مدخل إلى تعريف التنمية الاجتماعية ـــــــ
قال تعالى: >مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ< (النحل: 97).
إذا كان لنا أن نعرّف التنمية الاجتماعية بتعريف عام، أمكننا القول: إنّ المراد منها هو mالتحرّك الاجتماعي الواعي المنظّم، والمنسق على مختلف الصُعُد، المادية والمعنوية، نحو الأفضل إنسانياًn.
ويستبطن هذا التعريف عناصر من قبيل:
1 ــ الهدف الإنساني المتميّز عن الأهداف الحيوانية الغريزية العمياء، وإنما تكتسب الحركة هذه الهدفية إذا كانت منسجمةً مع تطلّعات الفطرة الإنسانية ومؤشراتها.
2 ــ الحركية الإرادية نحو هذا الهدف الإنساني، وهي متميزة أيضاً عن الحركية الحيوانية؛ لأنها حركة وعي وإرادة وتعقّل.
3 ــ التناسق والتنظيم والتناسب بين كلّ الجوانب المادية والمعنوية من خلال هذه الحركة.
وهذا شرط أساس، فالتنمية التي تهمل عنصر التناسب تصاب بتورّم ونموّ طبيعي في جانب أو جوانب، مع خمول الجوانب الأخرى، الأمر الذي يعرّض المسيرة الاجتماعية لاختلال التوازن، ومن ثم التمزق أو التطرف.
4 ــ الاجتماعية في التحرك، بمعنى أن كلّ جزء من الأجزاء المكوّنة للمجتمع يجب أن يساهم في هذا التحرّك وينمو من خلاله، بمعنى أن الآثار التي سيتركها هذا التحرك يجب أن تنعكس على مختلف العناصر والمكوّنات الاجتماعية.
بعد هذه المقدّمة، أحاول أن يكون حديثي في موضوعين:
الأول: الإشارة إلى دور المرأة في عملية التنمية الاجتماعية.
الثاني: الإشارة إلى لقاءات ومؤتمرات الأمم المتحدة في هذا الصدد، وموقفنا منها.
دور المرأة في عملية التنمية الاجتماعية ـــــــ
المرأة تارة ننظر إليها بوصفها إنساناً فعالاً في عملية التنمية، وأخرى نركّز عليها بما لها من خصائص تنفرد بها باعتبارها الأمّ والبنت والزوجة، وهي بهذا الاعتبار تمتاز عن الرجل بما تحمله من طاقات عاطفية متميّزة، وقدرات تكوينية مؤثرة، ومن ثم ما تحمله من وظائف اجتماعية فريدة.
فإذا نظرنا إليها بوصفها إنساناً نشطاً في عملية التنمية، وأخذنا بعين الاعتبار أنّ الإنسان هو محور التنمية، وأن التنمية المستمرّة هي تلك التي تحقّق انسجاماً متوازناً بين مجموع عناصر التنمية، والأسس التحتية للثقافة المعنوية التي تعمل في مجال إسقاطاتها، وأدركنا بعد ذلك أن مكوّنات الفطرة الإنسانية هي أهمّ هذه الأسس وأعمقها في وجود الإنسان، بل بدونها يفقد الإنسان هويته ويتحول إلى شيء، لا نستطيع أن نتحدث عن حقوقه أو نموّه الاجتماعي، أو حركته العادلة، أو أخلاقيته، أو حتى بقائه الحضاري، وأضفنا إلى كلّ هذا حقيقةً أخرى، وهي أن الدين الذي يستمدّ أصوله من منابع فطرية، هو الصيغة الأكمل التي وضعها خالق الإنسان ليحقّق من خلالها تكامله المادي والمعنوي المنسجم، وأن الدين وحده هو الذي يستطيع أن يمنح هذه المسيرة ثباتاً في الهوية والشخصية، واطمئناناً في القلب، وأملاً دفّاقاً بالمستقبل، كما يستطيع أن يحلّ الإشكالات الاجتماعية الكبرى من قبيل حلّ التضاد الدائم بين حبّ الذات والأنانية، والعمل لصالح المجتمع ونسيان الذات في سبيله، وحلّ التناقض بين اتجاهات الإلحاد واتجاهات الإيمان المفرط بالأمور النسبية، إذا أخذنا بعين الاعتبار تمام هذه الحقائق الكبرى، أدركنا أن المرأة الإنسان هي محور التنمية وركنها الركين، ولن تستطيع أية عملية تنموية أن تحقّق صدقاً مع ذاتها ومدعياتها، إلاّ إذا طوّرت الحسّ الإنساني ــ والفطري في وجود المرأة، وأعطتها مكانتها الإنسانية الطبيعية، ورفعت من البين كل عناصر التفريق ــ من الجانب الإنساني ــ بين الرجل والمرأة، ومنحتها الدور الإنساني المتساوي في هذا المضمار، ثم عادت لتستفيد من هذه الطاقة الإنسانية الخيّرة لصالح المجموع الاجتماعي بأفضل أسلوب.
