قراءة فقهية شاملة
(القسم الرابع)
ترجمة: حيدر حب الله
الفصل الثاني: تساوي شهادة الرجل والمرأة من حيث العدد، دراسة وتحليل
من جملة المباحث الهامة التي تطرح في باب الشهادات، وتمثل هدفاً رئيساً لدراستنا هنا، هو العدد الذي نحتاجه في شهادة النساء، بمعنى أنه عندما يثبت في مورد ما حجيّة شهادة المرأة، سواء أكانت منفردةً غير منضمة إلى الرجال، مثل شهادة المرأة في عيوب النساء أو البكارة أو الاستهلال، أم كانت منضمةً إلى الرجال أم إلى اليمين من طرف المدعي..، في هذه الحالات هل تكفي شهادة المرأة الواحدة لتكون مثل شهادة الرجل الواحد أم أن شهادة الرجل تساوي دائماً شهادة امرأتين؟ وعليه ففي كل مورد كانت شهادة المرأة فيه حجةً لا بد من اعتبار شهادة المرأتين بمثابة شهادة الرجل الواحد.
الآراء والنظريات
وتوجد هنا نظريتان أساسيتان، هما:
النظرية الأولى: وهي نظرية التساوي في العدد بين الرجال والنساء في ما لا يمكن للرجال النظر إليه، كالبكارة، وعيوب النساء، والحيض، والنفاس، والولادة، والاستهلال والرضاع، وهذه هي نظرية الشيخ المفيد([1])، والديلمي([2])، بل يريان أيضاً أنه لو لم يتوفر الشاهدان من النساء يكتفى بشهادة المرأة الواحدة التي يوثق بها، وتثبت بشهادتها الدعوى.
يقول المفيد: «وتقبل شهادة امرأتين مسلمتين مستورتين في ما لا يراه الرجال، كالعذرة، وعيوب النساء، والنفاس، والحيض، والولادة، والاستهلال، والرضاع، وإذا لم يوجد على ذلك إلاّ شهادة امرأة واحدة مأمونة قبلت شهادتها فيه». ويقول الديلمي: «وأما ما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) باحث وأستاذ في الحوزة العلمية، من إيران.
تؤخذ فيه شهادة النساء فكل ما لا يراه الرجال، كالعذرة، وعيوب النساء، والنفاس، والحيض، والاستحاضة، والولادة، والاستهلال، والرضاع، وتقبل فيه شهادة امرأة واحدة، إذا كانت مأمونة».
النظرية الثانية: وهي النظرية والفتوى المشهورة بين الفقهاء، وهي تقول بعدم التساوي، إذ يذهب الفقهاء إلى أن شهادة امرأتين تساوي في القيمة شهادة رجل واحد، ولا قيمة لها لوحدها، وهذا ما ادّعى صاحب الجواهر القطع به، حيث قال: «كل موضع يقبل فيه شهادة النساء لا يثبت بأقلّ من أربع، كما هو المشهور؛ للأصل، بل يمكن دعوى القطع به من الكتاب والسنّة من أن المرأتين يقومان مقام الرجل في الشهادة»([3]).
أدلة إثبات التساوي العددي في الشهادة بين الرجل والمرأة
أ ـ إلغاء الخصوصية العرفية وتنقيح المناط
عندما نرجع في مسألة الشهادات ـ وهي من الموضوعات العرفية والأحكام الإمضائية ـ إلى العرف فإننا نجده يعتبر ملاك قبول الشهادة كامناً في العدالة، وعليه فعندما يعلن كفاية شهادة الرجلين العدلين فإنّ العرف يرى أن تمام الملاك هو الوثاقة والعدالة ومشاهدة مورد الشهادة، ولا يرى العرف أيّ فرق بين الرجل والمرأة هنا، وشاهد هذا الفهم العرفي هو الآية الشريفة: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} ]البقرة: 282[، فالآية تصرّح أنه في الموضع الذي لا يوجد فيه رجلان فلابد أن يشهد على الأمر رجل وامرأتان، ولولا أن الشارع ذكر هذا الأمر فإنّ العرف والعقلاء سيرون الرجل الواحد مع المرأة الواحدة كافيين؛ نظراً لإلغاء الخصوصية، وتنقيح المناط، ومناسبات الحكم والموضوع، كما سيرون شهادة المرأتين كشهادة الرجلين. وعليه فالآية إذا لم تكن دليلاً على تمامية تنقيح المناط العرفي فهي بالتأكيد مؤيد معتبر لذلك.
لا يقال: إنّ الآية الشريفة نصّ في اعتبار تعدّد المرأة التي جاءت في مكان الرجل، وعليه تكون مسألة إلغاء الخصوصية من الاجتهاد في مقابل النص وصراحة الكتاب، ذلك أننا نقول في الجواب: إن الحكم في الآية ـ كما تقدم ـ مخصوص بمورد علّته، والعلّة المذكورة مخصّصة لعموم المعلول الذي هو مساواة الرجل لامرأتين في أبواب الشهادات كافة، على فرض وجود عموم في المعلول، وقد ذكرنا سابقاً أن مورد العلّة هو أن النساء الشاهدات ليست لديهنّ دراية بخصوصيات مورد الشهادة، وعدم الدراية هذه هي السبب في احتمال حصول النسيان الزائد عن الحدّ الطبيعي، وليس مورد العلّة الأمور الخاصة بالنساء، والتي إذا لم تكن النساء أكثر درايةً من الرجال فيها فهنّ مساويات قطعاً، فلا تشمل الآية مثل هذا المورد.
ب ـ الإطلاق وعدم التقييد بالمرأتين، وترك الاستفصال في بعض روايات الشهادة
جاء في صحيحة جميل بن دراج ومحمد بن حمران، عن أبي عبد الله×، قال: قلنا: أتجوز شهادة النساء في الحدود؟ فقال: «في القتل وحده، إنّ علياً كان يقول: لا يبطل دم امرئ مسلم»([4])، فهذه الرواية تدلّ على مطلوبنا هنا في قسمين منها:
1 ـ ترك استفصال الإمام، حيث لم يسأل السائل عن أن قصده هل هو الشاهدان أو الأربعة؟ بل ذكر له الأخذ بشهادة النساء في القتل دون استفصال.
2 ـ عموم العلّة في الذيل، فمع الالتفات إلى أن الإمام قد جعل علّة قبول شهادة النساء في القتل في عدم ذهاب دم المسلم هدراً نعرف أنه إذا كانت هناك حاجة إلى إضافة شاهدين امرأتين إلى الشاهدين المرأتين للشهادة لزم من ذلك بطلان الدم، ذلك أنه من الممكن أن لا يتوفر الشاهدان الآخران، ولا يكون في مسرح الجريمة سوى امرأتين فقط تشاهدانها.
وجاء في صحيحة الحلبي، عن أبي عبد الله× أنه سئل عن شهادة النساء في النكاح؟ فقال: «تجوز إذا كان معهنّ رجل…»([5])، وفي مضمرة أبي بصير، قال: سألته عن شهادة النساء؟ فقال: «تجوز شهادة النساء وحدهنّ على ما لا يستطيع الرجال النظر إليه، وتجوز شهادة النساء في النكاح إذا كان معهنّ رجل… » ([6]).
وتقريب الاستدلال أن هاتين الروايتين وإن وردتا في النكاح إلاّ أن إطلاقهما وعدم ذكر الإمام لقيد التعدّد في الشاهد المرأة معناه أن الخبرين يشملان حالة وجود رجل وامرأة، فعملاً بالإطلاق تكون الروايتان دالّتين على عدم وجود فرق بين الرجل والمرأة في العدد.
وكذلك الحال في الإطلاق وترك الاستفصال في الروايات الدالّة على قبول شهادة النساء لوحدهنّ دون حاجة إلى انضمام الرجال، مثل الموارد التي لا يستطيع الرجال النظر إليها، أو عيوب النساء الخاصة، فإن شهادة هذه الروايات بما فيها من إطلاق دليلٌ آخر على عدم الفرق في شهادة المرأة من ناحية العدد عن شهادة الرجل، وهذه الروايات كلها وردت في الباب 24 من كتاب الشهادات من وسائل الشيعة، في الجزء السابع والعشرين منه، وهي:
1 ـ خبر محمد بن فضيل، قال: سألت أبا الحسن الرضا×، قلت له: تجوز شهادة النساء في نكاح أو طلاق أو رجم؟ قال: «تجوز شهادة النساء في ما لا يستطيع الرجال أن ينظروا إليه، وليس معهنّ رجل..»([7]).
2 ـ خبر محمد بن مسلم… وقال: سألته عن النساء تجوز شهادتهنّ؟ قال: «نعم، في العذرة والنفساء»([8]).
3 ـ خبر عبد الله بن سنان، قال: سمعت أبا عبد الله× يقول:… وقال: «تجوز شهادة النساء وحدهنّ بلا رجال في كل ما لا يجوز للرجال النظر إليه، وتجوز شهادة القابلة وحدها في المنفوس»([9]).
4 ـ خبر داوود بن سرحان، عن أبي عبد الله×، قال: «أجيز شهادة النساء في الغلام صاح أو لم يصح، وفي كل شيء لا ينظر إليه الرجال تجوز شهادة النساء فيه»([10]).
5 ـ خبر أبان، عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله (وفي الكافي والاستبصار: عبد الرحمن بن أبي عبد الله)، عن أبي عبد الله×، قال:… أتجوز شهادتها أم لا تجوز؟ فقال: «تجوز شهادة النساء في المنفوس والعذرة»([11]).
6 ـ خبر محمد بن مسلم، قال: سألته تجوز شهادة النساء وحدهنّ؟ قال: «نعم، في العذرة والنفساء»([12]).
إلى غيرها من الروايات الأخرى من هذا النوع، منها الأحاديث رقم: 20، 37، 42، 43، 44، 49، وقسم من الرواية 46، وكلها مذكورة في الباب 24 من كتاب الشهادات من وسائل الشيعة.
وقد يشكل هنا بأنّ هذه الروايات في مقام بيان نفوذ شهادة النساء لوحدهنّ، وليست في مقام بيان عدد الشهود، ومعنى ذلك ونتيجته عدم وجود إطلاق لهذه الروايات في العدد؛ لعدم كونها في مقامه، فمن شرائط الأخذ بالإطلاق في أيّ جهة أو حكم أن يكون الكلام في مقام البيان من تلك الجهة والحكم.
إلاّ أن هذا الإشكال غير وارد؛ وذلك:
أولاً: إن الظاهر والمتفاهم العرفي من هذا النوع من الأسئلة هو السؤال عن الحجية الفعلية ونفوذ الشهادة بالفعل، أي أن السؤال عن الحجية من جميع جهاتها للعمل بعدها، بحيث إنه بعد الجواب من الإمام سيكون السائل قادراً على العمل بنصّ الجواب، دون أن ينتظر قيداً أو تخصيصاً، ذلك أنه لو كان هناك قيد أو تخصيص كان على الإمام بيانه عند الجواب، وأيّ تقييد أو تخصيص يأتي بعد الجواب بمدة فإنه يكون مخصصاً لهذا الجواب، لا مربوطاً بأصله، وهذا على خلاف السؤال عن الحجية من حيث أصلها ونفوذها بالقوة، حيث يمكن للمكلف عدم العمل خارجاً، ذلك أن جميع القيود وجهات الحكم فيها لم تبيّن للمكلف، وإنما بيّن صرف الحكم وحجيته.
بناءً عليه، نجد هنا أن سؤال السائل جاء ليعرف هل يمكن إثبات موضوع ما بشهادة المرأة أم لا؟ وبعد الجواب يدرك السائل أن شهادة المرأة الواحدة مثل شهادة الرجل الواحد، وإلا لذكر الإمام قيد عدم التساوي، تماماً كما صدر ذلك من الله تبارك وتعالى في مسألة الدين، فقد صرح بعدم التساوي، وليس السائل هادفاً لمعرفة الجانب المعرفي العلمي للشهادة حتى يكون سؤاله متصلاً بالحجية بالقوة وجوداً وعدماً.
ثانياً: حتى لو فرضنا أن الروايات ليست في مقام البيان من حيث العدد، وأنها ناظرة إلى الحجية بالقوة لا بالفعل، مع ذلك يظلّ الاستدلال بهذه الروايات تاماً; ذلك أن العرف لا يرى فرقاً في التعداد بين الرجل والمرأة، وعليه فسؤال السائل وإن كان في قبول أو عدم قبول شهادة النساء إلاّ أنّ العرف بعد تلقيه الجواب لا يرى فرقاً بين الطرفين في العدد، فيلغي الخصوصية عن كفاية شاهدين رجلين ليفهم من النص كفاية المرأتين أيضاً.
ثالثاً: على تقدير عدم كون أيّ من الروايات في مقام البيان من حيث العدد، وأن السائل لم يسأل أساساً عن عدد الشهود النساء…، لكنّ هذا بنفسه يصلح دليلاً على تساوي الرجل والمرأة في الشهادة في ذهن السائل؛ بوصف ذلك أمراً مفروغاً منه، وأنه كان يعرفه من قبل، وإلاّ كان من المناسب أن يسأل الإمام عن هذا الموضوع؛ نظراً لكثرة الروايات وتعدّد رواة الأحاديث الدالة على أنه في الحد الأدنى يحتاج إلى شاهدة واحدة. وعليه فعدم اهتمام السائلين بالسؤال عن عدد الشهود النساء في أيٍّ من هذه الروايات يعدّ بنفسه شاهداً على التساوي العددي في الشهادات بين الرجل والمرأة([13]).
