ـ البهائي أنموذجاً ـ
في ضرورة معرفة الله وتمهيد البحث عنه ـــــــ
إحدى أهم المسائل في حياة الإنسان مسألة معرفة الله التي شغلت فكر المتكلّمين والفلاسفة على طول الزمن، ومن دسائس الماديين والملحدين القول بأنّ البحث عمّا وراء المادة بحثٌ لا صلة له بالحياة، وليس من الموضوعات التي تقع في إطار الحياة التي يحياها الإنسان في مراحل عمره المختلفة، فالحديث عنه وعن موجودات عليا مجردة عن المادة وأحكامها، كالملائكة والعقول والنفوس، وفوقها مبدعها ومبدع جميع العوالم، مادّيها ومجردها، لا ينفع في الحياة ولو أثبت بألف دليل، فصرف الوقت على هذه المباحث يعوق الشاب عن القيام بوظائفه اللازمة.
وفي مقابلهم أناس ذوو بصيرة وعلم عرفوا أنّ للدين دوراً قوياً وتأثيراً عظيماً في تكامل العلوم، كما أنه ضمان للأخلاق، وخير دعامة لها، بل ضمان لتنفيذ القوانين الصالحة، والحصن الحصين في متقلّبات الأحوال. من جهة أخرى بناء على قاعدة «دفع الضرر المحتمل» هناك عامل روحي يحفّزنا نحو البحث عن هذه الأمور الخارجة عن إطار المادة والماديات، وهو أنّ هناك مجموعة كبيرة من رجالات الإصلاح والأخلاق الذين فدوا أنفسهم في طريق إصلاح المجتمع وتهذيبه، وراحوا ضحية رقيّه، توالوا على مدى القرون والأعصار ودعوا المجتمعات البشرية إلى الاعتقاد بالله سبحانه وصفاته الكمالية، ولم يكن هؤلاء متهمين بالكذب والاختلاق، بل كانت علائم الصدق لائحةً من خلال حياتهم وأفعالهم وأذكارهم، عند ذاك يدفع العقل الإنسان المفكّر إلى البحث عن صحّة مقالتهم دفعاً للضرر المحتمل أو المظنون الذي تورثه مقالة هؤلاء. وهذا ما اعتمد عليه علماء الكلام في إثبات لزوم البحث عن معرفة الله سبحانه؛ فأوجبوه دفعاً لذاك الضرر المحتمل أو المظنون. كما أن العقل يستقل بلزوم شكر المنعم، ولا يتحقّق الشكر إلا بمعرفته.
إذن، بدلالة الأوجه الثلاثة: دور الدين في الحياة، دفع الضرر المحتمل، وشكر المنعم، تبين الضرورة في بحث معرفة الله وكيفية حصولها. فيكون لها دور أساسي في مسألة التكليف؛ لأن التكليف متوقف على معرفة المكلّف، وبعبارة أخرى: إن القيام بالتكليف منوط بمعرفة الله على حسب الوسع والطاقة البشرية. والدال على أهمية هذا الأمر أنّ بحث معرفة الله التُفت إليه من قديم الأيام، ويمكن الإشارة إلى بدايته بشكل منظم منذ العهد اليوناني القديم، وعلى رغم وجود مباحث مهمة في خصوص معرفة الله عند «كزنزفانوس» وأيضاً عند السفسطائيين ما قبل أرسطو، إلا أنهم يعتبرون أفلاطون بداية المباحث الإلهية في هذا المضمار. يقول أفلاطون: «من الغلط أن نتصور أن الصفات التي نعرفها يمكن أن نطلقها على مالك عالم الوجود»([1]).
لقد كان أفلاطون رائداً، ليأتي بعده أفلوطين وديونوسيوس والكثير من العلماء الآخرين الذين اتخذوا هذا الطريق المشهور بالإلهيات السلبية المبنية على التنزيه، وبشكل عام اتخذ الفلاسفة طرقاً مختلفة لحلّ معضلة معرفتنا بالله تعالى، وأغلبها يمكن تضمينه في أربعة: 1 ـ عدم إمكان معرفة الله إطلاقاً. 2 ـ المعرفة بالله عن طريق السلب والتنزيه، أو الإلهيات السلبية «VIA Negative». 3 ـ المعرفة بالله عن الطريق الإيجاب والتشبيه، أو الإلهيات الإيجابية «VIA Positive». 4 ـ الجمع بين التشبيه والتنزيه.
