مقدمة
التعامل في البورصة نشاط اقتصادي يهدف إلى تحقيق الربح من خلال توقع تغير قيمة البضائع أو الأوراق المالية أو العملات. والهدف الأصلي للمتعاملين في البورصة من معاملاتهم ـ شراء وبيعاً ـ هو الحصول على الربح، فقد لا يكون المتعامل في البورصة محتاجاً إلى شيء ما ولكنه مع ذلك يقدم على شرائه، وقد يكون محتاجاً إليه ومع ذلك يقدم على بيعه، والدافع الأساس للطرفين هو توقع تغير القيمة لصالحه([1]).
في السوق المالية (البورصة) تُعرض للتعامل أسهم الشركات أو سندات الخزينة، وقد يسمى هذا النوع من الأسواق سوق السندات. وربما يتدخل المتعاملون في البورصة في قيمة الأسهم والأوراق المالية، من خلال بث الشائعات الكاذبة، والاحتكار، والتواطؤ بين أكثر من شخص من أجل رفع قيمة بعض الأسهم أو خفضها؛ ولأجل تجنب هذا التغير الوهمي في القيم وُضِعت الكثير من القوانين التي تحول دون ذلك في عدد من البلدان([2]).
ولا شك في أن الإسلام قد وضع ضوابط ومقرّرات تمنع كل ما يؤدي إلى تغيّر وهمي في القيم، ففي الشريعة الإسلامية قوانين تـنهى عن الاحتكار، والتواطؤ بين التجار، ونشر الأخبار الكاذبة، وما شابه. ولسنا في هذه المقالة بصدد البحث عن هذه التفاصيل([3])، بل موضوع بحثنا هو التعامل في البورصة، من خلال بيع الأوراق المالية والأسهم، أو التجارة بالعملات، مع افتراض خلوها عن مثل هذه الشوائب المحرّمة.
آثار تجويز التعامل بالبورصة
إن للتعامل في البورصة آثاراً اقتصادية إيجابية لو تمت بعيداً عن الشوائب التي تكون في العمل في البورصة في بعض الأحيان، ومن أهم هذه الآثار الإيجابية: التخفيف من اضطراب الأسعار، وزيادة السيولة، وسهولة تأمين مصادر التمويل([4]).
وفي الاقتصاد الرأسمالي يعد تجويز الفائدة (الربا)، ووجود سوق للأوراق المالية، والسماح بالتعامل في البورصة، من العوامل المساعدة لنظرية (كينز) في السيولة، ففي هذه النظرية ينظر إلى المال بوصفه نوعاً من البضائع التي يرغب بعض الناس بالاحتفاظ بها([5]).
وبالنظر إلى أن الاقتصاد الإسلامي يحرم الربا (الفائدة)، ويتحفظ على فكرة التجارة بالسندات، يُطرح هذا السؤال الأساسي: هل يمكن الطلب على المال بغرض التعامل في البورصة؟ وبعبارة أخرى: في تحليل دور المال في الاقتصاد الإسلامي أيهما الصحيح: نظرية كمية النقود أم نظرية (كينز) في السيولة؟
إذا كان التعامل بالبورصة ممنوعاً فسوف لا يكون لنظرية (كينز) محل في الاقتصاد الإسلامي، وأما إذا فرض جواز التعامل في البورصة فيمكن أن يقال بجواز طلب المال بغرض الحصول على الربح، ويمكن عندها الاستفادة من نظرية (كينز) في تحليل دور المال في الاقتصاد الإسلامي.
نظرية الشهيد الصدر في البورصة، قراءة نقدية
يعتقد الشهيد الصدر أن التجارة فرع من الإنتاج، وأن الربح الذي يحصل عليه التاجر يجب أن يكون في مقابل خدمة يؤدّيها، وأما مجرد النقل والانتقال للنقد فلا يجوَّز الحصول على الربح([6]).
