هو ذا قاضي المحكمة يدخل القاعة، الجميع يقف، إنه "الإمام أبي حامد الغزالي". يجلس القاضي ويأخذ فيجلس الجميع. "أرجو من وكيل الادعاء أن يباشر في مرافعته". يقوم "محمد عابد الجابري" ويمشي باتجاه رجل كث اللحية قصير القامة رفيع الجبين غائر العينين، يقف وحيدا في "قفص الاتهام" وما أن يقترب منه الجابري حتى يرفع إليه نظرات الازدراء، ثم يتوجه نحو الحضور ليقول: "أيها الحضور الكرام، أمامكم المدعو ابن سينا، الرجل الذي نتهمه بالمسئول الأول والأخير عن سريان الجهل والتخلف واللاتعقل في العقل العربي، وسوف أضع بين يدي هذه المحكمة الفكرية أدلة تدينه بشدة وكل أملي أن توقع المحكمة به أصعب العقوبات". علت على قسمات وجه الإمام الغزالي ابتسامة رضا، بينما بدا الوجوم في وجوده بعض الشخصيات التي كانت حاضرة المرافعة. بعد ذلك تلا "الجابري" نقوده اللاذعة على الفكر السينائي، متمثلا في أفكاره حول برهان واجب الوجود، ثم في النبوة ثم في مقامات العرفاء والمعرفة الحضورية والشهود العرفاني، وبعد ذلك قال….."هذا كل ما لدي وإنني على يقين بأنكم جميعا تشاطرونني الرأي بأن ابن سينا هو المدشن الفعلي لمرحلة الغنوص واللاوعي في العقل العربي".
عندها، تكلم القاضي وهوة يقول" بناء على الأدلة التي …….." وفجأة ارتفع صوت من زاوية المحكمة يقول:" معذرة سيدي…أظنك نسيت أن تتيح لي فرصة الدفاع عن موكلي" إنه "هنري كوربان" المستشرق والفيلسوف الفرنسي الشهير.
"نعم عفوا…تفضل" قال القاضي بنبرة لا تخلو من انزعاج، وبدأ "كوربان" يقول: " أيها الحضور الكريم، يقف أمامكم رجل دأبت أمم العالم على تكريمه سنويا لانجازاته التي أثرت على المسار العلمي للتفكير البشري شرقا وغربا. رجل تهافت الغربيون بنهم ينهلون من كتابه القانون وإلهيات الشفاء والإشارات والتنبيهات، فوجدوا في عطائه الثر حلولا لأعتى المشكلات العقلية، كعلاقة النفس بالبدن والخالق بالعالم والحركة والزمان. رجل يدين له العلم التجريبي الكثير حتى عده رائدا من رواده. رجل انتبه قبل غيره أن إله القرآن لا يمت بإله اليونان بصلة فابتكر حلولا جذرية لتفكير عضي على الإنكار. إنه "ابن سينا" المتهم اليوم في هذه المحكمة بأنه مدشن لمرحلة الإظلام في العقل العربي! ذلك لأنه قال بوجود طور من الإدراك ونمط من المعرفة يفوق طور العقل. أي طور الإدراك العرفاني أو شهود الحقائق بالعلم الحضوري. وليت موكلي اكتفى بالادعاء فحسب حتى يتهم بهذه التهم الشنيعة، بل برهن وأجاد، وأتى من الشرع بما يعضد نتائجه، وإذا به يكافئ هذه المكافأة في هذا المكان من العالم. اسمحوا لي أن أضع بين أيديكم منهج ابن سينا في المعرفة الذي يؤسس للتجربة والإدراك العقلي والطور العرفاني في بوتقة واحدة". أخذ "كوربان" يتلو الأدلة والبيانات رغم كلمة "اعترض" التي كانت تصدر من الجابري مرة تلو الأخرى، إلى أن أتم بيانه. عندها صاح "الجابري" يقول .." لا تسمعوا له، فهي فذلكات كلامية لا معنى لها في قاموس المعرفة. إنكم إن كنتم تريدون للعقل العربي دورا جديدا فأوقفوا زحف الفكر السينائي فيه. أوقفوا العرفان والغنوص ومن يدعو له".
ساد الصمت في القاعة، وتوجهت الأنظار إلى القاضي ليفصل الأمر…
استرخى "أبي حامد" ثم قال " بعد إسقاط الفذلكات الكلامية التي كان يهذي بها كوربان، ووضع ما تفضل ببيانه الجابري في عين الاعتبار، تحكم هذه المحكمة بزندقة "ابن سينا""!!!
خلت القاعة من الناس باستثناء شخصان، أحدهما "جورج طرابيشي" و ألآخر "عبدا لله الطبري". ترحم الأول على الجابري بقوله "رحم الله عابد..فلقد ذبح التراث على قارعة مشروع استنهاض العقل العربي ليفقده بذلك عماده"، بينما ترحم الآخر على "ابن سينا" قائلا "رحمة الله الشيخ الرئيس، رائد العقل الذي أريد له أن يسقط لكي ينهض العقل مجددا، ترى بأي أداة يكون ذلك؟"