دراسة مقارنة بين الطبرسي والبغوي
اقتسمت خراسان في القرن السادس الهجري المدرستين الموروثتين في التفسير هما: مدرسة التفسير الأثري أو الروائي، ومدرسة التفسير بالرأي أو التفسير العقلي، فالتفسير بالرأي هو ما يحمّل فيه المفسّر النصّ القرآني ما يراه، أما التفسير العقلي فيؤدّي إليه اجتهاد المفسّر بشروطه وضوابطه.
ويمكن تقسيم الاتجاهات التفسيرية التي كانت سائدةً في خراسان إلى أربعة أقسام: الاتجاه الأدبي (اللغوي النحوي)، ويمثله مجمع البيان للطبرسي (548هـ)، والاتجاه الروائي القصصي، ويمثله معالم التنزيل للبغوي (516هـ)، والاتجاه البلاغي، ويمثّله جوامع الجامع للطبرسي (548هـ)، والاتجاه الكلامي، ويمثّله التفسير الكبير للفخر الرازي (606هـ).
والبقعة الجغرافية التي يتناولها البحث هنا هي خراسان القديمة التي تضمّ الولايات الأربع: نيشابور، ومرو، وبلخ، وهراة؛ فقد احتضنت هذه المنطقة مفسّرين كان لهم شأن خاص في مجال الدراسات القرآنية، وهذا البحث محاولة متواضعة لدراسة مناهج التفسير في هذه المنطقة في تلك الحقبة الزمنية، واستعراض اتجاهات التفسير فيها.
المنهج الأثري في التفسير ـــــــ
يظهر لمن يقرأ كتب التفسير وموسوعاته، ويطالع كتب تاريخ التفسير ومناهجه، أنّ المفسرين الذين سلكوا هذا الطريق وساروا عليه كانوا فريقين:
الفريق الأوّل: اكتفى بذكر الروايات الواردة في الآية أو في جزء منها دون أن يضيف إليها شيئاً، أو يعلّق عليها، وخيرُ من يمثل هذا المنهج ويرسمه فرات الكوفي في تفسيره، والسيوطي في «الدر المنثور»، والسيد هاشم البحراني في «البرهان» فإنّ كلاًّ منهم درج على ذكر الروايات المنقولة في تفسير آية دون تعليق أو توضيح، وإذا لم يرد في الآية روايةٌ أو أثر أضرب عن تفسيرها صفحاً ولم يفسّرها؛ لذلك يُشاهد كثير من الآيات لم تذكر في هذا النوع من التفاسير؛ لعدم ورود رواية تفسيرية فيها.
الفريق الثاني: ما لم يقتصر فيه على إيراد الروايات فحسب، بل يلاحظ القاريء إضافات توضيحية من المفسّر، ويمكن ملاحظة نمطين لهذا الصنف من التفسير:
الأول: ما ذكر فيه المفسّر الروايات الواردة، ويضيف إليه ملاحظاته من جهة، ويصنّفها من جهة أخرى، فالطبري (310هـ) لا يقتصر على ذكر الروايات وإنّما يضيف إليها شرحاً وتعليقاً، وفي كثير من الأحيان يصنّف الروايات الواردة في موضوع، فعند حديثه عن قوله تعالى: >الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ< (البقرة: 1 ـ 2)، يقول: «اختلفت تراجمة القرآن في تأويل قول الله تعالى ذكره: {الم}؛ فقال بعضهم: هو اسم من أسماء القرآن، ذِكْرُ من قال ذلك، حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبدالرزاق، قال: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: «الم»، قال: اسم من أسماء القرآن..»([1])، ثم ذكر روايتين أخريين، وبعدها ذكر: «وقال بعضهم: هو فواتح يفتح الله بها القرآن، ذكرُ من قال ذلك، حدّثني..»، وهكذا يذكر الآراء، ومع كلّ رأي ما رواه عن شيوخه في هذا الصدد، وبعد أن ذكر ما حضره من الروايات في تفسيرها قال: «وأمّا أهل العربية، فإنهم اختلفوا في معنى ذلك، فقال بعضهم: هي حروف من حروف المعجم، استغنى بذكر ما ذكره منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها..»([2]).
ويلاحظ من النصّ الأخير أنّ الطبري لم يكتف بإيراد الروايات، بل عقّب عليها بالتعليق والتوضيح، وقد استغرق تعليقه على هذه الآراء سبع صفحات من القطع الكبير، فيما لم تشغر الروايات التي ذكرها سوى صفحةٍ ونصف، وهو ـ مع كل هذا ـ يقف عند حدود الروايات المفسّرة روائياً، ولا يتعدّاها إلى تفسير الآيات التي لم ترد فيها روايات تفسيرية نقلها عن شيوخه.
الثاني: ما لم يلتزم فيه المفسّر بذكر الروايات التفسيرية، بل يبدو تصرّفه في الروايات واضحاً جلياً حتى يخيل إلى مَن لم يمارس مناهج المفسّرين واتجاهاتهم أنّه يسلك الطريقة الاجتهادية في التفسير، خصوصاً إذا لوحظ كذلك تفسير الآيات التي لم ترد فيها روايات تفسيرية، فهو يذكر ما يحضره في تفسيرها، فهو على هذا تفسير روائي في طابعه العام، وخير من يمثّل هذا الاتجاه الشيخ الطبرسي في «مجمع البيان لعلوم القرآن»، والبغوي في «معالم التنزيل» وهما موضوعا بحثنا الحاضر.
