تمهيد
سنّت الشريعة الإسلامية أربع ضرائب مالية رئيسية، وهي: الزكاة والخمس والخراج والجزية، وقد جعلت هذه الضرائب عادةً من عائدات بيت مال المسلمين (الملكية العامة)، أو بيت مال الإمام (ملكية الدولة)، لتصرف في مصالح المسلمين.
وقد تعرّضت النصوص الشرعية لمصارف هذه الفرائض المالية، ومن ضمنها الخمس والزكاة، فخصّصت للزكاة ثمانية مصارف هي: الفقراء والمساكين والعاملون عليها وفي الرقاب وفي سبيل الهه والمؤلّفة قلوبهم والغارمون وابن السبيل، أما الخمس فالمعروف إسلامياً تقسيمه إلى ستة أسهم، هي كلّ من سهم الله والرسول وذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. وقد ذهب الفقه الإمامي إلى جعل الثلاثة الأولى سهمَ الإمام يُعطى له، فيما الثلاثة الثانية سهمَ بني هاشم، أي فقراء بني هاشم ومساكينهم وابن سبيلهم، وهم المنتسبون للبيت النبوي الشريف على خلاف بينهم في نطاق هذه النسبة.
وعقب تحديد أصناف المستحقّين في الزكاة ومصارف الخمس، تعرّض الفقهاء لما أسموه بأوصاف المستحقّين، فشرطوا فيهم شروطاً، مثل أن لا يكون المستحقّ ممّن تجب نفقته على المعطي، فلا يجوز لمن يريد دفع الزكاة أن يعطيها لولده الفقير، حيث إنّ ولده ممّن تجب عليه نفقته شرعاً.
ومن جملة الشروط والأوصاف في مستحقّي الخمس والزكاة على مستوى الفقه الإمامي: الإيمان، بمعنى أن يكون المستحقّ مسلماً شيعياً إثنا عشرياً، فلا يعطى أبناء المذاهب الإسلامية الأخرى ـ فضلاً عن الكافر ـ من الخمس والزكاة شيئاً، إلا من سهم المؤلّفة قلوبهم (وبعض أصناف العاملين عليها) لا من سهم الفقراء والمساكين وغيرهم، بمعنى أنّ سهم السادة مثلاً ـ بناءً على ثبوته ـ يعطى للسادة الفقراء من الإمامية ولا يعطى للهاشمي السنّي أو الدرزي أو غيرهما( ). وقد ادّعي الاجماع أو نفي الخلاف على هذا الحكم( )، نعم يمكن إعطاء أبناء المذاهب الأخرى من سهم المؤلّفة قلوبهم في الزكاة ومن سهم الإمام في الخمس حسب ما تكون المصلحة والمورد في ذلك.
والمستند الرئيس في ذلك هي النصوص الحديثية. وسوف ندرس هذا الموضوع في الزكاة والخمس على المستوى القرآني العام، ثم نعقبه بدراسة الموضوع نفسه في الزكاة والخمس على الترتيب على مستوى سائر الأدلّة، إن شاء الله تعالى.
والبحث هنا في خصوصية الإمامية الاثني عشرية لا غير، فلو فرضنا أنّ الذي نريد صرف الزكاة عليه كان فاسقاً متجاهراً بالمعاصي أو تاركاً للصلاة أو شارباً للخمر وقلنا بعدم جواز صرف الزكاة على من اتصف بهذه الصفات كما ذهب إليه بعض الفقهاء، لم يجز إعطاء غير الإمامي المتصف بهذه الصفات، لكن لا من جهة مذهبه هذه المرّة بل من جهة سائر الصفات فيه، فبحثنا في جهة خاصّة من الموضوع.
يضاف إلى ذلك، أنّ هذا الموضوع لا وجود له بهذه الصيغة في الفقه غير الإمامي؛ إذ من الواضح عدم تعقّل أخذهم قيد الإيمان بالمعنى الأخصّ في مستحقّ الخمس والزكاة، لهذا سيكون البحث هنا ـ من حيث سياقه ومصادره ـ إماميّاً بامتياز.
أولاً: شرط الإيمان على المستوى القرآني
تعرّض القرآن الكريم لمستحقّي الزكاة والخمس في آيتين منفصلتين فيه، ولابد من استعراض هاتين الآيتين للنظر فيهما على الشكل التالي:
1 ـ في فريضة الزكاة والصدقات
أما في الزكاة ـ وهي الصدقات ـ فقد ورد قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (التوبة: 60)، فهذه الآية القرآنية الكريمة تحدّد المستحقين ولم تذكر فيهم أيّ صفة خاصّة كالإسلام أو الإيمان أو إقامة الصلاة أو ترك شرب الخمر أو غير ذلك، فتكون مطلقةً من هذه الناحية بناءً على أنها في مقام بيان صفات المستحقين أيضاً لا أصنافهم فحسب.
والذي يبدو لي أنّ هذه الآية ذات دلالة قوية على بطلان شرط الإيمان بمعناه العام فضلاً عن المعنى الخاص، أي الإيمان بمعنى الاعتقاد بالإسلام قلباً والاعتقاد بالمذهب الإمامي، وذلك أنّ الآية لو فصلت عن سياقها لأفادت بياناً عاماً قد يقال فيه: إنه في مقام بيان أصناف المستحقين لا أوصافهم، وهذا لو غضضنا الطرف عنه وتركنا التأمّل فيه، فإنّ السياق السابق على الآية واللاحق يعطي دلالةً حاسمة في الموضوع؛ فإنّ هذه الآية الكريمة جاءت في سورة التوبة التي خصّصت قسماً كبيراً من آياتها للحديث مع المنافقين وعنهم، ومن جملة الملفّات التي خاضت السورة سجالها مع المنافقين هو ملفّ الصدقات، قال تعالى: ﴿قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ * وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ * فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ * وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ * وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ * إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ..﴾ (التوبة: 53 ـ 60).
إنّ هذا السياق يعطي أنّ المنافقين الذين تصّرح الآيات بكفرهم القلبي الواقعي بالله ورسوله قد عابوا عدم أخذهم في بعض الأحيان من الصدقات، فردّ عليهم القرآن، ثم علّل بالقاعدة التي برّرت عدم حصولهم أحياناً على الصدقات مستخدماً أداة الحصر، فكأنّ الآيات تقول: إنكم تتحدّثون عن العطاء في الصدقات وتثيرون الكلام حول أنّ الرسول لا يعطيكم في بعض الأحيان (لأنّ الآية تصرّح بأخذهم أحياناً) وهذا منكم أمرٌ مرفوض، فالصدقات لثمانية أصناف.. وهذا يعني أنّ ملاك عدم أخذهم من الصدقات كان عدم اندراجهم في المصارف الثمانية أحياناً، لا لتمييزٍ شخصيّ من الرسول لا يخضع لضوابط، وإذا علّلت الآية بهذه الطريقة فهذا دليل واضح على أنّ الإيمان ليس بشرط؛ إذ لو كان الإيمان شرطاً لذكرته الآية الكريمة وكان أقرب للجواب عليهم، فكان بإمكانها القول ـ وهو أبلغ للجواب ـ: إنما الصدقات للمؤمنين بالله ورسوله والذين إذا قاموا للصلاة لم يقوموا كسالى و.. والآيات ليست في حرج منهم حتى تراعيهم، بل هذه السورة التي سمّيت بالفاضحة شنّت أعنف الهجمات عليهم، وكان كثير منهم على الأقلّ معروفاً؛ لأنّ الحوادث التي تقصّها الآيات واضحة وليست خفية، فعدول القرآن عن هذا التعليل ـ مع إشارته إلى أخذهم أحياناً من الصدقات ـ قرينة سياقية جليّة على أنّ الإيمان القلبي بالإسلام ـ فضلاً عن التشيّع ـ غير مشروط، وإلا كان أولى بالبيان ممّا ذكرته الآية الكريمة كما هو واضح، فتكون الآية الكريمة دليلاً على عدم أخذ مثل هذا الشرط، وكفاية الإسلام الظاهري المحفوظ بأدنى مراتبه مع المنافق، ولو كان هناك عين أو أثر لشرط الإيمان لكان ذكرها هنا متعيّناً مالم ندخل في احتمالات غير واقعيّة.
بل لعلّ الإشارة في آخر الآية: ﴿فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ﴾ راجعة إلى التقسيم الثماني لا إلى أصل وجوب الزكاة كما هو الأقرب، فكأنّه يريد أن يقول: إنّ هذا التقسيم فريضةٌ من الله، فلا يحقّ لكم أن تعيبوا على الرسول عمَلَه بفرائض الله في صرفه على هؤلاء ممن قد لا تكونون منهم أحياناً، فيعزّز احتمال أنّ الإيمان ليس بشرط، وعلى أبعد تقدير كان من الأنسب بالآية أن تقول: إنما الصدقات للمؤمنين حقاً والمؤلّفة قلوبهم.
قد يقال: إنّكم سوف تتوصّلون لاحقاً إلى أنّ الزكاة تقع أوّليّاً تحت تصرّف الحاكم فالصرف فيها يرجع إليه، ومن ثمّ فكما يمكن أن يكون إعطاء أو عدم إعطاء الرسول المنافقين من الزكاة راجعاً لحكم أوّلي، كذلك يمكن أن يكون راجعاً لولايته على المال، فلا يحرز من سياق الحدث الذي تحكي عنه الآيات أنّ الإعطاء وعدمه شأنٌ تشريعي أوّلي، بل قد يكون شأناً ولائيّاً.
والجواب: إنّ ظاهر الآية الكريمة أنّه لو كان عدم إعطاء النبي المنافقين في بعض الأحيان راجعاً إلى الأولويات الزمنيّة مع استحقاقهم من حيث الأصل، لكان لابدّ من التعليل بأمر راجع إلى نظر النبي ومرجعيّته الميدانيّة وضرورة التسليم له ـ فيكتفى له بالآية السابقة على آية مصارف الزكاة ـ لا بأمر يبيّن فيه مصرف الزكاة بحسب الحكم الأوّلي.
قد تقول: إنّ هذه الآية لا تفيدكم هنا؛ لأنّ الطرف الآخر يقبل بإمكان أخذ غير الإمامي من سهم المؤلّفة، وإنّما الكلام في أخذه من سهم الفقراء والمساكين ونحوهما، وهذا معناه أنّ الآية الكريمة ببيانها المصارف الثمانية تُدخل المؤلّفة قلوبهم في الحسبان، ومن ثم يكون المنافق داخلاً بهذا اللحاظ، وهذا يعني أنّ نفي دخولهم أحياناً راجع إلى عدم انطباق شروط المؤلّفة قلوبهم عليهم، لا عدم انطباق موازين الفقر، حتى تكون الآية دالّةً على استحقاقهم بغير عنوان المؤلّفة قلوبهم.
والجواب: إنّه لو كان هذا صحيحاً لم تعد الآية إجابةً مقنعة للمنافقين؛ إذ سيكون مرجع سؤالهم لا إلى مصارف الزكاة بل إلى مبرّر عدم انطباق أحكام المؤلّفة قلوبهم عليهم في بعض الأحيان التي كانوا يطعنون على النبي فيها بعدم إعطائهم من الزكاة، فلا تكون الآيات الكريمة جواباً عليهم حينئذٍ، مع أنّ السياق يُفهِمُنا أنّها وقعت في إطار الجواب عنهم في غمزهم وطعنهم.
2 ـ في فريضة الخمس
أما الخمس، فقد ورد في مصرفه قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (الأنفال: 41).
ومن الواضح أنّ هذه الآية الكريمة ساكتة عن ذكر قيد الإيمان أو الإسلام في مستحقّ الخمس أو مصرفه، فإذا قبلنا بعدم كونها في مقام البيان من جهة الأوصاف وأنها في مقامه من جهة الأصناف، لم تكن فيها أيّ دلالة على إثبات أو نفي هذا الشرط، من ثم فالرجوع إلى نصوص السنّة الشريفة لن يكون أمامه أيّ عقبة أو معارض، وأما إذا قلنا بكونها في مقام البيان من جهة الأوصاف والأصناف معاً أمكن الأخذ بإطلاق هذه الآية لنفي شرط الإيمان، غاية الأمر أنه يمكن تقييد هذا الإطلاق بنصوص السنّة حينئذ وفق القاعدة.
وبهذه الطريقة نستنتج الفرق بين آية الزكاة وآية الخمس في المصارف، وهو أنّ آية الزكاة كانت فيها دلالة مباشرة على نفي شرط الإيمان، على خلاف آية الخمس فإنها على أبعد تقدير تفيد ذلك بالإطلاق غير الآبي عن التخصيص.
ثانياً: شرط الإيمان على مستوى نصوص السنّة الشريفة
يختلف المشهد تماماً بالانتقال من نصوص الكتاب إلى نصوص السنّة، حيث تجمّعت النصوص على رفض إعطاء غير الإمامي من أموال الخمس والزكاة، وهي بنفسها دليلٌ على استبعاد الاستدلال بالإجماع والشهرة وأمثال هذه المفاهيم من حيث طروّ احتمال المدركية إليهما إن لم نقل بالاطمئنان بالمدركيّة.