ما المراد بـ «معرفة الله» عند البهائي؟ ـــــــ
جعل الشيخ البهائي «معرفة الله» من أسس كلامياته، وله في ذلك نظرات إبداعية وراقية كانت إلى حدّ كبير باباً لحلّ معضلات صعبة؛ فمن الأساليب المميزة له، إقدامه على تحليل متعلَّق المسألة ـ أي معرفة بالله ـ من حيث المفهوم، قبل بيانه وجوابه على المسألة عينها، وأخذ موقف أو رأي من إمكانيتها، فما هو المراد من معرفة الله إذا كنّا مكلّفين عقلياً بها؟
هنا نجد الشيخ في كتابه «الأربعون» يشير إلى أن المراد من معرفة الله تعالى الاطلاع على نعوته وصفاته الجلالية بقدر الطاقة البشرية([2])، في هذه الجملة نقطتان مهمتان:
الأولى: قوله بالتفصيل في مسألة إمكانية المعرفة بالله،إنّ حقيقة الذات الإلهية غير قابلة للمعرفة،أما صفات الله فمعرفتها ممكنة بحسب الطاقة البشرية. وهذا الكلام موجود في آثار السابقين، وقد بحثه الملا صدرا في كتابه المظاهر الإلهية. يضيف الشيخ البهائي بقوله: «وأمّا الاطلاع على حقيقة الذات المقدسة، فمما لا مطمع فيه للملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين فضلاً عن غيرهم، وكفى في ذلك قول سيد البشر: «ما عرفناك حقّ معرفتك»، وفي الحديث: «إنّ الله احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار، وأن الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم» فلا تلتفت إلى من يزعم أنه قد وصل إلى كنه الحقيقة المقدسة بل أحث التراب في فيه، فقد ضلّ وغوى وكذب وافترى، فإنّ الأمر أرفع وأظهر من أن يتلوث بخواطر البشر، وكلّما تصوره العالم الراسخ فهو عن حرم الكبرياء بفراسخ، وأقصى ما وصل إليه الفكر العميق فهو غاية مبلغ من التدقيق»([3]).
الثانية: في بيان الشيخ البهائي إشارة إلى إمكانية معرفة أوصاف الباري تعالى على قدر الطاقة البشرية، وهذا الكلام موضع تأمل من زاوية علم المعرفة؛ فما هو مراده من قدر الطاقة البشرية؟ هل استعماله لهذا المفهوم بالمعنى نفسه الذي استعمله الحكماء في تعريف الفلسفة؟ هل المراد منه المحدودية الكمية أو الكيفية أو معنى آخر؟. يلزمنا هنا التنبّه إلى أنّ البعد عن التشبيه والمقايسة هو أساس معرفة صفات الله؛ لأن الإنسان الساكن بين جدران الزمان والمكان اعتاد أن يتعرّف على الأشياء مقيدةً بالزمان والمكان، موصوفةً بالتحيز والتجسّم، متسمة بالكيف والكم، إلى غير ذلك من لوازم المادة ومواصفات الجسماني، ويحضرنا هنا قول العلامة الطباطبائي: «إن مزاولة الإنسان للحسّ والمحسوس مدى حياته وانكبابه على المادة وإخلاده إلى الأرض، عوّده على تمثيل كل ما يتعقّله بصورة الأمر الحسي حتى فيما لا طريق للحس والخيال إلى حقيقته كالكليات والحقائق المنزهة عن المادة. ويؤيده في ذلك أن الإنسان إنما يصل إلى المعقولات والكليات من طريق الإحساس والتخيل فهو أنيس الحس»([4]).
لذلك قضت العادة الملازمة للإنسان ـ أعني أُنسه بالمادة، واعتياده على معرفة كل شيء في الإطار المادي ـ أن يصور لربّه صوراً خيالية على حسب ما يألفه من الأمور المادية الحسية، وقلّما يتفق أن يتوجه الإنسان إلى ساحة العزة والكبرياء، ونفسه خالية من هذه المحاكاة، وهذه هي عقيدة «التشبيه» وأتباعها يسمّون بالمشبهة، وهذا ما خالفه بشكل كامل الحكماء الإلهيون.
