قراءة في تجربة مجلّة العرفان
ترجمة: عقيل البندر
نهج الإصلاح وأثر النشر في جبل عامل ـــــــ
كانت حديقة الأخبار أول صحيفة صدرت في لبنان وتحديداً في العاصمة بيروت عام 1858م، وكان خليل الخوري من وضع حجر الأساس لهذه الصحيفة، وهي صحيفة حكومية تطبع وتنشر أسبوعياً، ولم تمثل آنذاك نزعة سياسية خاصّة، واستمرّ صدور هذه الصحيفة حتى عام 1869م رغم نشر صحيفة «بيروت الرسمية»، وفي هذه السنة صدرت عن المطبعة الكاثوليكية صحيفة أخرى، وفي السنة التالية أصدر بطرس البستاني أوّل مجلة سياسية باسم «الجنان»، وقد انضمت إداريّاً فيما بعد لصحيفة «الجنة»، وفي عام 1874م، تأسّست الصحيفة الأسبوعية «تراث الفنون»، وهي أوّل صحيفة يؤسسها مسلم وهو عبدالقادر قباني، وكان يديرها لفترة طويلة أحمد طبارة، وقد طرحت هذه الصحيفة أفكاراً جديدة وتبنّت القومية العربية، ثم ظهرت بعد ذلك صحف أخرى في دمشق وحلب وطرابلس.
وفي مطلع القرن العشرين، تأسّست صحف ومجلات كثيرة، وعرفت الصحافة تطوراً سريعاً بعد وضع الدستور عام 1908م، حتى بلغت الصحف في تلك السنة حوالي مائة صحيفة جديدة، وصار عدد الصحف العربية المطبوعة والمنشورة ما يقرب من 350 صحيفة في مقاطعات مختلفة من البلاد العثمانية([1])، وبعد عام، التحقت صحيفتا «الحرج» و «العرفان» بركب الصحف الأخرى.
ومن الملاحظ أن أدباء وكتّاب جبل عامل لم يكتبوا شيئاً في تلك الصحف إلاّ القليل منهم، كأحمد عارف الزين الذي كان يكتب في مجلة «ثمرات الفنون» واستمرّ في عمله ممثلاً لصحيفة «الاتحاد العثماني» و «حديقة الأخبار» في صيدا، وكما هي كتابات عارف الزين في صحيفة العرفان، كذلك كانت في حديقة الأخبار، حيث اتّسمت بمهاجمة الظلمة، وكشف الستار عن الفساد الذي يقوم به موظفو الحكومة، دفاعاً عن الحرية والقانون([2]).
والأديب الآخر كان أحمد رضا الذي كان ينشر مقالاته في مجلة «المقتطف» التي كانت تصدر في القاهرة([3]). ومن الأدباء الآخرين الذين لم تنشر مقالاتهم ـ ظاهراً ـ حتى عام 1909م، محمد جابر آل صفا وسليمان ظاهر، وإن كان الأخير قد عمل موظفاً في صحيفة لبنان منذ عام 1898م، التي كان يديرها صديقه الشاعر إبراهيم الأسود([4]).
ومع ذلك لا يوجد دليل على أن علماء جبل عامل وأدباءه كانوا يكتبون في الصحف إلى حين صدور مجلة العرفان، وحتى السيد محسن الأمين الذي سكن دمشق منذ عام 1901م لم يكتب شيئاً فيها.
لقد كان لثورة الشباب الأتراك وما نتج عنها أثر بالغ في ترغيب علماء الدين ـ إلى جانب الأدباء والشعراء ـ للنهوض بالواقع الصامت والبدء بنشر ما يريدونه من أفكار وآراء في مجلة العرفان، فلربما لم يكن يقصد بعضهم نشر مقالته في مجلة أخرى إذا لم تنشر في المجلة المذكورة، لكن بدأ بعضهم شيئاً فشيئاً بنشر أعماله وكتاباته في الصحف والمجلات الأخرى التي كانت تصدر في بيروت ودمشق والقاهرة،وأخيراً أصبحت أفكارهم وآراؤهم تنشر في فضاء أوسع وأرحب، وخرجت من الأفق الضيّق المنحصر بالعلماء والأدباء في ذلك العصر، والذي قام في حينه بعض المسيحيين الساكنين في مدينة مرجعيون جنوب لبنان بإصدار صحيفة «المرج» وهي أوّل صحيفة منظمة، وإن كانت صغيرة معدودة الصفحات، وكان أوّل عدد منها قد صدر في 25 كانون الثاني عام 1909م([5]). وفي غضون ذلك كان ضباط تركيا الشباب قد أيّدوا الدستور العثماني، وراحوا يدعون أهل جبل عامل إلى الإصلاح.