1 ـ في مجال الزكاة والصدقات
ولابدّ لنا من رصد النصوص الواردة في المقام للنظر فيها، والذي وجدناه أنّ في هذا الموضوع عدّة مجموعات من النصوص، وهي:
المجموعة الأولى: نصوص إعادة الزكاة بعد الاستبصار
وردت بعض الروايات في إعادة المستبصر الزكاة مع دفعها لغير الشيعي قبل الاستبصار. وهذه النصوص هي:
1ـ2ـ صحيحة بريد بن معاوية العجلي، قال: سألت أبا عبد الله عن رجلٍ حجّ، وهو لا يعرف الأمر، ثم منّ الله عليه بمعرفته والدينونة به، عليه حجّة الإسلام أو قد قضى فريضته؟ فقال: «قد قضى فريضته، ولو حجّ لكان أحبّ إليّ»، قال: وسألته عن رجلٍ حجّ وهو في بعض هذه الأصناف من أهل القبلة ناصب متديّن، ثم منّ الله عليه، فعرف هذا الأمر، يقضي حجّة الإسلام؟ فقال: «يقضي أحبّ إليّ» وقال: «كلّ عملٍ عمله وهو في حال نصبه وضلالته ثم منّ الله عليه وعرّفه الولاية فإنه يؤجر عليه إلا الزكاة فإنه يعيدها؛ لأنّه وضعها في غير مواضعها؛ لأنها لأهل الولاية، وأما الصلاة والحجّ والصيام فليس عليه قضاء»( ). ونحوها خبر ابن أذينة( ).
فهذه الرواية واضحة صريحة في أنّ الزكاة لا تعطى لغير الشيعي المعبّر عنه فيها بأهل الولاية.
لا يقال: إنّ الرواية ظاهرة في الناصب وأعماله، حيث ورد التصريح فيها بالنصب، فلا تشمل غير الناصبي من أقسام المخالفين.
فإنه يقال: إنّه وإن ورد فيها التصريح بالناصب، إلا أنّ محلّ الشاهد هنا هو التعليل؛ حيث علّلت الرواية بأنّ الزكاة لأهل الولاية، وأنّ الناصب وضعها في غير مواضعها، فنحن نتمسّك بهذا المقطع العام وهو واضح الدلالة هنا، وليس وجوب إعادة دفع الزكاة من باب أنه كان ناصبياً حين الدفع، بل لأنّ الموضع الذي صرفها فيه لم يكن موضعها الصحيح.
لا يقال: إنه إذا لم تكن هناك مشكلة في فعل الفاعل هنا بملاحظة ذاته وإنما كانت بملاحظة موضع الصرف، فإنّ هذا معناه أنّه لو صرف ـ وهو مخالف أو ناصب ـ الزكاة إلى أهل الولاية لكان يفترض صحّة زكاته وعدم وجوب إعادتها، مع أنّ الرواية لم تشر إلى هذا التفصيل.
لأنه يقال: إنّ عدم الإشارة كان لظاهرة الغلبة، فالرواية تنظر إلى الحالة الغالبة، حيث يدفع السنّي ـ مثلاً ـ زكاته إلى أهل مذهبه وقليلاً ما يحصل أن يصرفها في أهل مذهب آخر، وقد نظر الإمام هنا إلى الحالة الغالبة، ومن القاعدة التي بيّنها في مكان الصرف يفهم أنه لو دفعها للشيعي لصحّت، فلا يصحّ ذلك نقداً على الأخذ بالرواية.
وعليه، فهذه الرواية واضحة جلية تامّة سنداً ودلالةً في هذا المجال، والمفروض أنّ المراد بأهل الولاية هم الشيعة.
3ـ صحيحة الفضلاء ـ زرارة وبكير وفضيل ومحمد بن مسلم وبريد بن معاوية ـ عن أبي جعفر وأبي عبد الله أنهما قالا في الرجل يكون في بعض هذه الأهواء، الحرورية والمرجئة والعثمانية والقدرية، ثم يتوب ويعرف هذا الأمر ويحسن رأيه، أيعيد كلّ صلاة صلاها أو صوم أو زكاة أو حجّ؟ قال: «ليس عليه إعادة شيء من ذلك غير الزكاة، فإنه لابد أن يؤدّيها؛ لأنه وضع الزكاة في غير موضعها، وإنما موضعها أهل الولاية»( ).
ودلالة هذه الرواية أقوى من سابقتها؛ لأنها تستخدم أداة الحصر في مقام التعليل بأنه ليس هناك موضع للزكاة غير أهل الولاية، مضافاً الى تمامية سندها.
وعليه، فهذه المجموعة من النصوص فيها التام سنداً ودلالةً في إفادة الموضوع، ما لم يطرح شخص أنّ المراد بأهل الولاية تسليمها للحاكم الذي له الولاية، وهم أهل البيت فهم أهل الولاية على المسلمين، في مقابل صرفها وتسليمها للسلطان، وهذا الاحتمال وارد و إن كان ضعيفاً، لاسيما بقرينة سائر النصوص الآتية، وخاصّةً على القول بعدم وجوب تسليم الزكاة إلى الإمام في غير زمان بسط اليد لو طالب.
المجموعة الثانية: نصوص المنع عن إعطاء الزكاة لغير الشيعي
وردت بعض النصوص في المنع عن إعطاء الزكاة لغير الشيعة، وهي:
1ـ صحيحة إسماعيل بن سعد الأشعري، عن الرضا، قال: سألته عن الزكاة هل توضع فيمن لا يعرف؟ قال: «لا، ولا زكاة الفطرة»( ). وذلك أنّ المراد بمن لا يعرف هو ذاك الذي لا يعرف أمر الولاية والإمامة، فيكون الخبر دالاً على عدم إعطاء الزكاة لغير الشيعي.
لكن ثمّة احتمال في أن يكون المراد هنا من لا يعرف الدافعُ حالَه وأنّه مستحقّ للزكاة أم لا، وإن كان الاحتمال الأقرب هو المعنى الأوّل.
2ـ صحيحة علي بن سويد، عن أبي الحسن موسى الكاظم ـ في أجوبته لمسائل علي بن سويد ـ. ومما جاء فيها: «… وسألت عن الزكاة فيهم، فما كان من الزكاة فأنتم أحقّ به؛ لأنّا قد أحللنا ذلك لكم من كان منكم وأين كان..»( ).
فالرواية كأنها تصرف عن وضع الزكاة في غير أهل الولاية، وتجعلها لأهل الولاية خاصّة.
لكن ثمّة احتمالات في تفسير هذه الرواية، وهي:
الاحتمال الأول: أنّ المراد جواز الشراء منهم والتعامل معهم وفي أموالهم الزكاة، فيكون ذلك بمثابة نصوص التحليل الواردة في باب الخمس( ). وبناءً عليه فيكون معنى كلمة «فيهم» أي الزكاة التي ما تزال موجودةً في أموالهم؛ وكأنّ الإمام باعتباره وليّاً على المال العام يحلّل للشيعة هذه الأموال الزكوية ضمن مجموع المال الموجود في السوق؛ لأنّ الشيعي أحقّ به من غيره، فأن يصل إليه هذا المال أفضل من أن يبقى عند الآخرين.
لكنّ هذا الاحتمال الذي طرحه المازندراني يبدو لي ضعيفاً؛ فإنّه لا يصحّ التعبير بكلمة «فيهم» للإشارة إلى المال الزكوي الموجود بين أموالهم؛ اذ يبدو التعبير ركيكاً لو أريد هذا المعنى، كما أنه لا معنى لكلمة «أنتم أحقّ به»؛ إذ ظاهرها أنّ شيئاً ما سيكون الشيعي أحقّ به من غيره، ولو فرضنا أنّ الحديث عن المال عبر حركة التجارة والمعاملات، لم يكن معنى للأحقيّة؛ لأنّ المفروض أنه دفع في مقابله شيئاً كما تستدعيه التجارة، فهو مازال متساوي النسبة إلى الطرفين، بل ظاهر أحقّ أنّكم أولى به، مع أنّ الطرف الآخر قد أخذه وباعه لكم وأخذ مقابله، فما زال هو المستفيد الأوّل منه.
إلا إذا قيل بأنّ جملة «أحقّ به» إشارة إلى مبدأ أولوية الشيعي على غيره في هذا المال من حيث الأصل؛ فإذا وصل هذا المال إلى الشيعي ولو عبر التجارات جاز له التصرّف به لكونه أحقّ به من حيث المبدأ.
الاحتمال الثاني: ما ذكره المازندراني أيضاً، من أنّ المراد أنهم لو أخذوا الزكاة منّا فهل يجب علينا إعادة إخراجها مرّةً أخرى أم لا؟
وهذا الاحتمال بعيد أيضاً؛ لأنه غير منسجم مع التعليل بالتحليل الصادر من الأئمة؛ فإنه لو أراد عدم وجوب إعادة دفع الزكاة مرّةً ثانية، لكان من الأنسب التعليل بأننا أسقطنا عنكم هذه الفريضة وأحللنا مالها لكم، ولم يكن معنى للحديث عن أنّكم أحقّ بها لأننا أحللناها لكم؛ لأنّ دفع الزكاة لا يجعل غير الشيعي أحقّ، حيث كان يمكن للإمام أن يلزمهم بالدفع مرّةً ثانية غايته مع صرفه في الشيعة أنفسهم بعد أن أخذ السلطان المال.
الاحتمال الثالث: أن يكون المراد إخراج الزكاة وصرفها في غير الإمامي، وهنا يجيب الإمام بأنكم أحقّ بذلك منهم، ويعلّل هذا الأمر بأنّ الزكاة كان يجب أن تسلّموها لنا؛ لأنها لمنصب الإمامة، لكن نحن حلّلنا لكم أخذها، لا بمعنى سقوط وجوب دفعها، بل بمعنى جواز أخذ الشيعي المستحقّ لها بلا حاجة للإمام بعد التحليل.
وبناءً على هذا الاحتمال يتمّ الاستدلال بهذه الرواية على المطلوب هنا، لاسيما وأنّ ظاهر «الجمع» في صيغة التحليل يفيد أنّ عملية التحليل هذه كأنها أمرٌ صادر عن جملة أهل البيت قبل مجيء مرحلة استلامهم للسلطة، فيدلّ على استمرارية هذا التحليل، وإلا فلو كان هذا التحليل خاصّاً بالإمام الكاظم لكان بحاجة إلى إجازة الأئمة اللاحقين.
ويبدو لي الاحتمال الثالث أوفر الاحتمالات حظاً؛ لكنّه لا يفيد اختصاص مصرف الزكاة بغير الشيعي من حيث المبدأ في الشريعة؛ إذ المبدأ فيها هو تسليم الزكاة للحاكم والدولة لتصرفها في مصارفها، وإنما اتجهت الأمور نحو تخصيص الإمامي بالزكاة لأجل التحليل الصادر من الأئمة للشيعة دون غيرهم وهذا الاختصاص بعنوان ثانوي لا أوّلي. وثمرته أننا لو قلنا مثلاً بالولاية العامّة للفقيه أو للدولة كان لها في عصر الغيبة توسعة مصرف الزكاة إلى الحالة الأولى؛ لأنّ التعليل بأمر عارض ـ وهو التحليل ـ كاشف عن عدم وجود مانع بالعنوان الأوّلي.
وهذا الحديث له طرق ثلاثة تنتهي إلى علي بن سويد، والأول منها ضعيف بسهل بن زياد، فيما الثاني ضعيف بحمزة بن بزيع، أما الثالث فهو صحيحٌ معتبر.
3ـ صحيحة ضريس، قال: سأل المدائني أبا جعفر×، قال: إنّا لنا زكاة نخرجها من أموالنا ففيمن نضعها؟ فقال: «في أهل ولايتك»، فقال: إنّي في بلاد وليس فيها أحد من أوليائك؟ فقال: «ابعث بها إلى بلدهم تدفع إليهم، ولا تدفعها إلى قوم إن دعوتهم غداً إلى أمرك لم يجيبوك، وكان والله الذبح (أربح)»( ).
فهذا الخبر يفيد حصر دفع الزكاة في أهل الولاية دون غيرهم حتى لو استلزم ذلك نقل الزكاة من بلد إلى بلد آخر، ويبدو من تعليل الإمام أنّ هؤلاء لو أحسنت إليهم ودفعت لهم لم يسعفوك في لحظات الشدّة بل تركوك تذبح بلا ناصر ولا معين، من هنا فالمتعيّن دفعها إلى أهل مذهبك ليعين بعضكم بعضاً ويشتدّ عودكم.
إلا أن يقال بأنّ التعليل أخصّ من الفرضيّة التي نبحث عنها؛ فلو توفر أهل مذهب آخر يناصرون الشيعة ويقفون معهم في لحظات الشدّة فربما لا يكون هناك مجال للاستناد إلى هذا الخبر.
4ـ خبر علي بن بلال، قال: كتبت إليه أسأله: هل يجوز أن أدفع زكاة المال والصدقة إلى محتاج غير أصحابي؟ فكتب: «لا تعط الصدقة والزكاة إلا لأصحابك»( ).
والخبر ظاهر في أنّ الزكاة لا تعطى إلا للأصحاب، وهو تعبير يراد منه أهل المذهب الواحد، والرواية مضمرة فحجيّتها مبنيّة على حجية المضمرات، ونحن نقول بحجية المضمر لو كان أكثر ما عند الراوي هو عن الإمام لا مطلقاً، بل إنّ طريق الطوسي إلى محمد بن الحسن الصفّار ضعيف عندنا، بكلّ من أحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد وابن أبي جيد.
5ـ خبر عمر بن يزيد، قال: سألته عن الصدقة على النصّاب وعلى الزيدية؟ قال: «لا تصدّق عليهم بشيء، ولا تسقهم من الماء إن استطعت، وقال: الزيدية هم النصّاب»( ).