وقد وصف الشهرستاني حال الانقسام على ذلك الأساس السابق؛ حيث افترق الإلهيون إلى مشبّهة تشبه ربها بإنسان له لحم ودم وشعر وعظم وله جوارح وأعضاء حقيقية من يد ورجل ورأس وعينين.. يجوز عليه الانتقال والمصافحة([5])؛ فهؤلاء تورّطوا في مغبّة التجسيم ومهلكة التشبيه، لكن نجد في مقابلهم طائفة أخرى تحرّزت عن وصمة التشبيه وعار التجسيم؛ فوقعت في أسر التعطيل، فحكمت بتعطيل العقول عن معرفته سبحانه ومعرفة صفاته وأفعاله، قائلةً بأنه ليس لأحد الحكم على المبدأ الأعلى بشيء من الأحكام، وليس إلى معرفته من سبيل إلا بقراءة ما ورد في الكتاب والسنّة، وهم من ينقل عنهم الشهرستاني: «إن النجاة كلّ النجاة في الاعتراف بكل ما ورد في الشرع الشريف من دون بحث ونقاش ومن دون جدل وتفتيش؛ فهذا «مالك» عندما سئل عن معنى قوله سبحانه: {ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ}، قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة»([6]).
لكن هناك طائفة ثالثة ترى أن من الممكن التعرف على صفاته سبحانه عن طريق التدبر وترتيب الأقيسة المنطقية وتنظيم الحجج العقلية، في ضوء ما أفاض الله سبحانه على عباده من نعمة العقل والفكر، بشرط أن يكون الباحث محايداً، منحازاً عن أيّ رأي مسبق، وأن يكون في بحثه ونقاشه مخلصاً للحق غير مبتغ إلا إياه، وحجتهم في ذلك أن الله سبحانه ما نصّ على أسمائه وصفاته في كتابه وسنّة نبيه إلا لكي يتدبر فيها الإنسان بعقله وفكره في حدود الممكن والمستطاع، مجتنباً إفراط المشبهة وتفريط المعطلة؛ فهذا أمر يدعو إليه العقل والكتاب والسنّة الصحيحة، كما تحدّث عن ذلك الإمام علي×([7]).
منهج معرفة الصفات الإلهية ـــــــ
وبرجوعنا لرأي الشيخ البهائي، نراه يصف الإنسان مرآةً لأوصاف الله تعالى، ويفسّر «من عرف نفسه فقد عرف ربه» على هذا النسق، مقارباً هنا لرأي الشيخ الصدوق في «توحيده»، بأنه لا يُدرك ذاته ولا صفاته الذاتية لأنّها عينها. وهذا ما نطق به كثير من أحاديث الكتاب من أنه تعالى لا يوصف ولا يدرك بعقل ولا بوهم، فالمدرك منه بحسب العقل والتصور هو العناوين الصادقة عليه ذاتاً أو صفةً، كالشيء والموجود والإله والعالم والحي والقادر إلى غير ذلك من أسمائه تعالى، كما تبين في مواضع من الكتاب وأمر العباد بأن يدعوه بها([8]).
ويمكن تلخيص عقيدة البهائي في ذلك بأن الأوصاف التي نشاهدها في أنفسنا غالباً ما تكون طرفي النقيض، العلم وفقدانه الجهل، والطرف الأشرف لهذين النقيضين نعتبره كمالاً لنا، والشخص الذي يتمتع به نذكره بالخير، ونفس هذا الأمر نجريه في خصوص الله جلّ وعلا. واللازمة المنطقية لكلام الشيخ هي أن أوصاف الباري تعالى ندركها في مرآة أنفسنا، فما نراه كمالاً لنا، ننسبه أيضاً لله تعالى؛ فإذاً إدراكاتنا ما هي إلا أوهام وصور نخلقها؛ وإلى هذا النمط يشير البهائي إلى حديث الإمام الباقر×: «وهل سمي عالماً قادراً إلا أنه وهب العلم للعلماء والقدرة للقادرين؟! فكل ما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه فهو مخلوق مصنوع مثلكم، مردود إليكم، ولعلّ النمل الصغار تتوهم أن لله تعالى زبانيتين كما لها»، فإنّها تتصور أن عدمها نقص لمن لا يكونان له، وعلى هذا الكلام عبقة نبوية تعطر مشام أرواح أرباب القلوب كما لا يخفى([9]).