مجمـع البيـان لعلـوم القـرآن، أنمـوذج التفسير الأثري ـ العقلي عند الشيعة ـــــــ
يمكن عدّ «مجمع البيان» ضمن التفسير الأثري إذا أخذنا بنظر الاعتبار التقسيم المارّ الذكر، ويمكن لمن يراجع «مجمع البيان» ملاحظة ما يلي:
1 ـ اتّخذ الطبرسي طريقة تجزءة المادة العلمية التي يذكرها، فهو يبتدأ البحث بذكر القراءات، ويذكر عادةً القراءات العشر وبعض القراءات الشاذّة، ويذكر ـ ضمناً ـ الاختلاف في عدد الآيات إن وجد، ثم الحجّة، وبعدها يعرّج على ذكر اللغة فالإعراب، فأسباب النزول، وبعد ذكر كلّ هذه البحوث التمهيدية التي تعارف المفسّرون على ذكرها لخدمة التفسير وتوضيحه، يشرع في بحث «المعنى» الذي يشغل المساحة الكبرى من تفسيره، فالبحوث التي تخدم التفسير لا تشغل في الغالب أكثر من نصف المساحة التي يشغلها المعنى.
وبملاحظة ما ذكرناه، يحقّ للطبرسي أن يسمّي كتابه بـ«مجمع البيان لعلوم القرآن»؛ لأنّه يذكر أسماء السورة، وبيان مكان نزولها، وعدد آياتها، وفضلها، ومناسبتها لما قبلها، وسبب النزول، والقراءة، والحجّة، و.. وكلّ واحد من هذه يشكّل فرعاً من علوم القرآن التي درج العلماء على ذكرها في كتب علوم القرآن، وبهذا الاعتبار يمكن إطلاق مصطلح «التفسير الجامع» على مجمع البيان؛ لأنّه يحوي علوماً مختلفة تتعلّق بالقرآن الكريم.
وإذا كان الملاك في تقسيم كتب التفسير إلى نقلية وغيره، بملاحظة محتويات «المعنىv من أيّ تفسير، وليس شيئاً غيره، أمكن اعتبار مجمع البيان من التفسير الأثري؛ لأن أكثر ما يذكره في حقل المعنى من التفسير بالمأثور.
2 ـ أولى الطبرسي مسألة تناسب السور عنايةً خاصة؛ فقد حرص على ذكر تناسب أكثر السور القرآنية مع ما قبلها، في محاولة لبيان ارتباطها، ويكفي دليلاً على ذلك أنّه ذكر التناسب بين 109 سور، من بين 114 سورة ذكرت في القرآن الكريم، وإذا اسثنينا سورة الفاتحة من العدّ؛ فإن ّالطبرسي لم يذكر التناسب في أربع سور فقط، وهذا العدد إن دلّ على شيء فإنما يدل على مدى اهتمامه ببيان تناسب السور فيما بينها.
ويذكر الطبرسي هذا بعد ذكر اسم السورة أو أسمائها، وذكر مكان نزولها واختلاف المفسّرين في ذلك، وذكر عدد آياتها وفضلها، ثم يذكر تحت عنوان «تفسيرها» ارتباط السورة بما قبلها.
3 ـ يُولي الطبرسي مسألة تناسب الآيات في السور عنايةً خاصة؛ فكثيراً ما يذكر ارتباط الآية أو الآيات بما قبلها؛ فعند الشروع في بيان معنى الآية أو الآيات يذكر وجه ارتباطها بما قبلها. وقد لا يكتفي بذكر وجهٍ واحد، بل يذكر وجوهاً متعدّدة([3]).
4 ـ سلك الطبرسي طريقة مَن يذكر آية أو عدّة آيات بما يناسب المقام، ثم يشرع في تفسيرها، فهو لم يلتزم طريقة ذكر الآية منفردةً، ثم ينتقل إلى غيرها، بل ينظر إلى السياق والموضوع، وبعد ذلك يقطّع الآيات إلى مقاطع متناسبة، ويأخذ بتفسير كلّ مقطع بما حضره من التفسير.
5 ـ لا يكتفي الطبرسي بذكر الرأي المعتمد في التفسير، بل يورد ما استطاع جمعه من آراء أو ما يراه قابلاً للذكر، وفي أكثر الموارد يعطي كلّ رأي رقماً، ومن يتصفّح أوراق مجمع البيان يلفت نظره ـ في أكثر الصفحات ـ أرقام الآراء المطروحة، وقد يصل عدد الآراء المذكورة إلى ستة، كما في قوله تعالى: >.. وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ< (الأنعام: 141)، وقد أوصل عدد الأقوال في بعض الموارد إلى ثمانية([4])، كما في تفسير قوله تعالى: >يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله..< (المائدة: 2).
أما الآيات التي ذكر فيها أقلّ من ستة آراء فهي أكثر من أن يسعها مقال؛ ففي بعضها ذكر خمسة أوجه([5])، وفي بعضها أربعة([6]) وهكذا.
6 ـ يلاحظ القارئ لمجمع البيان كذلك أنّ الطبرسي لا ينقل عبارة المفسّرين بعينها بل يتصرّف فيها، ويصوغها بنفسه ثم ينسبها إليهم، ونراه كذلك يجمع الأقوال المتشابهة مع بعضها تحت رقم واحد، كما في قوله تعالى: >لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أو بُيُوتِ آبَائِكُمْ..< (النور: 61)([7]).
