حوار نشر في: مجلة زمزم معارف، التابعة لجامعة المصطفى العالميّة، العدد 18، صيف عام 2009م
س1 ـ في البداية لو تعرّفون القرّاء الأعزاء بشخصكم الكريم
حب الله: من مواليد مدينة صور في جنوب لبنان، وقد درست في مدارس هذه المدينة المراحل الابتدائية والمتوسّطة، وانتقلت بعد إنهاء هذه الدراسة إلى الدراسة في الحوزة العلمية في المدينة نفسها، في مدرسة تعرف باسم (المدرسة الدينية). وهناك أكملت مراحل الدراسة في المقدّمات والسطوح، كما حضرت بعض الشيء بحثَ الخارج عند كلّ من سماحة آية الله الشيخ محمّد تقي الفقيه رحمه الله تعالى، وسماحة آية الله الشيخ مفيد الفقيه حفظه الله تعالى، واشتغلت في تلك الفترة بالدراسة والتدريس وممارسة بعض النشاطات الثقافية والتبليغية الإسلامية. ثم انتقلت بعدها في عام 1995م للدراسة في إيران، وفور وصولي شرعت بحضور البحث الخارج عند سماحة آية الله السيد محمود الهاشمي الشاهرودي حفظه الله تعالى في الفقه والأصول، وتابعت أيضاً دروس التفسير القرآني لسماحة آية الله الشيخ جوادي آملي حفظه الله، ودرست كذلك أبحاث الخمس عند سماحة الشيخ حسين النجاتي رعاه المولى، وأبحاث صلاة الجمعة والجماعة ودروس القواعد الفقهية وعلم الرجال عند سماحة الشيخ باقر الإيرواني حفظه الله تعالى. وقد انشغلت ـ كباقي الطلبة ـ في متابعة الشؤون الدرسية.
في عام 1997م، سعينا نحن مجموعة من الطلبة اللبنانيين إلى تأسيس مجلّة طلابية بهدف أن يكون هناك حضور لطلاب العلم والمشايخ الكرام في المجال الفكري والثقافي، وفي مجال الكتابة والبحث العلمي؛ فأسّسنا مجلّةً صغيرة متواضعة أطلقنا عليه اسم (مجلّة أصداء)، وكنا آنذاك خمسة أشخاص. انطلقت المجلة بشكل جيّد، وكانت دافعاً لنا ومحفزاً للعمل في مجال التأليف والنشر وكتابة الأبحاث.
في تلك الفترة أيضاً، كنت قد التحقت بدائرة معارف الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت ( والتي يشرف عليها سماحة الأستاذ السيد الشاهرودي، واشتغلت لسنين عدّة في كتابة الأبحاث الفقهية وتنظيمها والإشراف على بعضها، إلى أن تسلّمت في بداية عام 2002م مجلّة المنهاج في بيروت، والتي استمرّيت في رئاسة تحريرها سبع سنوات متواصلة، أصدرت خلالها ـ بحمد الله تعالى ـ سبعاً وعشرين عدداً.
وخلال عامي: 2003 ـ 2004م، صارت هناك فكرة أن تصدر مجلّة تعنى بترجمة المشهد الفكري الإيراني، وتهدف إلى عكس صورة هذا المشهد في العالم العربي، فاشتغلت على مجلة (نصوص معاصرة) وترأسّت تحريرها ـ وما أزال ـ حيث أصدرنا منها إلى الآن 14 عدداً، وكان لهذه المجلّة أصداء ممتازة في العالم العربي واستقبال جيد والحمد لله.
كما أصدرت عام 2006م، مجلّة (الاجتهاد والتجديد) والتي تعنى بالدراسات الاجتهادية الجديدة وبالقراءات العصرية الجديدة لقضايا الفقه الإسلامي وإشكاليّاته؛ لتكون أيضاً ساحةً للحوار واللقاء الفكري وطرح الإشكاليات الجديدة في مجال الفقه والأصول والرجال والحديث والعلوم النقلية التشريعية عموماً.