ولا يفوتنا أن نشير إلى أن المرأة إن تأصّل الثبات في شخصيتها، والاطمئنان في قلبها، والأمل بالمستقبل في وجودها.. منحت كلّ المسيرة الاجتماعية طاقةً كبرى، وهيأت لها كلّ مقومات المسيرة الصالحة.
الأدوار الخاصّة بالمرأة ـــــــ
وإذا عدنا وركّزنا على خصائص المرأة التي تميّزها عن الرجل، فسنجد أن خصائصها لا تغيّر مطلقاً من قيمتها الإنسانية بل تزيد عليها، وإنما تترك أثرها الوظيفي في البين، بمعنى أن هناك تقسيماً طبيعياً قدّرته الرحمة الإلهية بين وظيفة الرجل ووظيفة المرأة، في عملية التنمية الاجتماعية بل الفردية أيضاً.
فالمرأة الزوجة والمرأة الأم لهما دوران متمايزان عن دور الرجل الزوج، والرجل الأب بلا ريب، إلاّ أن هذين الدورين متكاملان تماماً بحيث لا يمكن أن تستغني الحياة عنهما، بمقدار عدم إمكان استبدال أحدهما بالآخر تماماً.
بعد هذا نقول: إن للمرأة أثرها الكبير ــ بهذا الاعتبار ــ على عملية التنمية أيضاً، ومهما تعدّدت علل التنمية فشملت العلل الفاعلية، والعلل الغائية، والعلل الصورية بالإضافة للعلل المادية، فإن إسقاطات دور المرأة يبقى لها أكبر الأثر في هذا المجال؛ ذلك أن المرأة تستطيع أن تترك آثاراً كبرى، نذكر منها على سبيل المثال ما يلي:
1 ــ إعداد البيئة العائلية السليمة، وتهيئتها وتوفيرها، وهي بهذا ــ لو وفّقت ــ تستطيع أن تضع الحجر الأساس لمجتمع إنساني سليم ثابت الجأش قوي القلب، ناشد للمستقبل.
وبدون هذا سيبقى المجتمع ممزّقاً عاطفياً، ومهلهلاً معنوياً، تتفشى فيه الجريمة، ويعبث فيه الكسل، ويفقد صفته الخلاقة شيئاً فشيئاً.
فالزوجة الصالحة والأم الصالحة هما قوام الحياة العائلية الصالحة، وهذه هي قوام المجتمع الصالح، كما تؤكّد ذلك النصوص الإسلامية.
2 ــ توفير الجوّ المناسب لتربية الجيل القوي الفاعل، حيث قلنا: إن الإنسان الصالح هو محور التنمية، وهو بحاجة إلى عملية تربوية مستمرّة تتفجر فيها طاقاته، وتبرز فيها مكوناته الذاتية، وهي لا تتفجر ولا تبرز عشوائياً أو تلقائياً، وإنما تحتاج إلى عملية تربوية وجوّ تربوي مناسب.
ولا ريب أن للمرأة أعظم الأثر في تربية العناصر الإنسانية، ووراء كلّ عظيم امرأة ــ كما يقولون ــ بل ما أكثر العظماء النساء في تاريخنا الطويل.
3 ــ الإعداد لجوّ وبيئة حماسيين عاطفيين من خلال الاستعداد الطبيعي للمرأة، لتسدّ به هذه الحاجة الضرورية للإنسان من جهة، وتوفر له الحالة الحماسية الضرورية لتخطّي العقبات وصنع تنمية اجتماعية مستديمة من جهة أخرى.
أما المجتمع الذي يخلو من هذه الحالة العاطفية والحماسية فهو مجتمع خامد، وبيئة جامدة، ربما تتقدم في بعض المجالات المادية إلاّ أنها تفقد الصفاء الإنساني المطلوب، ومن بعدُ تفقد القدرة على إيجاد التنمية المتوازنة.