ويلاحظ أنّ الطبرسي في تفسيره لا يقتصر على ذكر الآراء المنسوبة إلى الصحابة والتابعين وأئمة أهل البيتE، بل يضيف إليها ما وصل إليه من آراء غيرهم، كأبي مسلم، وأبي علي الجبائي، وأبي هاشم الجبائي، والفراء، والزجاج، وغيرهم، ويبدو لمن يطالع كتاب «مجمع البيان» بدقة وإمعان أنّ الطبرسي جمع كتب التفسير المختلفة، أو جمع الآراء المطروحة، ثم صنّفها تصنيفاً ضمَّ فيه النظير إلى نظيره، يدلّ على ذلك نسبة بعض الأقوال إلى أكثر من واحد، ولعلّ النص التالي يكشف عن مجهود الطبرسي هذا ويؤكّده؛ ففي قوله تعالى: >.. وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ..< (الأنعام: 141)، ذكر أنّ «هذا أمر بإيتاء الحقّ يوم الحصاد على الجملة. والحقّ الذي يجب إخراجه يوم الحصاد فيه قولان: أحدهما: إنه الزكاة العشر أو نصف العشر عن ابن عباس ومحمد بن الحنفية وزيد بن أسلم والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك وطاوس. والثاني: إنه ما تيسّر مما يعطى المساكين عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائهE وعطاء ومجاهد وابن عمر وسعيد بن جبير والربيع بن أنس، وروى أصحابنا أنّه الضغث بعد الضغث، والجفنة بعد الجفنة، وقال إبراهيم والسدّي: الآية منسوخة بفرض العشر ونصف العشر؛ لأن هذه الآية مكيّة وفرض الزكاة إنما أنزل بالمدينة، ولما روي أن الزكاة نسخ كلّ صدقة، قالوا: ولأن الزكاة لا تخرج يوم الحصاد، قال علي بن عيسى: وهذا غلط؛ لأن «يوم حصاده» ظرف لحقّه، وليس بظرفٍ للإيتاء المأمور به»([8]).
فالطبرسي ـ كما يبدو من هذا النصّ ـ استوعب أقوال المفسّرين ووعاها، ثم قسّمها تقسيماً حاول فيه استقصاء ما طرحه المفسّرون في الآية، وكثيراً ما تطالعنا في التفسير عبارة: «في أحد قوليه» أو «في رواية»، وهذا يعني أنه لاحظ قولين نُسبا لهذا الشخص، فحاول الدقّة في ذكر ما وجده.
7 ـ والطبرسي حينما ينقل أقوال العلماء في تفسير آية يصوغ العبارة بقلمه، ويقدّمها بأسلوبه هو، ثم ينسبها كما لاحظناه سابقاً، وهذا الأمر هو الذي يجعل الناظر في تفسير الطبرسي يصنّفه ضمن التفسير الاجتهادي، ولا يجعله ضمن التفسير الأثري، والطبرسي في عمله هذا اختصر عبارات المفسّرين، ولو أراد ذكر عباراتهم بنصّها لطال به المقام، وازداد حجم التفسير على ما هو عليه.
8 ـ على الرغم من أن تفسير «مجمع البيان» يعدّ من التفاسير الروائية، لكنّه لم يقتصر على ذكر التفسير المأثور؛ أي لم يقتصر على تفسير الآيات التي وردت فيها أقوال تفسيرية مأثورة فحسب، بل فسّر القرآن آيةً آية، بل عبارة عبارة، فالآيات أو العبارات التي لم تفسّر روائياً ذكر تفسيرها غير الروائي. وبعبارة موجزة: دوّن الطبرسي تفسيراً مختصراً للقرآن الكريم، ذكر فيه ما حضره من تفسير أئمة أهل البيت E والصحابة والتابعين في آيات من القرآن الكريم، وأكمل ما بقي من آيات لم ترد فيها روايات تفسيرية، وهو بهذا يختلف عن كتب التفسير الروائي من الصنف الأول، والتي حرصت على ذكر الروايات، فإنّها تعرّضت لتفسير الآيات التي وردت فيها روايات تفسيرية فقط، وسكتت عن الآيات أو المقاطع التي لم ترد فيها روايات، كما في تفسير الطبري، والدرّ المنثور للسيوطي، وتفسير البرهان للسيد هاشم البحراني، وغيرها.
9 ـ لا يقتصر الطبرسي في ذكر آراء المفسّرين على ذكر الأقوال التفسيرية المأثورة عن أئمة أهل البيتE، بل يضمّ إلى ذلك الأقوال التفسيرية التي نُسبت إلى غيرهم. وهو بهذا يختلف عن بقية المفسّرين من غير الشيعة الذين لا يذكرون ـ عادةً ـ ما يُنسب إلى أئمة أهل البيتE إلاّ نادراً؛ ففي قوله تعالى: >.. وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ..< (الأنعام: 141)، ذكر قولين ناسباً الثاني منهما إلى الإمام الصادق B عن آبائه الطاهرين، كما نسبه إلى غيرهم، ونسب القول الأول إلى ابن عباس، وزيد بن أسلم، والحسن البصري، وسعيد بن المسيب، وقتادة، والضحاك، وطاوس اليماني، ومحمد بن الحنفية.
10 ـ والطبرسي ـ على عادة المفسّرين ـ قد ينتخب قولاً ويستسيغه ويرجّحه، وهو في انتخابه قولاً من الأقوال لا يغرق في توجيهه، ولا ذكر الأدلّة وردودها، كما نرى ذلك في تفسير الفخر الرازي والآلوسي، وغيرهما، ممن يغرقون في هذه الناحية؛ بل يشير إلى ما يريد بأقلّ عبارة ممكنة؛ ففي قوله تعالى: >قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ< (القصص: 27)، ذكر أن شعيباًB أراد «أي أزوّجك >..إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ…<([9])، أي على أن تكون أجيراً لي ثماني سنين >.. فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ..<، أي ذلك تفضّل منك وليس بواجب عليك، وقيل: معناه على أن تجعل جزائي وثوابي إياك على أن أنكحك إحدى ابنتي أن تعمل لي ثماني سنين، فزوّجه ابنته بمهر واستأجره للرعي، ولم يجعل ذلك مهراً، وإنما شرط ذلك عليه، وهذا على وفق مذهب أبي حنيفة، والأول أصحّ وأوفق لظاهر الآية»([10]).