رابعاً: تشكِّل رواية محمد بن فضيل([14]) وعبد الله بن سنان([15]) الواردتين في العدد في حدّ الزنا شاهداً وقرينةً قوية على الاهتمام بمسألة العدد في الروايات، وأن المتكلم في مقام البيان من ناحيتها، جاء في الرواية: «وتجوز شهادتهنّ في النكاح إذا كان معهنّ رجل، وتجوز شهادتهنّ في حدّ الزنا إذا كان ثلاثة رجال وامرأتان، ولا تجوز شهادة رجلين وأربع نسوة في الزنا والرجم..»، فإنّ بيان الخصوصية في حدّ الزنا من جانب الإمام دليل على أن سؤال السائل كان عن الحكم الفعلي، وأن الإمام بيّن الحكم الفعلي، وحيث كان التساوي في العدد بين الرجل والمرأة أمراً مفروغاً منه بين الإمام والسائل، أشار الإمام في حدّ الزنا ـ حيث لا تساوي فيه في العدد بين الرجل والمرأة ـ إلى عدد الشهود، وإلاّ فلو كان الحكم الشرعي في باب الشهادات هو عدم التساوي فلا حاجة إلى بيان الإمام لذلك في حدّ الزنا.
ج ـ الروايات المصرحة بتساوي شهادة الرجل والمرأة في العدد
1 ـ خبر داوود بن الحصين، عن أبي عبد الله×: «… وكان أمير المؤمنين× يجيز شهادة المرأتين في النكاح عند الإنكار…»([16]).
2 ـ رواية أبي بصير، عن أبي جعفر×، قال: قال: «تجوز شهادة المرأتين في استهلال»([17]).
وكيفية الاستدلال بهاتين الروايتين واضحة، من جهة التصريح بالتساوي.
أدلة عدم تساوي شهادة الرجل والمرأة في العدد
استند القائلون بعدم التساوي بين شهادة الرجل والمرأة في العدد إلى عدة وجوه، هي:
أ ـ الكتاب الكريم: قال تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} ]البقرة: 282[، وتقريب الاستدلال بها أن علة قبول شهادة المرأتين في باب الدَّين مكان الرجل الواحد هو تذكير إحداهما للأخرى في حال النسيان، وحيث كان احتمال النسيان في الموضوعات الأخرى ـ غير مورد الدّين ـ موجوداً أيضاً، فإنه يحكم بعموم العلّة في تمام الموارد التي تكون فيها شهادة المرأة معتبرة، لتكون المرأتان في مقابل الرجل الواحد.
ب ـ أصالة وقاعدة عدم حجية شهادة النساء، ولا يفوتنا القول بأنه حيث كان الأصل هو عمدة أدلّة المانعين، حيث استندوا إليه في أكثر من مورد في باب الشهادات، كان من اللازم علينا توضيح أساس هذا الأصل، ومدرك هذه القاعدة، وكيفية الاستدلال بها.
1 ـ مبنى الأصل: أساس هذا الأصل هو أصالة عدم حجية الظنون، وأصالة عدم جواز حكم الحاكم وعدم نفوذه، وأصالة براءة ذمّة الشخص الذي تقام الشهادة ضدّه، كذلك ثمة أصول أخرى تقتضي عدم حجية الشهادة إلاّ في الموارد التي ثبتت فيها الحجية من الطرق الشرعية.
2 ـ مدرك القاعدة: ثمة في روايات باب الشهادة روايتان ترفضان نفوذ شهادة النساء بشكل عام، ونظراً لكونهما في مقام بيان الموارد، وكيفية قبول شهادة المرأة، يستفاد منهما نوع من الحصر بالنسبة إلى غير الموارد المذكورة، وهاتان الروايتان اللتان أشرنا لهما في البحث السابق هما:
1 ـ خبر السكوني، عن علي× أنه كان يقول: «شهادة المرأة لا تجوز في طلاق، ولا نكاح، ولا في حدود، إلاّ في الديون، وما لا يستطيع الرجال النظر إليه»([18]).
وكيفية الاستدلال بهذه الرواية ـ كما تقدم من قبل ـ هو أنه مع الأخذ بعين الاعتبار وجود «إلاّ» فيها، وهي من أدوات الاستثناء، وتدلّ على حصر الحكم المخالف للمستثنى منه في المسثنى، فإن الحكم بقبول شهادة النساء متصلٌ فقط بما بعد «إلاّ»، وهو عبارة عن الديون وما لا يستطيع الرجال النظر إليه، وعليه فالمستثنى منه يعدّ بنفسه دليلاً على قاعدة عدم حجية شهادة النساء في تمام الموارد غير الموردين المذكورين.
2 ـ مرسلة يونس، قال: «استخراج الحقوق بأربعة وجوه: بشهادة رجلين عدلين، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، فإن لم تكن امرأتان فرجل ويمين المدّعي، فإن لم يكن شاهد فاليمين على المدّعى عليه…»([19]).
وكيفية الاستدلال أن الرواية في مقام بيان الضابطة وطرق إثبات الحقوق واستخراجها، وقد حصرتها في أربعة طرق، ولم تذكر ـ أساساً ـ أي شيء عن نفوذ شهادة المرأتين لوحدهما، أو المرأة الواحدة مع الرجل الواحد، وكأنه لا وجود لغير هذه الطرق الأربعة لإثبات الحق.
ج ـ الروايات: استند المستدلّون هنا لإثبات مدعاهم إلى طائفتين من الروايات، فاستدلّ بعضهم ببعض الروايات الدالّة بالمطابقة في موردها على عدم اعتبار المرأة الواحدة مع الرجل الواحد في الشهادة، واعتبار شهادة المرأتين مكان الرجل الواحد، لكنّ فريقاً آخر ـ مثل صاحب المستند([20]) ـ اعتمد، بعد خدشه في هذه الروايات، على روايات أخرى، تدل على قبول ربع مورد الشهادة إذا كان الشاهد امرأةً واحدة، معتقداً أنه إذا كانت شهادة المرأة الواحدة نافذة في ربع الوصية فيمكن من ذلك استنتاج أن شهادة أربع نسوة ستكون نافذةً في الوصية كلها، كما أننا نعرف ـ من جهة أخرى ـ أن شهادة الرجلين نافذة في تمام الوصية، ونتيجة ذلك كله أن شهادة أربع نسوة تعادل شهادة الرجلين، وهذا معناه أنه لا بد في الشهادة أن يكون عدد النسوة ضعف عدد الرجال.
وهذه الروايات هي:
1 ـ المجموعة الأولى وكيفية الاستدلال
1 ـ رواية الإمام العسكري× في تفسيره، عن آبائه، عن أمير المؤمنين×، في قولـه تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} قال: «عدلت امرأتان في الشهادة برجل واحد، فإذا كان رجلان، أو رجل وامرأتان، أقاموا الشهادة قضى بشهادتهم…»([21]).
2 ـ خبر منصور بن حازم، أن أبا الحسن موسى بن جعفر× قال: «إذا شهد لطالب الحقّ امرأتان ويمينه، فهو جائز»([22]).
3 ـ خبر محمد الهمداني، قال: كتب أحمد بن هلال إلى أبي الحسن×: امرأة شهدت على وصية رجل لم يشهدها غيرها، وفي الورثة من يصدّقها، وفيهم من يتهمها، فكتب: «لا، إلاّ أن يكون رجل وامرأتان، وليس بواجب أن تنفذ شهادتها»([23]).
4 ـ خبر زرارة… وقال علي×: «تجوز شهادة النساء في الرجم إذا كان ثلاثة رجال وامرأتان…»([24]).
وكيفية الاستدلال بالروايات الثلاث الأولى واضحة، أما الرواية الرابعة فتقريب الاستدلال بها أنه لما كان الرجم لا يثبت إلاّ بشهادة أربعة رجال، ذكر الإمام هنا كفاية ثلاثة مع امرأتين، وهذا معناه أنه× قد جعل شهادة المرأتين في قوّة شهادة الرجل الواحد.
2 ـ المجموعة الثانية وبيان الاستدلال
1 ـ خبر ربعي، عن أبي عبد الله× في شهادة امرأة حضرت رجلاً يوصي، فقال: «يجوز في ربع ما أوصى بحساب شهادتها»([25]).
وكيفية الاستدلال أن الإمام حكم بصحّة الوصية في الربع، وهذا معناه أنه إذا كانت هناك أربع نسوة شاهدات فإن الوصية ستغدو صحيحةً بتمامها، ولا بد من إجرائها، وعليه فشهادة أربع نسوة تعادل شهادة الرجلين.
2 ـ موثقة سماعة، قال: قال: «القابلة تجوز شهادتها في الولد على قدر شهادة امرأة واحدة»([26]).
3 ـ ومثل هذه الرواية صحيحة ابن سنان([27])، وهي تختلف عنها اختلافاً طفيفاً، مع بيان صحّة نصف الإرث على تقدير شهادة امرأتين.
4 ـ مرسلة الفقيه، قال: «… وإن كنّ ثلاث نسوة جازت شهادتهنّ في ثلاثة أرباع الميراث، وإن كنّ أربعاً جازت شهادتهنّ في الميراث كلّه»([28]).
وكيفية الاستدلال بهذه الروايات الأخيرة لإثبات معادلة شهادة المرأتين لشهادة الرجل الواحد مثل الاستدلال برواية ربعي، وقد تقدّم.
استدلال النراقي على لزوم شهادة أربع نسوة
صاحب مستند الشيعة([29]) واحد من الذين استدلّوا على لزوم أربع نساء شاهدات، وحاصل استدلاله يرجع إلى ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: بعد أن ثبت الأصل والقاعدة الدالّين على عدم قبول شهادة النساء، إلاّ مع قيام الدليل المخرج عن هذا الأصل وتلك القاعدة..، عندما نشك في أنه هل تساوي شهادة المرأتين شهادة الرجلين أم أن شهادة الرجلين تعادلها في الطرف الآخر شهادة أربع نسوة؟ فهنا نعمل بمقتضى الأصل والقاعدة في عدم الحجية في الموارد المشكوكة، ونأخذ بالقدر المتيقن، وهو أربع نسوة.
ودليل هذا القدر المتيقن هو الروايات الدالة على نفوذ شهادة المرأة، ذلك أنه قد ورد فيها التعبير بكلمة «نساء» بصيغة الجمع، وصيغة الجمع تصدق على ما زاد على الشخصين، ونظراً للإجماع المركَّب على عدم قبول شهادة ثلاث نساء مكان الرجل الواحد أو مكان الرجلين، فإن كلمة «نساء» تدلّ فقط على اعتبار أربع نسوة أو أكثر.
وقد يشكل على هذا الوجه بأن كلمة النساء في هذه الروايات إنما تدلّ ـ صرفاً ـ على أصل قبول شهادة النساء، وليست بصدد مسألة العدد المحتاج إليه في شهادة المرأة، ولذلك لا دلالة في صيغة الجمع على كون شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل.
إلاّ أن هذا الإشكال غير وارد؛ ذلك أنه جاء في صحيحة الحلبي([30]) وعبيد الله بن علي الحلبي([31]) الواردة في قبول شهادة المرأة القابلة في الولادة: «تجوز شهادة الواحدة»، أما في موارد البكارة والنفاس فقد جاء التعبير في الروايتين عينهما بكلمة «نساء» على سبيل الجمع، فقال: «تجوز شهادة الواحدة (وقال: تجوز) شهادة النساء في المنفوس والعذرة»، ويستفاد من هذا التقابل بين كلمة «الواحدة» في شهادة القابلة وكلمة «نساء» في البكارة والنفاس أن كلمة «نساء» في الروايات لها خصوصية، وهي بيان العدد المحتاج إليه في شهادة المرأة.
الوجه الثاني: رواية السكوني، عن أبي عبد الله×، قال: «أتي أمير المؤمنين× بامرأة بكر زعموا أنها زنت، فأمر النساء فنظرن إليها فقلن: هي عذراء..، وكان يجيز شهادة النساء في مثل هذا»([32]).
وكيفية الاستدلال أن الإمام أمر النساء في هذه الرواية بالنظر، وحيث كان نظر المرأة إلى عورة المرأة حرام، ومع كفاية المرأة الواحدة أو المرأتين، فلا يأمر الإمام أكثر من ذلك؛ لأنه لا يأمر بالحرام، فأمر الإمام يدل على عدم قبول شهادة المرأة الواحدة أو المرأتين.
الوجه الثالث: الروايات الدالة على قبول الربع في مورد الشهادة مع شهادة المرأة، وقد تقدم ـ عند الحديث عن الاستدلال بالروايات ـ بيان كيفية الاستدلال بهذه المجموعة أيضاً.
أدلّة نظرية عدم التساوي العددي، نقد ودراسة
إن تمام الوجوه التي استدلّ بها أنصار نظرية عدم التساوي العددي مخدوشة، ومع الأخذ بعين الاعتبار الأدلة المتقدمة نعرض الإشكالات على ما يلي:
أ ـ نقد الاستدلال بالكتاب
الاستدلال بالكتاب غير تام; لما ذكرناه في الأبحاث السابقة من أن الحكم في الآية تابع ـ بحكم العلية ـ للعلّة المذكورة فيها، وعليه فكلّما وجدت العلّة كان الحكم موجوداً، ولا حكم بالعمومية حتى يشمل غير موارد العلّة أيضاً، ذلك أنّ العلّة هي احتمال النسيان الزائد عن الحدّ المتعارف، وهذا الاحتمال كان موجوداً في حقّ النساء زمان نزول الآية في ما يتعلّق بمجال الديون والمسائل الاقتصادية، وعليه فلا تشمل الآية الموارد التي لا يوجد فيها هذا الاحتمال، وهي غالب موارد شهادة النساء، وحتى المسائل الاقتصادية اليوم تتساوى فيها الرجال والنساء.