كانت وظيفة سليمان ظاهر في هذه الصحيفة كتابة مقال رئيس التحرير، واستطاع الاستمرار بهذا العمل حتى الحرب العالمية الأولى، حينما أغلقت الصحيفة التي دافعت بشدّة عن مصالح المنطقة، حيث كانت تسمى بمنطقة لبنان الجنوبية إبّان حكم الفرنسيين لها، ولربما بلغ عدد النسخ المطبوعة والمنشورة من هذه الصحيفة عام 1931م ألف وخمسمائة، وكان 60% من هذه النسخ يرسل إلى أمريكا([6]).
وفي سنة 1927م عيّن أسعد الرحال ولده أديب الرحال مديراً للصحيفة، وفي سنة 1952م، ترك هذا العمل لولده سعد الرحال الثاني الذي وضع بدوره اسماً جديداً للمجلة، وهو «مجلة الجنوب» بدلاً من الاسم السابق، وقد كتب لهذه الصحيفة المحلية الصغيرة العمر المديد لما تبذله من جهود لخدمة جبل عامل، حيث كانت تهتم بالوقائع التي تحدث في المنطقة، بالإضافة إلى الاحتفاء بتاريخها وأدبها وإبرازه بلغة فصيحة وبليغة، ولذا كان أفضل كتّاب جبل عامل وأدبائهم يرسلون كتاباتهم إليها، ولعلّ تركيز المجلة على الشؤون المحلية لمنطقة جبل عامل كأدبها وتاريخها و… كان أحد الأسباب المهمة لنجاحها وجذب الجمهور إليها، لا سيما المهاجرين اللبنانيين في أمريكا، حيث كانوا يتواصلون بمدينتهم وأهلهم عبر هذه المجلة التي كانت توصل إليهم أخبار المنطقة بصورة متتابعة ومنظمة([7]).
وفيما يلي سنتحدث عن الصحف الأخرى التي كانت تصدر في جبل عامل، ولكن قبل ذلك ينبغي الإشارة إلى أن وضع الطبع والنشر في منطقة جبل عامل لم يكن جيداً ولا منظماً حتى عام 1920م. وإن سعى بعضٌ للوصول إلى نتائج طيبة في هذا المجال إلاّ أن ذلك لم يدم طويلاً، كما حصل ذلك مع مجلة «الأدب» التي كانت تنشر في عام 1910م بشكل مخطوط في قرى جزين، وصحيفة «القوّة» التي كانت تنشر في صور، وتطبع في بيروت عام 1912م، بإشراف الحاج حسن دبوق.
وفي العقد الثالث من القرن العشرين، شهدت عدّة مناطق ـ كجزين ومرجعيون ـ حركة جيدة للصحف والمجلات المحلية. وفي آب أغسطس عام 1920م صدرت أول صحيفة أسبوعية باسم «الاتفاق» بجهود سعيد رزق وحبيب ناصيف، واهتمت هذه الصحيفة بالشأن الأدبي وبالشأن السياسي والزراعي في بعض الأحيان، وتلاها بعد سنوات صحيفة «الشلاّل» ضمن فترات متقطعة بجهود بعض الشخصيات الدينيّة([8]).
وفي عام 1927م صدرت عن جماعة وتحديداً في مدينة مرجعيون، مجلّة «النهضة المرجعيونية» التي سعت جاهدة إلى إنشاء مطبعة خاصّة بها، وفي تلك السنة ظهرت في صيدا صحيفة «ابود لامة» أيضاً. وفي آب أغسطس عام 1931م ظهرت أوّل صحيفة ذائعة الصيت باسم «القلم الصريح» في مدينة مرجعيون التي أسّسها آلفرد أبو سمرة، أحد الشباب الارثذوكسيين المتمسك بالقومية العربية والدعوة إلى الاتحاد مع سورية، فأراد أن تكون الصحيفة قومية عربية ضد الاستعمار، تحلّ مشاكل الإنسان العربي، ولما كان قريباً من أهل الثقافة والفن المحبين للوطن تمكّن من جذب شخصيات أدبية ممتازة من جبل عامل، أمثال أحمد عارف الزين. أحمد رضا، سليمان ظاهر، موسى الزين شرارة، وآخرين من أهل القلم الممتاز كفخري البارودي، واستطاع أبو سمرة أن يستمرّ بنشر الصحيفة حتى عام 1979م([9]). ومن الصحف الأُخرى التي أصدرها مثقفو جبل عامل عام 1937م، ولم يكتب لها الاستمرار، صحيفة «صدى الجنوب» .