من هنا، يظهر جلياً أن المرأة لها دورٌ كبير في توفير الجو العائلي النظيف، وأن العائلة وتشكيلاتها ــ بما لها من مفهوم كلاسيكي معروف لدى المجتمعات والأديان كلها ــ هي حجر الزاوية في عملية التنمية.
كما يظهر أيضاً أن أيّة ضربة توجّه لدور المرأة في البناء العائلي المشار إليه، وأي تقليل من أهميّة الرباط العائلي المقدّس، أو محاولة لطرح مفاهيم جديدة، وادعاء مصاديق عصرية له، أو إضعاف روابطه، أو إيجاد بديل مزعوم له.. كل هذه المحاولات تترك أعظم الآثار السلبية على مستقبل الإنسانية جمعاء، وتفقده الحركية التنموية المطلوبة، بل هي تآمر واضح على كلّ الوجود الإنساني، حتى لو جاء هذا التآمر تحت غطاء الخدمة الدولية لعملية التنمية.
الجهود الدولية في مجال التنمية الاجتماعية، وقفات نقد
وتأمّل ـــــــ
لا ريب أن عملية التنمية استأثرت من نشاط الأمم المتحدة بالحظّ الوفير، وخصوصاً في السنوات الأخيرة، وعقدت لها مؤتمرات دولية على مختلف المستويات، كمؤتمر بوخارست 1974م، ومؤتمر مكسيكو سيتي 1984م، ومؤتمر القاهرة 1994م، ومؤتمر كوبنهاغن عام 1995م، وغيرها من الاجتماعات الدولية، وخصوصاً تلك المنعقدة لدراسة حقوق المرأة بالخصوص، كمؤتمر نيروبي، ومؤتمر بكين.
وكان التركيز على دور العائلة في عملية التنمية ملحوظاً تماماً في كلّ الاجتماعات الدولية، إلاّ أن الملاحظ في مختلف الوثائق المقترحة أنها نُظّمت تنظيماً يُبعدها عن المسيرة المتوازنة، وينسيها دور الدين في الحياة، ويتغافل عن أثر العناصر المعنوية في هذا الصدد.
وكانت وثيقة القاهرة المقترحة على مؤتمر السكّان والتنمية القنبلةَ الضخمة التي فجّرت الوضع، فرأى المخلصون التآمر الاستعماري الواضح على كلّ القيم والمقدّسات الإنسانية؛ لأنها سعت إلى تفكيك الروابط العائلية، وطرح مفاهيم متنوعة للعائلة، وفسح المجال لعلاقات خارج الإطار العائلي، وقد حضرتُ هذا المؤتمر على رأس الوفد الإسلامي الإيراني، على أمل أن نترك أثراً إيجابياً على الوثيقة، وهذا ما حدث، إذ رغم عدم التنسيق بين مواقف الدول الإسلامية ــ التي حرّم بعضها حضور المؤتمر ــ ورغم قوة الضغط الغربي المعادي للإسلام، فقد استطعنا تشكيل مجموعة إسلامية قوية تعاونت مع المجموعة المسيحية الدينية، واستطاعت أن تغيّر عشرات المصطلحات والمواقف في الوثيقة، من قبيل حذف مصطلحات (الحقّ الجنسي) و (العلاقات الأخرى غير علاقات الزواج) وحذف عنصر الإلزام في الوثيقة، وكذلك تعديل المادة التي تسمح بالإجهاض وغير ذلك، وقد ألقيتُ في الاجتماع الدولي خطاباً أكّدت فيه الحقائق التالية:
أولاً: إننا إذ نحاول تنظيم التحرّك السكاني في إطار من التنمية المطلوبة علينا ــ قبل كل شيء ــ أن ننظر إلى الإنسان بكلّ أبعاده المادية والمعنوية؛ ليكون تخطيطاً منسجماً مع فطرته الإنسانية وموقعه من الكون، وفي هذا الصدد نعتقد أن هذه المشكلة الاجتماعية لا تكمن في عدم استجابة الإمكانات الطبيعية لمعدلات النموّ السكاني، بل تنبع من عدم الاستثمار الجيد لهذه الإمكانات وأنماط الظلم في توزيعها، يقول القرآن الكريم ــ بعد أن يذكر النعم الإلهية الكثيرة ــ : >وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ< (إبراهيم: 34).