صدرت لي بعض الأعمال، منها:
1 ـ كتاب (نظرية السنّة في الفكر الإمامي الشيعي، التكون والصيرورة)، الذي صدر في بيروت عن مؤسّسة الانتشار العربي عام 2006م، وكان في حقيقة الأمر رسالة ماجستير في علوم القرآن والحديث، أخذتها من جامعة كلّية أُصول الدين في إيران.
2 ـ (بحوث في الفقه الزراعي)، وهو تقرير درس سماحة الأستاذ الهاشمي الشاهرودي حفظه الله، في مباحث المزارعة والمساقاة، صدر عام 2006م.
3 ـ (التعددية الدينية) وهو كتاب صدر في بيروت عام 2001م، ويبحث في قضايا فلسفة الدين والكلام الجديد.
4 ـ (علم الكلام المعاصر، دراسة تاريخية منهجية)، وقد صدر عن مهرجان الشيخ الطوسي حوالي عام 2003م، ويدرس تطوّر علم الكلام الشيعي في الفترة المتأخرة.
5 ـ (مسألة المنهج في الفكر الديني، وقفات وملاحظات)، وهو كتاب صدر عام 2007م، ويعالج قضايا المنهج في العلوم الإسلامية وفي الفكر الديني عموماً، وقد صدر عن مؤسسة الانتشار العربي في بيروت.
س2 ـ لماذا اخترت الحوزة العلميّة لدراستك؟
حب الله: أعتقد بأنّ المدّ الإسلامي الكبير الذي انطلق مع ثورة الإمام الخميني رحمة الله تعالى عليه، وشهدناه ونحن في مطلع حياتنا في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، كان له تأثير كبير على اندفاع عدد كبير من الشباب نحو الدراسات الدينية والعلوم الإسلامية، وكنت في تلك الأيام في ضمن هذا الجوّ؛ لذلك شعرت ـ كما شعر كثيرون مثلي ـ أنّ الدراسات الدينية جزءٌ أساسيّ من هويّتنا؛ فصار ذلك عندي محفزاً للبحث والدراسة في هذا المضمار، فاخترت هذا الطريق إيماناً منّي بأنّ الدين يشكّل أحد أبرز معالم الهوية عند الإنسان في تمام العصور.
س3 ـ ما هي النشاطات والفعاليات التي تقومون بها اليوم؟
حبّ الله: حالياً أنا المعاون العلمي لسماحة آية الله السيد محمود الهاشمي الشاهرودي في دائرة معارف الفقه الإسلامي، أعمل هناك في الإشراف على نشاطات تدوين الموسوعة وفقاً لما طلبه منّي سماحة السيّد، وأرجو أن أكون عند حسن ظنّ من أحسن الظنَّ بي، وهذا عمل شاق ويحتاج لجهد كبير ومتابعة كبيرة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا للمزيد في هذا المجال، ونحن الآن بصدد طباعة المجلد الثالث عشر من الموسوعة إن شاء الله.
وأرأس حاليّاً تحرير مجلّة (نصوص معاصرة) التي تحدّثنا عنها قبل قليل، ونجهّز لإصدار العدد الخامس عشر الذي سيدور محوره حول ظاهرة الوحي والدراسات القرآنية الجديدة.
كما أرأس حالياً تحرير مجلة (الاجتهاد والتجديد) التي تشرف على إصدار عددها التاسع في ملفّ تحت عنوان (الحريات الدينية وقضايا العنف في الفقه الإسلامي).
كذلك أتشرّف بعضويّة هيئة تحرير مجلة (فقه أهل البيت () الناطقة باللغة العربية.
ولديّ حاليّاً تواصل مع عدد لا بأس به من المؤسّسات البحثية والدراسية في مدينة قم، كما أشرف على عدد من رسائل الماجستير في الحوزة العلمية، وأقوم بتدريس البحث الخارج في الفقه في مباحث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بعد أن درّست سابقاً مباحث الجهاد، كما أعطي دروساً استدلالية في بحث خارج في كلّيات علم الرجال، كذلك أعطي درس بحث الخارج في علم الأُصول، فقد كنت درّست لثلاث سنوات ما يتصل بنظرية السنّة وحجية الخبر وملحقاتها، ومنشغلٌ الآن بدراسة القرآن بوصفه مصدراً للتشريع، أي كل ما يتصل بالدراسات الأصولية والقرآنية المرتبطة بمرجعية القرآن في الاجتهاد الفقهي.