وفي العقد الرابع والخامس من القرن العشرين، وتحديداً في قرية شقرا، أصدرت عائلة الأمين أربع صحف، وهي صحيفة «الحقل» على يد عبدالكريم الأمين، وصحيفة «الكشاكش» من أعمال جعفر الأمين، وصحيفة «النحلة» بجهود مرتضى الأمين، وصحيفة «الخنساء»، وهي صحيفة نسائية اهتمت بها سكينة الأمين، وقد انقطعت هذه الصحف عن الصدور أيضاً([10]). ثم أصدر جعفر شرف الدين ابن العلامة عبدالحسين شرف الدين أوّل صحيفة في مدينة صور عام 1945م باسم المعهد، وقد استمرت لمدّة أربع سنوات([11]). يذكر أن أخوه السيد محمد رضا كان قد أصدر صحيفة الديوان قبل عشر سنوات في بغداد، والتي رأس تحريرها أخوه الآخر صدر الدين شرف الدين المؤسّس لصحيفة «الساعة» اليومية عام 1944م في بغداد أيضاً، ومجلّة «الألواح» الأدبية عام 1950، ومجلة «الساعة» الأسبوعية عام 1952 والتي توقفت بعد صدور العدد الثاني منها، واستمرت نشاطاته في هذا المجال بعد ما ذهب إلى مدينة صور بإصدار صحيفة «النهج» منذ عام 1955([12]).
وفي عام 1930، أصدر الشاعر العاملي المعروف محمد علي الحوماني مجلّة «بعد نصف الليل» في بيروت، وغيّر هذا الاسم عام 1935 إلى «العروبة»، وكانت تعنى هذه الصحيفة بعادات المجتمع وتقاليده، وتهتم باللغة العربية والأدب والعلوم والثقافة، وهذه الصحيفة وإن كانت منافسة لصحيفة ـ «العرفان» ـ التي سيأتي الحديث عنها، إلا أنها لا تصل إلى مرتبتها، لا من حيث عدد القراء ولا من حيث عدد الكتّاب، لا سيما من أهل صيدا، وكانت النتيجة أن توقفت هذه الصحيفة بسرعة([13]).
وأخيراً، قام حبيب آل إبراهيم ـ وهو أحد الشخصيات الدينية من أهل قرية الحناوية إحدى قرى جبل عامل ـ بتأسيس مجلة «الهدى» في مدينة العمارة جنوب العراق، حيث كانت تركّز على ترسيخ الضوابط الدينية في ذلك المجتمع، وقد أرسى هذا الرجل في أواخر العقد الثاني من القرن العشرين قواعد الطباعة في تلك المدينة، حيث كان لديه مطبعة شخصية هناك([14]). ثم وفي العقد الخامس من القرن العشرين وبعد انتقاله إلى بعلبك، أصدر مجلة أخرى باسم «الإسلام معارفه وفنونه» والتي كان يكتب جميع محتوياتها بنفسه، وهي مجلّة دينيّة بحتة طرحت مسائل مختلفة في هذا المجال تتعلق بالأصول الدينية والمباحث الفقهية الخاصّة، والبحث في بعض المواضيع التاريخية والأخلاقية والأدبية، فكان ذلك كلّه تحت نظر وإملاء حبيب آل إبراهيم الذي استطاع أيضاً أن يجعل له مطبعة خاصّة في مدينة بعلبك عام 1953م باسم مطبعة «الإسلام»، والتي سمّاها فيما بعد بمطبعة آل إبراهيم، فيقوم بطباعة كل ما يريد نشره فيها بعد ما كان يطبعها سابقاً في صيدا، ومن ثم في بيروت، ولربما كانت تطبع في زحلة في بعض الأحيان([15]).