بناءً عليه فالآية دليل على جعل المرأتين مساويتين للرجل الواحد في تلك الموارد الخاصّة، وليست دليلاً على عدم حجية شهادة المرأة الواحدة مكان الرجل الواحد في سائر الموارد، بل إنّ ذكر المرأتين مكان الرجل الواحد في الآية دليل على أن بناء العقلاء قائم على حجية شهادة المرأة، وعدم الفرق بينها وبين الرجل في ذلك، وهذا البناء العقلائي هو دليلنا على النظرية المختارة; إذ لا ردع من طرف الشارع عن هذا البناء في هذه الموارد.
ب ـ نقد الاستدلال بالأصل والقاعدة
يعاني الاستدلال بالأصل والقاعدة من إشكالين:
الإشكال الأول: إنه مع وجود الأدلة الثلاثة: الكتاب، وبناء العقلاء، والروايات الخاصة، والدالة على عدم وجود فرق بين الرجل والمرأة في الشهادات..، لا معنى للاستناد إلى الأصل والقاعدة لإثبات التمييز بينهما؛ ذلك أن الأصل والقاعدة إنما يجريان عندما لا يكون بيدنا أي دليل أو حجة أخرى، وبعبارة أخرى: الأصل والقاعدة دليلٌ فقاهتي، فيما الأدلة الثلاثة المتقدمة دليلٌ اجتهادي، والأدلة الاجتهادية مقدّمة على الأدلّة الفقاهتية وحاكمة عليها.
الإشكال الثاني: إن القاعدة نفسها غير تامة في نفسها؛ ذلك أن دليلها ـ كما ذكره المستدلّون ـ هو مفهوم الحصر الوارد في خبر السكوني ومرسلة يونس، ودلالتهما على القاعدة محل إشكال، أما رواية السكوني فإشكالها في أن المستثنى منه فيها ليس عاماً حتى يفيد الحصرُ العمومَ، وقد بحثنا هذا الأمر بتفصيل في مبحث الدَّين سابقاً. وأما مرسلة يونس، فمضافاً إلى أنها مرسلة ليس إلاّ، ولا يمكن إثبات حكم مخالف لبناءات العقلاء عبر خبر مرسل…، يحتمل فيها أن تكون ناظرة إلى الموارد الغالبية في استخراج الحقوق، وليست في مقام الحصر أو بيان الضابطة الكلية، وشاهد هذا الاحتمال هو الروايات الدالة على نفوذ شهادة المرأة الواحدة في الإرث والوصية، وكذلك الروايات الدالة على قبول شهادتها في بعض الموضوعات، مثل:
1 ـ نفوذ شهادة المرأة الواحدة أو القابلة في الوصية والإرث([33]).
2 ـ قبول شهادة النساء لوحدهنّ في العيوب المختصة بهنّ([34]).
3 ـ قبول شهادة المرأتين مع اليمين الواحد([35]).
وعليه فإذا كانت المرسلة في مقام بيان الضابط الكلي والحصر التام فمنافاتها مع هذه المجموعات من الروايات واضحة، وهذه المنافاة إذا لم نقل: إنها قرينة على احتمال أنّ الرواية في مقام بيان الموارد الغالبة في استخراج الحقوق فلا أقل من أنها شاهدة على هذا الاحتمال، مما يسقط الظهور في الحصر في المرسلة; ذلك أنه إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.
ج ـ نقد استدلال المحقق النراقي
حاول بعض المستدلّين هنا ـ ومن بينهم النراقي صاحب المستند ـ، وعبر الوجوه التي ذكروها، إثبات أن القدر المتيقن من قبول شهادة النساء هو عدد الأربعة، وهذا الادعاء حاولوا تدعيمه بالروايات الدالة على جواز شهادة النساء مستخدمةً كلمة «نساء»، وهي صيغة جمع دالة على أكثر من اثنين.
إلاّ أن هذا الاستدلال مناقش:
1 ـ الإشكال العمدة في هذا الاستدلال ـ حتى لو دل الجمع على أكثر من اثنين ولم يصدق على الأقل منهما ـ هو أن لفظ الجمع هل يدل على الثلاثة فصاعداً في الاجتماع أم أنه لا يختص بهذه الحال، فيشمل هذه الحال كما يشمل أفراداً أخرى لكن في حال الانفراد؟ ومن الواضح أن الحق والمتفاهم العرفي هو أن لفظ الجمع يستوعب تمام هذه الأفراد، من شخص واحد إلى ما زاد، فعندما يقال: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النساء} (النساء: 34) فإن المتفاهم العرفي منه قطعاً أن كل الرجال واحداً واحداً قوامون على كل النساء واحدةً واحدةً، لا بمعنى أنه إذا أراد الرجال السلطة على النساء فلا بد أن يكون ثلاثة أشخاص معاً، وهذا المتفاهم العرفي جار في (أوفوا بالعقود) أيضاً.
وعليه فالمتفاهم عرفاً من ألفاظ الجمع كافة هو تمام الأفراد، لكن لا الأفراد مع قيد الاجتماع، وبعبارة أخرى لا يعتبر في شمول لفظ الجمع تحقق وصف الاجتماع والانضمام، فعندما يقال: شهادة النساء جائزة، فهذا يعني أن شهادة المرأة الواحدة معتبرة، وكذا المرأتين إلى ما لا نهاية.
2 ـ إن الروايات المفيدة لجواز شهادة النساء إنما هي بصدد بيان أصل نفوذ شهادتهن كالرجال، وليست في مقام بيان الكيفية، ولا العدد، وبعبارة أخرى لا إطلاق في هذه الروايات، وإنما هي في مقام بيان أصل الحجية لا كيفيتها، وعليه فكما أن كلمة «الرجال» تشمل الرجل الواحد والاثنين فصاعداً، ولا تختص بالثلاثة فصاعداً، كذلك الحال في كلمة «النساء» الواردة معها.
وأما الإشكال في صحيحة الحلبي وابن سنان([36])، فإضافةً إلى الإشكال المتعلّق بكلمة «نساء» يرد عليهما إشكال آخر، وهو أنه يحتمل أن يراد بكلمة «الواحدة» فيهما ما يقابل الانضمام، بمعنى أن الإمام كان في مقام بيان عدم الحاجة في هذه الموارد إلى الضميمة من طرف الرجال، وأن شهادة النساء لوحدهنّ نافذة، ويؤيَّد هذا الاحتمال بصحيحة ابن سنان التي جاء فيها: «.. تجوز شهادة النساء وحدهنّ بلا رجال… وتجوز شهادة القابلة وحدها في المنفوس».
وأما التأييد الذي استفاده صاحب المستند من رواية السكوني([37]) فغير تام أيضاً؛ إذ إن الإشكال في هذه الرواية يكمن في أن النظر في هذا الموارد ليس من باب البينة، وإنما من باب القرينة القطعية؛ ذلك أنه لو كان الباب باب البيّنات والشهادات للزم تعارض هذه البينة مع شهادة الذين شهدوا بالزنا، وهو ما يؤدي إلى تساقطهما معاً، لا الأخذ بشهادة المنكرين للزنا، حيث لا دليل على الأخذ بشهادتهم.
د ـ نقد الاستدلال بالروايات
تأمل النراقي صاحب المستند([38])ـ وهو من الذين بذلوا جهداً وافراً في جمع الأدلة على عدم تساوي الرجل والمرأة ـ في روايات الطائفة الأولى، فجعلها محلاً للخدش والنظر، ولعل أمره بالتأمل يرجع إلى إشكالنا على الاستدلال بهذه الطائفة من الروايات، وهو أنه لا يوجد أيّ شاهد فيها على عموم التنزيل حتى تدل على كون شهادة المرأتين بمثابة شهادة الرجل الواحد، بل لا بد من الاكتفاء بمورد الرواية، ألا وهو الرجم، ذلك أن الحدود ـ ولاسيّما حدود الأعراض ـ ذات شروط خاصة لا توجد في سائر الدعاوى؛ ولذلك جعل الشارع في هذا النوع من الحدود شهادة المرأتين بمثابة شهادة الرجل الواحد.
أما روايات الطائفة الثانية الواردة في الوصية والإرث فهي أخصّ من المدعى; لأن الوصية والإرث من الأمور المالية، وشهادة المرأتين مكان الرجل الواحد في هذه الأمور منطلق من نص الآية الشريفة، الأمر الذي يوجب الشك، ونحن نبحث هنا في غير الدَّين والأموال، وقد بيّنا مراراً أنه لا يمكن تسرية حكم في مورد الآية إلى سائر الموارد عندما يكون على خلاف بناء العقلاء والفهم العرفي.
تحقيق واستنتاج
مع الأخذ بعين الاعتبار ـ من جهة ـ الأدلة التي ساقها المانعون على عدم التساوي والإشكالات الواردة عليها، وعدم تماميتها، وكذلك ـ من جهة ثانية ـ تمامية الأدلة القائمة على التساوي، يثبت أن شهادة المرأة الواحدة تساوي شهادة الرجل الواحد في الموارد التي تقبل فيها هذه الشهادة منفردةً، ولا فرق في حجية الشهادة بين الرجل والمرأة؛ نظراً لإلغاء الخصوصية وعدم وجود روايات مطلقة أو خاصة، ومع إلغاء الخصوصية عن مورد الأدلة (شهادة النساء منفردة) يثبت المورد الآخر (شهادتهنّ منضمّةً إلى شهادة الرجال أو منضمة إلى يمين المدعي)، فتكون شهادة المرأة في الموردين كشهادة الرجل من حيث العدد؛ ذلك أن العرف يرى تمام الملاك في العدالة والرؤية والاطمئنان.
وخلاصة القول: إنه مع إلغاء الخصوصية وتنقيح المناط العرفي ستكون شهادة المرأة الواحدة في الموارد الثلاثة كشهادة الرجل الواحد، إلاّ إذا قام في مورد ما دليل على خلاف ذلك، بحيث أفاد أن شهادة المرأتين تساوي شهادة الرجل الواحد، وهو ما لا وجود له حسب الظاهر، والمسألة مورد الآية مختصة ـ بحكم العلّة المذكورة فيها ـ بالموارد التي تشملها العلة، لا بكافة موارد شهادات النساء، وبحثنا هنا عن الموارد التي لا تندرج في المال أو ما كان المقصود منه المال، كما أنّ العلة لا تشمله.
الفصل الثالث: أدلة شهادة النساء في الحدود والتعزيرات
المبحث الأول: الحدود العِرْضية
من موضوعات باب الشهادة هو الشهادة على الحدود، وقد وقع أصل شهادة النساء في الحدود، كما وقع التعداد فيها، مورداً للشبهة والإشكال بأنه يحوي تمييزاً بين الرجل والمرأة.
مقتضى الأصل في الحدود
انطلاقاً من الأبحاث المتقدمة يتبين وجود ثلاثة أصول في الشهادة:
1 ـ الأصل الأولي الذي يقتضي عدم حجية قول كل شاهد، أعم من أن يكون رجلا أو امرأة، في الدعاوى أو في غيرها.
2 ـ الأصل القاضي بقبول شهادة النساء ـ كالرجال ـ في تمام الموضوعات، ودليله إلغاء الخصوصية عن الرجولة، وتنقيح المناط في باب الشهادات، وهو العدالة والرؤية فيها.
3 ـ الأصل الخاص بباب الحدود، وهو معارض لشمول الأصل الثاني المتقدم في ما يتعلق بشهادة النساء، ويقتضي هذا الأصل عدم حجية شهادة النساء في مطلق الحدود ـ العِرْضية وغيرها ـ إلاّ ما خرج بدليل معتبر، وقد ادعى ابن زهرة الإجماع على هذا الأصل([39])، كما ذكر صاحب الرياض أنه لا خلاف فيه([40])، فيما قال الشيخ الطوسي في الخلاف بأن جميع فقهاء أهل السنّة حكموا بعدم قبول شهادة النساء في الحدود، سواء انضممن إلى الرجال أم لا([41]). وشاهد هذا الأصل جملة من الروايات المؤكدة على عدم نفوذ شهادة النساء في الحدود.
1 ـ صحيحة جميل وحمران، عن أبي عبد الله×، قال: قلنا: أتجوز شهادة النساء في الحدود؟ فقال: «في القتل وحده، إن علياً× كان يقول: لا يبطل دم امرئ مسلم»([42]).
2 ـ رواية غياث بن إبراهيم، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي×، قال: «لا تجوز شهادة النساء في الحدود، ولا في القود»([43]).
3 ـ رواية موسى بن إسماعيل بن جعفر، عن أبيه، عن آبائه، عن علي×، قال: «لا تجوز شهادة النساء في الحدود، ولا في القود»([44]).
4 ـ رواية السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن علي× أنه كان يقول: «شهادة النساء لا تجوز في طلاق، ولا نكاح، ولا في حدود…»([45]).