وقد ينتخب رأياً ويرجّحه استناداً إلى آية أخرى، وهذا ما يسمّى بتفسير القرآن بالقرآن، ففي قوله تعالى: >وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ..< (البقرة: 23)، ذكر أنّ المراد «أي من مثل القرآن، وعلى قول من يقول: الضمير في مثله عائد إلى عبدنا، فالمعنى فأتوا بسورة من بشر من مثله لا يحسن الخط والكتابة ولا يدري الكتب، والصحيح هو الأول؛ لقوله تعالى في سورة أخرى: >فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ..< (الطور: 34)، وقوله: >فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ..< (يونس: 38)، وقوله: >.. لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ..< (الإسراء: 88)، يعني فأتوا بسورة مثلما أتى به محمد2 في الإعجاز، من حُسن النظم، وجزالة اللفظ، والفصاحة التي اختصّت به، والإخبار عمّا كان وما يكون دون تعلّم الكتب ودراسة الأخبارv([11]).
11 ـ ويلاحظ في مجمع البيان أنّ الطبرسي إذا أراد ترجيح رأي وانتخابه من بين الآراء التي يذكرها، وفيها رأيٌ منسوب لأهل البيت E، فإنه ينتخب هذا الرأي، ويفضّله على غيره، انظر على سبيل المثال تفسير قوله تعالى: >.. وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَالله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ..< (الأحزاب: 37) ([12]).
12 ـ يتعرّض الطبرسي لبيان الأحكام الشرعية التي تتضمّنها الآيات المفسّرة بشكل موجز، فهو عند تفسيره آيات الأحكام يذكر الحكم الشرعي الذي تحكيه الآية، ويحاول ـ قدر جهده ـ بيان مختلف الأقوال في المسألة مع بيان مذهب أهل البيتE، وكثيراً ما يشير إلى هذه المسائل دون الإغراق في الأدلّة والردود([13]).
13 ـ ولا ينسى الطبرسي ذكر أسباب النزول، ولا ذكر بعض قصص الأنبياء بشكل موجز، كذلك لا ينسى ذكر بعض الوقائع كغزوة بدر وغيرها.
والطبرسي في ذكر أسباب النزول لا يقتصر على ما اقتصر عليه الشيعة في هذا الصدد، بل يذكر معه غيره إن روي؛ ففي قوله تعالى: >وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ الله..< (البقرة: 206)، ذكر قول من قال: إنّها نزلت في علي بن أبي طالب B ليلة المبيت وهو المشهور، كما ذكر بقية الآراء؛ حيث «قال عكرمة: نزلت في أبي ذر الغفاري وصهيب بن سنان.. وروي عن علي وابن عباس أن المراد بالآية الرجل الذي يُقتل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقال قتادة: نزلت في المهاجرين والأنصار، وقال الحسن: هي عامّة في كلّ مجاهد في سبيل الله»([14]).
أمّا القصص الحاكية عن بعض المناسبات التي حدثت في المجتمع الإسلامي وأشار إليها القرآن الكريم، وكذلك القصص القرآني فإنها تحتلّ مكاناً بارزاً في مجمع البيان، وغالباً ما يعقد الطبرسي لذلك فصلاً خاصاً؛ فيقول: «القصة»، فيورد تحتها ما يريد حكايته([15]).
14 ـ وقد يتعرّض الطبرسي لبعض المباحث الكلامية بشكل موجز ومقتضب، وإن بسط الكلام بسطاً ما في بعضها بما يقتضيه المقام، لكنه ليس كثيراً؛ ففي قوله تعالى: >وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ< (البقرة: 88)، يقول: «ردّ على المجبّرة؛ لأن هؤلاء اليهود قالوا مثل ما يقولونه من أنّ على قلوبهم ما يمنع الإيمان ويحول بينها وبينه، فكذبهم الله تعالى في ذلك بأن لعنهم وذمّهم، ولو كانوا صادقين لما استحقّوا اللعن والطرد، ولكان الله سبحانه قد كلّفهم ما لا يطيقونه»([16]).
ومن هذا يتبين أن الطبرسي لا ينسى عقيدته ومذهبه، بل يحاول الإشارة إليه بقدر الإمكان، لكنّه في هذا لا يجانب عفّة اللسان والقلم، ولا يترك طريقته في الحوار الهادئ الرصين، فالكتاب وإن حوى علوماً قرآنية مختلفة وتطرّق إلى مباحث متعدّدة تجعله ضمن التفاسير الجامعة، لكنّ الحكم عليه بأنّه تفسيرٌ أثري يرجع إلى المنهج الذي اعتمده في بيان المعنى، والأصل الذي يعتمد عليه فيه، فهو الملاك في تصنيف كتب التفسير إلى أثرية وعقليّة، ويمكننا اعتبار «مجمع البيان» وما شابهه ـ فيما بين أيدينا من كتب التفسير ـ نقلة بين التفسير الأثري والعقلي، فبينما كان تفسير كلّ من علي بن إبراهيم القمي، ومحمد بن مسعود العياشي، وفرات الكوفي، ومحمد بن جرير الطبري تفاسير أثرية صرفة، وتفسير الكشاف للزمخشري وتفاسير من سبقه من المعتزلة عقلية صرفة، كما يبدو من أقوال العلماء في شأنها، نرى «مجمع البيان» اعتمد الروايات التفسيرية إضافةً إلى أقوال المفسّرين المتأخرين، كالفراء، والزجاج، والرماني، والبلخي، والجبائي، وغيرهم.
معالم التنزيل للبغوي، مثال التفسير الأثري عند أهل السنّة ـــــــ
يعدّ كتاب «معالم التنزيل» لأبي محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي (516هـ) من خير ما كتب في التفسير الأثري على طريقة أهل السنّة، ولعلّ إطلاق لقب محيي السنّة على البغوي من جهة، ومقالة ابن تيمية في حق تفسيره بأنّ «أسلمها (أي أسلم التفاسير بين تفسير البغوي، والزمخشري، والقرطبي) من البدعة والأحاديث الضعيفة: البغوي»([17])، من جهة أخرى؛ أقول: لعلّ هذين الأمرين يعكسان قيمة تفسير البغوي، ومنزلته عند أهل الفنّ.
