم التعبد في الدين بصيغة واحدة، هي التعبد غير العقلاني، ولم يحاول أن يبين لنا أن هناك تعبداً عقلانيًّا في دائرة الدين، وحتى لو حاول ذلك فإنه لا يجعله عنصراً مقوماً للدين، أي أن التعبد العقلاني لا قيمة له في الدين، وأن الدين قائم على التعبد اللاعقلاني، والتسليم المطلق.
وهذه النقطة يجب أن نقف عندها قليلاً، لأنها ذات علاقة بأكثر العلوم الإنسانية، ولا بد من دراسة العلاقة بين ما هو عقدي (عقائدي) وتاريخي، أو بين ما هو عقدي وفقهي، أو ما هو عقدي وواقعي.
يعتقد رجال العلم الحديث أن أولى مبادئ هذا العلم ألَّا تتدخل فيه الإيديولوجيا[104]، وقد ألف المفكر والفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي[105] أيام شيوعيته كتاباً صغيراً تحت عنوان: الروح الحزبية في الفلسفة والعلوم، قال فيه: إن الغرب تعامل مع الفلسفة والعلم الطبيعي بروح حزبية، واخترعوا نظريات لا أساس لها، وأطلقوها في العالم، لمصالح سياسية، فلكي يطعنوا في الشيوعية ويكسروا شوكتها اخترعوا نظريات وهمية في الطب والذرة وغير ذلك ونشروها في العالم.
فالإيديولوجيا إذا دخلت في العِلم أفسدته، ولم تعد هناك موضوعية وحيادية، واحتكام إلى المعايير العلمية الصرفة، إنما يكون الاحتكام إلى الأحكام الشخصية المسبقة، والتحيُّزات الحزبية والدينية والسياسية وغير ذلك. وأبرز معالم الإيديولوجيا هو الدين، لذا رسخ في عقول جميع العلماء في النفس والاجتماع والطبيعة أن أي بحث علمي في المختبر أو غيره لا بد أن نجنّبه الدين، وألَّا تدخل النصوص والمعايير الدينية فيه. وعلى هذا الأساس بُنيت جميع العلوم بعيداً عن الدين، وعلى عدم الاعتقاد بوجود غيب في الحياة.
خذ هذا المثال على إدخال الإيديولوجيا في العلم: لو أن نصًّا تاريخيًّا موثقاً قال: إن النبي فعل ما ينافي العصمة، فلدينا طريقان في التعامل معه: إما أن نتعامل معه تعاملاً أكاديميًّا علميًّا، أو أن نتعامل معه من منطلق اعتقادنا بالعصمة، فعلى الطريق الأول لا بد من قبوله، لأن المؤرخ يتعامل معه بأدواته التاريخية ولا شأن له بكونه مخالفاً لعقيدته أو موافقاً لها. وعلى الطريق الثاني لا بد من طرحه أو تأويله أو رد علمه إلى أهله، لأنه ينافي قضية عقدية، وعندئذ لا بد أن نتعامل معه لا على أساس التاريخ، وهنا تدخل الأيديولوجيا والاعتقادات المسبقة في العلم.
فالدكتور إبراهيم بيضون مثلاً -وهو مؤرخ شيعي لبناني- ألف كتاباً عن ثورة الإمام الحسين، يقول فيه: إن انتخاب مسلم بن عقيل من قبل الإمام الحسين كان خطأً، وهو (مسلم) غير جدير بهذه المهمة. وحجته في ذلك أنه حلل النصوص التاريخية المتعلقة بهذه القضية، كما يحلل أية قضية أخرى، بعيداً عن أية عقيدة، وتوصل إلى هذه النتيجة.
فأمامنا إذن طريقتان: إحداهما تعبدية، تعتمد على الأصول الدينية والأيديولوجية، وأخرى ليست تعبدية، تعتمد على معطيات البحث العلمي الأكاديمي الصرف.