ثانياً: إن ملاحظة الواقع الإنساني عبر التاريخ وما تقرّره الشرائع الإلهية في نظريّاتها الاجتماعية، تؤكد أن الكيان العائلي يشكّل حجر الزاوية في البناء الاجتماعي، وأنّ أي تحرّك يوهن في استحكامه أو يطرح بديلاً عنه يشكل ضربةً للمسيرة الإنسانية الأصيلة، لكنّ هذا لا يعني مطلقاً أن لا نلجأ إلى تنظيم هذا الكيان بالأساليب المشروعة فذلك جزء من تحكيمه وتوجيهه.
ثالثاً: إنّ للمرأة ــ باعتبارها نصف المجتمع الإنساني ــ دورها الأساس في صياغة البناء الاجتماعي والسياسي، ويجب بكلّ تأكيد أن تلعب دورها بكلّ ثقة ودونما أي حطّ لكرامتها أو امتهان لقدراتها الإنسانية.
رابعاً: إنّ أية خطة واقعية لإقامة تنمية مستقرّة لا يمكنها أن تتغافل عن دور القيم الأخلاقية والعقيدة الدينية في تحكيم أسس التنمية والإشباع المتوازن لمتطلبات الإنسان باعتباره محور الإعمار، فلابد إذاً من توكيد هذه القيم والعمل على دعمها واستبعاد كل ما ينافيها.
خامساً: إن مبدأ التساوي في إمكانية الاستفادة من الخيرات الطبيعية، وهي هبة الله تعالى، ليدعونا جميعاً للعمل على تحقيق تقارب كبير بين مستويات المعيشة، وعلى المستوى العالمي، الأمر الذي يحمّل الدول الغنية عبئاً كبيراً لتحقيق هذا الهدف، بحيث لا يمكنها التنصّل منه إن شاءت تحقيق الاندماج الإنساني المطلوب.
سادساً: إن حقوق الإنسان ــ كما تقرّرها الوثيقة العالمية والوثائق الأخرى كالوثيقة الإسلامية ــ تجب مراعاتها بشكل دقيق؛ إلا أن من الطبيعي الإصرار على أنه لا يحقّ لأية دولة أو مجموعة أن تفرض مفهومها لها على الدول الأخرى أو تحاول الاستهانة بالعناصر الثقافية والدينية التي يحملها الآخرون بذريعة فهمها، بل يجب الوصول إلى تعريفات مشتركة مقبولة يمكن من خلالها تشخيص الحقيقة دونما أيّ تحميل، ولتكون الوثائق معتمدةً عن بصيرة ودقة؛ فلا يمكن استغلالها بسهولة.
دور المنظمات الشعبية في تحقيق الأهداف الدولية للتنمية ـــــــ
خطت البشرية خطوات واسعة على طريق إيجاد تشكيلات دولية شاملة تعمل على حلّ مشاكلها، وتحقيق تفاهم ممكن بين أعضائها، وهي تحاول الوصول إلى طروحات عالمية تترك آثارها الإيجابية على المستوى العالمي.
وهكذا تمّ إنشاء الأمم المتحدة ــ بوصفها أوسع منظمة دولية ــ بما لها من منظمات فرعية في مختلف المجالات الثقافية، والاقتصادية، والصحية، والتجارية، وغيرها.
كما تمّ إنشاء حركة عدم الانحياز في مجال أضيق، ومنظمة المؤتمر الإسلامي في إطار العالم الإسلامي.
وهناك منظمات وتجمّعات دولية كبرى أخرى لها أثرها الكبير في المسيرة، إلا أن أكثر المنظمات الدولية ما زالت مبتلاة بنقاط كبرى تمنعها من تحقيق أهدافها الإنسانية، ويمكننا أن نشير إلى بعضها فيما يلي:
1 ــ إن قرارات هذه المنظمات إنما تحقّق ــ في أحسن الحالات ــ مصالح الحكومات وتوجّهاتها، ولا ضمانة فيها لتحقيق أهداف الجماهير، على أنها في الواقع إنما تحقّق مصالح القوى المتحكمة في هذه المنظمات إن لم نقل بأنها إنما تحقق مصالح القطب الواحد المتحكّم اليوم فيها.
2 ــ إن واقع الحال المشاهد في هذه المنظمات يقضي بأنها في كثير من الأحيان تقع تحت تأثير اتجاهات معادية للإنسانية، كالاتجاهات الصهيونية والاتجاهات المادية الإلحادية وغيرها؛ الأمر الذي يعود بأعظم الخسائر على المسيرة الإنسانية.
