سؤال الوعي التاريخي والمعاصر
_ الحلقة الثالثة_
تحدثنا في الحلقتين السابقتين عن بعض ما نتصوّر أنه ضروري في تقييم عملية الاجتهاد وتقويم مفهوم الأعلمية أيضاً، ونريد في هذه الحلقة أن نواصل هذا الأمر عبر التعرّض لدور الوعيين: التاريخي؛ والمعاصر، في بناء عملية اجتهاد أكثر دقة وسلامة.
يُظهر الوعي التاريخي أهميته من خلال كون النصوص التي صدرت أو نزلت جاءت في سياق تاريخي، ومن الطبيعي أن السياق حجة وعنصر رئيس في فهم مراد المتكلّم، بل يتعداه إلى السياقات المقامية والحالية و..، وفي كثير من الأحيان يصعب فهم السياق بتمام عناصره ـ بما فيها العنصر غير اللفظي ـ إلا بالإطلالة على المعلومات والوثائق التاريخية ذات الصلة به، لتتكوّن عبرها العناصر الحافة بالكلام.
لنفرض أننا لا نملك معلومات تاريخية عن الظروف العصيبة التي كان يمرّ بها أهل البيت^ وأنصارهم في العصرين الأموي والعباسي.. هل كان لمفهوم التقية أن يكون حاضراً بهذه القوة التي نشهدها له اليوم؟ من الطبيعي أننا كلّما فهمنا الظروف التاريخية استوعبنا الملابسات التي تتصل النصوص بها، لتريد حلّ مشكلة أو الجواب عن تساؤلات ما.
في هذا السياق عينه، تأتي فكرة السيد حسين البروجردي (1380هـ) حين يتحدّث ـ كما ينقل بعض تلامذته ـ عن ضرورة فهم نصوص أهل السنّة ومواقفهم في الفقه والحديث؛ بوصف ذلك مقدّمةً لفهم نصوص أهل البيت (انظر: واعظ زاده الخراساني، الموسوعة الرجالية 1: 33 ـ 34، المقدّمة)، فإن هذه الفكرة تستبطن قدراً وافياً من الحس التاريخي؛ عندما تؤكّد على دور التدخل الاستثنائي للنصوص في معالجة حالة تاريخية منحرفة هنا أو هناك، وإلا فما معنى هذه الضرورة لدراسة المشهد السنّي قبل مطالعة النصوص الحديثية الشيعية؟!
وفي الإطار عينه تأتي فكرة الوعي الاجتماعي للنصوص، لتتصل بمسألة فهم الظروف الاجتماعية الحافة؛ فعندما يطلق السيد محمد باقر الصدر (1400هـ) هذه المقولة ـ ولاسيما في سياق مدحه لتجربة الشيخ محمد جواد مغنية في كتاب فقه الإمام جعفر الصادق ـ فإنّه ينشط الحسّ الاجتماعي والتاريخي؛ لأنه لا يريدنا أن نعتبر الجمل والكلمات والحروف الماثلة أمام ناظرينا ممثلةً للحديث الشريف أو الكتاب الكريم، أعني أنّه لا يريد أن يعتبرها معطيات وحيدة يجري فهم المراد عبرها فقط، بل يرغب بإقحام عناصر أخرى تتصل بالسياق التاريخي والاجتماعي لمضمون الرسالة التي يريد هذا النصّ أو ذاك أن يوصلها إلينا.
وليس فقهاء المسلمين بغائبين عن ألوان السياق الأخرى، فقد أشاروا لذلك ومارسوه في الفقه والأصول والتفسير والقرآنيات، فنحن لا نبدع هنا ولا نبتدع، وإنما نوصّف ضرورةً قائمة.
لكن الشيء المهم في هذه القضية هو حجم استحضار التاريخ في وعينا للنصوص؛ هل كان هذا الاستحضار بالمقدار الكافي؟
أعتقد أن نقصاً ما يزال موجوداً؛ فنحن نلاحظ ضعف حضور التاريخ على عدّة جبهات، حبذا لو يُلتفت إليها أكثر؛ وهي:
1 ـ قلّة المعلومات التاريخية العامة، فأكثر المعلومات التاريخية التي يحملها المشتغلون في الفقه تكمن مشكلتها في أنها تعتمد ـ من جهة ـ على النصوص نفسها التي يجري البحث عن سياقها التاريخي لفهمها، كما تتضيّق ـ من جهة أخرى ـ عندما تكون الإطلالة على التاريخ من منظور التاريخ الشخصي، أي تاريخ شخص الأئمة^ عند الشيعة، أو شخص الصحابي أو الخليفة الراشد عند أهل السنّة.