ويمكن لقارئ «معالم التنزيل» ملاحظة ما يلي:
1 ـ ذكر في مقدّمة تفسيره أسانيده إلى تفسير كلّ من عبدالله بن عباس، ومجاهد بن جبر، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وقتادة، وأبي العالية، ورفيع بن مهران، ومحمد بن كعب القرظي، وزيد بن أسلم، ومحمد بن السائب الكلبي، والضحاك بن مزاحم الهلالي، ومقاتل بن حيان، ومقاتل بن سليمان، والسدّي([18]).
ويلاحظ على الأسانيد التي ذكرها:
أ ـ اقتصر في تخريج تفسير ابن عباس على ما رواه معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة الوالي عن عبدالله بن عباس، مع ما في هذا الطريق من الانقطاع لـ«أنّ ابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس التفسير، وإنما أخذه عن مجاهد أو سعيد بن جبير»، وكذلك اعتمد في تفسيره على ما روي عن طريق عطية العوفي وعكرمة عن ابن عباس، دون ذكر بقية الطرق التي تزيد على ذلك بكثير.
ب ـ قال عند ذكره سند تفسير الكلبي: «وأما تفسير الكلبي، فقد قرأت بمَرو على الشيخ أبي عبدالله محمد بن الحسن المروزي في شهر رمضان سنة أربع وستين وأربعمائة، قال: ثنا أبو مسعود محمد بن أحمد بن محمد بن يونس الخطيب الكشمهيني، في محرّم سنة خمسين وأربعمائة، قال: ثنا أبو إسحاق بن إبراهيم بن أحمد بن محمد بن معروف الهرمروزي، ثنا محمد بن علي الأنصاري المفسّر، ثنا علي إسحاق وصالح بن محمد السمرقندي قالا: ثنا محمد بن مروان عن محمد بن السائب الكلبي عن أبي نضر عن أبي صالح، ثنا ذاذان مولى أم هانئ بنت أبي طالب، عن أبن عباس»([19]).
وهذا طريق آخر لتفسير ابن عباس وليس طريقاً لتفسير الكلبي خاصّة.
ج ـ لم يذكر أسانيده إلى تفسير بعض الصحابة، كعلي بن أبي طالب B وعبدالله بن مسعود، وغيرهما ممن ذكرهم في تفسيره.
2 ـ طريقة البغوي في إيراد أقوال المفسّرين تقوم على نسبة الرأي إلى المفسّر دون ذكر أسانيده إليهم؛ لأنّه ذكر أسانيده في صدر كتابه، واكتفى بذلك عن إيراد السند كلّ مرّة، كما أنه يذكر خلاصة الرأي، وقد ينسب قولاً واحداً إلى عدد من المفسّرين فيقول مثلاً: وإليه ذهب فلان وفلان وفلان، وهذه الطريقة تخالف ما ألفيناه عند الطبري من ذكر السند كاملاً، وذكر عبارة كلّ مفسّر منفصلةً عن عبارة غيره.
3 ـ ذكر سند بعض الروايات كاملاً، وهذا الأمر يختصّ بما عدا ما ذكر من المفسّرين في النقطة الأولى؛ لأنّه ذكر في صدر كتابه أسانيده إليهم فلا حاجة إلى ذكر سند ما يرويه عنهم كلّ مرة، كما أشير إلى ذلك في المقدّمة التي كتبها محقّقا الكتاب، أما غيرهم فقد يذكر أسانيده إليهم ولا يلتزم ذلك، وقد يذكر سنده كاملاً إلى بعض من تقدّم ذكره كابن عباس؛ فعند تفسيره قوله تعالى: >إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأوْلِي الألْبَابِ< (آل عمران: 190)، قال: «أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، ثنا أبو نعيم عبدالملك بن الحسين الإسفرايني، انا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الحافظ، انا أحمد بن عبدالجبار، انا ابن الفضل عن حصين بن عبدالرحمن، عن حبيب بن أبي ثابت، عن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس، عن أبيه، عن عبدالله بن عباس،أنه رقد عند رسول الله2، فرآه استيقظ فتسوّك، ثم توضّأ وهو يقول..»([20]).
والبغوي لا يلتزم ذكر السند كاملاً عندما ينقل عمّن لم يذكرهم في صدر كتابه، فهو كثيراً ما ينقل عن بعض الصحابة آراء تفسيرية دون ذكر سنده إليهم؛ فعند تفسيره قوله تعالى: >الَّذِينَ يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ< (آل عمران: 191)، قال: «قال علي بن أبي طالب وابن عباس، والنخعي وقتادة: هذا في الصلاة يصلّي قائماً، فإن لم يستطع قاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنب»([21])؛ فقد ذكر في هذا النصّ علي بن أبي طالب من الصحابة والنخعي من التابعين، ولم يذكر سنده إليهم، لا في مقدّمة الكتاب، ولا عند ذكر الرأي.
ويلاحظ في هذا الصدد أنّ أكثر ما يذكر سنده كاملاً يختصّ بما يرويه عن رسول الله 2، أو يرجع تفسيره إلى رسول الله 2 بشكل من الأشكال.
4 ـ يلاحظ القارئ في الكتاب كثرةً نسبيّة في عدد القصص، يذكرها البغوي إيضاحاً لتفسير ما يريد تفسيره من قوله تعالى من جهة، والإطناب في ذكرها من جهة أخرى، ولو أردنا أن نذكر مثالاً واحداً للتدليل على ذلك لضاق بنا المقام، ولملئت أكثر من صفحة في ذلك، لكننا نورد مطالب مختصرة من بعض القصص ليتبيّن مقدار إطنابه في ذلك؛ ففي موضوع دخول إبليس الجنّة وإغواء آدم وحواء ـ على حدّ زعمه ـ ذكر:
1 ـ دخول إبليس الجنّة بواسطة الحيّة. 2 ـ صفة الحيّة. 3 ـ محاورته آدم وحواء وبكاءه لخداعهما. 4 ـ أكلهما من الشجرة والأقوال في كيفية أكل آدم. 5 ـ هبوط آدم من الجنّة. 6 ـ تعليم الله آدم صنعة الحديد والزراعة. 7 ـ جزاء حواء على إغوائها آدم بالأكل. 8 ـ بدوّ السوءات([22]).