والسبب في عدم أخذ العلم بالنظريات الأيديولوجية إنما هو عدم إيمانه بها أصلاً، لا أنه يؤمن بها ويعتقد منهجيًّا بحرمة الخلط فيما بينها وبين العلم. فعلماء العلم الحديث لا يؤمنون أن نصوص التوراة[106] والإنجيل[107] مصدر معرفي، فمن الطبيعي أن ينحّوها جانباً في بحثهم العلمي. بدءاً من المفكر اليهودي الهولندي باروخ سبينوزا (ت 1677م) الذي شكك بنُسَخ الكتاب المقدس[108] بالذات التوراة، وتصاعدت عملية التشكيك، واشتهرت نظرية الترميز في الكتب المقدسة المسيحية خصوصاً، وهي أن تلك الكتب ما هي إلا رموز، وليس لها دلالات إخبارية. فمن الطبيعي إذن، أن من لا يؤمن بذلك لا يُقحم الكتاب والسنة، ولا التوراة والتلمود[109]، في أي بحث علمي، لأن ذلك ليس له قيمة معرفية عنده[110].
[1]* أصل هذا البحث حول عبارة عن محاضرات ثلاث ألقاها الأستاذ حيدر حب الله عام 2006م في إطار سلسلة محاضرات حول الدين والحداثة، وقد قمت بوضع بعض الإضافات، وتوثيق المعلومات وإعادة ترتيب البحث بما ينسجم مع غرض هذه المقالة.
[3] انظر: سنّت وسكولاريزم (التراث والعلمانية)، مجموعة من المؤلفين، مقال (1 و 2) للأستاذ ملكيان تحت عنوان: معنويت: گوهر اديان «المعنوية: جوهر الأديان»، ص 267، مؤسسة صراط الثقافية، طهران، 2002م.
[4] انظر: مشتاقى ومهجورى، گفت وگوهايى در باب فرهنگ وسياست (الشوق والهجران، حوارات في الثقافة والسياسة)، مصطفى ملكيان، طهران، 2006م، ص7 ـ 9. وفصلية: هفت آسمان (السموات السبع)، العدد: 2، 1999م، ص7، قم، في حوار مع الأستاذ ملكيان. ومجلة: راه نور (الطريق الجديد)، العدد: 13، 1998م، طهران، ص18، حوار الصحفي أكبر گنجي مع مصطفى ملكيان تحت عنوان: حوزه ودنياى جديد: قداست، عقلانيت، علمانيت «الحوزة والحداثة: القداسة والعقلانية والعلمانية».
[8] انظر: فصلية «قضايا إسلامية معاصرة»، العدد: 30، 2005م، بغداد، مقال للأستاذ ملكيان تحت عنوان: رهانات الحداثة، ص6.
[9] انظر: سنّت وسكولاريسم (التراث والعلمانية)، مجموعة من المؤلفين، حوار مع الأستاذ ملكيان تحت عنوان: پرسشهايى پيرامون معنويت (تساؤلات حول المعنوية)، ص345 ـ 346، مؤسسة صراط الثقافية، طهران. وكذلك انظر: مجلة: راه نور (الطريق الجديد)، العدد: 13، 1998م، طهران، ص20، حوار الصحفي أكبر گنجي مع مصطفى ملكيان تحت عنوان: حوزه ودنياى جديد: قداست، عقلانيت، علمانيت «الحوزة والحداثة: القداسة والعقلانية والعلمانية».
[10] سنّت وسكولاريسم (التراث والعلمانية)، مجموعة من المؤلفين، ص348 ـ 349.
[11] فصلية هفت آسمان (السموات السبع)، العدد: 2، 1999م، قم، ص17، في حوار مع الأستاذ ملكيان، تحت عنوان: دين وديندارى در جهان معاصر «الدين والتدين في عالمنا المعاصر».
[12] انظر: مجلة «المنطلق»، العدد: 117، 1997م، بيروت، مقال للأستاذ ملكيان تحت عنوان: في الفكر الإسلامي، ص51.
[13] الفكر الإسلامي المعاصر في إيران (جدليات التقليد والتجديد)، محمّد رضا وصفي، ص342، دار الجديد، بيروت، 2000م.