3 ــ كما أنّ التأمل في قراراتها يكشف لنا ــ أحياناً ــ عن قيام هذه المنظمات بإشاعات كاذبة لتطلّعات الجماهير دون أن يكون وراء الشعارات المرفوعة واقع مؤثر؛ وذلك كما في قرارات حقوق الإنسان، ومحاربة العنصرية، والدفاع عن حقوق المرأة، وتنظيم عملية التنمية الاجتماعية وغيرها، كما أنّنا نجدها في هذا المجال تكيل بمكاييل متعدّدة حسبما تقتضيه المصالح الضيّقة، على أنّ القرارات الحقيقيّة تبقى حبراً على ورق ما لم تتفق مع مصالح القوى الكبرى.
وكذلك ما نشاهده من ضعف في قرارات منظمة المؤتمر الإسلامي في مختلف القضايا الإسلامية، رغم ضخامة الشعارات التي ترفعها تجاه القضية الفلسطينية ــ مثلاً ــ وغيرها، غير أنها تبقى عاجزةً عن التنفيذ.
4 ــ ثم إنها تعتمد عنصر التأجيل والمماطلة والمساومة وأنصاف الحلول، وأساليب ما وراء الأستار وغيرها مما قد يؤجّل الحلّ المطلوب.
وغير ذلك من النقائص المشهودة.
من هنا، نجد مجالاً واسعاً لقيام المنظمات غير الحكومية بالاشتراك في الاجتماعات الدولية والسعي للضغط على الجهات الرسمية لتتخذ القرارات الأكثر انسجاماً مع الأهداف المطلوبة.
إنّ مشاركة هذه المنظمات يمكنها أن تترك آثاراً إيجابية من جهات عديدة من قبيل ما يلي:
1 ــ لمّا كانت هذه المنظمات الشعبية أقرب إلى واقع المشكلات الاجتماعية فإنها أكثر تفهماً للحلول المطلوبة جماهيرياً؛ وهي ــ من ثمّ ــ قادرة على الاقتراب بالقرارات من هذه الأهداف.
2 ــ ولما كانت هذا المنظمات غير الحكومية حرّةً في تحليلاتها وغير مقيّدة بالقيود الرسمية، فإنها تستطيع أن تصل إلى الحلّ الواقعي، وتطرح ذلك بقوّة أمام المحافل الدولية.
3 ــ على أنّ حضور هذه المنظمات يشكّل تواصلاً جماهيرياً جيداً قد يكوّن رأياً عاماً دولياً لا تستطيع معه الجهات الرسمية إلا الاستجابة لمقتضيات هذا الرأي العام، مما يمنحها روحاً جماهيرية وإقداماً على خطوات أكثر واقعية.
نتائج وتوصيات ـــــــ
على ضوء ما تقدّم نستطيع أن نقرّر الحقائق التالية:
1 ــ إن عملية التنمية الاجتماعية عملية إنسانية لا تحدّها حدود جنسية ولا جغرافية ولا مادية، وإن المرأة ــ في التصوّر الإسلامي ــ عنصر أساس في هذه المسيرة، وبدونها ستبقى العملية بتراء غير فاعلة.
2 ــ إن العالم أدرك ــ متأخراً ــ هذه الحقيقة، فيما سبقه الإسلام إليها بأكثر من عشرة قرون؛ حينما جعل المرأة عدل الرجل في الولاية الاجتماعية، ومنحها كلّ ما يحقق لها مشاركتها في القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
3 ــ إن للحكومات والجهات الرسمية دورها الكبير في تحقيق هذه الأنماط من المشاركة، لكنّ ذلك لن يحقق النتيجة المطلوبة ما لم تقم المنظمات الشعبية باحتلال مركزها في دفع هذه العملية إلى الأمام.
4 ــ إن منظمة المؤتمر الإسلامي لم تحقّق الأمل المطلوب منها في الانسجام مع النظرة الإسلامية للمرأة، ولم تعطها الدور الأساس المطلوب مع الأسف، متخلّفةً عن الطبيعة الإسلامية الرائدة، وإنّ عليها اليوم أن تسابق الزمن من أجل تأمين هذا الانسجام.
والحقيقة أن القرار الصادر عن مؤتمر القمّة الثامن بطهران يشكّل سابقةً جيدة في هذا المجال؛ إلا أنني أعتقد أنه يبقى مختلفاً عن مسايرة التطوّر المطروح دولياً في هذا المجال.