والاستدلال بظاهر هذه الروايات لعدم حجية شهادة النساء في الحدود واضح، كما لا معارض لها، إلاّ خبر عبد الرحمن البصري، قال: سألت أبا عبد الله×… وقال: «تجوز شهادة النساء في الحدود مع الرجال»([46])، ورواية الرضوي في فقه الرضا: «وتقبل في الحدود»([47])، وهاتان الروايتان تعانيان من ضعف سندي([48])، كما أن الفقهاء لم يعملوا بهما، فلا تصلحان لمعارضة الروايات الدالة على عدم حجية شهادة النساء في الحدود؛ لأن المعارضة فرع إثبات حجية الرواية، وهاتان الروايتان ساقطتان عن الحجية في نفسيهما، فلا تعارضان مجموعة روايات، وبينها الصحيح السند المعمول به عند الفقهاء.
هذا وقد استثنى الفقهاء بعض الحدود من هذا الأصل وأخرجوها عنه.
موارد الاستثناء من قاعدة عدم قبول شهادة النساء في الحدود
أ ـ استثناء حد الزنا (الرجم) وأدلته
حكم الفقهاء بقبول شهادة النساء في حد الزنا ضمن شروط، هي:
1 ـ الانضمام للرجال.
2 ـ أن يكون الشهود ثلاثة رجال وامرأتين (وهنا يجري حد الرجم على المحصن)، أو رجلين وأربع نسوة (وهنا يجري حدّ الجلد على المحصن)، وفي غير هاتين الحالتين لا تقبل شهادة النساء مطلقاً، حتى لو كان هناك رجل واحد وست نساء، فلا يثبت حد الزنا مطلقاً، لا الرجم، ولا الجلد.
دليل قبول شهادة ثلاثة رجال وامرأتين في إجراء حدّ الرجم
والدليل هنا هو الروايات الواردة في حد الزنا، وهي:
1 ـ صحيحة الحلبي، عن أبي عبد الله×، قال: سألته عن شهادة النساء في الرجم؟ فقال: «إذا كان ثلاثة رجال وامرأتان، وإذا كان رجلان وأربع نسوة لم تجز في الرجم»([49]).
2 ـ صحيحة عبد الله بن سنان، قال: سمعت أبا عبد الله× يقول: «.. ولا يجوز في الرجم شهادة رجلين وأربع نسوة، ويجوز في ذلك ثلاثة رجال وامرأتان»([50]).
ومثل هاتين الروايتين توجد روايات أخرى دالة على هذا المطلب، وهي رواية أبي بصير([51])، وإبراهيم الحارقي (الحارثي)([52])، ومحمد بن فضيل([53])، وزرارة([54])، وأبي الصباح الكناني([55])، وزيد الشحام([56]).
وكيفية الاستدلال بهذه الروايات على قبول شهادة المرأتين مع ثلاثة رجال في إجراء حدّ الرجم في الزنا واضحة، والمعارض الوحيد لهذه الروايات هو صحيحة محمد بن مسلم، عن الإمام الصادق×، حيث يقول: «إذا شهد ثلاثة رجال وامرأتان لم يجز في الرجم، ولا تجوز شهادة النساء في القتل»([57]).
إلاّ أن هذه الرواية تعاني من إشكالين:
الأول: إنها محمولة على التقية، كما قال الشيخ الطوسي([58]).
الثاني: مع حجيتها ومعارضتها للروايات الدالة على قبول شهادة الرجال الثلاثة مع المرأتين فإننا نعمل بتلك الروايات؛ لأنها أصحّ سنداً وأكثر عدداً، وهذا من مرجّحات باب التعارض، كما أن تلك الروايات وقعت محلّ عمل الفقهاء. وعليه فدلالة الروايات المذكورة على قبول شهادة النساء في الحدود تامة وحجّة.
ب ـ استثناء حدّ الزنا (الجلد)
وقع الخلاف بين الفقهاء في قبول شهادة الرجلين والأربع نسوة في حد الزنا؛ فالذين قالوا بقبول شهادة النساء ذكروا هنا أنه يثبت بها حدّ الجلد فقط، حتى لو كان الزاني والزانية محصنين، أما حد الرجم فلا يجري بذلك ولا يطبّق، وسنعرض الآراء والنظريات المطروحة بينهم مع أدلّتها؛ لتقويمها ودراستها.
1 ـ الآراء والنظريات والأدلّة
1 ـ 1 ـ نظرية القبول وأدلّتها
القائلون بقبول شهادة الأربع نسوة مع الرجلين في إثبات الجلد هم: شيخ الطائفة في النهاية([59])، وابن إدريس([60])، وابن حمزة([61])، والمحقق في الشرائع([62])، وابن سعيد الحلي([63])، والعلامة في الإرشاد([64])، والقواعد([65])، وعدد كبير من الفقهاء في القرون الأخيرة، مثل: صاحب الجواهر([66])، وصاحب المستند([67]).
وقد اعتمد المستدلّون هنا لإثبات مدّعاهم على مجموعة من الروايات التي سنستعرضها أثناء البحث، وهي:
1 ـ صحيحة عبدالله بن سنان، قال: سمعت أبا عبد الله × يقول: «لا تجوز شهادة النساء في رؤية الهلال، ولا يجوز في الرجم شهادة رجلين وأربع نسوة، ويجوز في ذلك ثلاثة رجال وامرأتان..»([68]).
2 ـ صحيحة الحلبي، عن أبي عبدالله×، قال: سألته عن شهادة النساء في الرجم؟ فقال: «إذا كان ثلاثة رجال وامرأتان، وإذا كان رجلان وأربع نسوة لم تجز في الرجم»([69]).
3 ـ موثقة الحلبي، عن أبي عبد الله × أنه سئل عن رجل محصن فجر بامرأة فشهد عليه ثلاثة رجال وامرأتان: «وجب عليه الرجم، وإن شهد عليه رجلان وأربع نسوة فلا تجوز شهادتهم ولا يرجم، ولكن يضرب حدّ الزاني»([70]).
4 ـ رواية عبد الرحمن: سألت أبا عبد الله ×… وقال: «تجوز شهادة النساء في الحدود مع الرجال»([71]).
وكيفية الاستدلال: أولاً: المفهوم من صحيحتي عبد الله بن سنان والحلبي، اللتين يُسأل الإمام فيهما عن زنا المحصنة الموجب للرجم فيُجيب أن شهادة الرجلين مع أربع نسوة ليست نافذة..، أنه تقبل شهادة الرجلين وأربع نسوة في الحدّ الآخر للزنا وهو الجلد؛ إذ لو كان المقرّر نفي أصل حكم الزنا لكان قال بعدم نفوذ هذه الشهادة في الزنا أصلاً، لا إفراد الرجم بالذكر، وهو أحد الحدود المعمول بها في الزنا، وفي تمام الروايات التي سبق ذكرها لم ينفِ الإمام سوى حدّ الرجم في الزنا، لا أصل الزنا.
ثانياً: إن مفهوم هذه الروايات النافي للرجم جاء مصرّحاً به في منطوق موثقة الحلبي([72])، بحيث صرّح بثبوت حدّ الزاني عليه.
ثالثاً: إن رواية عبد الرحمن تؤيد هذا الاستدلال; إذ حُكم فيها بقبول شهادة النساء مع الرجال في الحدود، واستناداً إلى الإجماع المركّب يثبت أن حكم الجلد لا يتحقق بشهادة أقلّ من رجلين وأربع نسوة، وهذا ما يثبت المطلوب.
ولا يفوتنا أن الشيخ الطوسي ذكر أن الأصحاب رووا أن الرجم يثبت بشهادة رجلين وأربع نسوة، وكذا بشهادة ثلاثة رجال وامرأتين، أما حدّ الجلد ـ لا الرجم ـ فيثبت بشهادة رجل واحد وست نساء([73])، إلا أن صاحب الجواهر ذكر عدم العثور على دليل على هذا الأمر([74])، فيما يصرّح الشيخ الطوسي في موضعين من المبسوط بأن حدّ الزنا يثبت فقط بأربعة رجال عدول([75])، وفي كتاب الشهادات من المبسوط يقول: «وروى أصحابنا أن الزنا يثبت بثلاثة رجال وامرأتين، وبرجلين وأربع نسوة»([76]).
فقبولـه بثبوته بثلاثة رجال وامرأتين، وبرجلين وأربع نسوة، يحتمل فيه قبوله شهادة أربع نسوة ورجلين في حدّ الرجم أيضاً؛ إذ إنه لم يذكر حملاً لهذه الرواية، كما لم يبيّن أي توضيح حول التفصيل بين الرجم والجلد منها.
2 ـ 1 ـ نظرية عدم القبول، الأدلة والمواقف
ينقسم القائلون بعدم قبول شهادة النساء في حدّ الزنا في ما يخصّ الجلد إلى فريقين، هما:
الفريق الأول: وهم الصدوق الأول([77])، والصدوق الثاني([78])، وأبو الصلاح([79])، والعلامة في المختلف([80])، وظاهر المسالك([81]) حيث يذهبون إلى عدم ثبوت حدّ الجلد بشهادة رجلين وأربع نسوة.
الفريق الثاني: وهم ابن أبي عقيل([82])، والمفيد([83])، وسلار([84])، حيث يذهبون إلى عدم قبول شهادة النساء في الحدود مطلقاً، وبأيّ وجه من الوجوه، حتى ثلاثة رجال وامرأتين.
أ ـ أدلّة الفريق الأول
استدلّ هذا الفريق بوجود ملازمة شرعية بين الرجم والزنا مع إحصان، فعندما يرد في الروايات عدم جواز شهادة الرجلين مع أربع نساء في الرجم فهذا معناه عدم تحقق الزنا مع إحصان؛ إذ لو تحقق هذا العنوان لحكم لزوماً بالرجم إجماعاً، ومع انتقاء عنوان الزنا مع الإحصان لا يثبت أيّ حكم من أحكام زنا المحصن; وعليه فلا يمكننا إثبات الزنا مع قيد الإحصان بشهادة رجلين وأربع نسوة، فلا معنى لإسقاط حكم الرجم مع إجراء حكم الجلد لوحده.
ويرد على هذا الاستدلال إشكالان، هما:
1 ـ إنّ هذا الكلام اجتهاد في مقابل النص; ذلك أن مفهوم صحيحة ابن سنان والحلبي وصريح موثقة الحلبي، هو قبول شهادة الرجلين والأربع نسوة في إجراء حدّ الجلد في الزاني المحصن.
2 ـ لا يمكن في إحدى الصور إثبات إمكان الفصل بين الإحصان والرجم، وذلك عندما يثبت باليقين والقطع، أما إذا ثبت الإحصان بالحجّة والشهادة، فإنه يمكن إثبات الإحصان بدون حكم الرجم من طرف الشارع، ذلك أن مقدار الحجية وكيفيتها بيد الشارع، وعليه يمكن للشارع أن يقول: يثبت حكم زنا المحصنة بأربعة شهود رجال، أو بثلاثة رجال مع امرأتين، ويترتب الرجم، أما إذا كان هناك شاهدين ذكرين وأربع نسوة فإنه لا يثبت سوى الجلد، وبعبارة أخرى: لا توجد ملازمة تكوينية لا تقبل الانفكاك، والتفكيك بين المتلازمين الاعتباريين لا محذور فيه؛ إذ يمكن في الاعتباريات ممارسة أيّ نوع من التدخل والتصرف من جانب المعتبر، بل قد وقع هذا الانفكاك في الفقه في موارد عديدة.
ويؤيد كونَ مقدار الحجية وكيفيتها بيد الشارع الرواياتُ التي ذكرت في باب قبول ربع الإرث بشهادة المرأة الواحدة القابلة؛ إذ لو تقرّر أن تكون شهادة النساء معتبرةً للزم إعطاء تمام الإرث للمشهود له، وإذا تقرّر أن لا تكون معتبرة فلا ينبغي إعطاء ربع الإرث له، إلا أننا نرى أن تمام الفقهاء أفتوا بهذه الروايات، وقالوا بالتبعيض في الحجية هنا.
ب ـ أدلة الفريق الثاني
استدل هذا الفريق الرافض لشهادة المرأة مطلقاً في الحدود بروايتي: غياث بن إبراهيم([85])، وموسى بن إسماعيل بن جعفر([86])، وهما مرويتان عن علي× أنه قال: «لا تجوز شهادة النساء في الحدود، ولا في القود»، أو «ولا قود» حسب تعبير رواية موسى بن إسماعيل بن جعفر. كما استدلّوا بموثقة الحلبي([87])، ورواية عبد الله بن سنان([88])، الدالّتين على عدم قبول شهادة الرجلين مع أربع نسوة، وكذا بصحيحة محمد بن مسلم([89]) الدالّة على عدم نفوذ شهادة ثلاثة رجال مع امرأتين في الرجم.
ويناقش هذا الاستدلال بأن أياً من الروايات التي ذكرت لا تصلح للاستدلال بها على المدّعى; ذلك أن روايتي غياث بن إبراهيم وموسى بن إسماعيل بن جعفر عامّتين، فتقيَّدان بالروايات الدالّة على قبول شهادة النساء منضمات إلى الرجال، في الرجم والجلد، وكما قال الشيخ الطوسي في العلاقة بين هاتين الروايتين: إنهما يشملان غير حدّ الزنا([90]). وكذلك الحال في موثقة الحلبي ورواية عبد الله بن سنان، وتلك المجموعة من الروايات الدالة على عدم قبول شهادة الرجلين مع أربع نساء، فإنها تقبل الاستدلال بها في موردها، وهو الرجم، لكن لا يمكن تسريتها إلى حدّ الجلد بإلغاء الخصوصية; ذلك أن لدينا روايات صحيحة دالّة على قبول شهادة الرجلين مع أربع نسوة في حدّ الجلد في الزنا، فهذه الروايات تشكّل مانعاً عن إلغاء خصوصية الرجم.