وهنا يؤكّد الشيخ ـ بناءً على تمثيل المعصوم ـ على الدور الفعال للإنسان في معرفة الأوصاف، لكنّ هذا التأكيد ليس بمعنى أن الأوصاف موهومة ومخترعة من قبل الإنسان، بل هو قريب من الدور الفعال الذي يعطيه «كانط» للذهن البشري لقابلية فهم عالم الوجود. ويبرر وجهة نظر الشيخ أعلاه، أن الإنسان مكلف بمعرفة الصفات، ومن المؤكد أن التكليف بما لا يطاق قبيح، وعليه فيكون التكليف في حدّ طاقته.
ويرسم الشيخ البهائي تحقق معرفة الأوصاف في مرحلتين:
الأولى: التأمل والنظر في نفسه ومعرفة الأوصاف التي يأنس بها ويألفها.
الثانية: سلب جوانب النقص المنبثقة من كون الإنسان محدوداً، وعلى سبيل المثال: الفرد يدرك علمه وأنه عالم، والعالمة للإنسان بسبب أنها من أوصاف الإنسان ناقصة، فإذا سلب جوانب النقص منها، أي يصبح العالم الحقيقي وغير القابل للزوال واللامحدود، يمكن عندئذ وصف الباري تعالى بها؛ وهذا المحصول هو تركيب منطقي من التشبيه والتنزيه، وعليه فسرّ معرفة الله هو معرفة النفس.
وهنا يمكن أن يُسأل: هل أوصاف الله تعالى هي فقط الأوصاف التي يتحلّى بها الإنسان على نحو ناقص؟ ويجيب الشيخ بأن معرفة الصفات على قدر الطاقة البشرية موافقاً الصدوق، وأن الإنسان ليس مكلّفاً إلا بمعرفة صفات يتمتع بها فعلياً. ويفصّل أكثر: «إن التكليف إنما يتوقف على معرفة الله تعالى بحسب الوسع والطاقة، وإنّما كلفوا أن يعرفوه بالصفات التي ألفوها وشاهدوها فيهم، مع سلب النقائص الناشئة عن انتسابها إليهم، ولما كان الإنسان واجباً بغيره عالماً قادراً مريداً حيّاً متكلماً سميعاً بصيراً، كلّف بأن يعتقد تلك الصفات في حقه تعالى، مع سلب النقائص الناشئة عن انتسابها إلى الإنسان بأن يعتقد أن الله تعالى واجب لذاته، لا بغيره، عالم بجميع المعلومات، قادر على جميع الممكنات، وهكذا سائر الصفات، ولم يكلف باعتقاد صفة له تعالى لا يوجد فيه مثالها ومناسبها بوجه، ولو كلف له لما أمكن تعقله بالحقيقة وهذا أحد معاني قوله: «من عرف نفسه فقد عرف ربه»([10]).
وهنا نجد أن الشيخ قد أوقف الصفات، وقد أشار إلى ذلك في تفسيره ـ العروة الوثقى ـ ولم يقصد إلى صفات مخترعة، بل نعرفه بصفاته التي وصف بها ذاته، على حسب الوسع والقدرة ولا نضيف إليها، موافقاً للشيخ المفيد في المقالات([11])، لكن البهائي لا يجعل العقل والفكر منتهى الأمل والسبل، بل يشجع على المشاهدة بعيون القلب والتعرض لنفحات الجود؛ حيث إن أهل الأفكار إذا بلغوا فيه الغاية القصوى أدّاهم فكرهم إلى حال المقلّد المصمم، فإن الآمر أجلّ وأعظم من أن يقف فيه الفكر فما دام الفكر موجوداً فمن المحال أن يطمئن العقل ويسكن، وللعقول حدّ تقف عنده من حيث قوتها في التصرف الفكري، ولها صفة القبول لما يهبه الله تعالى، فإذاً ينبغي للعاقل أن يتعرّض لنفحات الجود ولا يبغي ما سواها في تقييد نظره وكسبه([12]).