الطباعة في جبل عامل ودور مطبعة العرفان ـــــــ
كانت الطباعة في جبل عامل نادرة جداً، فكانت بعض الصحف تستعين بمطابع صحف أخرى كما حصل لصحيفة «المرج» التي توقفت مطبعتها عن العمل وصارت تطبع في مطبعة صحيفة العرفان في صيدا منذ عام 1930([16]). وهي المطبعة التي أسّسها أحمد عارف الزين في تلك المدينة في 11 سبتامبر سنة 1910م بعدما كان يطبع مجلته في بيروت لمدّة سنتين، فصارت هذه المطبعة محطة لطباعة الكتب الدرسيّة والدينيّة بالإضافة إلى مجلّة العرفان، ومن ثم استطاع أحمد عارف الزين أن ينشئ مؤسسّة الطباعة والنشر، والتي كان جبل عامل بأمسّ الحاجة إليها، لأن الكتاب كان معدوماً هناك، والأهم من ذلك أن ما قام به أحمد عارف الزين كان له صدى واسعاً ليس في جبل عامل فقط، بل في ربوع العالم الشيعي كافة([17]).
هذا، وقد صدر عن مطبعة العرفان من حين تأسيسها، كتب متعددة تتعلق بالموروث العقائدي للشيعة كمقتل ابن طاووس، وكتب أخرى لبعض أدباء وعلماء جبل عامل وبعض المفكّرين العراقيين الشيعة([18]). وكان لبعض هذه الكتب صداها في عالم التشيع وكانت مورداً للنقد من جانب بعض المفكرين السنّة، وللرد في بعض الأحيان، ومن هذه الكتب «الدين والإسلام» و «الدعوة الإسلامية» للشيخ محمد حسين كاشف الغطاء،الذي صدر الجزء الأوّل منه سنة 1911م، وأما الجزء الثاني فلم يسمح بنشره في بغداد، ولكن تبنّت مطبعة العرفان طباعته ونشره عندما كان الشيخ في بلاد الشام([19])، حيث قامت المطبعة في عام 1913 بنشر كتب أخرى من هذا القبيل ككتاب «الشيعة وفنون الإسلام» للمرحوم حسن الصدر([20]) صاحب المؤلفات الكثيرة، وإن كان الأخير أشهرها، ونشرت له أيضاً كتاب «المسائل المهمة في العبادات والمعاملات»، وكتاب «آلاء الرحمن في تفسير القرآن» للمرحوم محمد جواد البلاغي عام 1933م/1351هـ([21])، ومكتبات الشيعة([22])، مضافاً إلى صدور كتب أخرى لكتّاب جبل عامل وكان أكثرها عن هذه المطبعة، ولا داعي لذكر أسمائها هنا.
في مدينة صيدا، كانت هناك ـ إلى جانب مطبعة العرفان ـ مطبعة أخرى، هي «المطبعة المصرية»، قامت أيضاً بطباعة الكتب الأدبيّة الكثيرة وفي موضوعات مختلفة مضافاً إلى الكتب الدراسيّة([23])، ورغم ذلك كانت تتمتع مطبعة العرفان ـ وكذلك صحيفتها ـ بمكانة متميزة لدى الأدباء والمفكّرين في جبل عامل([24]).
مجلة العرفان لسان المصلحين وأملهم ـــــــ
استطاع علي الزين ـ وهو أبو أحمد عارف الزين ـ الحصول على الإذن من الحكومة العثمانية بنشر مجلّة العرفان شهرياً، فكان أوّل عدد يصدر منها في شهر فبراير 1909م، لم تكن المجلّة مقبولةً في البداية لدى مثقفي صيدا، فقد قالوا لمؤسّسها صراحةً: إن توزيع الخبز على الفقراء والمحتاجين أفضل لك من نشر وتوزيع هذه المجلة، وكانت الصورة أسوأ في قرى وضواحي جبل عامل؛ فكان العلماء غير الإصلاحيين يهاجمون المجلة بين الحين والآخر([25]).
وقد أجاب أحمد عارف الزين في مقالته التي حملت عنوان «الصحافة»، عن هذا الاعتراض واعتبر الصحيفة مدرسةً للوطن في العلم والأدب والتربية، فهي تؤكد على السلوك الحسن والخلق الرفيع وترشد إلى العادات الحسنة وسبل الخير من خلال الاستفادة من حوادث العصر، وبذلك لا يمكن أن تعدّ بدعة([26]). ونفهم من جوابه ـ خصوصاً عندما يستعمل ألفاظاً كالبدعة ـ أن العلماء كانوا يعدّون عمله بدعة فرأى من اللازم الردّ على هذا الاتهام.