[17] انظر: سنّت وسكولاريسم (التراث والعلمانية)، مجموعة من المؤلفين، حوار مع الاستاذ ملكيان تحت عنوان: پرسشهايى پيرامون معنويت «تساؤلات حول المعنوية»، ص349 ـ 353، مؤسسة صراط الثقافية، طهران.
[21] انظر: راهى به رهايى، جستارهايى در عقلانيت ومعنويت (الطريق إلى الحريّة، بحوث في العقلانية والمعنوية)، مصطفى ملكيان، ص385 ـ 386، منشورات نگاه معاصر، طهران.
[22] انظر: راهى به رهايى، جستارهايى در عقلانيت ومعنويت (الطريق إلى الحرية، بحوث في العقلانية المعنوية)، مصطفى ملكيان، ص104 ـ 105.
[23] ـ انظر: مجلة <كيان>، العدد: 48، 1999م، طهران، ص12 ـ 13، مقال للأستاذ ملكيان تحت عنوان: سخنى در چند وچون ارتباط اسلام وليبراليسم (في تجاذبات العلاقة بين الإسلام والليبرالية). وكذلك انظر: الفكر الإسلامي المعاصر في إيران، محمّد رضا وصفي، ص288 ـ 292، دار الجديد، بيروت، 2000م.
[24] ـ ديوان أبي الطّيب المتنبّي بشرح عبدالرحمن البرقوقي، تحقيق: عمر فاروق الطبّاع، ج2، ص481، شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم، بيروت.
[25] اللزوميّات (ديوان لزوم ما لا يلزم)، أبو العلاء أحمد بن عبدالله المعرّي، تحقيق: الدكتور عمر الطّباع، ج1، ص306، شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم، بيروت.
[29] انظر: راهى به رهايى (الطريق إلى الحريّة)، مصطفى ملكيان، ص372 ـ 373. وكذلك انظر: فصلية «قضايا إسلامية معاصرة»، العدد: 30، 2005م، بغداد، مقال للأستاذ ملكيان تحت عنوان: رهانات الحداثة، ص5.
[31] پول فايرابند «PaulFeyerabend» (1924 ـ 1994)، كان يعتقد بأن كل شيء دخيل في عملية تطور العلم، ولا توجد قاعدة خاصة لذلك. أهم كتبه وأشهرها: ضد المنهجية «AgainstMethod».
[34] انظر: سنّت وسكولاريسم (التراث والعلمانية)، مجموعة من المؤلفين، مقال للأستاذ ملكيان تحت عنوان: معنويت: گوهر اديان (المعنوية: جوهر الأديان)، ص292، طهران.
[36]Renaissance: اصطلاح يشير إلى مرحلة زمنية تبدأ من القرن الخامس عشر وتنتهي في أواخر القرن السادس عشر. وكانت هذه المرحلة الزمنية غنية بالأحداث، واعتبرت نقطة تحول من العصر الوسيط إلى العصر الحديث. وتميزت هذه المرحلة بالعودة إلى الأدب القديم (أي الأدب اللاتيني الملقح باليونانية)، ومن إيطاليا انتشرت الآداب إلى كل من فرنسا وإنگلترا وألمانيا وهولندا. وقد انتشرت هذه الآداب بسرعة بفضل اختراع الطباعة في منتصف القرن الخامس عشر. واعتبروا دراسة القدماء كفيلة وحدها بتكوين الإنسان بكل معنى الكلمة فسميت هذه النزعة بالإنسانية (Humanist) أو المذهب الإنساني (Humanism) وسميت الآداب القديمة بالإنسانيات.
[37] انظر: بحوث في علم الأصول (تقريرات آية الله محمد باقر الصدر)، محمود الهاشمي، ج4 ص335 ـ 336، مركز الغدير للدراسات الإسلامية، قم، 1997م.
[38] مهر ماندگار، مقالاتى در اخلاق شناسى (الحب الخالد، مقالات في علم الأخلاق)، مصطفى ملكيان، ص462، مؤسسة نگاه معاصر، طهران، 2002م.