وهي واضحة وصريحة في النهي الشديد عن مطلق تقديم العون لهم ولو بقدر شربة ماء، وهي تنهى عن مطلق الصدقة عليهم بمختلف أشكالها؛ لأنّ تعبير «لا تسقهم من الماء» ظاهرٌ في مختلف أشكال المعونة.
وقد حاول المحقّق الأردبيلي تفسير الرواية بأنها تريد أن تتحدّث عن خصوص النصّاب من الزيدية لا مطلق الزيدية( )، واحتمل الشيخ المنتظري أنّها خاصّة ببعض الزيدية في ذلك العصر فتكون تاريخيةً، معبّراً بكثرة ورود الأحاديث الموسميّة (التاريخية) في الروايات( )، ويبدو لي أنّهما فعلا ذلك استثقالاً من الحكم بنصب مطلق الزيدية وهم المعروفون بمحبّة أهل البيت، إلا أنّ ظاهر الحديث هو الإطلاق، فإما أن يطرح لمخالفته للواقع، أو يصار إلى فهمه بأنه يقوم بممارسة اعتبار تشريعي بتنزيل مطلق الزيدية منزلة النواصب، والحمل الذي طرحه الشيخ المنتظري يحتاج إلى دليل أو لا أقلّ قرينة تاريخية، ولم نعثر عليها.
هذا، والخبر مضمر، مضافاً إلى ورود محمد بن عمر في السند، وهو مردّد بين عدّة أشخاص، وإن كان الأقرب أنه محمد بن عمر بن يزيد، فيكون مجهولاً أو بحكم المجهول فالرواية ضعيفة السند، لاسيما وأنّ طريق الطوسي إلى محمد بن الحسن الصفار غير معتبر عندنا.
6 ـ خبر عبد الله بن أبي يعفور، قال: قلت لأبي عبد الله×: جعلت فداك، ما تقول في الزكاة، لمن هي؟ قال: فقال: «هي لأصحابك، قال: قلت: فإن فضل عنهم؟ فقال: «فأعد عليهم»، قال: قلت: فإن فضل عنهم؟ قال: «فأعد عليهم»، قال: قلت: فإن فضل عنهم؟ قال: فأعد عليهم، قال: قلت: فيعطى السؤّال منها شيئاً؟ قال: فقال: «لا والله إلا التراب، إلا أن ترحمه، فإن رحمته فأعطه كسرة»، ثم أومأ بيده فوضع إبهامه على أصول أصابعه( ).
وهي ظاهرة أيضاً في وقف الزكاة على الأصحاب حتى لو فضل عنهم زيدوا ولا يعطى غيرهم ولو كانوا فقراء، وقد فهم المحقّق النراقي من مقطعها الأخير أنّ السؤّال من المخالفين، وجعل لذلك قرينتين: إحداهما سياق الكلام في الرواية، وثانيهما كراهة ردّ غيرهم من السؤّال بمقتضى قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ﴾ (الضحى:10) ( ).
ويمكن التعليق على كلامه بأنه لا يوجد مانع من أن يكون ابن أبي يعفور بصدد توجيه عدد من الأسئلة للإمام الصادق، فكان أوّلها حول دفع الزكاة للمخالفين له في المذهب، وثانيها حول دفعها للسؤّال، فليس المقام قرينة على أنّ المراد من السؤّال خصوص المخالفين منهم.
وأما القرينة الثانية التي ذكرها فهي غير واضحة؛ إذ لو كانت الآية الكريمة مطلقة، فكما يمكن أن تخصّصها الرواية في المخالفين كذلك يمكن أن تخصّصها بمطلق السائل في مورد الزكاة، فإنّ الزكاة أخصّ من عنوان الآية الكريمة، فلا يصلح ذلك قرينةً، هذا مضافاً إلى أنّ الآية أجنبية عن الموضوع؛ لأنها في نهر السائل، وعدمُ إعطائه لا يساوق نهره مطلقاً.
وعلى أية حال، فالرواية ضعيفة السند بضعف طريق الطوسي إلى محمد بن الحسن الصفار.
7ـ خبر يعقوب بن شعيب الحداد، عن العبد الصالح×، قال: قلت له: الرجل منّا يكون في أرض منقطعة كيف يصنع بزكاة ماله؟ قال: «يضعها في إخوانه وأهل ولايته»، فقلت: فإن لم يحضره منهم فيها أحد؟ قال: «يبعث بها إليهم»، فقلت: فإن لم يجد من يحملها إليهم؟ قال: «يدفعها إلى من لا ينصب»، قلت: فغيرهم؟ قال: «ما لغيرهم إلا الحجر»( ).
فهذه الرواية تفرض دفع الزكاة إلى الشيعة حتى في الحالات الصعبة التي لا يسهل الوصول فيها للشيعي، لكنّها تسمح بإعطاء غير الشيعي عند فقدان الشيعي، شرط عدم النصب.
نعم، هذا الحديث يعارض روايات أخر ـ كخبر الأوسي القادم ـ دلّت على لزوم حبس الزكاة مع فقدان الشيعي وعدم جواز إعطائها لغيره ولو لم يكن ناصبياً. وعلى أية حال فالسند ضعيف، لا أقلّ بيعقوب بن شعيب الحداد، فهو رجل مهمل جداً عند الشيعة والسنّة، بل يبدو أنه ليست له في مصادر الحديث إلا هذه الرواية.
8 ـ خبر إبراهيم الأوسي، عن الرضا×، قال: «سمعت أبي يقول: كنت عند أبي يوماً فأتاه رجل، فقال: إني رجل من أهل الريّ ولي زكاة، فإلى من أدفعها؟ قال: إلينا، قال: أليست الصدقة محرّمة عليكم؟ فقال: بلى، إذا دفعتها إلى شيعتنا فقد دفعتها إلينا، فقال: إني لا أعرف لها أحداً، فقال: انتظر بها إلى سنة، قال: فإن لم أصب لها أحداً. قال: فانتظر بها إلى سنتين، حتى بلغ أربع سنين، ثم قال له: إن لم تصب لها أحداً فصرّها صراراً (صرراً) واطرحها في البحر؛ فإنّ الله عز وجلّ حرّم أموالنا وأموال شيعتنا على عدوّنا»( ).
وقد يتعرّض هذا الحديث للنقاش من جهات:
أولاً: إنه ضعيف السند بالإرسال، مضافاً لجهالة محمد بن جمهور وإبراهيم الأوسي و..
ثانياً: ما ذكره الشيخ مرتضى الحائري، من أنّ نقل الإمام الرضا عن والده عن جدّه أمراً يقع على خلاف التقية دون أن يكون ـ كما يظهر من مطلع الرواية ـ قد سئل عنه، يبدو بعيداً، وإبراهيم الأوسي لو كان من الشيعة المقرّبين لشاع خبره، وليس كذلك( ).
إلا أنّ هذه المناقشة قابلة للجواب، فإنّ جهلنا بحال الأوسي لا يعني عدم كونه شيعياً خالصاً، فإما أن نقول بجهالته فيضعف السند، أو نجعل الرواية كاشفاً عن تشيّعه على تقدير صدورها، وليس من الضروري أن يشتهر أمر كلّ شيعي مخلص يمكن اطّلاعه على مثل هذا الحكم، لاسيما في عصر الرضا الذي كانت الأمور فيه أكثر فسحةّ له× من مثل عصر الإمام الكاظم، ولا معنى لفرض أنّ الإمام لا يبيّن ما كان على خلاف التقيّة ابتداءً فإنّه إذا كان المخاطب لا تقية من طرفه فأيّ مانع أن يبيّن الإمام له مطلباً جديداً لم يسأل عنه؟!
ثالثاً: ما ذكره الحائري أيضاً بوصفه نقداً للمتن، وهو أنه لو أجابه الإمام من الأول بأنّ الدفع يكون لشيعتنا لكان أخصر، بلا حاجة إلى التطويل بأنّه لنا ثم شرح أنّ الشيعة لو دفعت لهم فقد دفعت إلينا، كما أنّ الرواية فرضت عدم العثور على المستحقّ خلال أربع سنوات، وهو بعيد جداً، لاسيما مع إمكان الصرف على المساجد والقناطر وسبل الخير، بل أيّ معنى لجعلها صرراً لو أريد إلقاؤها في البحر فلتلقى على أيّ حال، بل الإلقاء في البحر تبذيرٌ للمال فليصرفه على نفسه أو على أغنياء المؤمنين، الأمر الذي يورث القطع بعدم صدور هذا الحديث، لاسيما مع تحريم أموالهم وأموال الشيعة على عدوّهم، مما يعني حرمة إعطاء غير الشيعي حتى من غير الخمس والزكاة( ).
وهذه الملاحظات التي ذكرها، بعضها معقول جداً، مثل جعلها صرراً (إلا على التعبّد أو لكي لا تصل لأحد) أو أصل إلقائها في البحر، أما بعضها الآخر فيمكن النقاش فيه، فالإمام أراد بيان المبالغة في أنّ مال الشيعة هو لأهل البيت، وكأنّ الاعتداء على مال الشيعة اعتداء على أموال أهل البيت، وهي مبالغة معقولة لتعظيم أمر أموال الشيعة وحرمتها، وقضية التطويل والاختصار ليس فيها قانون موحّد في اللغة والعرف حتى يكون الاختصار مقدّماً دائماً على التطويل كما هي طريقة بعض المتون الفقهية والأصولية.
وأما فرضنا السنوات الأربع، فهو مجرّد فرض، ولم يقل إبراهيم الأوسي أنه قد حصل معه، بقدر ما يريد التأكيد على أنّ التأخير لسنوات طوال لو فرض لا يغيّر من واقع الحكم الذي قام على الإصرار شيئاً. وأما قضية الصرف على المساجد والمصالح المدنية العامّة فقد يدّعي من يريد الإصرار هنا بأنّ هذه المساجد والمصالح لو كانت للشيعة وفي مدنهم وقراهم لكان معنى ذلك الوصول إليهم، فلابد من فرض أنّه لم تبق من المصالح العامة إلا ما ينتفع به غير الشيعة في الغالب، والرواية التي تصرّ على رمي المال في البحر تنسجم مع الإصرار على عدم نفع غير الشيعة من المال مطلقاً حتى بالصرف على المصالح العامّة الراجعة إليهم، فالذوق هناك ينسجم مع الذوق هنا.
وأما مسألة تحريم أموال الشيعة على عدوّهم، فالظاهر الانصراف إلى الأموال العامّة، لا المال الشخصي الذي يحقّ للشيعي أن يتصرّف به كيف يشاء، والسياق يساعد على هذا الأمر.
فأقوى أوجه النقد المتني هنا هو الحكم برميها في البحر بدل صرفها على نفسه ومن يعوله ومن يعرفه من المؤمنين ولو لم يكونوا فقراء، فإنّ ذلك ينافي الذوق الشرعي وروح الشريعة والمقاصد الدينية العليا بل المنطق السليم والعقلائي الصافي. إلا إذا دخلت الذهنيات التعبّدية في المقام.
رابعاً: ما أجده النقد المتني الأفضل مع ما تقدّم، وهو أنّه هل يعقل أنّ شخصاً من أهل الريّ في عصر الإمام الصادق لا يعرف أحداً من الشيعة، والأشعريون كانوا في قم منذ ذلك الزمن على ما يبدو؟! فلماذا لم يرشده الإمام الصادق الذي له صلاته بالموالين إلى بعض الشيعة هنا وهناك ليصرفها فيهم أو يرشده إلى وكلائه لو كانوا، ولماذا لم يطالبه بنقلها إلى بلد آخر ـ مثل ما فعلت صحيحة ضريس ـ والسؤال بل اكتفى بالانتظار؟ وقد طلب منه الرمي في البحر مع أنّ البحر غير قريب على منطقة الريّ (جنوب طهران حالياً) الأمر الذي يستبطن النقل؟ ثم لماذا لم يطلب منه إرسالها إليه شخصيّاً ضمن طريقة تحفظ وضعها والحالة نادرة لا تستدعي كثرةً في الحصول حتى نفرض خوف الإمام من وصول هذه الأموال إليه، علماً أنه كانت تصله أموال الخمس؟
والغريب أنّ الشيخ المنتظري بدل أن يشكل بما ذكرناه جعل الرواية من تعليق المحال على المحال؛ لكثرة وجود الشيعة آنذاك( )، فلو صحّ ذلك فلماذا لم يشر له الإمام إلى سبيل ميداني، وذكر له جواباً مبنيّاً على محالات. وعليه، فهذه الرواية غير تامّة.
9ـ خبر زرارة ومحمد بن مسلم، عن أبي جعفر وأبي عبد الله، أنّهما قالا: «الزكاة لأهل الولاية، قد بيّن الله لكم موضعها في كتابه»( ).
والرواية واضحة الدلالة على تبيين أنّ الزكاة لأهل الولاية، وقد حاول الشيخ النجفي تفسير الجملة الأخيرة من الرواية بأنّه لعلّ المراد آية النهي عن موادّة من حادّ الله ورسوله وما شابهها، فيكون الكتاب والسنّة دالّين على شرط الإيمان حينئذ( ).