وهنا أقول: يجب أن لا ننسى التحديات التي تواجهنا ــ مطلع القرن الحادي والعشرين ــ على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، تحدّيات العولمة، وتحديات الهيمنة الثقافية، وتحديات القرية الصغيرة إعلامياً، وتحديات الشعارات البراقة التي يتستّر خلفها أعداء العلاقات الإنسانية السليمة، وصولاً حتى إلى قوانيننا الفرعية لتطويرها وفق مقاصدهم.
لذا يجب الإبداع في كلّ الحقول، وأذكر مثلاً الحقل الرياضي؛ فلا يمكننا أن ندع المرأة كسولةً بدينة مريضة، وإنما يجب ابتكار الأساليب السليمة المتسمة بالعفة والخلق الإسلامي الرفيع لتقديم البديل المطلوب عن الأساليب المعروفة عالمياً والمنافية لكل قيمنا وأعرافنا. إنه مثلٌ واحد على ضرورة التطوير والتغيير في مختلف الحقول، وكذلك الحقل السياسي، فلا مجال لتناسي دور المرأة الفعّال في صياغة القرار السياسي، وهذا ما تفتقدُه بعض مناطقنا الإسلامية، بل نجد بعض الفئات المتحجّرة تفرض على المرأة أن تكون حبس بيتها بعيدةً عن التعليم فضلاً عن المشاركة في الحياة الاقتصادية، وذلك طبقاً لاجتهادات قشرية غريبة عن الروح الإسلامية، وهذا العمل، فضلاً عن تشويهه للصورة الإسلامية، يكبّل مسيرة الأمّة نحو مواجهة التحدّي الذي أشرنا اليه.
إننا نشعر بكلّ تأكيد بالحاجة لا لكتابة استراتيجيّتنا الثقافية في مختلف الحقول، ولا للموافقة على لائحة رسمية لحقوق الإنسان في التصوّر الإسلامي، ولا حتى لاستراتيجية إعلامية او اجتماعية لعالمنا الإسلامي، فإنها جميعاً قد دوّنت بعد تداول طويل، بل تكاد تكون واضحة في خلد كل من له معرفة بالتوجهات الإسلامية، وإنما نشعر بالحاجة للعمل المنظّم والمتكامل ــ على صعيد العالم الإسلامي ــ بهذه الاستراتيجيات المتفق عليها، سواء في مؤتمرات إسلامية دولية، كمؤتمر القمّة السادس بداكار (السنغال) أو مؤتمر وزراء الخارجية الثامن عشر بالقاهرة أو غيرها.
ومما آسف له أن أعلن أن العالم الإسلامي ــ على مستوى منظمة المؤتمر الإسلامي ــ لم يتفق بعدُ على الصيغة العملية للتنفيذ، رغم وجود صور تنفيذية هنا أو هناك.
ونؤكّد أخيراً على أن هذه الأمة الإسلامية لها خصائص معيّنة تحدّد لها هويتها وترسم لها معالمها القرآنية، ومنها: الخصيصة الإلهية والانتساب في العقيدة والتشريع إلى الله تعالى، كما أن منها الخصوصيّة الأخلاقية الإنسانية التي تتجلّى من خلالها كلّ السمات الأخلاقية الإسلامية، وتتخلّص من كل أنماط الفساد والصور اللاأخلاقية التي تلعب الغرائز الجنسية دورها فيها لتشويه الصورة الصحيحة، فلا يمكن لهذه الأمة أن تفتخر بانتسابها للإسلام إلا إذا طبّقت الصورة الإسلامية السامية، وأقامت علاقاتها على أساس من معايير الإسلام، وحصّنت جماهيرنا بالوعي المطلوب، بل أوجدت فيها ــ بما فيها العنصر النسائي ذي النسبة الكبيرة ــ الدوافع الكبرى لمواجهة التحدّي المذكور.
إنّ الصحوة الإسلامية قدرُنا، وإلا أدركتنا التحدّيات وقضت على خصائصنا، وهنا يبرز العلماء ــ رجالاً ونساءً ــ ليقوموا بدور ورثة الأنبياء.
* * *
(*) فقيه معروف، ورئيس رابطة الثقافة والعلاقات الإسلامية، من أبرز وجوه التقريب بين المذاهب في العالم الإسلامي.