[39] وقد كنا طرحنا في مناسبات أخرى سؤالاً حول توقعات البشر من الدين، وهو: هل من الممكن أن نفترض بديلاً عن الدين فيما يتعلق بالنظم الاجتماعية؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلم نحذف الدين؟ وما الدليل على صحة حذفه؟ أليس من الأجدر أن نجعله أحد البدائل؟ أليس من المعقول أن نقول: إن تعدد البدائل أمر جيد؟
[41] انظر: سنّت وسكولاريسم (التراث والعلمانية)، مجموعة من المؤلفين، حوار مع الأستاذ ملكيان تحت عنوان: پرسشهايى پيرامون معنويت (تساؤلات حول المعنوية)، ص356 ـ 357.
[42] «PaulTillitch»: فيلسوف ألماني ولد في ستاريدل (ألمانيا) والده كان قسيساً بروتستنتيًّا. بعد الحرب العالمية الأولى بدأ بالتدريس في عدة جامعات ألمانية. حاول تيليتش أن يقيم لاهوتاً جديداً انظلاقاً من الثقافة فهو يعتبر أن الديانة تنبع من الثقافة . فإذا كانت الديانة جوهر الثقافة، فهذه الأخيرة هي صورة أو شكل للديانة . وكان يريد أن يصل إلى خلاصة مفادها : (أن أي لاهوت غير ممكن فهمه إلا في الإطار الثقافي الذي ولد فيه).
[45] فصلية «قضايا إسلامية معاصرة»، العدد: 30، 2005م، بغداد، مقال للأستاذ ملكيان تحت عنوان: رهانات الحداثة، ص11 ـ 13.
[46] انظر: سنّت وسكولاريسم (التراث والعلمانية)، مجموعة من المؤلفين، مقال للأستاذ ملكيان تحت عنوان: معنويت: گوهر اديان (المعنوية: جوهر الأديان)، ص275 ـ 278، مؤسسة صراط الثقافية، طهران.
[48] تفسير الصافي، المولى محسن الملقب بـ«الفيض الكاشاني»، ج2، ص347، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 1982م.
[49] اللزوميات (ديوان لزوم ما لا يلزم)، أبي العلاء أحمد بن عبدالله المعرّي، تحقيق: الدكتور عمر الطبّاع، ج2، ص305، شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم، بيروت.
[52] انظر: سنّت وسكولاريسم (التراث والعلمانية)، مجموعة من المؤلفين، ص278 ـ 280.
[53] الميتافيزيقا «Metaphysics» (ما رواء الطبيعة أو الغيب): علم وراء الطبيعة، وهي تدرس المبادئ العليا لكل ما هو موجود، والتي لا تبلغها الحواس، ولا يستوعبها إلاّ العقل المتأمل. لكن في العصر الحديث فهمت الميتافيزيقا على أنها منهج غير جدلي في التفكير، نظراً لما تتميز به من أحادية الجانب وذاتية في المعرفة.
[58] ومثل ذلك ما يقوله بيير سيمون لابلاس (PierreSimonLaplace) صاحب نظرية الحتمية التاريخية: «إذا أعطيتني معلومة عن الكون في لحظة ما، أستطيع أن أتنبأ بتمام اللحظات إلى نهايته».
[59] «Pragmatism»: مذهب تجريبي يتخذ القيمة العملية ، أي النجاح معيار للحقيقة . والمذهب البراغماتي يحدد قيمة الصدق بفائدته العملية، أول ما ظهر هذا المذهب مع تشارلز ساندرس بيرس (CharlesPierce)، في عام 1878م في الولايات المتحدة الأمريكية. وقد كانت البواعث على نشأته بواعث دينية.