ولكنّ هذا التفسير لا يعطي هذه النتيجة؛ لأنّ المخالفين للمذهب الإمامي ليسوا جميعاً ممّن حادّ الله ورسوله ولا حتى غالبيّتهم فإنهم لو نصبوا العداء ينصبونه لأهل البيت لا للرسول أو لله تعالى، فلا يكون القرآن دالاً على ما ذكره النجفي، إلا بضربٍ من الحكومة في الروايات نفسها، بأن تكون هذه الروايات وغيرها قد جعلت غير الموالي ممن حادّ الله تعبّداً، أما حقيقةً فهذا غير صحيح.
أضف إلى ذلك أننا راجعنا القرآن الكريم فوجدنا أنّ مصارف الزكاة لا إشارة فيها لأهل الولاية، بل رأينا أنّ الزكاة تصرف حتى لمنافقي عصر الرسول الذين يعلم معاداتهم لله ورسوله، فكيف تشير الرواية إلى أنّ الله قد بيّن موضعها في كتابه؟ إلا إذا كانت هذه الرواية من أخبار تحريف القرآن الكريم.
من هنا يحتمل تفسير هذه الرواية بأن يكون المراد بالولاية فيها التشيع أو البلد؛ أخذاً له من معنى القرب، فتريد الرواية أن تقول: إنّ الزكاة لأهل منطقتك، وقد بيّن الله لك موضعها في القرآن، فلا يكون بيان الموضع بياناً لكونها لأهل البلد، بل تريد الرواية أن تقول: إنّ الله حدّد لك مصارفها فاصرفها فيهم من أهل بلدك ومنطقتك ولا تنفقها على غيرهم، كما يحتمل أن يراد منها أهل البيت خاصّة.
وعلى أية حال، فسند هذه الرواية ضعيف بضعف الطريق إلى علي بن الحسن فيه، بجهالة علي بن محمّد بن الزبير. فالرواية محلّ نظر سنداً ومتناً.
10ـ خبر الفضل بن شاذان في كتاب الإمام الرضا× إلى المأمون العباسي، ومما جاء فيه: «.. ولا يجوز أن يعطي الزكاة غير أهل الولاية المعروفين.. وزكاة الفطر فريضة.. ولا يجوز دفعها إلا إلى أهل الولاية..»( ). وهي صريحة في عدم جواز إعطاء الزكاة لغير أهل الولاية.
وعنصر الغرابة في هذه الرواية أنّها كتاب إلى المأمون العباسي نفسه وهو غير شيعي على المعروف، ومع ذلك فإنّ الإمام يقول له بكلّ وضوح بأنّ الزكاة لا تعطى إلا لأهل الولاية، ومعنى ذلك أنها لا تعطى لمثلك ولبني العباس ولأمثالهم، الأمر الذي يناقض فرضيات التقيّة المتقدّمة وغيرها في مثل عصر الإمام الرضا أو يكشف عن ضعفها وبطلانها، ما لم نفسّر الولاية في هذه النصوص كلّها بمعنى المحبّة فتشمل السنّة المحبّين لأهل البيت ولو لم يكونوا معتقدين بإمامتهم بالمعنى الموجود عند الشيعة، أو يكون المراد هو الحاكم الشرعي فهو صاحب الولاية.
يضاف إلى ذلك، ماذا يراد من قيد «المعروفين»؟ هل يراد إنه لا يكفي مطلق أهل الولاية إلا أن يكونوا معروفين بتشيّعهم بين الناس، وهذا يوجب تقييد جميع الروايات الواردة في هذا الباب، أم يراد جعل المعروفيّة سبيلاً لإثبات أنّه من أهل الولاية بمعنى لزوم إحراز مصرفها إحرازاً تاماً؟
هذا من حيث الدلالة، أما من حيث السند فقد وصفها بعضهم بأنّ سندها لا بأس به( )، وهذا غير صحيح، بل هو ضعيف بابن عبدوس، وجعفر بن نعيم بن شاذان، وقنبر بن علي بن شاذان، على أنني لا أدري كيف وصلت نسخة الكتاب الذي أرسله الرضا للمأمون.. كيف وصلت إلى الفضل بن شاذان؟ إلا إذا كان هو واسطة النقل فاستنسخها أو غير ذلك.
11ـ ماجاء في التفسير المنسوب للإمام العسكري، لدى تفسير قوله تعالى: وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ : «.. وآتوا الزكاة مستحقّها ولا تؤتوها كافراً (ولا منافقاً) ولا ناصباً (ولا مناصباً)، قال رسول الله: المتصدّق على أعدائنا كالسارق في حرم الله»( ).
والخبر ضعيف السند؛ بعدم ثبوت نسبة هذا التفسير للعسكري كما تعرّضنا له في موضعه( )، على أنّه خاصّ بالنواصب، فلا يشرط الإيمان وإنما يجعل النصب مانعاً، كما أنّه يمنع إعطاءَها للمنافق، فيما رسول الله ـ بصريح القرآن ـ أعطاها له، إلا بناءً على التمييز بين وظيفة الحاكم ووظيفة الفرد المزكّي، كما ذهب إليه الشيخ المنتظري( )، وسيأتي تحليله إن شاء الله.
12ـ خبر علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر×، قال: وسألته عن الزكاة هل هي لأهل الولاية؟ قال: «قد بيّن ذلك لكم في طائفة من الكتاب»( ).
والإمام لا يجيب عن السؤال بل يحيل إلى القرآن الكريم، فإما يريد بيان جواز صرفها في غيرهم فأحال على آية الزكاة والخمس وإطلاقات الصدقة والنفقة أو يريد عدم جواز صرفها في غيرهم، فينظر إلى مثل آيات النهي عن مودّة من حادّ الله ورسوله كما فهمه المحقّق النجفي، ومعه فتكون مجملةً.
والخبر ضعيف السند بعبد الله بن الحسن، فهو مجهول الحال.
وبهذا يظهر أنّ هناك بعض الروايات الدالّة هنا والتامّة سنداً مؤيّدةً بجملة روايات ضعيفة السند.
المجموعة الثالثة: نصوص المنع عن إعطاء فرق أو اتجاهات مذهبيّة بعينها
وردت بعض الروايات التي تنهى عن إعطاء الزكاة لاتجاهات مذهبية أو فرقية معيّنة، وهي تجعل هذه الاتجاهات مانعاً لا الولاية شرطاً، وأهمّها:
1ـ خبر عبد السلام بن صالح الهروي، عن الرضا× قال: «من قال بالجبر فلا تعطوه من الزكاة شيئاً، ولا تقبلوا له شهادةً أبداً..»( ).
وهي غير شاملة لمطلق غير الشيعي، حيث هي خاصّة بالقائلين بالجبر فتشمل الشيعي لو قال بالجبر، بناءً على بقائه بهذا القول على التشيّع.
والرواية ضعيفة السند بجهالة أحمد بن علي الأنصاري على الأقلّ.
2ـ مرسل الحسن بن العباس بن الحريش، عن الطيب ـ يعني علي بن محمد ـ وعن أبي جعفر×، أنهما قالا: «من قال بالجسم فلا تعطوه من الزكاة ولا تصلّوا وراءه»( ).
والخبر خاصّ بالمجسّمة على منوال الخبر السابق، وهو ضعيف السند بالإرسال.
3ـ خبر عبد الملك بن هشام الحناط، قال: قلت لأبي الحسن الرضا×:.. فنعطي الزكاة من خالف هشاماً (يقصد هشام بن سالم)؟ فقال برأسه: «لا»( ).
وهي ضعيفة السند، لا أقلّ بجهالة أشكيب بن عبدك الكسائي (الكيساني) الوارد في سندها.
4ـ خبر يونس (يوسف) بن يعقوب، قال: قلت لأبي الحسن الرضا×: أعطي هؤلاء الذين يزعمون أنّ أباك حيّ من الزكاة شيئاً؟ قال: «لا تعطهم؛ فإنهم كفّار مشركون زنادقة»( ).
والخبر ضعيف السند بجبريل بن أحمد وسهل بن زياد على الأقلّ، علماً أنّ وصفهم بالمشركين والكفّار غريب، فهل مجرّد قولهم بعدم إمامة الرضا يجعلهم مشركين بالله تعالى؟! إذا أريد توسعة مفهوم الشرك لكلّ من لا يعتقد بالإمامة ولو لواحدٍ من أهل البيت^.
وبهذا يظهر أنّ نصوص هذه المجموعة خاصّة من جهة، وكلّها ضعيفة السند من جهة أخرى.
المجموعة الرابعة: نصوص المنع من إعطاء الزكاة للأقارب غير المؤمنين
وردت بعض النصوص التي تمنع عن إعطاء الإنسان زكاة ماله إلى أقاربه إذا لم يكونوا مؤمنين عارفين بأمر الولاية والإمامة، وهذه النصوص هي:
1ـ خبر أبي بصير، قال: سأله رجل وأنا أسمع، قال: أعطي قرابتي زكاة مالي وهم لا يعرفون؟ قال: فقال: «لا تعط الزكاة إلا مسلماً، وأعطهم من غير ذلك»، ثم قال أبو عبد الله×: «أترون أنّما في المال الزكاة وحدها؟ ما فرض الله في المال من غير الزكاة أكثر تعطى (ممّا تعطي) منه القرابة والمعترض لك ممّن يسألك فتعطيه ما لم تعرفه بالنصب، فإذا عرفته بالنصب فلا تعطه، إلا أن تخاف لسانه فتشتري دينك وعرضك منه»( ).
والرواية واضحة في عدم إعطاء الزكاة لمن لا يعرف حتى لوكانوا أقارب، لكنّها تفيد إمكانية إعطاء غير الزكاة لغير الناصب. لكنّ في السند المثنى، وهو مردّد بين الثقة وغيره، علماً أنّها توحي بكفر المخالف في المذهب، وهو معارض لأدلّة إسلامه المحقّقة في محلّه.
2ـ صحيحة أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد الله×: الرجل يكون له الزكاة وله قرابة محتاجون غير عارفين، أيعطيهم من الزكاة؟ فقال: «لا، ولا كرامة، لا يجعل الزكاة وقايةً لماله، يعطيهم من غير الزكاة إن أراد»( ).
والحديث يفرض القرابة محتاجةً، ولكن لما كانوا غير عارفين لم يجز إعطاؤهم الزكاة، ولكنّها تجيز إعطاءهم من غير مال الزكاة.
3ـ صحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر، قال: سألت الرضا× عن رجل له قرابة وموالي وأتباع يحبّون أمير المؤمنين صلوات الله عليه، وليس يعرفون صاحب هذا الأمر، أيعطيهم من الزكاة؟ قال: «لا»( ).
وهي واضحة في المنع عن دفع الزكاة حتى مع محبّة علي بن أبي طالب، غايته لا يعرفون إمام زمانهم دون أن يكونوا نواصب.
وعليه فهذه المجموعة ـ ومنها الصحيح سنداً ودلالةً ـ تفيد المنع عن إعطاء الزكاة للقرابة غير الموالين، وتفيد بعض النصوص جواز إعطائهم من غير الزكاة ما لم يكونوا نواصب.
المجموعة الخامسة: نصوص إعطاء الزكاة لأطفال المؤمنين
وردت بعض النصوص التي تفيد إعطاء الزكاة لأطفال المؤمن إلى أن يبلغوا، فإن عرفوا ما عرف أبوهم أعطوا وإلا فلا، وهي:
1ـ خبر أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد الله×: الرجل يموت ويترك العيال أيعطون من الزكاة؟ قال: «نعم، حتى ينشوا ويبلغوا ويسألوا من أين كانوا يعيشون إذا قطع ذلك عنهم»، فقلت: إنهم لا يعرفون؟ قال: «يحفظ فيهم ميّتهم ويحبّب إليهم دين أبيهم، فلا يلبثوا أن يهتمّوا بدين أبيهم، فإذا بلغوا وعدلوا إلى غيركم فلا تعطوهم»( ).
وهي تفيد أنّ إعطاءهم قبل البلوغ كان إلحاقاً لهم بأبيهم المؤمن، أما بعد البلوغ فيكون إعطاؤهم حفظاً لمكانة أبيهم، لكن مع تعريفهم والسعي لجذبهم، فإن عدلوا إلى غير المذهب الشيعي لم يعطوا حينئذ، فيكون الاعتقاد بخلاف التشيّع مانعاً في حقّهم، لا أنّ التشيع شرطٌ، خلافاً لما أفاده الشيخ الأنصاري( ).
والرواية صحيحة السند على المشهور، وفي الطريق إبراهيم بن هاشم.
2ـ خبر أبي خديجة، عن أبي عبد الله×، قال: «ذرّية الرجل المسلم إذا مات يعطون من الزكاة والفطرة، كما كان يعطى أبوهم حتى يبلغوا، فإذا بلغوا وعرفوا ما كان أبوهم يعرف أعطوا، وإن نصبوا لم يعطوا»( ).
وهذه الرواية لابدّ أن تطبّق على مورد بحثنا من خلال قرينتين: التعبير بـ عرفوا الذي يفهم منه التشيّع في نصوص الحديث الشيعية، ومقابله التعبير بـ نصبوا الظاهر في النصب والمعارضة للتشيّع. وإلا فإذا رجع الإنسان للدلالة اللغوية للكلمتين: عرف ونصب، وأخذ مطلع الرواية بعين الاعتبار، وهو التعبير بـ «المسلم» دون المؤمن، فقد يفهم الإسلام مقابل معاداة الإسلام، فتشترط الإسلام في مستحقّ الزكاة على أبعد تقدير.
هذا، والرواية ضعيفة السند بجهالة معلى بن محمد.