مراتب المعرفة بالله تعالى ـــــــ
وفي تحليل آخر، يرى وجود منشئ آخر لمعرفة البشر بالله عبر معرفة آثاره، ويقرّر عن المحقق الدواني مفهوم المعرفة في هذا المقام وهو أن المعرفة العلم بالشيء من قبل آثاره، وكأنه مأخوذ من العرف بمعنى الرائحة كما يقال: استشممت به المعنى([13])، وقد سعى الشيخ البهائي عن طريق التحليل المفهومي لكلمة المعرفة هنا، تبيين الأساس الميتافيزيقي له، ففي اللغة العربية مرادفات كثيرة للفظ «المعرفة» كالعلم، والإدراك، وقد حدث لغط كثير في التدقيق المفهومي لها؛ أما اللفظان الأكثر رواجاً فهما العلم والمعرفة، وهذان اللفظان يترادفان أحياناً ويكونان قسيمين حيناً آخر؛ فابن سينا يعتبر أن إدراك الجزئيات معرفة، وإدراك الكليات علم([14])،أما الطوسي ـ علاوة على ذلك ـ فيقول: «قد ينسبان (المعرفة والعلم) إلى الإدراك المسبوق بالعدم وإلى الأخير من الإدراكين لشيء واحد، يتخلّل بينهما عدم، وإلى المجرد عن هذين الاعتبارين؛ ولذلك لا يوصف الإله تعالى بالعارف ويوصف بالعالم([15]). وهنا يصرّ الشيخ البهائي على هذا التمايز والتحليل المفهومي للمعرفة على أساس كلام الطوسي المنقول في حواشي «مير سيد شريف الجرجاني» على «شرح مطالع الأنوار»([16]).
ونحاول هنا مقارنة رأي الشيخ البهائي برأي تلميذه الملا صدرا (1050هـ) في كتابه المظاهر الإلهية، وهو من أهم كتبه؛ فمعرفة الربّ على ثلاث مراتب: 1 ـ معرفة الذات الإلهية. 2 ـ معرفة الصفات الربانية. 3 ـ معرفة الأفعال الصمدانية؛ وهي أضيقها مجالاً وأرفعها منالاً، وأبعدها عن الفكر والذكر، إذ حقيقة الوجود ـ جلّ مجده ـ هوية بسيطة وغير متناهية الشدّة في النورية والوجود، وحقيقته عين التشخّص والتعين، لا مفهوم له ولا مثل ولا مشابه ولا ضد، ولا حدّ له ولا برهان عليه، بل هو البرهان على كل شيء، ولا أعرف من ذاته ولا شاهد عليه، بل هو الشاهد على الكل {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت: 53) وهو القائم على كل نفس بما كسبت {وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ} (الأنعام: 18) {وعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} (طه: 111)، وليس للعقل سبيل إلى إدراك ذاته، ولهذا ورد النهي عن الفكر في ذات الله تعالى؛ لقوله’: «تفكروا في آلاء الله ولا تفكّروا في ذاته»، ولقول أمير المؤمنين×: «من تفكر في ذات الله ألحد، ومن تفكّر في صفاته أرشد»؛ ولذا لا يشتمل القرآن من معرفة الذات ـ في الأغلب ـ إلا على تقديسات محضة وتنزيهات صرفة، كقوله تعالى {لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ} (البقرة: 255، والقصص: 70)، وكقوله تعالى: {سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الصافات: 180)، وكقوله تعالى: {بَدِيعُ السَّماواتِ وَالأَْرْضِ} وكقوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}.
ومن خلال مطالعتنا لآثار الشيخ البهائي، نجده يبتّ بشكل قاطع باستحالة معرفة الذات الإلهية، وقد صرحّ بذلك كما مرّ، وقال أيضاً: «إن ذاته تعالى من حيث هي، غير معقول للبشر»([17])، أمّا معرفة الصفات فالمجال للفكر فيها أفسح، ونطاق النطق فيها أوسع، لأنّها مفهومات عقلية يقع فيها الاشتراك، إلا أنّها في الأوّل ـ تعالى ـ مصداقها ذاته بذاته، وفي غيره ليس كذلك. ولهذا اشتمل القرآن على تفاصيلها في كثير من الآيات، كما قوله تعالى: {وهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، وقوله {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ}، وفي معرفة الصفات أيضاً غموض شديد؛ لأنّه لا يمكن معرفة بعض الصفات، كالكلام ـ إلا لأهل البصائر الثاقبة ـ وكالسمع والبصر والاستواء على العرش والابتلاء والمماكرة وغير ذلك، مما لا يعرفه إلا الراسخون في العلم([18]).