[67] كالديانة المانوية «Manichaeism». تأتي تسميتها من مؤسسها ماني «Mani» أو مانيس «Manichaens» (796م) المولود في شمال بابل (العراق) وهو إقليم يربط دجلة بالفرات. قبل اكتشافات القرن العشرين الأثرية، كان يقدم ماني كأنه هرطوقي. إلاّ أن الوثائق المكتشفة تؤكد أن ماني كان فيلسوفاً حاول مصالحة الشرق والغرب. فهو رجل حكيم ومثقف، متبحّر في العلوم الرفيعة المعروفة في العراق وإيران، موسيقي ورياضي، رسّام وجغرافي، عالم فلك وطبيب. استناداً إلى أعمال كبار المؤرخين العرب، كالشهرستاني (ت 548هـ) في الملل والنحل، والنديم (ت 380هـ) في الفهرست، والمسعودي (ت 346هـ في مروج الذهب، والبيروني (ت 440هـ) في الآثار الباقية عن القرون الخالية، وإلى نصوص الديانات الأشورية – البابلية، توضحت صورة ماني والمانيّة.
(للمزيد حول هذه الظاهرة انظر: نحو نظرية جديدة في علم الاجتماع الديني، يوسف شلحت، تحقيق و تقديم: خليل أحمد خليل، ص140 ـ 150، دار الفارابي، بيروت، 2003م).
[69] يقصد «Meditation» أي: التدبر – التأمّل – التفكّر – الفكر – المراقبة.
[70] انظر: فصلية «قضايا إسلامية معاصرة»، العدد: 30، 2005م، بغداد، مقال للأستاذ ملكيان تحت عنوان: رهانات الحداثة، ص17.
[78] انظر: مشتاقى ومهجورى، گفت و گوهايى در باب فرهنگ وسياست (الشوق والهجران، حوارات في الثقافة والسياسة)، مصطفى ملكيان، ص401 ـ 402، مؤسسة نگاه معاصر، طهران، 2006م.
[79] الطوطم أو التوتم «Totem»: لفظ دخل في اللغات الأوروبيّة سنة 1791، وقد أخذه الرحالة الإنكليزي لونغ «JohnLong» (كان حيًّا 1791م) عن لغة الهنود الحُمر في أمريكا الشمالية في كتابة «أسفار ورحلات تاجر ومترجم هنديّ» «VoyagesandTravelsofanIndianInterpreterandTrader»
يراد بالطوطم كائنات تحترمها بعض القبائل، ويعتقد كل فرد من أفراد القبيلة بعلاقة نسب بينه وبين أحد منها يسميه طوطمه. وقد يكون الطوطم حيواناً أو نباتاً أو غير ذلك، وهو يحمي صاحبه وصاحبه يحترمه ويقدسه أو يعبده. وإذا كان حيواناً لا يقدم على قتله، أو نباتاً فلا يقطعه أو يأكله.
فالطوطم من الوجهة الدينية يعتبر أباً للقبيلة وهي من نسله. ولكل قبيلة حديث عن طوطمها يتناقلونه أباً عن جد يغلب أن يكون مداره على كيفية انتقاله من الحيوانية أو النباتية إلى الإنسانية. فمن قبائل الإيروكوا من هنود أمريكا قبيلة تعرف بقبيلة السلحفاة، يعتقد أهلها أنهم متسلسلون من سلحفاة سمينة استثقلت صدفتها فألقتها عن ظهرها ثم تحوّلت إلى إنسان وأولد أولاداً. ومنهم قبيلة الحلزون (البزّاقة) يعتقدون أنهم متسلسلون من الحلزون وأنثى الجندبادستر. وذلك أن حلزوناً ذكراً خلع صدفته ونبت له يدان ورجلان ورأس وتحوّل إلى رجل طويل القامة جميل الصورة فتزوّج أنثى الجندبادستر وأولدها هذه القبيلة. وقس على ذلك قبائل تنسب إلى البط أو الأوز أو غيرها من الطيور المائية، وهناك قبائل تنتسب إلى وحيد القرن وفرس البحر أو إلى العقرب أو الثعبان. فكل من هذه الحيوانات يعد طوطماً للقبيلة التي تسمى باسمه وهي تحترمه وتقدّسه فلا تؤذيه ولا تقتله. والطوطمية «Totemism» منتشرة الآن في العالم فهي عامة بين قبائل أستراليا وكثيرة الانتشار في شمال أمريكا وفي باناما. والطوطم الشائع هناك الببغاء. ولا تخلو أمريكا الجنوبية من آثار الطوطمية على حدود كولومبيا وفنزويلا وفي جيانيا وبيرو. وللطوطمية شأن كبير في أفريقيا. أما في آسيا فلها أثر في أواسط الهند بين بعض قبائل البنغال غير الآريين وفي سيبيريا وبعض جهات الصين.