كذلك الحال في صحيحة ابن مسلم، فرغم أن دلالتها تامة إلا أن الشيخ الطوسي([91]) حملها على التقية، وعليه لا تكون حجةً، ولا يمكنها أن تعارض الروايات الصحيحة الدالّة على قبول شهادة ثلاثة رجال وامرأتين في إثبات الرجم.
انطلاقاً مما تقدم ثبت أن حدّ الرجم فقط يثبت بشهادة أربع رجال، أو ثلاثة مع امرأتين، أما حدّ الجلد فيثبت بشهادة رجلين وأربع نسوة أيضاً.
ج ـ حدّ السحق واللواط
ذهب بعض الفقهاء إلى جعل حدّ المساحقة واللواط من الموارد المستثناة من عدم قبول شهادة النساء في الحدود، ونظراً للخلاف الموجود بين الفقهاء هنا لا بد من رصد الآراء وتحليل الأدلّة.
1 ـ الآراء والنظريات المستَثْنِيَة
نقل عن علي بن بابويه أنه قال: «ويقبل في الحدود إذا شهد امرأتان وثلاثة رجال»([92]); كما ذهب ابنه في المقنع ـ وهو محمد بن علي بن بابويه ـ إلى النظرية نفسها، فقال: «ولا بأس بشهادة النساء في الحدود إذا شهد امرأتان وثلاثة رجال»([93]).
ونظراً لكون السحق واللواط هي الحدود الوحيدة المجمع على لزوم الشهود الأربعة العدول فيها، كحد الزنا([94])، كان معنى كلام الصدوقَيْن القبول بشهادة النساء في السحق واللواط، رغم أن العلامة الحلي في المختلف ذكر مكان كلمة (الحدود) ـ عندما نقل رأي الصدوق الأول ـ كلمةَ (الزنا)، فقال: «يقبل في الزنا إذا شهد امرأتان وثلاثة رجال»([95]). وكلام الصدوق ـ طبقاً لهذا النقل ـ يشمل حدّ الزنا فقط، ولا يطال السحق واللواط؛ ذلك أن كيفية الإثبات عبر شهادة النساء في كلام الصدوق مقيّدة بالزنا.
ومن الفقهاء القائلين بقبول شهادة النساء في المساحقة واللواط: ابن حمزة في الوسيلة، حيث قال في كتاب القضاء منه: «تقبل شهادتهنّ مع الرجال… والآخر في الزنا والسحق»([96])، وهو نفسه، في بحث الجنايات من الكتاب نفسه، جعل اللواط كالمساحقة في أنه من الحدود التي تقبل فيها شهادة النساء، فقال: «اللواط يثبت بمثل ما يثبت الزنا من البينة… إنما يثبت السحق بالبينة أو الإقرار، على حدّ ثبوت الزنا واللواط بهما»([97])، لكنه في موضع آخر نسب القول بثبوت حدّ الزنا بثلاثة رجال وامرأتين، أو برجلين وأربع نسوة، إلى القيل، وهو ما يشعر بعدم قبولـه بثبوت حدّ الزنا بمثل هذه الشهادات، قال: «وإنما يثبت بأحد شيئين: بالبينة، وبإقرار الفاعل على نفسه، والبينة أربعة رجال من العدول، وقيل: ثلاثة رجال وامرأتان، أو رجلان وأربع نسوة»([98]).
لكن مع ذلك كلّه، عدّ العلامة الحلي في مختلف الشيعة ابنَ حمزة من القائلين بقبول شهادة النساء في الزنا والمساحقة([99]).
ومن القائلين بقبول شهادة النساء في حدّي السحق واللواط ابن زهرة الحلبي في الغنية، حيث قال: «لا يقبل في الزنا إلا شهادة أربعة رجال… أو شهادة ثلاثة رجال وامرأتين، وكذا حكم اللواط والسحق، بدليل إجماع الطائفة»([100]). وكذلك الحال مع الشهيد في الدروس; إذ ذكر أن ظاهر كلام ابن الجنيد هو تساوي اللواط والسحق مع الزنا من ناحية الطريق المثبت عبر شهادة النساء، حيث قال: «وظاهر ابن الجنيد مساواة اللواط والسحق للزنا في شهادة النساء»([101])، ولعلّ استظهار الشهيد كان قد أخذه من العلامة الحلي في المختلف، حيث قال: «وكلام ابن الجنيد يقتضي التعميم»([102]).
2 ـ أدلّة نظرية استثناء المساحقة واللواط
رغم أنه لم يذكر المستثنون هنا دليلاً خاصاً إلاّ أنه يمكن العثور من مجموع كلماتهم على عدة أدلّة، لعلّها هي التي كانت منطلقاً لهم في رأيهم، وهي:
أ ـ خبر عبد الرحمن، قال: سألت أبا عبد الله ×… وقال: «تجوز شهادة النساء في الحدود مع الرجال»([103]).
ب ـ عموم التنزيل في الرواية([104]) الدالة على أن اللواط كالزنا يثبت بالإقرار أربع مرات، وعليه فتمام أحكام الزنا ـ سواء على مستوى طرق الثبوت، أو على مستوى كيفية الحد ـ تجري في اللواط أيضاً، ومن طرق ثبوته شهادة ثلاثة رجال وامرأتين؛ إذ نظراً لعموم التنزيل يثبت اللواط بها أيضاً، وكذلك الحال في عموم التنزيل في رواية مكارم الأخلاق، حيث يدل على أن السحق في النساء كاللواط في الرجال، وحيث يثبت اللواط بالإقرار أربعاً كذا المساحقة، وكذا كيفية الحد ـ أي القتل ـ مثل الزنا، وعليه تترتب أحكام الزنا على المساحقة، فقد روى الحسن الطبرسيّ في (مكارم الأخلاق) عن النبي’، قال: «السحق في النساء بمنزلة اللواط في الرجال، فمن فعل من ذلك شيئاً فاقتلوهما، ثم اقتلوهما»([105]).
ج ـ الإجماع المنقول من السيد ابن زهرة في الغنية([106]).
3 ـ نقد أدلة نظرية الاستثناء
نقد الاستدلال بخبر عبد الرحمن: مع الأخذ بعين الاعتبار الروايات الصحيحة([107]) الدالة على عدم نفوذ شهادة النساء في الحدود، ومع الالتفات إلى الروايات الواردة في حدّ الزاني، والدالة على نفوذ شهادة النساء في حدّ الزنا فقط، وتخصيصها الروايات العامة الرافضة لحجية شهادة النساء في تمام الحدود، فإن خبر عبد الرحمن يُحمل على قبول شهادة النساء المنضمات إلى الرجال في حدّ الزنا، لا في تمام الحدود، وبعبارة أخرى: إن رواية عبد الرحمن تتخصّص بروايات حدّ الزنا، ولا تشمل سائر الحدود.
وبناء عليه لا يبقى عموم لهذه الرواية حتى يستدل به، ولو لم يقبل هذا الحمل، وقلنا بالتعارض بين روايات عدم قبول شهادة النساء في الحدود مع هذه الرواية، فإنّ الأرجحية تقف لصالح روايات عدم قبول شهادتهنّ في الحدود؛ بدليل أنها أصحّ سنداً، وأكثر عدداً، وهما من مرجّحات باب التعارض.
نقد الاستدلال بعموم التنزيل: لا وجود لعموم تنزيلي في هذه الروايات; ذلك أن تنزيل اللواط منزلة الزنا في رواية الطبرسي مرتبط بالجزاء، وهو القتل، لا أن اللواط تجري فيه تمام أحكام الزنا، ومجرد المماثلة بين اللواط والزنا في حجية الإقرار لأربع مرات لا يعني أن تمام طرق الإثبات ـ ومنها الشهادة ـ لها حكمٌ واحد.
نقد الاستدلال بالإجماع: لا حجية للإجماع المنقول في كلام السيد ابن زهرة; إذ الكثير من الفقهاء القدامى قالوا بعدم قبول شهادة النساء في الحدود، ولم يدّع أحدٌ من الفقهاء الخمسة القائلين بقبول شهادة النساء في حدّ السحق واللواط ما ادّعاه ابن زهرة هنا من الإجماع.
4 ـ الآراء والنظريات الرافضة للاستثناء
يذهب سائر الفقهاء ـ غير من ذكرناهم آنفاً ـ إلى عدم قبول شهادة النساء في حدّي اللواط والمساحقة.
5 ـ أدلّة نظرية عدم استثناء حدّ اللواط والمساحقة
1 ـ صحيحة جميل وابن حمران، عن أبي عبد الله ×، قال: قلنا: أتجوز شهادة النساء في الحدود؟ فقال: «في القتل وحده..»([108]).
2 ـ خبر غياث بن إبراهيم، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي×، قال: «لا تجوز شهادة النساء في الحدود، ولا في القود»([109]).
3 ـ خبر موسى بن إسماعيل بن جعفر، عن أبيه، عن آبائه…. عن علي×، قال: «لا تجوز شهادة النساء في الحدود، ولا قود»([110]).
4 ـ بناء الشارع على التخفيف في الحدود وعدم إجرائها لأدنى شبهة، فلم يُرِد الشارع تسهيل طرق إثبات الحدود، ولاسيّما الحدود العِرْضية التي تذهب بماء وجه أقرباء المقام عليه الحد، وتجعل سمعتهم عرضةً للخطر، وتكسر حرمة المجتمع كله، لهذا مارس قدراً عالياً من الدقة في طرق إثبات هذه الحدود إلى أن بلغ الأربعة شهود، ووضع على الشهود شروطاً خاصة، وعلى كيفية مشاهدتهم للحدث كذلك…، ومن هذا كله نفهم أن مسألة الحدود مسألة خاصة، فإذا لم نقل: إن إثباتها ضمن هذه الشروط الخاصة محال فلا أقل من أنه في غاية الصعوبة، ولعلّ الحكمة من ذلك حفظ حرمة الناس وسمعتهم، وعدم هتكها وحرمة المجتمع.
6 ـ استنتاج ودراسة
مع ملاحظة أدلة الطرفين معاً نجد أن القول القوي هو عدم قبول شهادة النساء في المساحقة واللواط؛ ذلك أن الروايات الصحيحة السند التامة الدلالة قامت على ذلك، والخروج عن العموم أو الإطلاق الموجود فيها يحتاج إلى دليل خاص ومستحكم تماماً مثلها وعلى شاكلتها، وهو ما لم نعثر عليه لدى رصدنا للأدلة ودراستها، وعليه فعمومية هذه الروايات باقية على حالها، ولا تخصّص سوى بحدّ الزنا دون غيره.
7 ـ إثارة احتمال في المسألة
نثير هنا ـ استكمالاً لدراسة تمام جوانب الموضوع ـ احتمالاً في قضية قبول شهادة النساء في حدّي السحق واللواط، رغم أننا ذكرنا التحقيق في هذه المسألة، إلاّ أننا نذكره نظراً للفائدة العلمية لهذا الاحتمال، حيث سيشار ـ أولاً ـ إلى دليل اجتهادي في القضية، واستيعاباً لتمام الاحتمالات المفروضة في الموضوع ثانياً، فلربما يتبنّى فقيه أو محقق فيما بعد هذا الاحتمال، ويطرحه بوصفه نظريةً فقهية يثبتها عبر مراكمة دراسات أخرى في الموضوع.
وقد اتضح من دراسة الأدلة: أولاً: إن الحكمة من تشدّد الشارع وتعسيره طريق ثبوت حدّي السحق واللواط ـ كالزنا ـ هو حفظ الأعراض وسمعة الناس.
ثانياً: إن إجراء الحد مربوط بشخصين، إلاّ أن مسألة الحرمة والسمعة وماء الوجه لا تختص بهما، بل تستوعب الأقرباء، تماماً كما في حدّ الزنا.
ثالثاً: ورد في الرواية([111]) أن حدّ اللواط كحد الزنا يثبت بالإقرار أربع مرات.
رابعاً: يجمع الفقهاء على أن شهادة أربعة رجال تثبت الحد في اللواط والسحق([112])، من جهة نجد فقيهاً آخر، مثل صاحب الجواهر، يشير في موارد كثيرة إلى الاستدلال بمذاق الفقه، أو مذاق الشارع، معتبراً إيّاه حجةً([113])، وكمثال على ذلك: عندما لا تكون بيدنا أدلة خاصة في موضوع ما، إلاّ أن هناك أدلة تحوم حوله وتتصل به وتطلّ عليه، فإنه يمكن من مجموع هذه الأدلة تحصيل مذاق الشارع والإفتاء وفقه؛ أو لا يكون عندنا في موضوع ما أي دليل على العدم، إلاّ أن الأدلة الموجودة في سائر الأبواب الفقهية يمكنها أن تساعد على الحكم بالعدم.
انطلاقاً من ذلك، وإذا عدنا إلى موضوعنا هنا، فقد يمكن لفقيه ـ بملاحظة أوجه التشابه الأربعة بين الزنا والمساحقة واللواط مما أسلفناه قريباً ـ أن يحصل له يقين أنه لا فرق عند الشارع بين هذه الثلاثة في إثبات الحد بشهادة ثلاثة رجال وامرأتين، ويكون دليله مذاق الشارع أو الفقه، يشار أيضاً إلى أنه لا يمكن أن نقبل الاستناد إلى مذاق الشارع من أيّ شخص كان، إلاّ إذا كان من فقهاء أمثال صاحب الجواهر، أو الشيخ الأنصاري، ممن قضوا عمرهم في دراسة النصوص وتحليل متون الأحاديث وكلمات الفقه والفقهاء، وكانوا مطّلعين على تمام أبواب الفقه، منزهين عن كل هوى في الفتوى.