هذا الوضع يجعل المشتغل بالفقه حاملاً لتصوّر منقوص عن المشهد التاريخي والصورة التاريخية، فنحن من جهة نريد الكشف عن التاريخ بعناصره السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية و.. ليعيننا ذلك على تكوين المناخ الطبيعي الذي جاءت داخله النصوص، مقدمةً لفهمها فهماً صحيحاً؛ فإذا تخلّيت عن كل الموروث التاريخي لأجعل النصوص الحديثية أو القرآنية وحدها مصدراً للتاريخ أكون قد وقعت في دور واضح، لا بمعنى العجز عن الفهم، وإنما بمعنى أن العلاقة هنا جدلية، فكما نطالب بجعل الكتاب والسنّة مصدراً تاريخياً كذلك نطالب بفهم الكتاب والسنّة مستعينين بسائر مصادر التاريخ. نعم، نحن نؤكّد على السيرة النبوية القرآنية، التي تستمدّ معلوماتها من القرآن نفسه، وقد دعا العديد من قبل لهذا الأمر، مثل محمد حسين هيكل في ما كتبه حول سيرة النبي’، بل حتى بعض المستشرقين في هذا المجال.
نعم، وندعو لسيرة حسينية مصدرها روايات أهل البيت^، وليس تاريخ الطبري أو غيره فقط، لكن في المقابل لا تعني الدعوة هذه هدراً لقيمة سائر النصوص التاريخية التي تعيننا على فهم نصوص الكتاب والسنّة، كما أن النصوص الشريفة تعيننا على فهم وتقويم فهمنا للتاريخ من خلال المصادر الأخرى.
أما التحقيب التاريخي على أساس واحد، مثل التحقيب على الأساس الشخصي ـ المشار إليه ـ، فهذا ما يؤدي إلى صور غير مكتملة؛ لأن أهل البيت أو الخلفاء الأوائل ـ مثلاً ـ لم يكونوا العنصر الوحيد في التاريخ، كما لم يكونوا على صلة ـ تاريخياً ـ بتمام أحداث عصرهم، فإذا كوّنا أيّة صورة للتاريخ على أساسهم لن نحصل على تاريخ عام، بل سنحصل على تواريخ شخصية لها إطلالات على التاريخ العام، وفرقٌ واضح بين الأمرين.
من هذا كلّه نحن بحاجة ماسّة إلى درس تاريخ شامل للحقبة الإسلامية الأولى، يساعدنا على التعرّف على السياق المحيط بصدور النصوص أو نزولها.
2 ـ عدم حضور الوعي التاريخي بشكل فاعل في النشاط الاجتهادي، فنحن نجد في الغالب أن الفقهاء يتعاملون مع النصوص، وقلّما يأخذون السياقات المحيطة تاريخياً بعين الاعتبار، وربما يكون ذلك لأسباب:
أ ـ ضعف الوثوق بالتاريخ، وهذا ما نجده عند بعض المتشدّدين في النقد التاريخي؛ إذ قد لا يسلم بين أيديهم واقعة أو حدث.
ب ـ الاعتقاد بأن >المورد لا يخصّص الوارد<، وهي القاعدة التي أصّلها المفسّرون وعلماء أصول الفقه المسلمون، فحموا بها النصوص عن الاختزال التاريخي أو اختناق الدلالة، وكانوا هادفين من ذلك فتح باب الضخّ الدلالي في النصوص بهدف حمايتها أن تهدر.
ج ـ عدم حصول وثوق بعلاقة حقيقية بين هذا الوضع التاريخي أو ذاك وبين النصّ الذي نفترض أنه يقع ضمن سياق هذا الوضع التاريخي؛ فإنّ العلاقة بين النص والسياقات المعروفة تظلّ أوضح من العلاقة بينه وبين السياق الزمكاني؛ لأن تراكيب اللفظ ظاهرة معلومة الاتصال بحكم وصول النص إلينا بالتواتر أو بأيّ طريق معتبر، أما علاقة النص بالواقع المحيط فقد تبدو مجرّد افتراض في كثير من الأحيان؛ إذ ليس في النصّ نفسه إشارة للواقع التاريخي بوصفه سياقاً حافاً، كما لا نملك معلومات موثقة عن هذا الارتباط العضوي بين الطرفين.