(انظر: نحو نظرية جديدة في علم الاجتماع الديني، الدكتور يوسف شلحت، تحقيق وتقديم: الدكتور خليل أحمد خليل، ص111 ـ 118، دار الفارابي، بيروت، 2003م).
[82] وفي رأيي أن المعنوية مزيج من التيار الإيماني الذي ظهر في الغرب، والتيار الصوفي العرفاني الذي شهدته إيران والهند، فهو كالمانويّة يدعو لمصالحة الشرق مع الغرب.
[83] «ArnoldJosephToynbee»: مؤرخ وعالم اجتماع إنجليزي . يعد من أبرز ممثلي فلسفة التأريخ التأملية. يعتبر توينبي أن تاريخ العالم يسير في دورات كبرى من الارتفاعات والانخفاضات، وهو محصلة كلية و(للحضارات) المختلفة، التي تمر بالمراحل نفسها : الميلاد والنمو والسقوط والتفكك والتدمير، وأن الحضارات في نموها تتجاوب مع التحديات التي تواجهها، وأنها في أفولها تعجز عن اغتنام الفرص التي تسنح لها، وعن التصدي لما يعترض طريقها من مصاعب. وقد أعطى توينبي واحداً وعشرين مثلاً لتأكيد نظريته الفلسفية في التاريخ، وقد لجأ في بحثه إلى النهج العلمي الاستقرائي.
ورأى توينبي أنّ هناك قوى محرّكة للتاريخ، أهمها الإيمان. فبواسطة الإيمان يتمّ الكشف الإلهي ثم الاتحاد بالله. وهذه مهمّة الأفراد الخلاّقين وقوى المجتمع الدينيّة، فهؤلاء يستطيعون بجهدهم «الاستجابة» للتّحدّي الذي تفرضه «دورة التاريخ» في سيرها، ومنع الحضارة من السقوط.
[84] العلمنة «Secularization» أو العلمانية «Secularism»: في اللاتينية تعني العالم أو الدنيا، ثم استعمل المصطلح من قبل مفكري عصر التنوير بمعنى: المصادرة الشرعية لممتلكات الكنيسة لصالح الدولة. ثم تم تبسيط التعريف ليصبح: فصل الدين عن الدولة. ولقد تطور المعنى ليصبح أكثر شمولاً، فالعلمانية هي: العقيدة التي تذهب إلى أن الأخلاق لابد أن تكون لمصالح البشر في هذه الحياة الدنيا، واستبعاد كل الاعتبارات الأخرى المستمدة من الإيمان بالإله أو الحياة الآخرة.
والعمانية هي تحويل المؤسسات الدينية وممتلكاتها إلى ملكية علمانية وإلى خدمة الأمور الزمنية.
فالعلمنة لا تعني الإلحاد أو الماديّة، بل إبعاد الدين عن ميدان تنظيم المجتمع الإنساني وشؤونه السياسيّة والاقتصادية والاجتماعية، على أن يحفظ له دوره الأساس في المجالين الروحي والأخلاقي.
[85] «Stoicism». يفرّق الرّواقيون بين الظن والمعرفة. والمعرفة ليست معرفة المعقولات التي يصل إليها العقل كما ظنّ أرسطو، ولا معرفة المُثُل بالتذكُّر كما زعم أفلاطون، إنّما هي معطيات الحواس. فالإحساس هو الأساس في المعرفة، وهو إدراك وحكم وتأييد.