إلى غير ذلك من النشاطات المتصلة بالمشاركة في المؤتمرات والندوات داخل وخارج إيران، وإلقاء محاضرات مختلفة.
وأنا الآن مشغول بكتابة كتابين أساسيين: أحدهما حجيّة السنة، وثانيهما نظرية الجهاد والعلاقات الدولية في الإسلام.
وهناك موسوعة في مصر تشارك فيها المذاهب الإسلامية كلّها والهدف منها كتابة الحديث النبوي الصحيح عند المسلمين جميعاً، وقد كنت تشرّفت أن أكون مسؤولاً عن القسم الشيعي في هذه الموسوعة الضخمة؛ لذلك نقوم بتحقيق كلّ الأحاديث النبوية في التراث الإمامي بالخصوص وتحليلها ومناقشتها ورصدها والتأمل فيها من الناحية السندية والمتنية والدلالية. نسأل الله التوفيق في هذا المشروع الكبير الذي تشارك فيه المذاهب الإسلامية كافّة، عساه ـ تبارك وتعالى ـ يوفقنا للخدمة في سبيله.
س4 ـ كيف تقوّمون التجربة البحثية لطلاب جامعة المصطفى العالميّة؟
حبّ الله: أعتقد أنّ الوضع المتصل بقضية الدراسات البحثية في جامعة المصطفى أفضل بكثير مما كان عليه في السنوات السابقة، فالمشاريع التي أطلقت من قبل الإدارة الجديدة قبل عدّة سنوات من الواضح أنها أعطت اهتماماً كبيراً للدراسات البحثية، وهذا شيء مهم جداً وضروري للغاية؛ لأننا نفتقر إلى حضور بحثي وعلمي وأكاديمي في الأوساط والمحافل العلمية الأُخرى، فتحفيز الطلاب ودفعهم نحو كتابة الأبحاث والدراسات ورسائل الماجستير والدكتوراه يخلق في حدّ نفسه نخبة ممتازة إذا أُحسنت إدارة عملية تأهيل الباحثين، وهذا ما يعدنا ـ إن شاء الله تعالى ـ بجيل يبرهن عن حضوره الحقيقي في المحافل العلمية والفكرية على مستوى الساحة الإسلامية عموماً والعربية خصوصاً.
أعتقد أنّ الحركة قد انطلقت في هذا الاتجاه، ومن الطبيعي أن تكون هناك بعض المعوقات، مثل كون الحركة بطيئة بعض الشيء، مع قلّة المحفّزات على بعض الصعد والمستويات، بحيث تفرض الضرورة مزيداً من ترغيب طلاب العلوم الإسلامية في هذا المجال، مثل مساعدتهم في نشر أعمالهم العلمية من كتب ومقالات في بلدانهم ومجتمعاتهم.
س5 ـ ما هي الوصايا والتوجيهات والإرشادات التي تقدّمونها للقرّاء في مجال البحث العلميّ؟
حب الله: يفترض بكل من يريد الاشتغال بالمجالات البحثية أن ينتبه لمجموعة عناصر:
1 ـ اختيار الموضوع، حيث يجب علينا أن نختار المحاور البحثية التي تكون مفيدة لزماننا ولعصرنا ولمجتمعاتنا؛ فمع الأسف الشديد هناك الكثير من رسائل الماجستير التي اطّلعتُ عليها في جامعة المصطفى لم تتناول قضايا جديدة، ونحن نعلم أنّ الكثير من القيّمين على المؤسّسات الدينية والحوزات العلمية لديهم رغبة واضحة في دفع الطلاب نحو الأخذ بالموضوعات الجديدة التي تحتاج إلى معالجة.