وإذا كان في ذكر بعض القصص فائدة منها: توضيح النص القرآني، والاعتبار بقصص الماضين، وبيان نصرة الله أنبياءه وعباده الصالحين، فإنّ في ذكر ذلك مختصراً مندوحة عن ذكره مفصّلاً ما دامت الفوائد المتوخّاة حاصلة.
ويُلاحظ في بعض الأخبار التي يذكرها البغوي ـ إضافةً إلى الإطالة والإطناب ـ حشوها بما لا فائدة فيه، ولا إيضاح للنصّ، فطول قوائم الكرسي في قوله تعالى: >.. وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ..< (البقرة: 255)، وعدد حَمَلة الكرسي، وعدد وجوه كلّ ملك، ومكان أقدامهم، وصورة كلّ ملك، وما يسأله كلّ ملك من الله تعالى، والمسافة بين حَمَلة العرش وحمَلة الكرسي، ذلك كلّه كان يمكن الاستغناء عنه دون أدنى عيب أو نقص يلحق الكتاب، ويمكن لمن أراد المزيد مراجعة ما ذكره في قصّة طالوت وجالوت وغيرها([23]).
ومما أخذ على البغوي ذكره الإسرائيليات دون التنبيه على ما فيها، فهو يذكر بعض الإسرائيليات ولا يُعقّب عليها ليُعلَم موقفه منها من جهة، وموقفه ممّا ينسب إلى الأنبياء من جهة أخرى، وبعض هذه الإسرائيليات يمكن نقده من جهة المتن؛ لاحتوائه على ما لا يستسيغه العقل؛ فعند حديثه عن قوله تعالى على لسان عيسىB: >.. وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ..< (آل عمران: 49)، ذكر قول السدّي: «كان عيسىB في الكتاب يحدّث الغلمان بما يصنع آباؤهم، ويقول للغلام: انطلق فقد أكل أهلك كذا وكذا ورفعوا لك كذا وكذا، فينطلق الصبي إلى أهله ويبكي عليهم حتى يعطوه ذلك الشيء، فيقولون: من أخبرك بهذا؟ فيقول: عيسىB فحبسوا صبيانهم عنه، وقالوا: لا تلعبوا مع هذا الساحر فجمعوهم في بيت، فجاء عيسىB يطلبهم فقالوا: ليسوا ها هنا، فقال: فما في هذا البيت؟ قالوا: خنازير، قال عيسى: كذلك يكونون، ففتحوا عليهم فإذا هم خنازير..»([24])، ولا أدري كيف جُمع الصبيان كلّهم في بيت واحد، ولو قال: حبست كلّ عائلة صبيّها عنه لكان مقبولاً؟!
وفيما نقله عن وهب بن منبّه عند تفسير قوله تعالى: >أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا< (البقرة: 259)، خيرُ شاهد ودليل على ما نقول، ولا يهمّنا من الخبر الطويل الذي ذكره البغوي سوى فقرتين هما:
الفقرة الأولى: اختار بختنصر من صبيان بني إسرائيل «سبعين ألف صبي فقسّمهم بين الملوك الذين كانوا معه، فأصاب كل رجل منهم أربعة غلمة»([25])، وهذا يعني أن الملوك الذين كانوا معه يزيد عددهم على سبعة عشر ألف ملك، فهل يعقل أن يكون معه هذا العدد من الملوك؟
الفقرة الثانية: «رجعنا إلى حديث وهب، قال: ثم ربط أرمياء حماره بحبل جديد، فألقى الله تعالى عليه النوم، فلمّا قام نزع الله منه الروح مائة عام.. فلما مضى من موته سبعون سنة أرسل الله ملكاً إلى ملك من ملوك فارس يقال له: نوشك، فقال: إنّ الله يأمرك أن تنفر بقومك فتعمر بيت المقدس وإيليا حتى يعود أعمر ما كان، فانتدب الملك بألف قهرمان مع كلّ قهرمان ثلاثمائة ألف عامل وجعلوا يعمرونه..»([26])، فهل يُعقل أن ينتدب الملك ألف قهرمان مع كلّ قهرمان ثلاثمائة ألف عامل، أي ثلاثمائة مليون عامل لبناء بيت المقدس وإعماره؟! فمن أين جيئ بهؤلاء العمال؟ وأين أسكنوهم ليعملوا؟ وكيف أطعموهم؟ وكيف نسّقوا العمل بينهم؟ وهل يحتاج بناء مدينة إلى مثل هذا العدد من العمّال؟ ولنا في بناء بغداد زمن المنصور، والقاهرة في زمن المعز الفاطمي شاهدان على عدد العمال الذين استخدموا لبناء كلّ واحدة من هاتين الحاضرتين المهمّتين اللتين لا تقلاّن عن المقدس أهميةً وسعة وعظمة إن لم تزيدا عليها؛ لأن كلّ واحدة منهما بنيت لتكون عاصمةً للخلافة الإسلامية.
وقد يطيب للبغوي ذكر القصص الإسرائيليّ الذي يسوّد به صفحات من تفسيره من جهة، ويكمل به القصص القرآني، ويشرح به ما أبهم منه، ويسدّ به الثغرات بسرد الوقائع من جهة أخرى، فيجري وراء الإسرائيليات ناسباً إياها إلى أهل الكتاب المشهورين بذكر القصص الإسرائيلي كوهب بن منبه، أو ناقلاً لها عمّن اشتهر عنه الأخذ عن أهل الكتاب كابن عباس وغيره، وقد يستغرق بعض ما ذكره البغوي ما يزيد على ثلاث صفحات من الحجم الكبير، كقصة طالوت وداود وجالوت([27]).