ويطابق الآنف رأيَ الشيخ البهائي من خلال تعرّضه لإمكانية معرفة الصفات في أكثر من مكان بأن الأوصاف الست التي نصفه بها جلّ وعلا هي على قدر عقولنا القاصرة وأوهامنا الحاضرة، ومجرى عاداتنا من وصف من نمجده بما هو عندنا وفي معتقدنا كمال أعني أشرف طرفي النقيض لدينا([19])، فهو بحر يتسع أطرافه ولكل أن يخوض فيه ويسبح في غمرته بقدر قوة سباحته، لكن لا ينال بالاستقصاء؛ لأنّها مرتبطة بالصفات، كالصفات بالذات.، وليس في الوجود إلاّ ذاته وصفاته وأفعاله التي هي صور أسمائه ومظاهر صفاته. فما كان من صفاته جلياً في عالم الشهود، فالقرآن مشتمل عليها تصريحاً وتفصيلاً، وما كان خفياً فالقرآن مشتمل عليها تلويحاً وإجمالاً([20]).
ويوجد للشيخ البهائي تقرير للدرج والمراتب المتفاوتة لمعرفة الله تعالى في كتابيه: مفتاح الفلاح والأربعون: «إن تلك المعرفة التي يمكن أن يصل إليها أفهام البشر لها مراتب متخالفة ودرج متفاوتة»([21])، ويوافق كلام المحقق الطوسي في مراتب المعرفة، مفصّلاً: «إن مراتب ذلك متخالفة كمراتب معرفة النار، مثلاً فإن أدناها معرفة من سمع أن في الوجود شيئاً يظهر أثره في شيء يجاذبه وإن أخذ منه شيئاً لم ينقص ويسمى ذلك الموجود ناراً، ونظير هذه المرتبة في معرفة الله تعالى معرفة المقلدين الذين صدّقوا بالدين من غير وقوف على الحجة. وأعلى منها مرتبة من وصل إليه دخان النار وعلم أن لابد له من مؤثر؛ فحكم بذات لها أثر هو الدخان، ونظير هذه المرتبة في معرفة الله تعالى معرفة أهل النظر والاستدلال الذين حكموا بالبراهين القاطعة على وجود الصانع تعالى. وأعلى منها مرتبة من أحسّ بحرارة النار لسبب مجاورتها وشاهد الموجودات بنورها وانتفع بذلك الأثر، ونظير هذه المرتبة في معرفة الله سبحانه وتعالى معرفة المؤمنين الخلّص الذين أطمأنت قلوبهم بالله وتيقنوا أنّ {اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالأَْرْضِ} كما وصف به نفسه. أعلى منها مرتبة من احترق بالنار بكليته وتلاشى فيها بجملته، ونظير هذه المرتبة في معرفة الله تعالى معرفة أهل الشهود والفناء في الله، وهي الدرجة العليا والمرتبة القصوى، رزقنا الله تعالى الوصول إليها والوقوف عليها بمنّه وكرمه».
نتيجة البحث ـــــــ
والخلاصة التي يمكننا استنتاجها، أن للشيخ البهائي رأياً في وجوب معرفة الله عقلاً وشرعاً، والتكليف يكون بمعرفة الصفات الإلهية على قدر الإمكان، وبما يتناسب مع عقل الإنسان، ونحن لم نكلّف بمعرفة الذات؛ لأنّها مستحيلة أصلاً، كما أن للمعرفة مراتب تختلف باختلاف الأدوات والطرق.
الهوامش
(*) أما الدكتور قراملكي فهو من أبرز من كتب في علم الكلام الجديد، وهو أستاذ جامعي، ومسؤول قسم الأبحاث والدراسات ومدير قسم الأخلاق الإلهية بجامعة طهران. وأمّا الدكتور مصطفى زين فهو أستاذ بجامعة طهران.
([1]) أفلاطون، رسالة اينيوميس: 312؛ وانظر له أيضاً: رسالة تيمائوسف 28: 3 ـ 5.
([2]) البهائي، الأربعون: 20، ح2.
([4]) محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان 10: 273.
([5]) الشهرستاني، الملل والنحل 1: 104.
([7]) نهج البلاغة، الخطبة: 29.
([8]) الشيخ الصدوق، التوحيد: 287.
([9]) البهائي، الكشكول 2: 301.
([11]) الشيخ المفيد، أوائل المقالات: 157.
([12]) البهائي، الكشكول 2: 366.
([14]) ابن سينا، الشفاء، المنطق: 58.
([15]) الطوسي، شرح الإشارات 1: 25.
([16]) البهائي، الكشكول 2: 23 ـ 24.
([17]) البهائي، العروة الوثقى: 27.
([18]) صدر الدين الشيرازي، المظاهر الإلهية: 15.