إذا لم ننتبه إلى اختيار الموضوعات فقد نتلف وقتنا بموضوعات مستهلكة تكرارية قد لا تقدّم خدمة كبيرة للوضع الفكري والثقافي الذي تمرّ به أمتنا اليوم؛ فالعبرة في الموضوعات أن تكون قادرة على حلّ مشكلة قائمة في الفكر أو العمل، ونحن نعرف في الرسائل والأطروحات الأكاديمية أنّ هناك ما يسمى بالسؤال الأصلي ـ بحسب التعبير الفارسي ـ أو ما نسمّيه في جامعات العالم العربي بالإشكالية الرئيسية، فهناك إشكاليات موجودة الآن في عالم الفكر والثقافة، والمطلوب منّا تحديد هذه الإشكاليات والاشتغال عليها، لتقديم أجوبة أو حلول لها، بدل أن نضيّع وقتنا في الاشتغال على إشكاليات تنتمي إلى قرون غابرة أو إشكاليات لم تحدث بعدُ على طريقة الفقه الافتراضي؛ فلسنا مسؤولين عمّا سيحدث فيما بعد، ولا عمّا حدث ووقع، وإنما نُسأل ـ بالدرجة الأولى وعلى مستوى فقه الأولويات ـ عن واقعنا والفترة التي نعيش ونحيا؛ فانتخاب الموضوعات واختيارها في غاية الأهمية، من حيث الجدة والحداثة والحضور الكبير في العصر الراهن.
2 ـ عندما نريد أن نكتب بحثاً فعلينا أن لا ننطلق ـ فقط ودوماً ـ من ذهنية دفاعية، بل يجب أن ننطلق من ذهنية أكاديمية موضوعية، نبحث لنصل الحقيقةَ، لا أن ندّعي دوماً أننا وصلنا إليها قبل أن نبحث، كما هي عادة الكثيرين مع الأسف الشديد في أكثر من وسط. من الضروري أن تكون دراساتنا ـ على المستوى الثبوتي والإثباتي معاً ـ ذات طابع محايد موضوعي أكاديمي لا تتصف أبداً بالصراخ والعويل.. يفترض أن لا تقف جهودنا البحثية عند الردّ على الآخرين، وكأن لجملة (إن قلتَ قلتُ) مفهوماً بحيث لو لم يقل الآخر شيئاً فلا دور لي!! يجب أن ننوّع أدوارنا بحيث يشتغل فريقٌ منّا على ردّ الإشكاليات والشبهات، فيما يعمل فريقٌ آخر على بناء الفكر الديني محاولاً إعادة إنتاج المعرفة الدينية ضمن بناءات قادرة على الصمود اليوم أمام الزلازل المعرفية التي تواجهنا في هذا العالم، ويعمل فريقٌ ثالثٌ على ممارسة النقد الداخلي دوماً لكي يتكفّل الكشف عن ثغراتنا وعيوبنا ونواقصنا لتلافيها بدل الغفلة عنها وتجاهلها، والمفروض أن يحترم الأفرقاء الثلاثة جهود بعضهم بدل أن يتنافسوا تنافساً سلبيّاً أو يطعنوا في قيمة عطاءاتهم جميعاً.
من المهمّ في البحث العلمي أن نتخلّى قدر الإمكان عن الذهنيّتين: الخطابية والسجالية، ليكون العمل أكاديميّاً موثقاً مدروساً.