المبحث الثاني: الحدود غير العِرْضية
من الموضوعات التي ادّعي الإجماع([114]) على عدم قبول شهادة النساء فيها هو الحدود غير العِرْضية، وهذه الحدود تنقسم إلى قسمين: أحدهما: ما كان حق الله فقط، وهي عبارة عن حدّ شرب الخمر، والارتداد، والمحاربة، والقيادة وغير ذلك؛ وثانيها: ما كان حق الله وحق الناس معاً، مثل: حدّ السرقة، وحدّ القذف.
أدلة عدم حجية شهادة النساء في الحدود غير العِرْضية
أ ـ الأصل
ويمكن بيان هذا الأصل بوجهين:
الأول: أصل عدم الحجية، الذي هو أصل أولي في باب الشهادات، ونتيجته عدم قبول شهادة مطلق الشهود ـ أعم من الرجال والنساء ـ إلاّ إذا قام دليل خاص على الخروج عن عموم هذا الأصل.
الثاني: أصل عدم حجية شهادة النساء في الحدود، ومستند هذا الأصل ـ كما تقدم ـ هو الروايات الخاصة الواردة في باب الحدود.
ونظراً لكون عدم قبول شهادة النساء في الحدود غير العِرْضية إجماعياً، نكتفي هنا بذكر استدلال الأردبيلي والنجفي بالأصل في المقام.
1 ـ استدلال المحقق الأردبيلي بالأصل
ظاهر كلام المحقق الأردبيلي هو الاستدلال بالوجه الأول المتقدم، رغم أنه لا فرق بين الوجهين؛ لأن الوجه الثاني يرجع إلى الوجه الأول الذي هو أعم وأشمل، وعليه، فالاختلاف الوحيد بين الوجهين إنما هو في مقدار الشمول، يقول المحقق الأردبيلي: «وأما أنّ ما عدا ذلك من الجنايات الموجبة للحدود وكل حقوق الله تعالى إنما يثبت بالشاهدين فلما عرفت من أن الذي يثبت بالشاهد واليمين ليس إلاّ الدين والمال، وكذا ما ثبت بالشاهد والمرأتين، وما ثبت بالمرأة الواحدة ونحوها([115]) فليس إلاّ الولادة والاستهلال، وما يثبت بشهادة النساء فليس إلاّ ما لا يمكن اطلاع الرجال عليه، مثل: عيوب النساء الباطنة، والرضاع، فما عدا ذلك إنما يثبت بالشاهدين كأنه بالإجماع، وظاهر {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (البقرة: 282)، {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (الطلاق: 2) في الجملة، ولا شك أن الحدود وكل حق من حقوق الله، مالية كانت، كالزكاة، أو غيرها، كالشرب والسرقة، عدا ذلك»([116]).
2 ـ استدلال المحقق النجفي بالأصل
وظاهره في أصالة عدم حجية شهادة النساء في الحدود، حيث يقول: «(ومنه) أي ما هو حق الله تعالى (وما يثبت بشاهدين) عدلين (وهو ما عدا ذلك من الجنايات الموجبة للحدود، كالسرقة وشرب الخمر والردّة).. لإطلاق ما دل على قبولهما من الكتاب والسنة…، إلى غير ذلك من النصوص بالخصوص والعموم، مع أصالة عدم الثبوت بغير ذلك»([117]).
ب ـ الروايات
حيث لا وجود لرواية خاصة تدل على عدم قبول شهادة النساء في هذه الموارد بالخصوص استند الفقهاء إلى إطلاق الروايات الدالة على عدم قبول شهادة النساء في الحدود، ونشير إلى هذه الروايات هنا:
1 ـ صحيحتا جميل بن دراج ومحمد بن حمران، عن أبي عبد الله ×، قال: قلنا: أتجوز شهادة النساء في الحدود؟ فقال: «في القتل وحده..»([118]).
2 ـ رواية غياث بن إبراهيم، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي×، قال: «لا تجوز شهادة النساء في الحدود، ولا في القود»([119]).
3 ـ رواية موسى بن إسماعيل بن جعفر، عن أبيه، عن آبائه، عن علي×، قال: «لا تجوز شهادة النساء في الحدود، ولا قود»([120]).
4 ـ رواية السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن علي × أنه كان يقول: «شهادة النساء لا تجوز في طلاق، ولا نكاح، ولا في حدود…»([121]).
وكيفية الاستدلال بهذه الروايات واضحة؛ ذلك أن فيها إطلاقاً في مورد الحدود، فتشمل الحدود غير العِرْضية أيضاً، إلاّ إذا قيل: إن المراد من الحدود فيها خصوص الحدود العِرْضية، فلا يكون فيها إطلاق، إلاّ أن إثبات هذا الاحتمال صعب جداً، إذا لم نقل: إنه مستحيل، مع الأخذ بعين الاعتبار الروايات الواردة في الحدود غير العِرْضية، والتي أطلق فيها عليها عنوان (الحد)، وكذلك مع ملاحظة تعريف الحدود وامتيازها عن التعزيرات.
ج ـ قاعدة التخفيف والدرء
الوحيد الذي استند إلى هذه القاعدة هنا هو الفاضل الهندي([122])، ولا نرى أثراً لها لإثبات عدم حجية شهادة النساء في الحدود غير العِرْضية عند غيره.
د ـ الإجماع
ادّعى ابن زهرة في الغنية([123]) والسيد الطباطبائي([124]) الإجماعَ هنا، رغم أن الإجماع على عدم الحجية جاء شاملاً للحدود على إطلاقها، دون ذكر الحدود غير العِرْضية بالخصوص، ومن الواضح أن الحدود غير العِرْضية تعدّ جزءاً من الحدود، وادّعاء خروجها عنها ادعاء بلا دليل، بل ـ وكما تقدم ـ هناك دليل على خلاف هذا الادعاء.
شبهات واحتمالات في الاستدلال بالروايات
حيث كان عمدة استدلال المستدلين هنا هو إطلاق الروايات الواردة في الحدود، والوجوه الأخرى ترجع إلى الروايات، مثل الأصل والإجماع، أو أنّ ضعفها واضح، مثل: قاعدة بناء الحدود على التخفيف، حيث يبدو ضعفها في الحدود التي ترجع إلى حق الناس أوضح وأجلى…، كان لا بد لنا من أن ندرس تمام الاحتمالات التي قد تبعث على تضعيف الاستدلال بالروايات، وفي بعض هذه الاحتمالات شبهات نشير إليها أيضاً، ولا ننسى الإشارة إلى أنّ ذكر هذه الاحتمالات، بل وتقويتها في بعض الموارد، لا يعني قبولنا بشهادة النساء في الحدود غير العِرْضية، كل ما في الأمر أننا نريد دراسة تمام جوانب الموضوع.
الاحتمال الأول: إن كلمة «النساء» في هذه الروايات ما جاءت بما هنّ نساء، ولا ربط لها بشهادة المرأتين العادلتين، أي أن الإمام كان يريد أن يقول: إن شهادة النساء في الحدود لا تقبل; لأنهنّ غير مطلعات على قضايا المجتمع، مثل: السرقات، وما يخالف العفاف، وهذا لا ربط له بالقبول بشهادة امرأتين عادلتين عارفتين بهذا النوع من القضايا، ويؤيد هذا الاحتمال أن الوارد في القرآن الكريم في قبول شهادة النساء هو كلمة «المرأة»، وليس «النساء»، قال تعالى:{…فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (البقرة: 282)، كما جاء في روايات حدّ الزنا تعبير «المرأتان» مثل: «.. وتجوز شهادتهنّ في حدّ الزنا إذا كان ثلاثة رجال وامرأتان»([125]).
وبناء عليه فعندما يكون الحديث عن النساء دون قيد العدالة والوثاقة، ولا يكون المقام مقام ذكر البينة الشرعية، نجد في النصوص استخدام كلمة (نساء)، أما عندما يكون الحديث عن شهادة النساء مع قيد العدالة، والمقام مقام البينة الشرعية، فإننا نجد كلمة (المرأة) في الروايات.
إلاّ أن هذا الاحتمال باطل، فالوجه العمدة في الردّ عليه سيأتي لدى دراسة الاحتمالات اللاحقة، إلاّ أنه لا بد أن يعلم بأنه ضعيف للغاية; إذ في هذه الروايات نفسها ورد تعبير (نسوة); حيث جاء في خبر عبد الله بن سنان، قال: سمعت أبا عبد الله× يقول: «… ولا يجوز في الرجم شهادة رجلين وأربع نسوة…»([126]). فمع مجيء أربع نسوة إلى جانب الرجلين، تصبح الرواية صريحة في أن كلمة النساء فيها متصلة ببحث شهادتهنّ مع قيد العدالة، لا بدونه.
الاحتمال الثاني: إن هذه الروايات الدالة على عدم حجية شهادة النساء في الحدود تعارض الروايات العامة والمطلقة الدالة على حجية شهادة العدلين; ذلك أن الأخيرة تدلّ ـ بإلغاء الخصوصية وبالفهم العرفي ـ على حجية شهادة العدلين، سواء كانا رجلين أم امرأتين، والمدلول الإطلاقي لهذه الروايات هنا هو عدم حجية شهادة النساء في جميع الحدود، وعليه لا يمكن التمسّك بإطلاق هذه الروايات لإثبات عدم حجية شهادة النساء في الحدود غير العِرْضية.
وقد يجاب عن هذا الاحتمال بأن روايات باب الحدود خاصة فيما روايات حجية شهادة العدلين عامة، وطبقاً لقاعدة حمل العام على الخاص نرفع اليد عن الروايات الدالة على الحجية بتخصيص روايات باب الحدود لها، وبهذا يرتفع التعارض.
إلاّ أنّ هذا الجواب غير تام؛ ذلك أن دليل حجية الظواهر ودليل تخصيص العام بالخاص مثل دليل حجية خبر الواحد، أي هو السيرة العقلائية، والعقلاء لا يمكن أن يقبلوا تخصيصاً مخالفاً للفهم العرفي وإلغائهم للخصوصية عرفاً، فلا يكون تخصيصاً حجةً. وتوضيح هذه النقطة أن روايات باب الحدود خاصة، فضلاً عن ضعفها السندي عدا صحيحة جميل وابن حمران، تخالف الفهم العرفي، فيما أدلة الشهادة العامة توافقه، وعليه لا يرى العقلاء تخصيص عام موافق للفهم العرفي برواية أو روايتين تخالفان فهم العرف، ذلك أن طريقة العقلاء في مثل هذه الموارد أنه لو أراد الشارع بيان أمر يقع على خلاف بناء العقلاء والفهم العرفي فلابد له أن يورده بنصوص محكمة ومعتبرة، مثل: حرمة القياس، حيث كانت الأدلة الواضحة والنصوص المستفيضة مانعة عن التمسّك به.
ولا يفوتنا التأكيد على أن هذه القاعدة تجري في تمام أبواب الفقه، ففي كتاب الله تعالى مثلاً جاء حول حدّ زنا غير المحصن: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (النور: 2)، وإطلاقها شامل للرجل والمرأة والمسلم وغيره، إلاّ أن لدينا حول هذا الموضوع رواية معتبرة يفيد ترك استفصال الإمام فيها في جوابه لسؤال السائل أنه إذا كان الزنا بين يهودي وامرأة مسلمة قتل ولو كان غير محصن، ففي خبر حنان بن سدير، عن أبي عبد الله×، قال: سألته عن يهودي فجر بمسلمة، قال: «يقتل»([127])، ومن الواضح أن هذا الحكم على خلاف نصّ القرآن، فمع الأخذ بحجية خبر الواحد من باب بناء العقلاء، فإن العقلاء لا يخصصون إطلاق آية قرآنية بخبر مخالف للفهم العرفي والعقلائي، خصوصاً في مجال الدماء، وهو مجال الاحتياط.
والنتيجة أنه حيث لا مجال لتخصيص الروايات العامة للشهادة بروايات باب الحدود تظلّ على عمومها، وتدل على حجية شهادة المرأتين في الحدود.
الاحتمال الثالث: إن هذه الروايات التي تفيد عدم حجية شهادة النساء في الحدود مخصّصة بما دل على قبول شهادتهنّ في حدّ الرجم والجلد في باب الزنا، وهذا التخصيص يدل ـ أولاً ـ على أن عدم قبول شهادة النساء في باب الحدود ليس حكماً تعبدياً لا نفهم منه شيئاً، كما تفيد ـ ثانياً ـ أنه حيث قبلت شهادة النساء في حدود مثل الزنا ـ وعقوبته القتل ـ فبالأولوية العقلائية أن تكون شهادتهنّ حجةً في الحدود التي تكون عقوباتها أقلّ، ووفقاً لهذه الأولوية المفهومة من أدلّة حجية شهادة النساء في حدّ الزنا تكون روايات باب الرجم معارضةً لروايات عدم حجية شهادتهنّ في مطلق الحدود، مما يؤدي إلى تخصيص الروايات المطلقة، وعليه فكما لا تشمل هذه الروايات المانعة المطلقة حدّ الزنا كذلك لا تشمل الحدود غير العِرْضية.
الاحتمال الرابع: احتمال صدور هذه الروايات تقيةً؛ لأن أهل السنّة يذهبون إلى عدم قبول شهادة النساء في الحدود، وأدلتهم في هذا المجال سلسلة من الوجوه الاعتبارية، دون أن يوردوا دليلاً خاصاً من كتاب أو سنّة.