ربما لهذه الأسباب وغيرها تراجع تفعيل السياقات التاريخية في الاجتهاد الفقهي، لكننا نتحفّظ عن الاستسلام لهذه الاعتبارات، ونعلّق هنا عليها بتعليقات طفيفة، محيلين ذلك إلى البحث التفصيلي في موضعه، كما بحثناه في دراساتنا الأصولية.
أولاً: يظلّ إثبات الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية و.. العامة في التاريخ أوفر حظاً من إثبات النصوص الجزئية الصادرة من عمرو أو بكر، والوقائع الميدانية التفصيلية هنا وهناك؛ إذ وفقاً لنهج الاستقراء وحشد الشواهد والقرائن وتوفير المعطيات ذات الطابع المتراكم.. يمكن تكوين صور يقينية في التاريخ؛ بل لعلّ هذه الأكثر يقيناً في المراجعة التاريخية، والأكثر صموداً أمام معاول النقد التاريخي.
ثانياً: هناك فرق بين عدم تخصيص الوارد بالمورد وبين فهم الوارد بمعونةٍ من المورد، وهذا شيء يقرّ به المفسرون المسلمون؛ لهذا اهتموا بدراسة أسباب النزول لتعينهم ـ أحياناً ـ على فهم الآيات القرآنية؛ وبهذه الطريقة لا تُهدر دلالة النص لخصوصية المورد، ولا يضيع السياق الموردي أمام النص، بحيث يبدو النص وكأنه بُتر بتراً من سياقه المحيط، ومثال ذلك ما ذكره بعض أساتذتنا من كبار العلماء المعاصرين في أبحاثه حول الخمس، حيث جعل كلمة >غنمتم< الواردة في آية الخمس بمعنى غنائم الحرب، لا لتخصيص الوارد بخصوص المورد، بل لأنّ الكلمة مشترك لفظي له معانٍ متعدّدة في اللغة، يترجّح واحدٌ منها بقرينة السياق، ولو كان نظره هناك للسياق القرآني المحيط بآية الخمس.
ثالثاً: إن فرص التأكّد من العلاقة بين النص وسياقه تظلّ ممكنة، ولاسيما لمن مارسها؛ وحتى لو لم نجزم بها فقد ذكر علماء أصول الفقه أن الشك في قرينية الموجود يوجب الإجمال في الدليل، وهذا ـ على أبعد تقدير ـ نحوٌ من أنحاء الشك في قرينية الموجود (وهو السياق التاريخي المحيط)، الأمر الذي سيترك أكبر الأكثر في تعطيل بعض نواحي الإطلاق في النص أو غير الإطلاق أيضاً، وقد تعرّضنا بشيء من التفصيل لهذا الأمر عند بحثنا عن >تاريخية السنّة الشريفة< (انظر: مجلّة الحياة الطيبة، العدد 21 ـ 22، 2007م، مقال: تاريخية السنّة النبوية، مقاربة في ضوء منهاجيات أصول الفقه الإسلامي).
من هنا نعتقد أنه كلّما كان الفقيه ذا ثقافة واسعة في التاريخ الإسلامي على امتداد أشكاله كانت مقاربته للنصوص وقراءته لها أفضل وأقرب إلى فهمها فهماً واقعياً، بدل قطع جذورها وأوصالها وقراءتها لوحدها كأنها مسقطة ـ بمعزل عن كل شيء ـ من السماء، فليس الصحيح أنّ الغرق في الفقه وأصوله دون تكوين خلفية ثقافية تاريخية هو علامة العمق العلمي، بل هذه الخلفية لها دورها أيضاً في هذا العمق، فما يتردّد في الوعي واللاوعي من أن مثل التاريخ وعلومه إنما هو مجرّد حاجة ثقافية عابرة لا تعني الفقيه المتضلّع ليس سوى وهم زائف يفتقد الكثير من عناصر الدقّة.