[86] انظر: سنّت وسكولاريسم (التراث والعلمانية)، مجموعة من المؤلفين، ص278 ـ 280، مؤسسة صراط الثقافية، طهران.
[89] انظر: سنّت وسكولاريسم (التراث والعلمانية)، مجموعة من المؤلفين، ص286 ـ 287، طهران.
(انظر: فصلية «قضايا إسلامية معاصرة»، العدد: 30، 2005م، بغداد. مقال للأستاذ ملكيان تحت عنوان: رهانات الحداثة، ص20 و22. وكذلك انظر: الفكر الإسلامي المعاصر في إيران (جدليات التقليد والتجديد)، محمدرضا وصفي، ص337، دار الجديد، بيروت، 2000م).
[91] انظر: مجلة «المنطلق»، العدد: 117، 1997م، بيروت، مقال للأستاذ ملكيان تحت عنوان: في الفكر الإسلامي، ص50 ـ 51.
[93] «Ontology»: علم الكينونه: هو البحث في الوجود بما هو موجود مستقلاً عن أشكاله الخاصة. وقد كانت الفلسفة، وما زالت تسأل عن «الوجود»، ويبدو أنّ فكرة «الوجود» كانت أول ما جذبت إليها أنظار الفلاسفة.
[94] «DenyingGod», «Atheism», «Agnosticism».
[95] «Cherishing», «Love», «Friendship».
[100] تكافؤ الأدلة: يعني أن الطرفين متساويان في درجة القوة، بحيث لا يمكن خروج طرف مغلوباً.
[102] أحمد بن محمّد الشهير بالمقدس الأردبيلي (ت 993هـ)، من أبرز علماء وفقهاء الشيعة الإمامية.
[103] وهنا لا بد من تسجيل ملاحظة مهمة، وهي أنه لم يُقم دليلاً على أن المستدلين لا يتعصبون، فمن قال: إن المستدلين لا يتعصبون؟ فالتعصب يكون أحياناً من شؤون الشعور العقل الظاهر، وأحياناً من شؤون اللاشعور والعقل الباطن، فمن الممكن أن يبدو المرء غير متعصب، لكنه في واقعه يتعصب للدليل!
[104] «Ideology»: نسق من الآراء والأفكار والاعتقادات السياسية والقانونية والأخلاقية والجمالية والدينية والفلسفية، تختص بمجتمع معيّن أو طبقة اجتماعية معيّة. وكان أول من استعمل هذه الكلمة المفكّر الفرنسي ديستوت دي تراسي «DestuttDeTracy» عام 1801م في كتابه «مشروع المبادئ الأيديولوجية»، وفيه يُحدّد الأيديولوجيا «كعلم يهدف إلى دراسة الأفكار وخصائصها وقوانينها وعلاقاتها بالمعاني والإشارات، التي تمثلها أو ترمز إليها».
وأصبحت الأيديولوجيا تُعتبر «عقيدة» تستند إليها أو تستوفي منها الحكومات أو الأحزاب السياسيّة.
وفي الماركسية تعتبر الأيديولوجيا انعكاساً صادقاً وتعبيراً عن الواقع، وهي جُزء من البناء الفوقي «Super–stucture». لذلك، هي تعكس العلاقات الاقتصادية، ويتطابق دائماً الصّراع الأيديولوجيّ مع الصّراع الطّبقي.
[109]Talmud: للكلمة جذر آرامي ومعناها تَعَلّمَ. وهي مجموعة الشرائع اليهودية التي نقلت شفويًّا مقترنة بتفاسير رجال الدين، ويتميّز التلمود عن التوراة التي تشتمل على تشريع مكتوب ويعتد بها جميع اليهود المحافظين.
[110] للمزيد انظر: فصلية «مدرسه»، العدد: 4، 2006م، طهران، مقال للأستاذ: سروش دباغ تحت عنوان: نقدى بر آراى مصطفى مليكان در باب نسبت دين ومدرنيته (نقد لآراء مصطفى ملكيان حول نسبية الدين والحداثة)، ص63 ـ 64.