هذه هي المجموعات التي يمكن أن تتضافر لتشكّل ـ بصرف النظر عمّا سيأتي ـ اطمئناناً بصدور هذا الحكم، وهناك بعض الروايات الأخر المساعدة أيضاً، بل بعض الروايات كأنّما يستشفّ منه مركوزية هذا الحكم في أذهان المتشرّعة.
المجموعة السادسة: نصوص إعطاء غير الشيعي في الجملة
ثمة نصوص تفيد إعطاء الزكاة لغير الشيعي في الجملة، وهي:
1ـ صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم، أنهما قالا لأبي عبد الله×: أرأيت قول الله عزوجلّ: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ، أكلّ هؤلاء يعطى وإن كان لا يعرف؟ فقال: «إنّ الإمام يعطي هؤلاء جميعاً؛ لأنّهم يقرّون له بالطاعة»، قال: قلت: فإن كانوا لا يعرفون؟ فقال: «يا زرارة، لوكان يعطي من يعرف دون من لا يعرف لم يوجد لها موضع، وإنما يعطي من لا يعرف ليرغب في الدين فيثبت عليه، فأما اليوم فلا تعطها أنت وأصحابك إلا من عرف، فمن وجدت من هؤلاء المسلمين عارفاً فأعطه دون الناس»، ثم قال: «سهم المؤلّفة قلوبهم وسهم الرقاب عام والباقي خاص»، قال: قلت: فإن لم يوجدوا؟ قال: «لا تكون فريضةٌ فرضها الله عز وجل لا يوجد لها أهل»، قال: قلت: فإن لم تسعهم الصدقات؟ فقال: «إنّ الله فرض للفقراء في مال الأغنياء ما يسعهم، ولو علم أنّ ذلك لا يسعهم لزادهم، إنهم لم يؤتوا من قبل فريضة الله، ولكن أتوا من منع من منعهم حقّهم، لا ممّا فرض الله، ولو أنّ الناس أدّوا حقوقهم لكانوا عائشين بخير»( ).
هذا الحديث يميّز بين حالة وجود الدولة التي يحكمها الإمام الحقّ، وهنا تعطى الزكاة للجميع، وبين حالة «اليوم» أي في عصر الإمام جعفر الصادق حيث طلب منهم تخصيصها بالشيعة، مما قد يفهم منه أنّ المنع عن إعطائها لغير الشيعي كان حكماً زمنياً «اليوم»، وإلا فالحالة الأصلية في الزكاة ـ وهي الفريضة الكبرى التي تجبى من قبل الدولة الإسلامية ـ أن تعطى للجميع، فإنّ في ذلك الترغيب في الدين.
وأصل فهم التوقيت في الحكم الثاني في هذه الرواية التفت إليه الشيخ المنتظري، لكنّه طبّقه على جواز صرف الزكاة دون إرجاعها للإمام، فيما الحكم الأولي هو تسليمها لإمام المسلمين( ).
وهناك بعض الوقفات مع هذه الرواية هنا، وهي:
أولاً: ما ذكره المحدّث البحراني، من أنّ صدر الرواية يفيد إعطاء الجميع من قبل الإمام المبسوط اليد والممسك بزمام السلطة؛ لأنهم مقرّون له بالإمامة الظاهرية، ولهذا عاجله زرارة بالسؤال عن إعطائهم مع عدم كونهم عارفين مصدّقين بقلوبهم وانما مقرّون ظاهرياً له، وهنا أجابه الإمام بأنه لو لم يعطهم لما تمّ إعطاء جميع الأسهم؛ لأنّ سهم المؤلّفة قلوبهم لن يكون قد صرف حينئذ، وهذا ما تشير إليه جملة: «وإنما يعطي من لا يعرف ليرغب في الدين»( ).
وهذا الكلام غير ظاهر هنا؛ وذلك:
أ ـ إنه منقوض بأنّ تشريع الإمام لهم الدفع لأصحابهم في عصره يلزم منه أيضاً فوات سهم المؤلّفة؛ إذ لم يشرح لنا المحدّث البحراني أين يذهب هذا السهم في عصر الإمامة غير الظاهرة؟ وكيف سيتمّ صرف هذا السهم، مع أنّ توجيهات الإمام أن يصرف الزكاة عليهم؟
ب ـ إنّ منهج استدلال المحدّث البحراني يقوم على الرأي القائل بوجوب صرف الزكاة على الأصناف الثمانية، وهو رأي غير صحيح بنحو اللزوم في كلّ زكاة، علماً أنّ سهم المؤلّفة قلوبهم يمكن صرفه على غير المسلمين أيضاً.
ثانياً: ما ذكره البحراني أيضاً، من أنه من المحتمل أن يراد من زمن الإمامة الظاهرة هو زمن الرسول، حيث كان الرسول يعطي على الإسلام لا الإيمان، ولهذا كان يعطي المنافقين والشكّاك، أما في عصر أهل البيت^ وحيث صارت الأمور واضحةً وارتفع الالتباس، لم يعد هناك معنى لإعطاء هؤلاء لتأليف قلوبهم، فصار لابد وأن تعطى للمؤمن الحقيقي المصدّق، وهذا معنى سقوط التأليف بعد الرسول( ).
وهذه المقولة تشابه مقولة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب فيما ينقل عنه حول سهم المؤلّفة، إلا أنها لو تمّت في عصرٍ هنا أو هناك لكنّها لا تتمّ على إطلاقها، فالمؤلّفة قلوبهم ربما يزول مصداق تأليفهم في زمنٍ ما لكنّه لا يزول بالمطلق؛ لأنّ الإسلام يحتاج إلى هذا السهم في مواقع ضعف الجماعة المسلمة هنا وهنا وفي هذا الزمن أو ذاك، وهذا معناه أنّ كلمة «اليوم» الواردة في الرواية لا تعني زمان الأئمة، أي ما قابل عصر الرسول، حتى تأخذ بُعداً إطلاقياً، وإنما العصر الخاصّ بالإمام الصادق وما يحيط به، ممّا يعزّز فرضية أنّ الحكم الوارد بعد كلمة «اليوم» هو حكم مرحلي لا أساسي.
يضاف إلى ذلك أنه لو كان هذا التمييز صحيحاً فلماذا جرى الحديث في المقطع الأوّل من الرواية عن الإمام وليس النبي، وقد كان بإمكان الرواية الحديث عن النبي|، علماً أنّ الرواية علّلت هناك بأنهم يدفع لهم لأنهم يقرّون له بالطاعة، فيدفع لهم ليرغبوا في الدين، وهي مسألة عامّة.
بل يمكن أن نضيف أيضاً بأنّ هذا المفهوم يناقض ما جاء في بعض الروايات من أنّ المؤلّفة قلوبهم لم يكونوا قطّ أكثر منهم اليوم، كما ورد في خبر زرارة عن الإمام الباقر×، وفي مرسل موسى بن بكر، وغيرهما.
ثالثاً: إنّ ظاهر الحديث أنّ هناك حالتين:
الحالة الأولى: أن تكون الحكومة لإمام الحقّ والعدل، وفي هذه الحال ستحوّل الزكوات إليه، ومن الطبيعي أنها لن تكون زكاة أموال الشيعة فقط، بل زكاة أموال المسلمين على اختلاف انتماءاتهم وعقائدهم.
وفي هذه الحال، حكمت الرواية بأنّ الإمام يعطي هؤلاء جميعاً، أي تمام أبناء المذاهب الإسلامية، وعلّلت ذلك بأنهم يقرّون له بالطاعة وغير باغين ولا متمرّدين على سلطانه، وهذا معناه أنه كلّما قامت الدولة الدينية الشرعية كان الحكم فيها هو صرف الحقوق المالية لجميع الناس دون تمييز مذهبي أو طائفي.
وفي سياق الحالة الأولى طرحت الرواية مفهومين:
الأول: إنّه لو أعطاها الإمام لخصوص الشيعة لم يعثر لها على موضع.
وهذا الكلام ليس لأجل أنّ الشيعة سيكونون أغنياء خارجين عن نطاق مصارف الزكاة، بل لأنّ فرض الإمامة الظاهرة هو ـ كما قلنا ـ فرض جلب الزكوات من جميع المسلمين، وهذا المقدار الضخم من الأموال الزكوية لو خصّصناه بالشيعة لفاض عن حاجتهم حيث الحالة الغالبة أنّهم أقلّية في المجتمع الإسلامي، لهذا سيبقى مقدار من الزكاة بلا موضع.
وهنا يأتي هذا الإشكال، وهو أنّ سهم سبيل الله بابه مفتوح ومتطلّباته كثيرة، حيث يغطّي مختلف أشكال الخدمات العامة التي تستوعب كلّ زكوات المسلمين في العادة، حيث يمكن للإمام به ـ ولو قديماً ـ شقّ الطرقات وبناء القناطر والجسور والمساجد والمشافي ودور العلم ودعم الجيش والقوات المسلّحة وسدّ نفقات الدولة وموظفيها ممّن يرتزقون من الإمام كالقضاة والمؤذّنين والمفتين وغيرهم، فلماذا لا يجد لها موضعاً لو لم يعطها لغير الإمامي؟ إلا بناءً على لزوم تقسيم الزكاة إلى مصارفها الثمانية بالتساوي مطلقاً، وهو بعيد بملاحظة الحالة النوعية لابن السبيل.
الثاني: إنّ الإمام إنما يعطي لترغيبهم في الدين، وهذا المفهوم لا يعني أنّ هناك حالات يمكن أن لا يعطيهم فيها الإمام، بل المراد أنّ عدم إعطائهم من الزكاة من طبيعته تنفيرهم نوعاً من الدين؛ لأنّ الدولة سوف تميّز حينئذٍ بين فقراء مذهبٍ معين دون آخر، وهذا ما سينفّر من الدين وسلطته الشرعيّة، لاسيما لو فهمنا من الدين خصوص المذهب الإمامي.
لكن مع ذلك، هذا المقطع يفيد أنهم ليس لهم حقّ في الزكاة، وأنهم إنما يعطيهم الإمام لأجل الترغيب بعد أن أقرّوا له بالطاعة، فلو كانت الزكاة حقاً لهم فلا حاجة لمفهوم الترغيب الذي يمثل عنواناً عارضاً مقارنةً بمفهوم الفقر والمسكنة و.. وهذا كلّه يدلّ على أنّ الزكاة ليست للجميع؛ لأنّ الحكم الثانوي هو الذي استدعى دفعها لغير الشيعي في زمن الإمامة الظاهرة، لا العكس، ولهذا قال له بعد ذلك بأنّه اليوم ـ حيث لا موضوع لهذا الحكم الثانوي ـ يجب إعطاؤها لخصوص الشيعة.
الحالة الثانية: أن لا يكون الإمام الحقّ مبسوط اليد، وفي هذه الحال حكمت الرواية بإعطاء الزكاة لخصوص الشيعي، في إشارة كاشفة عن الحكم الأوّلي، كما ألمحنا قبل قليل.
وبهذه الطريقة لا تكون الرواية دليلاً على إعطاء غير الشيعي، بل هي على العكس أدلّ، إلا في الدولة الشيعية. ويؤكّد هذا الكلام أنها صرّحت بعد ذلك بعموميّة خصوص سهمَي: الرقاب والمؤلّفة، مما يكشف عن أنّ هذا هو مقتضى القاعدة لا العكس.
رابعاً: إنّ الرواية تشتمل على تناقض، فتارةً تقول بأنّه ما من فريضة فرضها الله إلا ولها أهل، وأخرى تقول بأنّه لو لم يعطها للجميع في زمن الإمامة الظاهرة لما وجد لها موضعاً، فكيف يمكن الجمع بين المفهومين بعد أن بيّنا أنّ الأقرب في الدلالة أنّ الحديث عن زمن الإمامة الظاهرة كان بالعنوان الثانوي. إلا أن يقال بأنّه في الحالة الثانية لم يفرضها الله إلا بالعنوان الأولي للمؤلّفة.
وبهذا ظهر أنّ الاستدلال بهذه الرواية على إعطاء غير الشيعي غير تام، إلا بمقدار حالة قيام الدولة الدينية العادلة حيث يجب التسليم للجميع.
2ـ خبر الفضيل، عن أبي عبد الله×، قال: «كان جدّي رسول الله| يعطي فطرته الضعيف ومن لا يجد ومن لا يتولّى، قال: وقال أبوه×: هي لأهلها إلا أن لا تجدهم، فإن لم تجدهم فمن لا ينصب، ولا تنقل من أرض إلى أرض، وقال: الإمام (أعلم) يضعها حيث شاء ويصنع فيها ما يرى»( ).
فهذه الرواية تجيز ـ حيث لا يوجد شيعي ـ الصرف على السنّي من غير النواصب، وعدم جواز نقل الزكاة الى بلد آخر، كما أنها واضحة الدلالة على أنّ الزكاة بيد الإمام تتخذ وضعاً مختلفاً من حيث إنّ له وضعها حيث شاء.
لكنّ هذا الحديث خاصّ كما هو واضح بزكاة الفطرة، ولا يصلح تعميمه لغيرها، لكنه مع ذلك وصلاحيته لتخصيص إطلاقات الروايات المتقدّمة، يعارض بعضها، مثل صحيحة إسماعيل بن سعد الأشعري التي أوردناها في نصوص المجموعة الثانية، حيث صرّحت تلك بأنه لا يعطى من الزكاة غير الإمامي ولا من زكاة الفطرة، ومثله خبر الفضل بن شاذان (ح10، مج2).