ووجوه الاستدلال عند أهل السنّة هي:
1 ـ إن شهادة النساء في الحدود محلّ الشبهة، ذلك أن القرآن قبل شهادة المرأتين مكان الرجل الواحد، أما في الحدود فإن البناء قائم على عدم إجراء الحد، الأمر المستند إلى قاعدة: «درء الحدود بالشبهات»، وعليه لا تقبل شهادة النساء في الحدود.
2 ـ لا تقبل شهادة المرأة مطلقاً مع عدم انضمام الرجال، حتى لو بلغ عددهنّ كثرةً ما بلغ، وعليه لا تقبل شهادتهن في الحدود أبداً.
ولعل قصدهم من «محل الشبهة» هو أن شهادتهنّ غير حجة، وإنما تقبل في بعض المواضع منضمات إلى الرجال، وهذا ما صرح به القرآن أيضاً، حيث عدّ الأموال والديون فقط، ففي غير هذه الموارد لا تقبل شهادة النساء أبداً.
وهذه الوجوه التي ذكرناها مأخوذة من كتاب المغني لابن قدامة، إنه يقول: «مسألة: قال: (ولا يقبل في ما سوى الأموال مما يطلع عليه الرجال أقلّ من الرجلين)، وهذا القسم نوعان: أحدهما: العقوبات، وهي الحدود والقصاص، فلا يقبل فيه إلاّ شهادة رجلين، إلاّ ما روي عن عطاء وحماد أنهما قالا: يقبل فيه رجل وامرأتان، قياساً على الشهادة في الأموال، ولنا أن هذا مما يحتاط لدرئه وإسقاطه، ولهذا يندرئ بالشبهات، ولا تدعو الحاجة إلى إثباته، وفي شهادة النساء شبهة، بدليل قولـه تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} وأنه لا تقبل شهادتهنّ وإن كثرن ما لم يكن معهنّ رجل، فوجب أن لا تقبل شهادتهن فيه، ولا يصح قياس هذا على المال؛ لما ذكرنا من الفرق، وبهذا الذي ذكرنا قال سعيد بن المسيب، والشعبي، والنخعي، وحماد، والزهري، وربيعة، ومالك، والشافعي، وأبو عبيد، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، واتفق هؤلاء وغيرهم على أنها تثبت بشهادة رجلين ما خلا الزنا…، فإن الزنا الموجب للحد لا يثبت إلاّ بأربعة…»([128]).
فمع الالتفات إلى فتوى أهل السنّة في الحدود يحتمل أن تكون روايات باب الحدود قد جاءت منسجمةً معهم على أساس التقية، ذلك أنها روايات مخالفة لبناء العقلاء في باب الشهادات; إذ تثبت نوعاً من التعبد، والعقلاء لا يقبلون التعبد المحض المخالف لبناءاتهم، إلاّ إذا أرفق بأدلة مستحكمة وكثيرة تعطي اليقين بأن مفادها هو نظر الشارع حقاً، وهذه الروايات هنا ليس لها هذه الطاقة؛ لأنها ضعيفة من حيث السند، سوى صحيحة جميل وحمران، بل إنها مخدوشة من الناحيتين الأدبية اللغوية والمعنائية، ففي رواية موسى بن إسماعيل ـ على سبيل المثال ـ جاء: «.. لا تجوز شهادة النساء في الحدود، ولا قود…»([129])، فإن جملة: «لا قود» ليست صحيحة من الناحية اللغوية، بل الصحيح هو ما جاء في رواية غياث بن إبراهيم: «ولا في القود»([130])، كذلك الحال في رواية السكوني فقد حملها الشيخ الطوسي في التهذيب([131]) والاستبصار([132]) على التقية، أو على نوع من الكراهة، ودليل كونها على نحو التقية هو رواية داوود بن الحصين([133])، وكذلك صحيحة جميل وحمران، حيث جاء فيها:.. أتجوز شهادة النساء في الحدود؟ فقال: «في القتل وحده…»([134])، مع أنّ القتل ليس جزءاً من الحدود، وأهل السنّة لا يرونه جزءاً منها، بل يطرحونه بعنوان القصاص.
ومع الأخذ بعين الاعتبار هذه الإشكالات جميعها في الروايات الدالة على عدم حجية شهادة النساء في الحدود يبعد جداً أن يتمسك العقلاء بهذه الروايات لتخصيص أدلة الشهادة العامة، والموافقة للفهم العرفي والارتكازات العقلائية.
إشكال على احتمال التقية
قد يشكل شخص ويقول: حيث لا يمكن حمل الروايات الصحيحة على التقية وإسقاطها عن الحجية، وهناك روايتان في هذه الروايات صحيحة السند تدل على عدم قبول شهادة النساء…، إذاً فلا يمكننا القول بالتقية في هذه النصوص، ويؤيد ذلك كلام العلامة المجلسي([135]) حول روايات تحريف القرآن، وعددها كثير جداً، وقد قيل: إن بينها روايات صحيحة، فقد اعتقد المجلسي أنه لا يمكن وضع علامة استفهام كبيرة حول هذه الروايات؛ نظراً لصحّتها وكثرتها; إذ لو فعلنا ذلك فكل رواياتنا ستكون عرضة للتساؤل والنقد.
جواب الإشكال
أولاً: نكتفي في التعليق على ما قاله العلامة المجلسي بما ذكره المرحوم الشعراني في حاشية كتاب الكافي، يقول: «وقال المجلسي رحمه الله في مرآة العقول: لا يخفى أن هذا الخبر وكثيراً من الأخبار الصحيحة صريحة في نقض القرآن وتغييره، وعندي أن الأخبار في هذا الباب متواترة معنى، وطرح جميعها يوجب رفع الاعتماد عن الأخبار رأساً، بل ظني أن الأخبار لا يقصر الإمامة; فكيف يثبتونها بالخبر، انتهى. والجواب أنا لا نثبت أصل الإمامة بالخبر الوارد عن أهل البيت، فإنه مصادرة على المطلوب، بل بالعقل مؤيّداً بأخبار أهل السنّة، وكما أن طرح جميع الأخبار يوجب رفع الاعتماد عن الأخبار فقبول جميعها يوجب رفع الاعتماد عن القرآن، والقرآن أولى بأن يعتمد عليه»([136]).
فالشعراني هنا يرى أن القبول بتحريف القرآن له مضار أكبر وأكثر من ردّ أحاديث التحريف؛ ذلك أن حفظ القرآن والحيلولة دون الخدش في الاعتماد عليه أولى من الخدشة في الروايات، رغم أن الشعراني نفسه أنكر بعد ذلك وجود روايات صحيحة وصريحة في تحريف القرآن.
ثانياً: إن لدينا روايات صحيحة وموثقة كثيرة في الأبواب المختلفة تخالف القرآن الكريم، وبطلانها واضح جداً، وسنشير إلى هذه الروايات.
ونتيجة ذلك أن الاستدلال بروايات صحيحة السند لابد أن يكون بالتدقيق في القرآن والمعايير المختلفة، وأحد هذه المعايير يمكن أن يكون العدالة وعدم ظلم الآخرين، ولاسيّما في ما يرجع إلى موضوع حقوق الإنسان، مع الانتباه أيضاً إلى بناء العقلاء في التخصيصات والتقييدات وحجية الظواهر وخبر الواحد الثقة.
ونكتفي هنا بذكر روايتين صحيحتين سنداً وردتا في باب الحدود، وبطلانهما واضح، ونترك الحكم للباحثين الفضلاء الأعزاء، كما أن هاتين الروايتين وردتا في كتب: التهذيب، والاستبصار، ومن لا يحضره الفقيه، وهما:
1 ـ صحيحة عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله× قال: «الرجم في القرآن قول الله عز وجل: إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة فإنهما قضيا الشهوة»([137]).
2 ـ موثقة سليمان بن خالد، قال: قلت لأبي عبد الله ×: في القرآن رجم؟ قال: «نعم»، قلت: كيف؟ قال: «الشيخ والشيخة فارجموهما البتة فإنهما قضيا الشهوة»([138]).
الجواب المشترك على تمام الاحتمالات
ثمة جوابان مشتركان يطالان تمام الاحتمالات المتقدمة التي تهدف الخدش في دلالة روايات الحدود، وهذان الجوابان يضعّفان من هذه الاحتمالات ويردّانها:
1 ـ لدينا في الروايات الدالة على عدم حجية شهادة النساء في الحدود، روايات صحيحة السند، فلا يمكن رفع اليد عنها بمثل هذه الاحتمالات، ذلك أنها روايات ظاهرة في عدم حجية شهادة النساء في الحدود، فلا يمكن الاعتناء بمثل هذه الاحتمالات في مقابل الروايات المعتبرة، وبصرف الاحتمال لا يمكن إسقاط الحجية.
2 ـ إذا أردتم بهذه الاحتمالات إسقاط حجية هذه الروايات فإنكم سوف تواجهون مشاكل في موضوعين فقهيين، مع أنكم اعتبرتم شهادة النساء حجة فيهما، واستندتم في ذلك إلى هذه الروايات عينها، وهذان الأمران هما: أ ـ حجية شهادة النساء في إثبات الطلاق. ب ـ حجية شهادة النساء في القتل.
وتوضيح ذلك أن هناك روايات تدل على عدم حجية شهادة النساء في الطلاق والدم، مثل: رواية محمد بن الفضيل، قال: سألت أبا الحسن الرضا×…، قال: «.. ولا تجوز شهادتهنّ في الطلاق، ولا في الدم»([139])، وقد تقدم في بحث الطلاق أن هذه المجموعة من الروايات تعارض صحيحة حمران وجميل الدالتين على قبول شهادة النساء في الدم بعد عدم إمكان التفكيك([140]) في المضمون، وهذا التعارض يشكّل مانعاً وعائقاً رئيساً عن التمسك بروايات عدم حجية شهادة النساء في الطلاق، وعمدة وجوه عدم قبول شهادة النساء في الطلاق هو هذه الروايات التي تسقط عن الحجية بعد وقوع هذه المعارضة، من هنا نجد أنفسنا في هذا الموضوع معتمدين على بناء العقلاء وعمومات الشهادة لإثبات حجية شهادة المرأة في الطلاق، بعد تهاوي دليل عدم حجية شهادتها فيه.
من هنا إذا أسقطنا روايات باب الحدود ـ وإحداها صحيحة جميل وحمران ـ عن الحجية فلن يكون هناك معارض في باب الطلاق، فتتعين دلالة أخبار المنع عن شهادتهنّ في الطلاق.
كذلك يجري هذا الإشكال في روايات باب القتل، حيث تدل على عدم نفوذ شهادة النساء في القتل، تعارضها أيضاً ـ كما قلنا هناك ـ صحيحة جميل وحمران، ومن بين الروايات هناك مرفوعة حماد، عن أبي عبد الله×، قال: «لا تجوز شهادة النساء في القتل»([141]).
احتمال في الجمع بين الروايات
انطلاقاً من الإشكال الموجود في الاحتمالات الأربعة المتقدمة، والذي حال دون القول بعدم حجية روايات باب الحدود، مع حجية شهادة النساء في الحدود غير العِرْضية…، ثمة احتمال آخر في هذه الروايات يمكن على أساسه الجمع بينها، لا بأس بذكره لإكمال جوانب الموضوع.
أولاً: ترتبط روايات باب الحدود، التي جاء فيها: «… لا تجوز شهادة النساء في الحدود..»([142])، بشهادة النساء منفردات، ودون انضمام الرجال إليهنّ، حيث لا تقبل شهادتهنّ في هذه الحال، ويؤيد هذا الحمل خبر عبد الرحمن الذي ورد فيه: «.. تجوز شهادة النساء في الحدود مع الرجال»([143])، وعليه فلا منافاة بين تلك الروايات مع الروايات الواردة في حدّ الزنا (الرجم والجلد)، لأن روايات باب الحدود ـ انطلاقاً من هذا الحمل ـ تدل على عدم حجية شهادة النساء منفردات، وهي ساكتة عن كيفية قبول شهادة النساء إذا انضم إليهنّ الرجال، فيما روايات باب حدّ الزنا تدل على قبول شهادة النساء وكيفية ذلك في باب الزنا.
ثانياً: حيث حملنا روايات باب الحدود على قبول شهادة النساء مع الرجال، وحيث كانت لدينا في باب حدّ الزنا روايات تدل على قبول شهادة النساء منضمات إلى الرجال في الجملة، أمكن القول: إن روايات الحدود التي ورد فيها: «لا تجوز شهادة النساء في الحدود»([144]) تعني (لا تجوز في الحدود العِرْضية منفرداً)، وهذا يعني أن هذه الروايات لا تدل على عدم قبول شهادة النساء في الحدود غير العِرْضية، مثل: حدّ الإفطار في شهر رمضان، وحدّ القذف، وشرب الخمر، وغير ذلك، بل هي ساكتة عنها، كما أنها لا تعارض بناء العقلاء والفهم العرفي والأصل الثانوي في مورد شهادة النساء في الحدود، وعليه فالبناء العقلائي والفهم العرفي والأصل الثانوي أسسٌ ثابتة محكمة في الحدود غير العِرْضية، وتدلّ على قبول شهادة النساء في هذه الحدود.