3 ـ البعد الإثباتي في الدراسات التي نقوم بإنتاجها؛ فليس المهم في عصرنا أن ننتج المعرفة فقط، بقدر ما يهمّنا أيضاً تسويق هذه المعرفة ونشرها، فهناك كثيرون ينتجون معارف كثيرة لكنّهم يموتون فتبقى أفكارهم في بطون الكتب التي يأتي عليها الغبار وترمى في المكتبات لا يستفيد منها إلا القليل القليل، هنا لا يقوم الفكر بتربية أجيال أو صنع مجتمعات وإنّما باستهلاك الأوراق والحبر فحسب!! وعلى هذا الأساس عندما تقوم ببحثٍ ما فعليك أن تحاول ـ من خلال صياغة العبارات ومن خلال البنية التركيبية والبنية الصياغية والأسلوبيّة ـ جذب القارئ وجعله يشعر بأنّك تقدّم له شيئاً وتدفعه لكي يستمر معك، فالحكمة تقول: ليس الكتاب الأكثر قيمة هو الكتاب الذي يفكّر عنك وإنما الذي يدفعك للتفكير؛ فعلينا أن نكتب لكي نحرّك المجتمع ليفكّر ويشترك معنا في عملية التفكير هذه، وبهذه الطريقة تستمرّ أفكارنا قادرةً على الحضور عند الشرائح الاجتماعية والفكرية والثقافية المختلفة.
إذن، نحن بحاجة إلى تسويق، إلى نشر، إلى أساليب بيان وعرض، إلى تنظيم أفكار، إلى مشاركة القارئ في همومه وتقديم مساعدة له، إلى العنصر الإعلامي الذي نفتقده مع الأسف الشديد؛ من الضروري أن يتعاون إعلامنا المرئي والمسموع مع المراكز البحثية لكي يعرّف بها ويضيء عليها، وينشر مساهماتها ليعمّ حضورها عالمنا الإسلامي إن شاء الله تعالى.
س6 ـ ما هي السبل التي تقترحونها لتنمية وتعميق الثقافة البحثية في جامعة المصطفى العالميّة؟
حبّ الله: لو سمحتم لي أن أتحدّث بصراحة في هذا الموضوع، أعتقد أن واحدة من القضايا الرئيسة في هذا المجال هو الكادر المشرف، أعني هناك قسم كبير من هذا الكادر المشرف على الدراسات والأبحاث والرسائل في جامعة المصطفى هو بنفسه ليس أكاديمياً، وربما بعضهم لم يكتب في حياته يوماً بحثاً، بل بعضهم لا يؤمن أساساً بمشروع تطوير الحوزات على هذا الصعيد وغيره، أتمنى بجدّ ومن كل قلبي أن يعاد النظر في هذا الأمر، بل الكثير من هؤلاء لا يؤمنون حتى بمنهج الكتابة وفقاً للطرق العصرية ، فكيف نُسهمهم في إنتاج اتجاه عصري في المجالات البحثية؟!
لعلّ من الضروري التواصل مع هذا الفريق لنخوض معه حواراً لإقناعه بالمنهج الجديد، فهناك عناصر لابدّ من توفرها في الفريق المشرف على حركة النهضة البحثية في أيّ مؤسسة علميّة، وإلا فنحن نصنع التناقضات التي قد تعطّل المشروع في بعض مواقعه أو مستوياته، نحن نريد كادراً مؤمناً بالمشروع وليس فقط متعاوناً بشكل شكلي، قد يوحي في تعاونه للجيل الصاعد بشيء من اللامبالاة هنا أو هناك.
المسألة الأخرى هي المحفز المعنوي، فليست المحفزات المادية كافية لوحدها، وهذا ما سبق أن طرحتُه في إحدى الاحتفاليات الفكرية في قم، فالآن توجد لدينا آلاف من رسائل الماجستير، لا أدري كم بالضبط، ربما ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف رسالة، ألا يوجد في كلّ مائة رسالة خمسٌ ممتازة، إذا كان عندنا أربعة آلاف يعني في كلّ مائة رسالة هناك خمس رسائل ممتازة، فسيكون عندنا 200 رسالة.. نحن بإمكاننا أن نطبع هذه الرسائل ونترجمها وننشرها بأربع إلى خمس لغات تبعاً لموضوع الرسالة، وبهذا نحن نصدر سلسلة الدراسات الحوزوية لتكون دعاية كبرى للحوزة العلمية تدلّل على أنّها تنتج خرّيجين قادرين على تقديم دراسات جادّة. عندما تصدر هذه السلسلة تحت عنوان (سلسلة الدراسات الحوزوية) ستعطي انطباعاً إيجابيّاً في العالم الإسلامي، وأنّ هناك جامعة دينية محترمة ووازنة وواعدة تقدر على تخريج الكفوئين، وسيكون ذلك اعتباراً معنوياً كبيراً للجامعة وطلابها. وعندما يجد الباحث أو ذاك أنّ كتاباته حظيت بهذا النوع من الاهتمام فسيشعر بأنّه قدّم إنجازاً في حياته.