ومع ذلك، يمكن جعل هذه الرواية هنا مخصّصةً لهاتين الروايتين، من حيث إنّ تلك مطلقةٌ لحال فقدان الشيعي في البلد بخلاف هذه، ومعه ترتفع هذه المعارضة. يضاف إلى ذلك ضعف سند هذا الحديث بطريق الطوسي في مشيختي التهذيب والاستبصار إلى ابن فضال.
3ـ خبر علي بن بلال، قال: كتبت إليه: هل يجوز أن يكون الرجل في بلدة ورجل آخر من إخوانه في بلدة أخرى يحتاج أن يدفع له الفطرة أم لا؟ فكتب: «يقسّم الفطرة على من حضرها، ولا يخرج ذلك إلى بلدة أخرى وإن لم يجد موافقاً»( ).
وحال هذه الرواية حال سابقتها في اختصاصها بزكاة الفطرة مع فرض فقدان الموافق في البلد، كما أنّها ضعيفة السند بطريق الطوسي إلى الصفار.
4ـ صحيحة علي بن يقطين، عن أبي الحسن الأول×، أنّه سأله عن زكاة الفطرة أيصلح أن يعطي الجيران والظؤورة ممن لا يعرف ولا ينصب؟ فقال: «لا بأس بذلك إذا كان محتاجاً»( ).
وهي تامّة السند وواضحة الدلالة على تخصيص الأدلّة السابقة في مورد زكاة الفطرة.
5ـ خبر مالك الجهني، قال: سألت أبا جعفر× عن زكاة الفطرة؟ قال: «تعطيها المسلمين، فإن لم تجد مسلماً فمستضعفاً، وأعط ذا قرابتك منها إن شئت»( ).
وهي واضحة ـ مثل صحيحة ابن يقطين ـ في جواز إعطاء مطلق المسلم أو الجار ولو مع وجود الإمامي، فتعارض ما دلّ على عدم الجواز إلا عند فقدان الإمامي، وتكون تلك مقيدةً لهذه لو قبلت هذه الرواية هنا التقييد والظاهر العكس. وهذا الخبر ضعيف السند بعدم ثبوت وثاقة مالك بن أعين الجهني.
إلى غيرها من الروايات، مثل خبر إسحاق بن عمار( ) وغيره.
والذي يفهم ـ بضمّ مجموعات الروايات إلى بعضها ـ أنه لا يجوز إعطاء الزكاة لغير الشيعي إلا زكاة الفطرة تعطى في البلد لمن لا ينصب عند فقدان الشيعي، وهذا في غير الإمام، أمّا الإمام فله التصرّف في الزكوات كيف يشاء مطلقاً، بل الأرجح صرفه لها على جميع المسلمين.
التحليل الإجمالي العام لمجموعات النصوص الحديثية (الرأي الراجح)
وبهذا ظهر وضوح موقف السنّة المروية عن أهل البيت^ في المنع عن إعطاء الزكاة لغير الشيعي، وعلينا القيام بتحليل إجمالي لهذه النصوص فنقول:
يمكن تفسير مجمل هذه النصوص بعدّة تفسيرات أبرزها:
التفسير الأوّل: أن يلتزم بأنّ الأصل لصالح النصوص المانعة، وأمّا ما أجاز ـ كما في حالة الحاكم الشرعي ـ فيكون لعنوان ثانوي حكومي، إمّا لرجوع مجمل هذه النصوص إلى عدم إسلام غير الشيعي؛ لأنه منكر للإمامة التي هي من أصول الدين، فلهذا لم يعط من الزكوات أبداً، فلا يكون فيها أيّ شيء خارج عن القاعدة( )، أو لرجوعها إلى أنّ إعطاء الزكاة موادّةٌ وإرفاق بالطرف الآخر، فلا تعطى لغير الشيعي؛ لأنّه حادّ الله ورسوله( )، أو غير ذلك.
وهذا الكلام غير صحيح؛ وذلك أولاً: لما بحثناه في محلّه من كفاية الشهادتين في تحقّق عنوان الإسلام وترتيب آثاره، وإنكار الإمامة ليس إنكاراً ملازماً بالضرورة لتكذيب النبي عندما لا يعرف المنكِر هذه الملازمة، وفاقاً للسيد الشهيد الصدر والإمام الخميني( ).
ثانياً: إنّه يُشكل جدّاً صدق محادّة الله ورسوله على المسلمين في العصور اللاحقة بالقدر المتيقّن، حيث غالبهم جاهلون قاصرون لا مقصّرون، ولو قصّروا بالمقدمات فهذا لا يعني صدق عنوان المحادّة، الذي يستبطن المعاداة والمواجهة.
ثالثاً: إنّ أصل افتراض أوّلية الحكم باشتراط الإيمان بالمعنى الأخص هنا لابدّ فيه من إبطال تمام الاحتمالات الأخرى في تفسير الموقف هنا، فإذا تمّت بطل هذا التفسير أو بطل تعيّنه، وإلا فهو متعيّن، وستأتي.
التفسير الثاني: يمكن تفسير المشهد هنا بما أسلفنا نقله عن الشيخ المنتظري، من أنّ هناك حالتين: حالة بسط الدولة الإسلامية سلطتها أو نفوذ سلطان الحاكم الشرعي، وحالة عدم ذلك، وبعبارة أخرى: وظيفة الفرد المزكّي ووظيفة الحاكم في تعامله مع المال الزكوي، ففي الحالة التي يراد تحديد وظيفة الفرد المزكّي وهي حالة عدم بسط الدولة الإسلامية نفوذها، سيكون الحكم الأوّلي عبارة عن اشتراط الإيمان في مستحقّ الزكاة، وأمّا في الحالة الثانية فإنّ الحاكم الشرعي له صلاحية التعامل مع المال الزكوي بصرفه حيثما يريد، فلا يؤخذ الإيمان شرطاً في المصرف من جهة الحاكم، وبهذا نجمع بين النصوص المختلفة.
وهذه الفرضية في التفسير يفترض أن يسبقها تحديد موقفنا من الولاية على المال الزكوي، فهل هذا المال داخلٌ في الأصل ضمن ولاية الحاكم وإنّما أعطيت صلاحية التصرّف فيه للفرد المزكّي إعطاءً ولائيّاً لا شرعيّاً، أم أنّ هذا المال لا ولاية للحاكم عليه، غاية الأمر أنّه لو بسط يده لزم تسليمه إليه أو لو أعطاه أحدٌ هذا المال صارت له ولاية عليه بهذا المقدار المعطى أو لو رأى مصلحةً في المطالبة أمكنه ذلك وكانت له الولاية؟
أعتقد أنّ المنسجم مع البنية الاجتهادية للشيخ المنتظري هو الخيار الأوّل؛ لأنّه يعتقد أنّ الضرائب الإسلاميّة تعبّر عن نظام حكومي ودولة قائمة، فمن المفترض به الانسجام مع هذا الخيار، وإذا قلنا بأنّ الزكاة في الأصل للحاكم وأنّ أهل البيت رخّصوا للشيعة في التصرّف في إخراجها فسيكون الحكم المتصل بالمزكّي حكماً ثانويّاً يفيد التقييد في الولاية التي أعطيت للمزكّي من قبل الحاكم، ومن ثم يمكن للحاكم اليوم إلغاء هذا الحكم الولائي بعد ثبوت ولايته على المال الزكوي، وهذا ما يكشف عن ثانوية الحكم وعدم أوّليته، فلا يصحّ التفصيل المذكور بملاك الحكم الأوّلي.
والصحيح ـ على ما بحثناه في محلّه ـ أنّ الزكاة فريضة تسلّم إلى الحاكم الشرعي، غاية الأمر أنّه حيث لم يتسنّ للأئمّة استلامها، لاسيما منها الثروات الحيوانية والزراعية، كانت غالب النصوص مبنيّةً على إخراج المزكّي لها، وفي الأخبار المتقدّمة ما هو الصحيح سنداً مما يفيد أنّها للإمام، بل إنّ جعل الآية الكريمة أحد مصارفها العاملين عليها يعطي إيحاءً قويّاً بأنّ الأصل فيها جبيُها للحاكم وأمثال ذلك.
التفسير الثالث: ما نراه التصوّر الأصحّ لهذه النصوص ورسالتها، وهو ما يمكن فهمه من مجموع عناصر، هي:
1ـ إنّ القرآن الكريم ـ كما تقّدم ـ يدلّ في الجملة على إعطاء الزكاة للمسلم بالإسلام الظاهري، حتى لو كان منافقاً غير معتقد بالإسلام أساساً، بل سياق الآيات يرجّح نفي معيارية الإسلام لصالح معياريّة العناوين الثمانية المأخوذة في أصناف المستحقّين للزكاة.
2ـ لو راجعنا الروايات الواردة ملاحظين جمل التعليل الواردة في بعضها سنجد ما يلي:
أـ في صحيحة علي بن سويد (ح2، مج2) جاء: «فما كان من الزكاة فأنتم أحقّ به؛ لأنّا قد أحللنا ذلك لكم من كان منكم وأينما كان..» . وقد قلنا سابقاً بأنّ معنى هذه الرواية أنّ الزكاة يجب عليكم تسليمها لنا، كوننا في منصب الإمامة، لكنّنا أحللنا ذلك لكم، لا بمعنى سقوط الوجوب؛ لمعلومية عدمه قطعاً، بل بمعنى سقوط التسليم بالصرف على بعضكم بعضاً، وهذا يعني أنّ هذا النصّ يفرض الزكاة للحاكم، ويذكر أنّ الحاكم أجاز صرفها بولايته فيما بينهم دون إصدار إجازة لغيرهم، فيكون حكمه ولائياً بمقتضى ولايته على المال، لا بياناً لموقف شرعي إلهيّ ثابت، وهذا يعني أنّ من يملك منصب الإمامة في عصر الغيبة له تغيير هذا التحليل بمقتضى ولايته على المال أيضاً، مما يكشف عن أنّ أصل هذا الحكم ليس إلهيّاً بالعنوان الأوّلي، وهذا ما يرفع المعارضة مع النصّ القرآني.
ب ـ في صحيحة ضريس (ح3، مج2) جاء: «.. ولا تدفعها إلى قوم إن دعوتهم غداً إلى أمرك لم يجيبوك، وكان والله الذبح».
فإنّ التعليل تعليلٌ بأمر طارئ، فهو يقول له بأن لا تعطي الزكاة لمن لا يقف معك في لحظات الشدّة، بل ادفعوها بينكم ليشتدّ عودكم، وهو تعليل بأمر طارئ لا بعنوان أوّلي، ولا أقلّ من احتمال ذلك بوصفه مؤشراً على حدث زمني، وكأنّ الإمام يريد أن ينظّم أمر الجماعة المستضعفة التي لا ينصرها الآخرون، بل يُسلِمُونها للذبح، فيطلب منها أن تتعاضد مالياً، ولا تذهب بمالها إلى من لا يقف معها أو يعينها أو يتعاطف.
وهذا الذي فهمناه من هذين التعليلين تدعمه صحيحة زرارة ومحمّد بن مسلم (ح1، مج6)؛ حيث حكمت بصرف الحاكم الشرعيّ الزكاة على الجميع، بخلاف حال عدم الحكومة.
3ـ إنّ حال الزكاة في عصر صدور هذه النصوص ـ أي القرنين الثاني والثالث الهجريين ـ أنّه كان يجلبها السلطان وتذهب إلى خزانة الدولة، وقد كانت هذه هي السنّة في الزكاة، وهذا معناه أنّ السائلين هنا يسألون غالباً عن الزكاة في غير ما يأخذه السلطان، مثل زكاة النقدين؛ لأنّ الحاكم في العادة الغالبة يأخذ زكاة الثروة الحيوانية والزراعية، وهذا معناه أنّ قسماً من الأموال الزكوية كانت تأخذه السلطة المعارضة للأئمة، ومن الواضح أنّ أهل البيت قد أسقطوا الإلزام بالزكاة مرةً أخرى فيما أخذه السلطان من المالك، وهذا كلّه يعني أنّ هذه الأسئلة جاءت حول الزكاة التي يريد الشيعي أن يدفعها إلى المستحقّ وكانت خارجةً عن سلطنة السلطان ونفوذه، وفي هذه الحال يجب فهم صدور هذه النصوص، فإنّ السلطان في العادة لن يوفّر للشيعة من الزكاة ـ لو فعلها ـ إلا القليل، ومن ثم سيكون فقراء الشيعة في الحالة العامة لا يملكون المال الشرعي الذي يُصرف عليهم.
من هنا جاءت هذه النصوص لتلزم ـ من موقع ولاية الإمام على الزكوات ـ بدفع ما تبقّى من الزكاة من غير ما أخذه السلطان في العادة، إلى الداخل الشيعي المهمّش؛ لأنّ ذلك سوف يشكّل أولويةً أولى بحكم الحاجة التي يعيشها الجوّ الشيعي، ولهذا وجدنا بعض الروايات الصحيحة السابقة، مثل صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم، تتحدّث عن أنّ الإمام حال بسط نفوذه يعطي الجميع؛ لأنهم يقرّون له، فالمال إذا كان للإمام من جهة، وكانت السلطة من جهة أخرى معاوضةَ انقيادٍ ومسؤولية كما يظهر من هذه الرواية، فهذا معناه أنّ الذي لا يتمرّد على السلطة تصبح السلطة مسؤولة عن نفقاته العامّة؛ إذ لو لم تكن كذلك لوقعت منافرة بين الشعب والسلطة بما تمثل من القيمة الدينية بوصفها مطبّقاً للشريعة، وهذا هو معنى التعليل بالترغيب في الدين، فهو أمر غالبي لا طارئ.