في مقابل ذلك، كان بعض العلماء يؤيد ما يقوم به أحمد عارف الزين، لا سيما وأنّ منهم من كان مجتهداً كالسيد عبدالحسين شرف الدين ومحسن الأمين اللذين كانا يكتبان في المجلة من أول صدورها.
وقد ذكر أحمد عارف الزين في مجلّة العرفان في عددها الصادر شهر أكتوبر 1911م، عند تعرّضه لسيرته الذاتية: «كنت أفكر في إصدار صحيفة العرفان قبل ثلاث سنوات؛ لأنني كنت أرى حاجة البلد الشديدة لها لا سيّما الشيعة، حيث لم يكن لديهم حتى صحيفة واحدة يتسنّى لهم من خلالها نشر عقائدهم الحقّة والإعلان عن الآراء الصريحة للعلماء والكتّاب الشيعة، وتعريف الرموز الشيعية الكبيرة، والإجابة عما يقوله الجاهلون عنهم»([27])؛ من هنا كان مؤسّس صحيفة العرفان واضحاً في أنّ هدفه من ذلك أن يكون للشيعة صوتٌ مسموع عبر هذه الصحيفة؛ حيث لم يكن لديهم هذا الصوت من قبل، فلم تكن وسائل التبليغ والإعلان متوفرةً لدى الشيعة ـ آنذاك ـ ليتمكنوا من كتابة الصحف والمجلات، بل لا يوجد لدى شيعة العراق وسيلة واحدة ليعرضوا من خلالها آراءهم في حين كانوا يشكلون النسبة الأكبر في البلد والمجتمع الأفضل تنظيماً فيه، فكانت أكثر الصحف تصله من الخارج، ومن مدن متعددة كالقاهرة واسطنبول، بالإضافة إلى ما يصله من إيران والهند، وكانت المجلّة اليتيمة الأولى هي مجلة «القرى»، وهي المجلّة التي صدرت في النجف باللغة الفارسية ولم تستمرّ حتى عاماً واحداً([28]).، وكانت «مجلّة العلم» أوّل مجلّة شيعيّة تصدر في بغداد باللغة العربية على يد هبة الدين الشهرستاني (1884 ـ 1965م) في مارس 1910م، وقد باركت مجلّة العرفان هذا الإصدار آنذاك([29]).
لقد عرف القرّاء شخصيّة هذا الرجل الإصلاحية جيّداً؛ حيث كان يدعو إلى نشر العلم والدفاع عن الإسلام حسب ما يراه المصلحون من طريقةٍ ومنهج، لا سيما وأن أثنين من كبار المراجع آنذاك، وهما شيخ الشريعة الإصفهاني والآخوند محمد كاظم الخراساني، كانا يؤيدان ذلك، فكانت «مجلّة العلم» المرآة العاكسة لما يدور في حلقات الدرس في المدن المقدّسة وصدى لكلمات العلماء وآرائهم، ولسوء الحظ توقفت المجلّة عن الصدور قبل أن تكمل السنتين ولم يصدر منها إلاّ 21 عدداً، وحسب ما قاله السيد محسن الأمين من أن مؤسس المجلة قد سلك نهجاً إصلاحياً لم يكن قد سلكه ـ آنذاك ـ أحد قبله ([30])، وحتى الحوارات التي يجريها كانت ذات صبغة إصلاحية، لكنه ما برح أن واجه صعوبات كثيرة عرّضت حياته للخطر، وهو الأمر الذي أجبره على ترك العراق بشكل مؤقت، ما أدّى إلى توقّف المجلّة.
وفي تلك الظروف كانت مجلة العرفان المجلّةَ الوحيدة التي بقيت تمثل الشيعة، وسعت بدورها إلى إيجاد مجلات مهمة أخرى كـ «المقطم» و «المنى»([31]).
كان هدف أحمد عارف الزين من تأسيس مجلّة العرفان نشر الوعي والنهل من العلوم والاكتشافات الجديدة ليخرج أهل جبل عامل من التخلف والجمود ويضيء في سمائهم نور العلم والمعرفة. وإن لم يكن متوافقاً مع كل ما يطرح حول جبل عامل، لأنه كان يصبو إلى عالم أرحب وأكبر، من هنا كان يتجنب نشر المقالات التي تؤدّي إلى التعصب والتفرقة، حيث كان يعتقد أن الشيعة ـ مع السنّة والمسيحيين ـ جزء لا يتجزأ من الدولة العثمانية.