بل إنّ بعض الرسائل التي قد لا تليق بالنشر قد تكون بعض فصولها قابلة لذلك، وليس المهم هو النشر في داخل الجامعة وموطنها بل في بلدان الباحثين والطلاب أيضاً، لو درسنا هذا الموضوع من ناحية إعلامية ونفسية فسنستنتج الكثير من الإيجابيات.
طبعاً هذا كلّه مجرّد مثال لا أكثر، وإلا فهناك وسائل أخرى عديدة في هذا المجال.
س7 ـ ما هي برأيكم الرسالة الأساسيّة الموكلة إلى طلاب العلوم الدينية في العصر الحاضر؟
حبّ الله: لعلّ الرسالة الأساسية لطلاب العلوم الشرعية والدينية اليوم نشر ثقافة الاعتدال والوسطية؛ لأننا بدأنا نشهد في الفترة الأخيرة هيمنة ثقافة التطرف والتأزم وثقافة الرفض والإقصاء، علينا أن ننشر ثقافة الوسطية وثقافة الاعتدال في علاقاتنا مع بعضنا داخل المؤسّسة الدينية، وكذلك في علاقات التيارات الشيعية فيما بينها، وفي علاقات المذاهب الإسلامية أيضاً.
رسالة الاعتدال والوسطية حاجة اليوم لرفع مختلف أشكال التشنج والتوتر، فالتشنج والتوتر داخل أيّ مؤسسة علمية من شأنه أن يعيق الحركة الفكرية ويعطّل التنمية، إنّه يُقحم المؤسّسة كلّها في دوّامة السجالات الداخلية المغلقة التي لا تستطيع أن تنتج معرفة قادرة على النهوض لتتحوّل إلى مشاريع كبرى. هذه رسالة أساسية اليوم أن يسعى الطلاب لنشر ثقافة الوسطية والاعتدال بكل معانيهما ضمن القيم الأخلاقية وضمن الموازين الشرعية الإسلامية.
الرسالة الأُخرى هي الرسالة الفكرية، فنحن نواجه حضارة اللحظة، وهي الحضارة الغربية المهيمنة، نحن نفتقر إلى حضور فكري في العالم، نعم نملك حضورنا داخل طوائفنا، لكن ليس لدينا هذا الحضور الراسخ والقوي في المحافل العلميّة الكبرى، كما يفترض أن يكون وكما يتناسب مع عمق المدرسة الفكرية الإسلامية العريقة. أتصوّر أن اهتمام الجيل الصاعد في الحوزات العلمية بالجانب الفكري ضروري جداً لكي نربّي في أوساطنا كادراً قادراً على أن ينهض بأعباء المسؤولية الفكرية، إلى جانب الخطباء والمنبريين والأساتذة.
اليوم تعصف بأجيالنا شكوك وتساؤلات رهيبة لا تكفي معها المواعظ العابرة ولا أساليب الاستهزاء الساخرة، وعندما نهتمّ بالجانب الفكري ونخلق فيما بيننا مناخاً تنافسيّاً في العطاء الفكري فسيشعر الجميع بأنّ مشاركته في العمل البحثي والفكري تحقّق له وجوده الاجتماعي، وتعميق هذا الوجود الاجتماعي للباحثين والمحقّقين وتوعية الناس على أنّ الباحثين والمحققين هم أشخاص مقدَّرون محترمون، وليس فقط أصحاب النفوذ الاجتماعي هم المحترمون، فسنوجد عناصر تشويق وتشجيع تضمن استمرار العمل الفكري في مؤسّساتنا العلمية إن شاء الله.