وهذا الذي قلناه بأجمعه حتى الآن، يثير عندنا احتمال التاريخية والولائية، بمعنى أنّ بعض أئمة أهل البيت يحتمل أنّهم قد فضّلوا في عصرهم ـ بحكم بعض الظروف ومن مواقع ولايتهم على المال الزكوي ـ أن يوجّهوا صرفه بجهة معينة تحظى بأولوية استثنائية.
ويتعزّز هذا الاحتمال عندما ننظر السيرتين: النبويّة والعلويّة؛ إذ لم نسمع في التاريخ أنّهما كانا يصرفان الزكاة في أهل الولاية خاصّة، ولو حصل شيء من هذا القبيل لاستخدمه خصومهما، كما يظهر من القرآن الكريم حيث عيّروا على النبي في أمر الصدقات، وأجابهم القرآن بعلّة أخرى لا بعلّةٍ من نوع التعليل الموجود في هذه الروايات، بل لم نلحظ توجّهاً لديهما ـ ولو عبر نصوص محدودة لأشخاص محدودين ـ بصرف الزكاة في أهل الولاية خاصّة، كيف وقد كان مناسباً مثل هذا الأمر، لا أقلّ في السنوات الأخيرة من العهد المدني التي تشدّد فيها الرسول مع المنافقين، حتى أنّه منع من الصلاة على ميّتهم وهَدَم مسجدهم ونزلت فيهم الآيات الشديدة، ففي هذا الظرف من المناسب صدور نصوص نبوية تركّز مفهوم الإيمان الحقيقي، بوصفه شرطاً في أخذ الأموال العامة. إلا إذا قيل بأنّ عصر بسط اليد مختلف، بل كان ينبغي على الرسول بيان الحكم الأوّلي حتى لو مارس بنفسه الحكم الثانوي.
إنّ ما نريد التأكيد عليه هو أنّ هذا الحكم لم يطرح في العصر الإسلامي الأوّل، إذ لو طرح حقاً لأثار تساؤلات واعتراضات داخل المجتمع الإسلامي في مبدأ التمييز المالي ـ ولو نظريّاً ـ بين مُوالي علي وغيرهم، وحيث لم نجد شيئاً من هذا القبيل، فلابد من فهم نصوص الأئمة هذه على أنّها زمنية؛ لانسداد عصر التشريع بعد الرسول|، كما بحثناه في محلّه من كتابنا «حجيّة السنّة»( )، وهذا ما يضاعف أكثر فأكثر من احتمال زمنية هذا الحكم.
هذا كلّه يرجّح عندي احتمال الخاصّية الولائية والزمنية على احتمال تقييد المطلقات وتخصيص العمومات. ويبدو لي أنّ جميع الروايات المتقدّمة تقبل الانسجام مع هذه الفرضية التي قدّمناها للجمع بين النصوص، والقليل منها ما لا يقبل ذلك بحيث لا يوجد وثوق بصدوره، كما أنّ هذه الفرضية هي التي تفسّر بعض أشكال التعارض في هذه الروايات، من نوع عدم جواز إعطاء غير الإمامي مطلقاً تارةً، وجواز ذلك مع عدم وجود الإمامي شرط أن لا ينصب أخرى، وهكذا.
ويتعزّز ما نقول أيضاً بأنّ الروايات والفقهاء قبلوا دفع الزكاة للمؤلّفة أو للترغيب في الدين، كما في صحيحة محمد بن مسلم وزرارة، فلماذا لا نجد في كلّ هذه النصوص إجازةً للشيعي أن يصرف الزكاة على غير الشيعي من باب تأليف القلوب أو تحبيب الشيعة إليه أو ترغيبه في المذهب الإمامي، فإذا كان الإمام يدفع لترغيبهم في الدين فإنّ هذه النكتة والخصوصية تصلح أيضاً في غير الحال هذه، فلو كانت هذه الأحكام إلهية ثابتة لم يكن معنى لعدم الإشارة إطلاقاً لهذا الموضوع في سياق هذه الروايات بأجمعها، مما يعزّز الحالة الاستثنائية في الحكم وأنّ الضرورات كانت تفرض الصرف في الداخل الشيعي، وأنّ زكاة الفطرة إنما أخرجت لقلّتها وعدم تأثيرها الكبير بالمقارنة مع الزكاة العامّة.
وقد قلنا مراراً في محلّه: إنّ عدم تداول حكمٍ في العصر النبويّ وبُعيده، مع كونه لو كان موجوداً لأثار ضجّةً أو تساؤلات واستفهامات، وظهور النصوص القرآنية والنبويّة ـ ولو بالإطلاق ـ في عكسه، ثم تداوله في عصر الإمام الباقر ومن بعده.. أحد الشواهد القويّة على ولائيّة هذا الحكم وتاريخيّته، ما لم تبرز قرينة صارفة تفسّر الأمر؛ نظراً لانسداد عصر التشريع بوفاة الرسول الأكرم.
4ـ لو حلّلنا وأجرينا مقارنات ومقاربات بين مجموعات النصوص المتقدّمة سنجد المعطيات التالية:
أ ـ إنّ عدد الروايات الدالّة إجمالاً هنا ـ بغض النظر عن بعض الملاحظات المتنية ـ هو حوالي 24 رواية، وأنّ من بينها بحسب ما توصّلنا إليه سبع روايات صحيحة، وقد تبلغ العشرين عند المشهور.
ب ـ إنّ بين هذه الروايات الصحيحة رواية تعارض ـ فيما يبدو لي ـ تعارضاً مستقراً عرفاً صحيحةً أخرى، وهي صحيحة إسماعيل بن سعد الأشعري (ح1، مج2) الدالة صراحةً على عدم إعطاء زكاة الفطرة لغير الموالي، والمدعومة بخبر ابن شاذان (ح10، مج2)، وعلى وجهٍ خبر أبي خديجة (ح2، مج5). وهذه الرواية هي صحيحة علي بن يقطين (ح4، مج6)، ما لم نجعل الأخيرة خاصّةً بالظؤورة والجيران لخصوصية فيهما، ومع ذلك فهي تعارض خبر عمر بن يزيد (ح5، مج2) الآبي عن التخصيص، إلا إذا جعل التعارض بالعموم من وجه.
ج ـ إنّ بين بعض هذه الروايات تعارضاً من جانبٍ آخر؛ فالكثير منها يطلق المنع عن إعطاء غير الشيعي، وبعضها دالّ على إخراجها وإرسالها للشيعي خارج البلد، مثل صحيحة ضريس (ح3، مج2)، وبعضها على الإعادة على الشيعي كلّما فضل ولا تعطى لغيره مثل خبر عبد الله بن أبي يعفور (ح6، مج 2)، أو توضع في البحر مثل خبر إبراهيم الأوسي (ح8، مج2). لكنّ بعض الروايات يفيد جواز صرفها على غير النصّاب عند العجز عن بعثها مثل خبر يعقوب بن شعيب (ح7، مج2).
د ـ إنّ بعض هذه النصوص يمنع عن إعطاء حتى شربة ماء لمثل الزيدية المعروفين بقربهم من أصول المذهب الإمامي وحبّهم لأهل البيت النبوي، فيما روايات أخَر تسمح بإعطاء غير الشيعي زكاة الفطرة، بل تسمح بإعطائهم صدقات غير زكوية مثل خبر أبي بصير وصحيحته (ح1 و2، مج4).
والهدف من هذه النقطة الرابعة هو تحديد درجة قوّة هذه الروايات ومتانتها وعدم ابتلائها بمشاكل.
5ـ قد أثبتنا في دراسة مفصّلة في محلّه أنّ المبدأ الأساس في العلاقات الإسلامية ـ الإسلامية هو مبدأ الأخوّة، واستخرجنا من مقاربة النصوص القرآنية جملة من المبادئ الأساسية في هذه العلاقات، مثل مبدأ الأخوّة الإسلامية، ومبدأ الولاية المتبادلة، ومبدأ التعاون وغيرها، واعتبرنا أنّ القرآن الكريم لم يسمح بعلاقة سيئة في الداخل الإسلامي إلا في حالة البغي التي تسمح بالتقاتل لرفع الظلم عند العجز عن تحقيق حالة المصالحة. ووفقاً لذلك إذا أردنا تطبيق هذا القانون القرآني العام أو مجموعة القوانين هذه على الحالة التي نحن فيها، سنجد تنافراً مضمونياً لو كان حصر الزكاة بأهل الولاية حكماً إلهياً أوّلياً؛ لأنّ معنى ذلك أنّ المسلم يحرم أخاه المسلم من الأموال العامة، من الخمس والزكاة، مع توفّرها لديه، بل لحن العديد من النصوص المتقدّمة يخالف مبدأ الأخوّة الإسلامية، ما لم نفهمها على أنها حالة زمنية ناتجة عن حالة البغي الذي كان يمارس ضدّ الشيعة في العصرين الأموي والعباسي من جانب السلطة ومن طرف كثيرٍ من الناس، وإلا فكيف يمكن أن يكون المسلمون أخوةً ثم نحرّم على بعضهم مساعدة بعضهم بعضاً وإعانته بدفع المال إلى الفقراء والمساكين في سياق أكبر فريضتين ماليّتين؟! إنّ هذا قد يناقض مبدأ الأخوّة عرفاً وعقلائيّاً ومتشرّعيّاً، وإن أمكن تجاوز هذه المنافاة بالنظر التفكيكي الدقّي الذي لا تبنى عليه الفهوم العرفية والعقلائية في باب الاجتماع البشري.
6ـ ثمة تساؤل يواجه فكرة الحكم الأوّلي هنا، وهو أنّ هذه النصوص تجعل الزكاة خاصّةً بأهل الولاية، وهي تُلزم غير الشيعي بإعادة دفع زكاته مرّةً أخرى للشيعي لو استبصر على خلاف الحج والصلاة، وهذا يعني أنّ الحكم كامنٌ في أنّ السنّي يجب عليه ـ بالعنوان الأولي ـ دفع زكاته للإمامي، وبعض النصوص صريحة وبعضها ظاهرٌ بالإطلاق في أنّ كفاية الإمامي لا تسمح بإعطاء الباقي لغيره، إلا في سهم المؤلّفة قلوبهم الذي له بُعده وحالته الخاصّة.
وأريد هنا أن أسأل ـ كما سأل السيد الخميني من قبل فيما يتعلّق بسهم السادة في الخمس ـ: هل يعقل أن تكون زكاة ـ بل وخمس ـ جميع المسلمين خاصّين بفقراء الشيعة ومساكينهم ومناطقهم؟ أليس هذا التشريع غير متناسب، لاسيما بعد زوال الرقاب وابن السبيل من مثل حياتنا اليوم؟ أليست هذه المبالغ المالية الضخمة تفوق حجم حاجة الإمامي الفقير ومناطق الشيعة المحدودة قياساً بالعالم الإسلامي؟ هذا ما يعطي مؤشراً على زمنية الحكم الصادر في هذه الروايات، إلا إذا جُعل بحيث يعلم عدم تطبيقه من قبل غير الشيعي إلا بعد تشيّعه فيرتفع الإشكال، لكنّه خلاف ظاهر التعليل في مثل روايات إعادة إخراج الزكاة للمستبصر، حيث جعل صرفه لها على غير الإمامي في حال عدم تشيّعه صرفاً لها في غير موضعها، مما يعني أنّ موضعها في حال عدم تشيّعه كان هو الامامي.
وعلى أية حال، فمن مجموع الملاحظات المتقدّمة نخرج باستنتاج نراه الراجح هنا، وهو أنّ هذه النصوص قد صدرت في جوٍّ استثنائي خاص كان يستدعي الحثّ على صرف الأموال الضريبيّة العامة في الداخل الشيعي، وأنّ قرار رفع هذا الحكم الطارئ إنّما هو بيد منصب الإمامة أو رئيس الدولة أو الجماعة الشرعي، وأن بإمكان الحاكم الشرعي ـ سواء كان مبسوط اليد أم غير ذلك ـ أن يوسّع أو يضيّق في مصرف الزكاة بملاحظة بعض الطوارئ، وليس لدي وثوق بأكثر من هذا المقدار من مجموع نصوص الباب.
وقد لاحظت أنّ أستاذنا السيد محمود الهاشمي يحتمل أن يكون منع دفع الزكاة للمخالف حكماً ولائيّاً، في إشارة سريعة دون أن يبحث هذا الموضوع، وذلك عند تعرّضه لشرط الإيمان في مستحقّ الخمس( ). ولا أدري هل القرائن التي دفعته إلى هذا الاحتمال هو ما ذكرناه أم شيء آخر؟ لكنّه في الرسالة العملية شرط الإيمان في مستحقّ الزكاة واحتاط وجوباً في اشتراطه في مستحقّ الخمس( ).
بل الذي أفهمه من بعض الإطلاقات أنّ شرط الإسلام غير مأخوذ أيضاً، بل بعض الروايات المتقدّمة يفيد أنّ غير المسلم أيضاً لو انقاد لمستلزمات المواطنة ومسؤوليّاتها في الدولة الإسلامية فهو يستحقّ من هذا المال، والحاكم الشرعي يمكنه أن يعطيه منه كذلك بحسب ما يراه من منطق الأولويات.