5 ـ يمتاز كتاب معالم التنزيل بقلّة بحوثه المتعلّقة بعلوم العربية، كالنحو والصرف واللغة وعلوم البلاغة، حتى أنه قد تمرّ الصفحات دون ملاحظة شيء منها، والبحوث اللغوية أكثر هذه البحوث حظاً في معالم التنزيل، لكنّها على كثرتها ـ بالنسبة لغيرها من البحوث ـ لا تستغرق شيئاً يذكر. ويبدو لمن يقرأ «معالم التنزيل» أنّ البغوي يذكر ما يزيل الغموض عن معنى الكلمة دون الإغراق في البحث اللغوي، أو متابعة اشتقاق الكلمة، وتتبّع نظائرها، وتفسيرها بأضدادها، أو بعقد فصل خاصّ بها كما فعل الطبرسي([28]).
والمباحث النحوية هي الأخرى قليلة من جهة ومختصرة من جهة أخرى؛ ففي سورة الفاتحة ذكر إعراب «بسم الله الرحمن الرحيم» ومحلّه من الإعراب، وما يتعلق بـ«الله» و«إياك»([29]).
وقد يشير البغوي إلى بعض النكت البلاغية؛ ليفسّر بها النص ويوضّح المراد منه دون الإغراق في ذلك؛ فعند تفسير قوله تعالى: >الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ< (البقرة: 15)، ذكر أنّ المقصود من يستهزئ بهم «يجازيهم جزاء استهزائهم، سُمّي الجزاء باسمه؛ لأنّه بمقابلته، كما قاله الله تعالى: >وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا<([30]).
6 ـ والبغوي رغم كونه من أهل السنّة، وتفسيره قائم على ذلك، لا يغرق في بيان المسائل الكلامية التي اختلف فيها أهل السنّة مع المعتزلة، ويتحاشى ذكر المسائل الكلامية المتعلقة بصفات الله تعالى، ويذكر رأي أهل السنّة في ذلك غالباً دون الإشارة إلى غيره، أو التشهير بغير أهل نحلته، ففي قوله تعالى ـ حكايةً عن أم مريمIـ : >وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ< (آل عمران: 36)، ذكر أنّ المعنى: «أمنعها وأجيرها.. أخبرنا عبدالواحد المليحي، أنا أحمد بن عبدالله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا أبو اليمان، أنا شعيب، عن الزهري، حدّثني سعيد بن المسيّب، قال: قال أبو هريرة: سمعت رسول الله2 يقول: »ما من بني آدم من مولود إلا يمسُّهُ الشيطان حين يولد، فيستهل الصبي صارخاً من الشيطان، غير مريم وابنها..»([31]).
وقد يشير البغوي إلى رأي غير أهل السنّة على أنه رأي مأثور منقول عن السلف، فعند تفسيره قوله تعالى: >.. وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ..< (البقرة: 255)، ذكر أنّ المراد «ملأ وأحاط به، واختلفوا في الكرسي، فقال الحسن: هو العرش نفسه، وقال أبو هريرة: الكرسي موضوع أمام العرش.. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباسL قال: أراد بالكرسي علمه([32])، وهو قول مجاهد، ومنه قيل لصحيفة العلم: كراسة، وقيل: كرسيّه ملكه وسلطانه، والعرب تُسمّي الملك القديم كرسيّاً» ([33]).
وقد يذكر رأي المعتزلة وينسبه إليهم صراحةً، دون أن يعلّق على ذلك بكلمة، كما في قوله تعالى: >خَتَمَ الله عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ..< (االبقرة: 7)، حيث اختلف المفسّرون في الختم هنا، وقد أشار البغوي إلى ذلك بقوله: «طبع الله على قلوبهم؛ فلا تعي خيراً ولا تفهمه.. قال أهل السنّة: أي حكم على قلوبهم بالكفر لما سبق من علمه الأول فيهم، وقال المعتزلة: جعل على قلوبهم علامة تعرفهم الملائكة بها»([34]).
7 ـ ويتعرّض البغوي لذكر المسائل الفقهية في الآية، فيطيل الحديث عنها، ذاكراً ما وصل إليه من روايات وأحاديث تتعلّق بذلك الحكم الشرعي، وهو يتطرّق عادةً إلى ذكر أهمّ الآراء المختلفة في المسألة، وذكر فروعها مع عدم الاستدلال لكلّ رأي.
8 ـ قد يورد البغوي إشكالاً على ظاهر النظم القرآني ثم يجيب عليه؛ ففي قوله تعالى: >يُخَادِعُونَ الله وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ< (البقرة: 9)، استعمل النص القرآني لفظ «يخادعون»، وهو ما يستعمل في المشاركة، وهي غير متصوّرة في حقّه تعالى، فقال: «فإن قيل: ما معنى قوله: «يخادعون الله» والمفاعلة للمشاركة، وقد جلّ الله تعالى عن المشاركة في المخادعة؟ قيل: ترد المفاعلة لا على معنى المشاركة، كقولك: عافاك الله، وعاقبت فلاناً، وطارقت النعل، وقال الحسن: معناه يخادعون رسول الله 2»([35]).
9 ـ تفسير البغوي من النوع الأثري الذي لم يلتزم فيه بالأثر فقط، بل ذكر ـ إضافةً إلى ذلك ـ بعضَ التفسير العقلي، كالتفسير الذي نقله عن المعتزلة، إضافة إلى أنّه فسّر الآيات التي لم يرد فيها شيء عن السلف؛ كما هو ملاحظ لمن يطالع التفسير ويقرؤه.
10 ـ ولا ينسى البغوي استقصاء الآراء التي نقلت عن السلف في الآية، فكثيراً ما نرى في معالم التنزيل عبارة: «قيل» أو «وقال فلان».