مجلّة العرفان والمأزق المالي ـــــــ
ويمكن القول: إن أحمد عارف الزين لم يكن لديه اطلاع كافي عن هذا الموضوع، فكان لا يدافع عن الشيعة دون الدخول في جدال ونزاع؛ ليصل إثر ذلك إلى نتيجة خاطئة؛ لأن مجلته صارت وبشكل سريع محطّة للنقاش بين كتّاب السنّة والشيعة، وفي كل الأحوال لم يكن صاحب المجلّة رقيباً على رأى دون آخر حتى لو كان ذلك الرأي مخالفاً لما يراه، بل صارت صفحات مجلته مفتوحة لكل كتاب المذاهب المختلفة، مع العلم أن المجلة شيعية، وكان أحمد عارف الزين في بداية الأمر يشعر بالاستقرار إزاء الوضع المالي للصحيفة، فكان يظن أن ما يصله من بدل الاشتراك والمساعدات من بعض القرّاء كافياً لإدارة الصحيفة، ولكن سرعان ما تبيّن خلاف ذلك فيما بعد؛ فتوقفت عن الصدور الشهري وزاد الوضع المالي للصحيفة سوءاً لا سيما بعد تأسيس المطبعة الخاصّة بنشرها.
وفي عام 1912م، أعلن أحمد عارف الزين، وفي نهاية المجلد الرابع من المجلة، أنّه إذا لم تدفع أجور الاشتراك سنضطر إلى إغلاق الصحيفة، وفعلاً لم يتمكّن من إصدار المجلة في السنة التالية؛ فلجأ إلى مزرعة ليفرّ من مصادرة الأموال ويتخلص من العتب والملامة، وبذلك استطاع أن يكسب مساعدة بعض الشيعة في بغداد حينما سارعوا لنجدته، بالإضافة إلى ما قام به سليمان أحمد العلوي (1865 ـ 1942م) إحدى الشخصيات الدينية في منطقة جبل الأنصارية من حثّ العلويين هناك لإنقاذ «العرفان» من مأزقها؛ فدفعوا مائتي اشتراك، وبذلك استأنف صدور المجلة ثانية بمساعدة هؤلاء، ولأول مرّة كان الدعم المالي يؤتي ثماره.
أسبوعية (جبل عامل) ودورها في رفع الوعي الشيعي ـــــــ
وكان أحمد عارف الزين قد أصدر صحيفة أسبوعية أخرى من ثمان صفحات كبيرة باسم «جريدة جبل عامل» وهو ما تزامن مع صدور مجلة العرفان، وتدور مواضيعها حول منطقة جبل عامل، وبسبب المشاكل المالية وضغوط المراقبة انقطعت عن الصدور ولم ير النور منها إلاّ 43 عدداً، وكانت قد علّقت الحكومة العثمانية صدورها عام 1912م لمدة شهر ونصف؛ بسبب اتهام مديرها بترويج الأكاذيب، وكان لهذه الصحيفة دور كبير في نشر الوعي، حيث تزامنت مع ثورة الشباب الأتراك التي قمعتها الحكومة العثمانية وبدّدت آمالها كلّها، الأمر الذي دعى جميع الأدباء والشخصيات المهمة في جبل عامل لانتقاد الحكومة عبر كتابة المقالات في تلك الصحيفة التي تؤيد ذلك، فكانت مواضيع من هذا القبيل حديث الناس الذين تعرّفوا عليها من خلال هذه الصحيفة فيتناقلوها في البيوت والمقاهي ثم يعلقون عليها، فلم تكن هناك صحيفة أو مجلة تغرس العزم والثقة بالنفس في جبل عامل، سوى «جريدة جبل عامل» ومجلة «العرفان».