2 ـ في مجال الخمس ومصارفه
ذهب غير واحد من فقهاء الإمامية الى أنّ من شروط المستحقّين في الخمس الإيمان بالمعنى الخاص، فلا يجوز إعطاء الخمس من سهم السادة إلى غير الإمامي الاثني عشري، وقد استدل لذلك بعدّة أدلة:
1ـ إنّ ذلك مقتضى قاعدة الاشتغال، حيث لا يحصل العلم بفراغ الذمّة إلا بإعطاء الامامي.
والجواب عن هذا الدليل واضح؛ فإنه بعد وجود العمومات والمطلقات في القرآن والسنّة يمكن الاعتماد على الدليل المحرز بلا حاجة للرجوع الى أصل الاشتغال. بل الشك من موارد الشك في شرط التكليف فتجري فيه البراءة المتقدّمة على الاشتغال.
2ـ إنّ اعطاء الخمس لغير الإمامي إكرامٌ له، ولا كرامة لغير المؤمن.
والجواب أولاً: إنّه لم يقم دليل على حرمة إكرام غير المؤمن الشيعي في حدّ ذاته، نعم يحرم موادّة من حادّ الله ورسوله، وقد تقدّم أنه عنوان أخصّ بكثير من عنوان الكفر أو الإسلام غير الامامي، كيف والنصوص القرآنية والتاريخية والحديثية شاهدٌ على إكرام غير المسلم وبرّه والقسط إليه والتعامل بالأخلاق الحسنة معه وزيارته وغير ذلك من مظاهر إكرامه، بل إبقاؤهم في الدولة الإسلامية أحياء لهم الحقوق العامة ضربٌ من الإكرام فكيف يلتزم بحرمة الإكرام في حقّ غير الإمامي؟!
ثانياً: ما ذكره بعض الفقهاء من الرجوع إلى إطلاق الدليل أو عمومه( ).
لكنّه غير دقيق؛ لأنّ دليل تحريم الإكرام إن لم يكن مقدّماً فهو معارض بالعموم من وجه لدليل مصرف الخمس فيتساقطان، فيثبت عدم استحقاق غير الإمامي للخمس، وهو مطلوب المستدلّ هنا.
ثالثاً: ما قيل من أنّ المقتضي للتكريم موجودٌ في غير الشيعي، وهو انتسابه إلى رسول الله، وهو مقتضٍ شامل( ).
ويناقش بأنّ كلام المستدلّ ليس ـ كما يبدو لي ـ في عدم ثبوت الكرامة لغير الشيعي، بل في ثبوت عدمها.
3ـ إنّ بعض الروايات المتقدّمة في بحث الزكاة تشتمل على تعليل عام يمكن تسريته للخمس أيضاً، كما في خبر إبراهيم الأوسي الذي جاء فيه: «فإنّ الله عز وجل حرّم أموالنا وأموال شيعتنا على عدوّنا»، وخبر يوسف بن يعقوب المتقدّم: «لا تعطهم، فإنهم كفار مشركون زنادقة»، وخبر يعقوب بن شعيب الحدّاد المتقدّم، «.. ما لغيرهم إلا الحجر»، فإنّ هذه التعليلات تشمل الزكاة وغيرها.
والجواب: إنّ هذه النصوص بأجمعها ضعيفة السند فلا يعتمد عليها، وأما القول بأنّ تحريم أموالهم على العدوّ بمعنى عدم شمول التحليل ـ لو كان ـ للمخالف( )، فهو خلاف الظاهر. بل إنّ خبر يوسف (يونس) بن يعقوب غايته عدم جواز إعطاء الزكاة لكلّ كافر، لا عدم جواز إعطاء غيرها للكافر. هذا فضلاً عن أنّ الحصر المستفاد من خبر الحداد قد يكون إضافياً، ولا أقلّ من الإجمال.
4ـ الاستناد إلى إطلاقات بعض الروايات المتقدّمة في الزكاة بدعوى شمولها للخمس، وهي:
أ ـ ما في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري ـ كما تقدّم ـ: «المتصدّق على أعدائنا كالسارق في حرم الله».
ب ـ خبر علي بن بلال المتقدّم، وجاء فيه: «.. لا تعط الصدقة والزكاة إلا لأصحابك»، فإنّ عنوان الصدقة يشمل غير الزكاة أيضاً.
والجواب أولاً: بضعف السند فيهما معاً كما توصّلنا إليه.
وثانياً: بمعارضتهما بجملة من الأخبار الدالّة على جواز إعطاء غير الزكاة لهم، وكذلك إعطاء زكاة الفطرة لهم في بعض الموارد، مثل خبر أي بصير (ح1، مج4)، وصحيحة أبي بصير (ح2، مج4)، وصحيحة زرارة ومحمد بن مسلم (ح1، مج6)، وخبر الفضيل (ح2، مج6)، وخبر علي بن بلال (ح3، مج6)، وصحيحة علي بن يقطين (ح4، مج6)، وخبر مالك الجهني (ح5، مج6). بل هناك نصوص عديدة عامّة في هذا الأمر، وأنّ لكلّ كبدٍ حرّى أجر، وهذه الأخبار وإن كانت أخصّ من تلك، لكنّ لسان تلك كأنّه آبٍ عن التخصيص.
وأما ما ذكره أستاذنا السيد الهاشمي، من أنّ ظاهر هذه الأحاديث ما يصرف مباشرةً للفقير، وهو على خلاف الخمس الذي يصرف للحاكم وهو يتصرّف به، فينصرف عن الخمس( ). فهو جيد إذا لم نقل بأنّ الزكاة أولى في تسليمها إلى الحاكم، فتكون صحيحة محمد بن مسلم (ح1، مج6) دالّةً على أنّ الحاكم يعطي الجميع في الزكاة فلا تكون نصوص الزكاة نفسها شاملة لتصرّف الحاكم حتى يستدلّ بها على الخمس.
هذا كله مضافاً إلى الشك في إرادة غير الزكاة من كلمة (الصدقة) هنا بعد تعارفها فيها في لسان النصوص ممّا يفرض الإجمال الموجب للأخذ بالقدر المتيقّن، والعطف بهذا النوع كثيرٌ أيضاً في لغة العرب.
5 ـ الاستناد إلى الفحوى العرفية والفقهية والملازمة بين مصرف الخمس والزكاة في اشتراط الإيمان، فلو كانت الزكاة الموضوعة أساساً للفقير لا تعطى له إذا كان مخالفاً فبطريق أولى الخمس الذي هو حقٌّ ماليّ أشرف من الزكاة، كما عبّر عنه في بعض النصوص بالكرامة.
وأجيب بأنّ هذا مجرّد استحسان، حيث إنّ هذه الأمور تتبع التوازنات الاقتصادية أيضاً، مع احتمال أن يكون الانتساب للنبي| بمثابة العلّة التامة لجواز الصرف ولو كان فاسد المذهب تكريماً للنبي|( ).
ولا بأس بهذا الجواب، لكنّه مبنيٌّ على التمييز بين الزكاة والخمس في مسألة التسليم للحاكم وعدمه، كما أنه مبنيّ على فكرة حقّ السادة، لهذا يمكن تقديم جواب آخر وهو جواب مبنائي يقوم على عدم ثبوت حكم عام بعدم إعطاء المخالف من الزكاة ثبوتاً أولياً، فلا معنى بعد ذلك للفحوى إلا في دائرة الثبوت الثانوي للحكم في الزكاة نفسها.
كما أنّ دعوى الأشرفية غير واضحة، فسهم الإمام يسلّم للحاكم أيضاً فكيف جاز للإمام صرفه حيث شاء؟!
6 ـ الاستناد إلى الإجماع والشهرة العظيمة.
ولكنّه لو سلّم صغروياً، لا تسلم حجيّته؛ لاحتمال المدركية جداً بعد هذه الأدلّة كلّها.
7 ـ الاستناد إلى فكرة بدلية الخمس عن الزكاة، وأنّ الخمس جاء بدلاً عن الزكاة فيلحق البدل حكم المبدل، فحيث حرّم الله الزكاة على الهاشمي أبدله بالخمس، فتكون أحكام الزكاة لاحقةً لسهم السادة.
وأهم نصوص البدلية ما يلي:
أ ـ خبر سليم بن قيس، قال: سمعت أمير المؤمنين× يقول: «نحن والله الذين عنى الله بذي القربى، الذين قرنهم الله بنفسه ونبيّه|، فقال: مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ، منّا خاصّة ولم يجعل لنا سهماً في الصدقة، أكرم الله نبيّه وأكرمنا أن يطعمنا أوساخ ما في أيدي الناس»( ). ونحوه خبر حماد بن عيسى، حيث يستفاد أنّ بني هاشم أبدلهم الله تعالى عن الزكاة بالخمس.
إلا أنّ هذا الخبر قابل للمناقشة، تارةً من حيث السند بضعف أبان بن أبي عياش، وضعف طريق الطوسي إلى ابن فضال في المشيخة حيث يقع في طريق الرواية إلى حماد. وأخرى من حيث الدلالة؛ إذ ظاهره الحديث عن أهل البيت النبوي خاصّة، لا عن كلّ الذرية النبوية. والله العالم.
هذا، وقد جاءت رواية قريبة من هذا مسندةً إلى سليم بن قيس أيضاً في خطبة طويلة من خطب الإمام علي× ( )، واحتمال الإرسال قويّ فيها كما ذكره الخوئي؛ لعدم اتحاد طبقة إبراهيم بن عثمان مع سليم( ).
ب ـ مرسل حماد بن عيسى، عن العبد الصالح×، قال: «.. وإنما جعل الله هذا الخمس لهم دون المساكين وأبناء سبيلهم عوضاً لهم من صدقات الناس، تنزيهاً من الله لهم، لقرابتهم برسول الله|، وكرامة من الله لهم عن أوساخ الناس..»( ).
وهو ضعيف السند بالإرسال.
ج ـ مرسل أحمد بن محمد، قال: «.. والنصف لليتامى والمساكين وأبناء السبيل من آل محمد^ الذين لا تحلّ لهم الصدقة ولا الزكاة، عوّضهم الله مكان ذلك بالخمس..»( ).
والحديث مرسل مرفوع، بل لم يسند إلى معصوم، ومثل هذا الإضمار لا تحرز حجية الحديث معه، بصرف النظر عن الإرسال.
د ـ خبر الريان بن الصلت، عن الرضا× ـ في حديث طويل بعد حديثه عن جعل الخمس لهم ـ قال: «.. فلما جاءت قصّة الصدقة نزّه نفسه ورسوله ونزّه أهل بيته، فقال: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ ، ثم قال: فلما نزّه نفسه عن الصدقة ونزّه رسوله ونزّه أهل بيته لا بل حرّم عليهم؛ لأنّ الصدقة محرّمة على محمد وآله، وهي أوساخ أيدي الناس ، لا تحلّ لهم؛ لأنهم طهّروا من كل دنس ووسخ»( ).
ويناقش أولاً: إنّ الحديث ضعيف السند بكلّ من محمد بن جعفر بن مسرور، وعلي بن الحسين بن شاذويه، وهما شيخا الصدوق، ولم تثبت وثاقتهما وإن كانا من مشايخه أو ترضّى عنهما.
ثانياً: إنّ ظاهر الحديث هو الاختصاص بأهل البيت لا الشمول لمطلق ذرية الرسول، لاسيما بقرينة الحديث في آخره عن التطهير.
وبصرف النظر عن مجمل ما تقدّم، وحتى لو تمّت هذه النصوص سنداً ودلالة ـ ولم يتم منها شيء سنداً حسب الظاهر ـ وحتى لو تمّت البدلية، إلا أنّ ذلك غاية ما يفيد بحسب ظاهر هذه النصوص أنّ الله حرّم الصدقة على الهاشمي، ثم أبدله مكانها بالخمس، أما هل تمام أحكام الزكاة تجري في الخمس؟ فهذا ما لايفهم من الروايات إطلاقاً، فهذا تماماً كقول القائل: إنّ الله حذف الركعتين من ظهر الجمعة وأبدل مكانهما خطبتي الجمعة، فهل يدلّ ذلك على لزوم تحقيق تمام شروط الصلاة في خطبتي الجمعة إلا ما خرج بالدليل؟!
خاتمة ونتيجة
وعليه، فلم يقم أيّ دليل معتبر ومقنع على اشتراط الإيمان ـ على مستوى الحكم الأوّلي الثابت ـ في مستحقّ الزكاة والخمس، بل في الخمس أوضح كما صار جلياً، وأنّ النصوص المشترِطة الواردة كانت قد صدرت من أهل البيت بحكم ولايتهم على المال الزكوي والأموال العامّة، ومن ثمّ أمكن لمن له الولاية في عصر الغيبة تغيير هذا التعديل الزمني الولائي الصادر عنهم بما يراه مناسباً، سعةً وضيقاً.
فالصحيح أنّ هذه الأموال تصرف في مصالح المسلمين وعلى فقرائهم ومساكينهم عامّة دون أن يكون هناك مانع من تقديم بعض الأولويات الزمنية هنا وهناك، تبعاً لما يراه المتولّون لشؤون هذه الأموال، وربما يطابق نظرهم الزمني النظر الزمني المستكنّ في نصوص المنع عن إعطاء غير الإمامي، وقد يختلف تبعاً لاختلاف الظروف، والله العالم بأحكامه.