وثمّة حاجة أخرى ماسّة في تقويم عملية الاجتهاد؛ وهي وعي الفقيه للواقع الاجتماعي والسياسي و.. المعاصر؛ وذلك ليس اعتباطاً أو كلاماً خطابياً عن المعاصرة والحداثة والتجديد؛ بل ذلك حاجة علمية أيضاً، فصحيح أنّ حضور الفقيه في واقع الحياة قد يعطّل من قدرته العلمية، كما وجدنا عند بعضهم، وصحيح أنّ حضوره كذلك قد يفرض عليه ـ ولو من حيث لا يشعر ـ ضغطاً من الواقع لتطويع النص..، نعم، هذا كلّه صحيح، ويجب السعي لتفاديه، لكنّ ظهور آثار سلبية محدودة لأمرٍ ما لا يعني التخلّي عن هذا الأمر بالكلية، أو تعطيل رؤيتنا لنتائجه الإيجابية.
إن فهم الفقيه للواقع، وعيشه في متغيرات الحياة، ووعيه لطبائع البشر وأمزجة الخلق، وملاحظته لطبيعة المشاكل والأزمات التي يعاني منها الإنسان، سوف يمكّنه ذلك كلّه من فهم الرسالة المقصدية الأساسية التي تريدها النصوص، فيبتعد بذلك عن الفهم المجافي للحياة؛ بل تغدو مواقفه وفتاويه أقرب إلى الواقع من غيره، ففي عالم تشكّل >المالية< وليس >النقدية العينية< أساساً فيه كيف يمكن الإفتاء بأن وضع المال في البنوك يصيّره مجهول المالك، كما ذهب إلى ذلك بعضهم؟! وإلى فتح الحديث عن قيمة البيع المعاطاتي وسط مليارات البيوع المعاطاتية اليومية بين الناس، حتى قال بعض الفقهاء بأنّ الأصل في البيع المعاطاة؟! وكيف يمكن للفقيه أن يبتّ ـ مطمئناً ـ في قضية مثل قضية حقّ النشر والتوزيع والتأليف والاختراع و.. ـ ولو بعنوان ثانوي ـ دون أن يحمل تصوّراً حقيقياً عن هذا الموضوع البالغ الخطورة؟ هل يصحّ إصدار حكم بحق الاستنساخ ـ تلك العملية البالغة التعقيد طبياً وعملياً ـ قبل أن نكوّن وعياً ميدانياً بها وبتأثيراتها على أرض الواقع، وليس قال فلان، وأخبر فلان، أو على تقدير سؤال السائل؟
إذا لم يكن عقل الفقيه عقلاً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً ـ ولا أقول متخصصاً في هذه المجالات الثلاثة ـ فإن من الصعب عليه في بعض الأحيان أن يضع الفتوى على موضعها الخارجي.
إن الابتعاد عن المقاصدية في فهم رسالة النصوص الدينية ورّط الفقه في مشاكل، فلست أدري حتى اليوم كيف يقبل الفقيه الذي يقرأ النصوص في إطار تطبيقها الميداني، وبُعدها المقصدي والرسالي، لا في الإطار الذي يبترها، أن يفتي بجواز مشاهدة الأفلام الإباحية لغير المسلمين بدون شهوة، ثم يستصرخ لمنع الطبيب من النظر بدون شهوة إلى بعض قليل من يد المرأة، عندما لا يبلغ حدّ الضرورة، ولا يكون فيه هتكاً عرفاً لحرمة المرأة؟!
إننا نعلم المبررات التي طرحت لتبرير كل هذه الفُهوم الفقهية؛ ولكننا نريد القول: إنه قد غاب عن بعض المشتغلين في الفقه تقديم فقه الحياة بعد أن غيّبتهم مقولات الحجية وبراءة الذمة؛ أما من يريد للفقه أن يحيا في عصر عدم وجود المعصوم، وأن يحكم وأن يمارس على المستويات كافة، فعلية أن يقدّم فقهاً يقبل هذه الممارسة، لا فقهاً يتناسب مع حياة الصحاري وانعدام المدنية على حدّ تعبير الإمام الخميني (صحيفة إمام >فارسي< 21: 150)، الذي رفض بشدّة السماح للشيعة ـ بحجة فكرة التحليل ـ بقلع كل أشجار الغابات وسحب شطوط البحار وأعالي الجبال وبطون الوديان، ما سيؤدي إلى كوارث لا يمكن تصوّرها.
نعم، هذا ليس عنواناً ثانوياً دائماً، كيف وعصور التطوّر العلمي تكاد تبلغ حجم ما سبقها من عصور إلى بداية الإسلام؛ فلمن كانت تشرّع الشريعة؟!
أَبَعْدَ هذا لا يكون لوعي التاريخ والحاضر دوراً في الاجتهاد والأعلمية والإفتاء؟