مضافاً إلى ما ذكر، فإن تناول الصحف للحوادث اليومية خير وسيلة لتعويد الناس على قرائتها والاعتماد عليها لتكون مصدراً لآرائهم، ويشهد لذلك ما كتبه موسى الزين شرارة ـ شاعر جبل عامل ـ عند حديثه عن أثر المجلات والصحف على المجتمع في العقد الأول من القرن العشرين: لقد كان الناس يطلقون على المجلة اسماً خاصّاًَ وهو اسم «الكزيطة Gazetta» حيث لا يعرفون لها اسماً آخر، وإذا عرفوا من الأخبار شيئاً يقولون: قالت العرفان، وهذا يعني أن مجلة العرفان أصبحت بحق وسيلة جيّدة للتعبير عن آراء عامة الناس. ثم يتابع الشاعر بعد ذلك: إن الجيل إذا تعلّم شيئاً من الخارج فهو بفضل مجلّة العرفان، ثم يضيف: أخذت هذه المجلة بأيدي أوائل تلاميذ جبل عامل وشوّقتهم إلى الكتابة، فكانت بالنسبة لهم مدرسة الشعب والمصلحين.
الدعوة إلى الإصلاح ونشر العلم الحديث ـــــــ
ركّزت المجلّدات الثلاثة الأولى من مجلة العرفان على الدعوة إلى الإصلاح، فكان أحمد عارف الزين يكتب في مقالته أول الصحيفة بعزيمة عالية وبكل ما أوتي من قدرة على الكتابة بأيّ وسيلة كانت من أجل إقناع القرّاء بأن عليهم التحلي بالصبر والاتزان والسيطرة على الغيرة والاندفاع والغضب عند الاعتراض دون الخوض في سبل الترهيب، لقد كان يعتقد أن أتباع الدولة العثمانية تمكّنوا من السير إلى الأمام في مضمار التطوّر بفضل الحرية التي حصلوا عليها، الأمر الذي دعاه إلى تحفيزهم على ذلك، ومن وجهة نظره فإن التقدّم والتطوّر قائم وموجود في العلم ونشره، فكان يكتب فكره في أول مجلة العرفان، ومن ذلك ما يراه من أن العلوم العقلية غير منحصرة بخلاف العلوم النقلية، وكان يحثّ الأغنياء على إنشاء المدارس والنوادي العلمية والمكتبات، وقد أجاب عما قد يصدر من اعتراضات وانتقادات على العلوم العصريّة من بعض الشخصيات الدينية أو بعض المسلمين الزّهاد التقليديين، بأن الدين يدعو إلى العلم الحديث ويحثّ على تعلّمه. لقد كان يسعى ـ عبر نهج المجلّة ـ إلى التوفيق بين الحديث الجديد وبين القديم التقليدي إلى جانب الدفاع عن الإسلام.
وكثيراً ما كان أحمد عارف الزين يفكر بمسألة الوحدة، واستثمار الفرصة التي أعطتها الدولة العثمانية في مجال الإصلاحات وحرية التحرك والمحافظة في الوقت عينه على التواصل مع العثمانيين، من خلال تأسيس المراكز الأدبية دون تمييز ديني أو عرقي، على أن تمدّ الدولة يد العون لتلك المشاريع.
وتجسيداً لذلك، طرح أحمد عارف الزين فكرة إنشاء «منتدى العلم» في مصر، واقترح القيام بأعمال متعدّدة فيه كاللغة العربية والألفاظ الدخيلة عليها والترجمة وطباعة الكتب ونشرها والبحث والتحقيق؛ ومن خلال نهج السرعة وطريقة الاستدلال التي طرحها في العدد الثاني من الصحيفة يمكن أن يشعر القارئ أنه دخل في الردود على الاعتراضات التي طرحت في العدد الأول حيث لا تلمس التراجع والإحباط منه، بل راح يستدلّ وبطرق متعدّدة على الدعوة إلى العلوم العصرية والاستفادة منها، فكان دليله ـ وبعد البحث العقلي والمقارنة ـ ما حصل لليابانيين من نصر وتطوّر في ظلّ العلم، معاتباً العلماء وبعض الشخصيات الذين يمكنهم الدعوة إلى الإصلاح ولكنهم لا يؤدّون ما عليهم من واجبات ووظائف، وطلب من العلماء مدّ يد العون لإنشاء المدارس وتعليم العلوم العقلية إلى جانب العلوم الدينية قبل أن يفرّ الشباب المثقف منهم، فيصبحوا ضدّهم وضد الدين أيضاً، فكان يسألهم: بأيّ دليل تردّون العلوم العقلية؟ فيقول: لو نظرتم جيداً إلى هذه العلوم التي تفرّون منها وتبعدون الناس عنها في الوقت الذي قوت فيه شوكة المادية وأصبحت خطراً على الدين والإنسانية، فسترون أنها متمّمة للدين وداعمة له. وكان يخاطب الأكابر والأشراف: قد مضى عصر التكبّر وجاء دور العمل، وعليه يجب البدء بإنشاء المدارس العلمية.