التفسير الأثري في القرن السادس، مقارنات ومقاربات ـــــــ
وبعد هذه الجولة في آفاق هذين التفسيرين، تبيّن أن التفسير الأثري في خراسان في القرن السادس الهجري تمخّض عن أثرين جليلين من طائفتين من طوائف المسلمين، كان كلّ تفسير منها يمثّل قمّةً في تفسير تلك الطائفة، فتفسير «مجمع البيان» غنيُّ عن التعريف، وألفاظ الاحترام والتقدير، وعبارات الإعجاب به وبصاحبه من قبل علماء الشيعة ومحققيهم، فضلاً عن علماء بقية المذاهب الإسلامية، كشيخ الجامع الأزهر الشيخ سليم البشري، ووكيله الشيخ محمود شلتوت، وما وجد على ظهر نسخة الشيخ سليم البشري الخاصة من أن «هذا التفسير من خير التفاسير التي قرأتها»([36])، وما ذكره الشيخ محمود شلتوت عند تقديمه لمجمع البيان من أنّه «نسيج وحده بين كتب التفسير، وذلك لأنّه مع سعة بحوثه وتنوعها وعمقها، له خاصة في الترتيب والتبويب والتنسيق والتهذيب، لم تعرف لكتب التفسير من قبله، ولا تكاد تعرف لكتب التفسير من بعده»([37])، خير دليل على ذلك.
أما نظرة علماء أهل السنّة إلى تفسير البغوي «معالم التنزيل»، فيكفي فيها قول ابن تيمية: «وأما التفاسير الثلاثة المسؤول عنها ـ الزمخشري، البغوي، القرطبي ـ فأسلمها من البدعة والأحاديث الضعيفة البغويُّ».
ويمثل هذان الكتابان حلقةً واحدة من سلسلة التفسير التي امتدّت من زمن الرسول2 إلى يومنا هذا، وهي التفسير بالمأثور للآيات التي ورد فيها قولٌ مأثور، إضافة إلى تفسير ما لم يرد فيه شيء عن السلف، بما يصل إليه اجتهاد المفسّر، كما أنّ التفسير المأثور في هذين يتمركز حول نسبة الأقوال لأصحابها دون ذكر السند، أو ذكر المتن كاملاً، فلا يكتفيان بذكر الروايات التفسيرية دون ذكر ما يوضّحها، ويقرّبها إلى الأذهان، كما لا يتركان الآيات التي لم يفسّرها السلف دون تفسير.
ورغم اتفاق هذين الكتابين في هذه النقطة بالذات، فإن ثمة فوارق يمكن ملاحظتها، نستطيع الإشارة إليها بسرعة:
1 ـ إنّ المطالع لمجمع البيان تظهر له قدرة الطبرسي الفائقة على عرض الآراء وتنسيقها، كما يمكنه استخلاص أن اطلاع الطبرسي على أقوال المفسّرين واختلافهم كان أكثر من اطلاع البغوي.
2 ـ تنظيم الطبرسي مطالب كتابه وبحوثه المختلفة بعكس البغوي الذي لم ينسّق بحوث كتابه أبداً، هذا إضافةً إلى أنّ «معالم التنزيل» يخلو مما نراه شائعاً في «مجمع البيان» من بحوث نحوية ولغوية وبلاغية وغيرها؛ وبهذا يمكن ـ بحقّ ـ القول: إن «مجمع البيان» تفسيرٌ جامع، بينما لا يمكن إطلاق ذلك على «معالم التنزيل».
3 ـ عندما يطرق الطبرسي بحثاً فإنّه يحاول أن يوفيه حقّه من العرض، بعكس البغوي الذي يبقى بحثه النحوي واللغوي أبتراً، لا تعمّق فيه، وكذلك المباحث التفسيرية.
وليس ببعيد أن يكون البغوي قصد إلى ذلك قصداً ليخلص تفسيره ممّا شحن به المفسرون كتبهم من مباحث تكميلية تزيد في حجم الكتاب ومباحثه، لكنّ الأمر على كل حال يبقى ملاحظاً من أن أحد الكتابين يزيد على الثاني في بعض بحوثه.
4 ـ ولأنّ «مجمع البيان» تأليفُ عالمٍ شيعي ينتمي إلى طائفة لها نظراتها الخاصّة في بعض الأشياء، منها تنزيه الأنبياء وعصمتهم من الصغائر، فضلاً عن الكبائر، نراه يعلّق على بعض القصص القرآني التي يُنسب من خلالها إلى بعض الأنبياءE ما لا يليق بمنزلتهم ومكانتهم.
* * *
الهوامش
(*) اُستاذ في جامعة مشهد.
([3]) انظر على سبيل المثال: الوجوه التي ذكرها عن تناسب قوله تعالى: {كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ} (الأنفال: 5)، مجمع البيان 2: 520، كذلك انظر: 1: 385، و2: 7، 12، 14، 19، 20، و5: 26، 28، 30، 44، 48، 57، 73.
([5]) انظر: المصدر نفسه 2: 216، و4: 155، وغيرها.
([6]) المصدر نفسه: 24، 46، 55، 61، 126، وغيرها.
([7]) المصدر نفسه 4: 155 ـ 156.
([9]) المصدر نفسه: 375، وانظر: 1: 28، 39، 240، و2: 299، 546، و3: 7، 9، 24، 55، 61، و4: 375، 389، و5: 181، وغيرها.
([13]) انظر: المصدر نفسه 1: 240، في تفسير الآية 206 من سورة البقرة.
([15]) المصدر نفسه 1: 107، 116، 134، 203، 347، 357، وغيرها.
([17]) فتاوى ابن تيمية 2: 193.
([18]) معالم التنـزيل 1: 28 ـ 30.
([23]) المصدر نفسه: 226 ـ 235.
([27]) المصدر نفسه: 232 ـ 235.
([28]) انظر: المصدر نفسه: 35، 60.
([32]) في معالم التنـزيل bعملهv ويبدو أنه خطأ مطبعي.
([35]) المصدر نفسه: 50، وانظر: 1: 241.