دراسة واستنتاج
ليس بعيداً ـ انطلاقاً مما تقدم من أبحاث وجمع بين الروايات ـ أن يذهب فقيهٌ إلى نفوذ شهادة النساء منفردات وغير منفردات في الحدود (غير الزنا)، على أساس إلغاء الخصوصية، وتنقيح المناط في الشهادة، وملاكها عدالة الشاهد ورؤيته، وكذلك العمومات المستفادة من روايات الشهادة. كما يذهب أيضاً إلى نفوذ شهادتهنّ في حقوق الله.
وتجدر الإشارة إلى أنه في أيّ مورد من الموارد التي تقبل فيها شهادة النساء ـ غير باب الأموال والديون؛ لعلّة سبق ذكرها ـ لا تختلف هذه الشهادة من حيث العدد عن شهادة الرجال إطلاقاً.
المبحث الثالث: شهادة النساء في مجال التعزيرات
يدرج الحديث عن شهادة النساء في التعزيرات في ذيل البحث عن شهادتهنّ في الحدود، بل هو من متفرعاته، إذ أيّ مبنى أو نظرية يختارها الفقيه في شهادة النساء في الحدود ستكون نافذة المفعول في نطاق التعزيرات أيضاً.
وبناء عليه، وكما قلنا في باب الحدود بقبول شهادة النساء فيه كذلك نقوّي في التعزيرات نفوذ شهادتهنّ فيها؛ وذلك لـ:
1 ـ الأصل الثاني في الشهادة، والدال على قبول شهادة النساء في الحدود على أساس إلغاء الخصوصية، وتنقيح المناط.
2 ـ عندما نقول بقبول شهادة النساء في حدود، مثل: الارتداد، يحكم فيها بالقتل على أن تكون امرأتين عادلتين، فبطريق أولى ستكون شهادتهنّ نافذةً في مجال التعزيرات عرفاً; إذ التعزير بمثابة اللاشيء أمام القتل.
أما إذا قلنا بالرأي الذي يذهب إلى عدم قبول شهادة النساء في الحدود، فإنه لا مفرّ من القول بعدم قبول شهادتهنّ في التعزير أيضاً؛ وذلك لـ:
1 ـ إنه مقتضى الأصل الثالث في باب شهادة النساء في الحدود، والذي يدلّ على عدم حجية شهادتهنّ في مطلقها.
2 ـ إنه مفاد دلالة الحصر في موثقة السكوني، حيث ذكرت هذه الرواية الموارد التي يقبل فيها بشهادة النساء، دون أن تعدَّ منها إطلاقاً قبول شهادتهنّ في التعزيرات.
الهوامش
([4]) وسائل الشيعة 27: 350، كتاب الشهادات، باب 24، ح1.
([13]) يحتمل أن يكون عدم سؤال السائلين ناشئاً من اعتقادهم بعدم التساوي المنطلق عندهم من الآية الكريمة 282 من سورة البقرة، ويؤيد هذا الاحتمال خبر داوود بن الحصين؛ فعندما قال الإمام الصادق× للسائل: إن الإمام علياً كان يرى نفوذ شهادة المرأتين في النكاح عند الإنكار بادر السائل فوراً إلى السؤال عن حال الآية الكريمة، وكيف يجاب عليها؟ فانظر: المصدر نفسه: 360، ح35.
([19]) المصدر نفسه: 271، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، باب15، ح2.
([20]) النراقي، مستند الشيعة 18: 300.
([21]) وسائل الشيعة 27: 272، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، باب 15، ح5.
([22]) المصدر نفسه: 271، ح1، ومثل هذه الرواية بتفاوت يسير الحديث 4، ص272.
([23]) المصدر نفسه: 360، كتاب الشهادات، باب24، ح34.
([24]) المصدر نفسه: 354، ح11، ومثله: 351، ح3.
([30]) وسائل الشيعة 27: 351، كتاب الشهادت، باب24، ح2.
([33]) المصدر نفسه: 355، ح16؛ و357، ح23؛ و364، ح45؛ و365، ح48.
([34]) المصدر نفسه: 351، ح2، 4؛ و352، ح5، 7؛ و353، ح10؛ 364، ح46.
([35]) المصدر نفسه: 271، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، باب15، ح1، 3، 4.
([36]) المصدر نفسه: 351، كتاب الشهادات، باب24، ح2 (صحيحة الحلبي)، و353، ح10، (صحيحة ابن سنان).
([38]) النراقي، مستند الشيعة 18: 301.
([40]) الطباطبائي، رياض المسائل 2: 443.
([41]) الخلاف 6: 251، مسألة: 2.
([42]) وسائل الشيعة 27: 350، كتاب الشهادات، باب24، ح1.
([47]) مستدرك الوسائل 17: 426، كتاب الشهادات، باب 19، ح8، وقد ذكر النوري الرواية بصيغة «لا تقبل»، فحرف «لا» جعله داخل قوسين، وهو ما يدل على عدم حجية شهادتهنّ.
([48]) ضعف رواية الرضوي؛ لعدم وجود سند لأصل هذا الكتاب، فلم يثبت أن هذا الكتاب هو للإمام الرضا ×، وأما ضعف رواية عبد الرحمن؛ فلوجود القاسم بن محمد الجوهري فيها، وهو إما ضعيف أو مجهول (تنقيح المقال 2: 24، من أبواب القاف، الرقم: 9602)، وكذلك اعتبر المجلسي في ملاذ الأخيار الرواية ضعيفة (ملاذ الأخيار 10: 146، ح133)، ولا يفوتنا أن القاسم الوارد في سند الرواية مردّد بين أفراد ثقات وضعاف، فشيخ الحسين بن سعيد متعدد وكثير ممّن يسمى بالقاسم، وقد نقل هذا العدد عن القاسم أبان أيضاً؛ وعليه فلا يوجد ما يميز القاسم، ولعله لذلك لم يذكر آية الله العظمى السيد الخوئي في كتاب معجم رجال الحديث هذه الرواية في أيّ من طبقات القاسم، أو أبان، أو الحسين بن سعيد.
([49]) وسائل الشيعة 27: 351، كتاب الشهادات، باب24، ح3; ومجمع الفائدة والبرهان وكشف اللثام عبّرا عن هذه الرواية بالحسنة، فانظر: مجمع الفائدة والبرهان 12: 420؛ وكشف اللثام 10: 322.
([50]) وسائل الشيعة 27: 353، كتاب الشهادات، باب24، ح10؛ وعبّر عنها الفاضل الهندي بـ«الخبر»، فانظر: كشف اللثام 10: 322.
([51]) وسائل الشيعة 27: 351، كتاب الشهادات، باب24، ح4.
([58]) الاستبصار 3: 24، ح76؛ وقال الشيخ الحر العاملي: أقول: حمله الشيخ على التقية وعلى عدم تكامل شروط الشهادة؛ لما مرّ في الأحاديث: 3، 4، 5، 7، 10، 11، 25، من هذا الباب؛ أما كشف اللثام فقال: حمله الشيخ على التقية أو فقدانهنّ لشرط من شروط القبول، فانظر: كشف اللثام 10: 323.
([59]) الطوسي، النهاية في مجرد الفقه والفتاوى: 690.
([68]) وسائل الشيعة 27: 353، كتاب الشهادات، باب 24، ح10.
([70]) المصدر نفسه 28: 132، كتاب الحدود والتعزيرات، أبواب حدّ الزنا، باب 30، ح1.
([71]) المصدر نفسه 27: 356، كتاب الشهادات، باب 24، ح21.
([72]) المصدر نفسه 28: 132، كتاب الحدود والتعزيرات، أبواب حد الزنا، باب 30، ح1.
([73]) الطوسي، الخلاف 6: 251، مسألة: 2.
([77]) حكاه عن علي بن بابويه في المختلف 8: 489; مسألة: 74.
([80]) مختلف الشيعة 8: 490، مسألة: 74.
([82]) حكاه عنه في مختلف الشيعة 8: 485، مسألة: 74.
([85]) وسائل الشيعة 27: 358، كتاب الشهادات، باب 24، ح29.
([87]) المصدر نفسه 28: 132، باب 30 من أبواب حدّ الزنا، ح1.
([88]) المصدر نفسه 27: 353، كتاب الشهادات، باب 24، ح10.
([90]) تهذيب الأحكام 6: 266; ذيل الأحاديث: 709، 710.
([92]) نقله عنه في المختلف 8: 486، مسألة: 74.
([94]) النجفي، جواهر الكلام 41: 154.
([95]) مختلف الشيعة 8: 486، 488، مسألة: 74.
([99]) مختلف الشيعة 8: 488; مسألة: 74.
([101]) الدروس الشرعية 2: 136.
([102]) مختلف الشيعة 8: 488، مسألة: 74.
([103]) وسائل الشيعة 27: 356، كتاب الشهادات، باب24، ح21.
([104]) المصدر نفسه 28: 161، كتاب الحدود والتعزيرات، أبواب حدّ اللواط، باب 5، ح1.
([105]) المصدر نفسه: 166، أبواب حدّ السحق والقيادة، باب1، ح3.
([107]) سوف نشير عند الحديث عن أدلة القائلين بعدم قبول شهادة النساء في حدّي اللواط والمساحقة إلى هذه الروايات، وهي واردة في: وسائل الشيعة 27: 350، كتاب الشهادات، باب24.
([108]) المصدر نفسه: 350، كتاب الشهادات، باب 24، ح1.
([109]) المصدر نفسه: 358، ح29.
([110]) المصدر نفسه: 359، ح30.
([111]) المصدر نفسه 28: 161، كتاب الحدود والتعزيرات، أبواب حدّ اللواط، باب5، ح1.
([112]) يقول العلامة الحلي في إرشاد الأذهان 2: 176، في مورد حدّ السحق: «تثبت بالإقرار مرتين.. وبشهادة عدلين»، ولم يذكر الشهيد الأول في غاية المراد، وهو شرح للإرشاد، ولا الشهيد الثاني في شرحه على الإرشاد، أيَّ حاشية أو تعريض بهذا الكلام، والظاهر أنه لا يوجد غير العلامة، وفي هذا الكتاب فقط، أيّ قائل بثبوت الحد بإقرارين وشاهدين (غاية المراد 6: 220، كتاب الحدود)، يشار إلى أن المحققين الأردبيلي والنجفي ذكرا في قضية لزوم الشهود الأربعة في اللواط والسحق أنه لا دليل ولا نص معتبر على ذلك. فانظر: مجمع الفائدة والبرهان 12: 441، و13: 127؛ وجواهر الكلام 41: 154.
([113]) استند صاحب الجواهر في سبعة مواضع إلى مذاق الشرع أو مذاق الفقه، ثلاثة منها عبارة عن: جواهر الكلام 1: 150: «بل يكاد يقطع المتأمل في مذاق الشرع بعدمه»؛ و2: 329: «ما يستفاد مطلوبيته ورجحانه من ممارسة مذاق الشارع وإن لم يرد به دليل بالخصوص»؛ و15: 196: «ضرورة معلومية الوجوب في مثله من مذاق الشارع».
([114]) ابن زهرة، غنية النـزوع 1: 438.
([115]) الظاهر أن مراده الرجل الواحد؛ ذلك أنه قال في مجمع الفائدة والبرهان 12: 439: «الظاهر أن الرجل الواحد يقوم مقام المرأة الواحدة في مسألتي الوصية والولادة بالطريق الأولى».
([116]) مجمع الفائدة والبرهان 12: 442.
([118]) وسائل الشيعة 27: 360، كتاب الشهادات، باب24، ح1.
([119]) المصدر نفسه: 358، ح29.
([120]) المصدر نفسه: 359، ح30.
([121]) المصدر نفسه: 362، ح42.
([125]) وسائل الشيعة 27: 352، كتاب الشهادات، باب24، ح7، ومثله ح5.
([126]) المصدر نفسه: 353، ح10.
([127]) وسائل الشيعة 28: 141، كتاب الحدود والتعزيرات، أبواب حدّ الزنا، باب36، ح1، ويذكر الأستاذ الصانعي حول هذه الرواية أنها جاءت لبيان قضية خارجية شخصية؛ ذلك أن السائل سأل عن يهودي زنا مع مسلمة، ولم يكن السؤال عن عنوان اليهودي بل عن واحد منهم، وهذا النوع من الأسئلة يدلّ على شخصية السؤال، ومن ثم على شخصية الجواب ودلالته الجزئية الموردية. (تقريرات درس الشيخ الصانعي).
([128]) المغني والشرح الكبير 12: 7.
([129]) وسائل الشيعة 27: 359، كتاب الشهادات، باب24، ح30.
([130]) المصدر نفسه: 358، ح29.
([133]) وسائل الشيعة 27: 360، كتاب الشهادات، باب24، ح35.
([136]) الوافي، ج 2، حاشية الشعراني: 232.
([137]) تهذيب الأحكام 10: 3، ح7; ووسائل الشيعة 28: 62، كتاب الحدود والتعزيرات، أبواب حدّ الزنا، باب1، ح4.
([138]) من لا يحضره الفقيه 4: 17، ح32; ووسائل الشيعة 28: 67، كتاب الحدود والتعزيرات، أبواب حدّ الزنا، باب1، ح18.
([139]) وسائل الشيعة 27: 352، كتاب الشهادات، باب24، ح7؛ ومثلها في الدلالة ما جاء صفحة: 352، ح5؛ و354، ح11.
([140]) إنما قلنا بالمعارضة في الدم; لأن حكم الطلاق والدم جاءا معاً بجملة: «لا تجوز»، والعقلاء لا يقبلون في مثله التبعيض في الحجية.
([141]) وسائل الشيعة 27: 358، كتاب الشهادات، باب24، ح27.
([142]) المصدر نفسه: 359، ح30.