الهوامش
(*) باحث في الحوزة والجامعة.
([1]) انظر: Quelaues mostssurla presse arabe syrie RMM\11\410-412 (1907) K.T.Khairallah.7,p690.
Sp: Silvianaef, lapresse en tant ande moteur do renoureeu cultu – melet litteain: larevue chiite libanaise al-Irfan Etutes asiatiaues, revae te la cociete Suisse-asle,2,1996,p.38.
([2]) العرفان، العدد 1: 5 ، 1951م.
([3]) مجلة المجتمع العلمي العربي، ج38، العدد4: 242.
([4]) أحمد أبو ملحم، الشيخ سليمان ظاهر، الرائد العروبي: 54 ـ 55.
([5]) محمد كاظم مكي، الحركة الفكرية والأدبية في جبل عامل: 51، وقد بقيت بعض النسخ من مجلة المرج المحفوظة في مدرسة المقاصد في النجلية.
Archires MAE cotton N1679, Bulletins hebdomadires dinfor Mations, Haut-Mommissariat, Beyrothet Postes, 1926-1931.
([7]) الحركة الفكرية والأدبية في جبل عامل: 208؛ وحسن قبيسي، تطوّر مدينة صور الاجتماعي: 77.
([8]) المصدر نفسه؛ ومصطفى بزي، تطوّر التعليم والثقافة: 338 ـ 342.
([9]) من دفتر الذكريات الجنوبية 1: 83 (المجلس الثقافي للبنان الجنوبي)، مقالة «مرجعيون الرائدة» لآلفرد أبو سمرا.
([10]) تطوّر التعليم والثقافة: 342.
([11]) من دفتر الذكريات الجنوبية.
([12]) وجوه ثقافية من الجنوب 2: 123 ـ 124، المجلس الثقافي للبنان الجنوبي.
([13]) الحركة الفكرية والأدبية في جبل عامل: 209.
([14]) العرفان ج32، العدد الثاني: 121.
([15]) المهاجر العاملي الشيخ حبيب آل إبراهيم: 96، المستشارية الثقافية للجمهورية الإيرانية في لبنان، بيروت، 1997م، مقالة «الشيخ حبيب آل إبراهيم»، لحسن نصر الله.
([16]) الحركة الفكرية والأدبية في جبل عامل: 207.
([17]) أحمد عارف الزين، تاريخ صيدا: 153.
([18]) ككتاب اللهوف على قتلى الطفوف، لعلي بن طاووس البغدادي.
([19]) راجع:Silvianaef, Unreformiste chiite – Munammad Husayn “al kasifal. Gita” p5a.
([20]) الشيعة وفنون الإسلام، العرفان صيدا، لبنان، 1331هـ، المسائل المهمة في العبادات والمعاملات، والمصدرنفسه، الطبعة الثانية، 1229.
([21]) آلاء الرحمن في تفسير القرآن: ج1، مطبعة العرفان، صيدا، 1351.
([22]) رسالة في أحكام العبادات والمعاملات، العرفان، صيدا، 1352.
([23]) الحركة الفكرية والأدبية: 210.
([24]) توقفت المطبعة وإصدارات العرفان الأخرى، لكن ظلّت الصحيفة تصدر في بيروت. وحينما توفي أحمد عارف الزين عام 1960م تصدى ابنه نزار الزين لإدارة الصحيفة حتى وفاته عام 1981م، وأدارها من بعده ابن عمّه فؤاد الزين، وفي عام 1987م توقفت الصحيفة بسبب الحرب، واستأنف صدورها بعد عام 1992م.
([25]) راجع:Kazim alamin “al-Irfan ou unde mi – siecled. Une reluearabe e, these sacty logra phicede 3ecycle.
([26]) العرفان ج2، العدد 1: 28 ـ 29.
([27]) المصدر نفسه ج3، العدد 21: 841.
([28]) ماضي النجف وحاضرها، ج1، العرفان، 1353.
([29]) العرفان ج2، العدد 6: 317.
([30]) محسن الأمين، أعيان الشيعة 10: 261.
Silvia naef, “Lapresse en kant que Moleur aurenoureau culture et litteraire” P.197.