وهو يقسم التجارة إلى قسمين: مادية؛ وقانونية. التجارة المادية هي نقل الأشياء والبضائع من مكان إلى مكان، والتجارة القانونية هي مجرد نقل الملكية من شخص إلى آخر بواسطة العقود، ويعتقد بعدم صحة الحصول على الربح من التجارة القانونية إذا لم تكن مقترنة بالتجارة المادية([7]). ومنشأ هذا الموقف أنه يعتقد في عرضه لنظرية التوزيع ما بعد الإنتاج أن المصدر الوحيد المشروع للربح هو الإنتاج([8]). وعليه فلا يمكن أن تكون المخاطرة بالنقد منشأ للربح. ومن هنا كان السبب في حصول صاحب المال في عقد المضاربة على الربح أصل ثبات الملكية، وليس عنصر المخاطرة في الاستثمار([9]).
ووفق هذا الأصل إذا عمد أحدهم إلى مادة أولية مملوكة لشخص آخر، وأحدث فيها عملاً أدّى إلى زيادة قيمتها، فإن الربح والزيادة هي للمالك الأصلي، ولا يشارك العامل صاحب المادة الأولية، بل يستحق عليه الأجرة. نعم، يمكن للمالك أن يجعل حصة من العين في مقابل الأجرة([10]). وعليه فإنه ينبغي للسيد الشهيد الصدر ـ وفق رؤيته هذه ـ أن يفتي بحرمة التعامل في البورصة؛ لأنه تجارة قانونية صرفة.
وقد وافق الشهيد في هذا الأمر الدكتور توتونجيان، وحكم بمنع التعامل في البورصة، معتقداً أن التعامل في البورصة هو مبادلة نقد بنقد بواسطة الأسهم أو غيرها([11]).
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن السيد الشهيد الصدر لم يكن في كتابه «اقتصادنا» في مقام استـنباط الحكم الفقهي للموضوعات؛ بل كان بصدد استخراج المذهب الاقتصادي الإسلامي من مجموع فتاوى الفقهاء. وهو نفسه يصرح في كتابه بأنه ربما توصل إلى بعض النتائج المخالفة لفتواه([12]). وسوف نتابع نقد رأيه في منشأ تحصيل الربح، ومعالجة موقفه من التعامل في البورصة، تبعاً لموقفه من التجارة القانونية، آخذين بعين الاعتبار هذا الموقف المشار إليه من قضية المذهب الاقتصادي الإسلامي.
وفي توضيحه لتصوره يقول: «فالكسب… لا يجوز بدون عمل مباشر، كعمل الأجير، أو منفصل مختزن، كما في أدوات الإنتاج والعقارات ونحوها».
هذا ولكننا نجد أن بعض أنواع الكسب المشروعة ليست نتيجة لنشاطٍ اقتصاديٍّ منتجٍ. ومن موارد ذلك حصة صاحب المال في عقد المضاربة. ويخرَّج الشهيد الصدر مشروعية هذا الكسب بواسطة قاعدة ثبات الملكية. وهنا يطرح هذا السؤال: ألا يمكن لقاعدة ثبات الملكية أن تبرّر الربح الحاصل من زيادة قيمة سلعة معينة؟ ومثال ذلك: لنفترض أن شخصاً معيناً اشترى سيارة بأربعة ملايين تومان، وبعد مدة ـ ونتيجة لتبدل وتحول في سوق السيارات ـ ارتفعت قيمتها إلى أربعة ملايين ونصف، مع عدم طروء أي تبديل على أسعار السلع الأخرى، فإنه لا شك في جواز بيع هذه السيارة بالقيمة الجديدة، وجواز الحصول على الربح، وهو نصف المليون، وهو ربح مشروع تبرره قاعدة ثبات الملكية؛ لأن هذا الشخص هو المالك للعين، وقد تجدّد الربح وهي في ملكه، تماماً كما تبرر هذه القاعدة حق صاحب مال المضاربة في الربح([13]).
وعليه فإن الحصول على الربح ببيع الإنسان ما يملك بعد تغيّر القيم والأسعار أمرٌ جائز في الاقتصاد الإسلامي، حتى لو لم يكن هذا الربح حاصلاً عن الإنتاج (بحسب رؤية الشهيد الصدر له، أي النقل والانتقال في المكان).
آراء بعض الاقتصاديين وعلماء أهل السنة
يقول خورشيد أحمد، الذي يعبر عن التعامل في البورصة بـ «التعامل بالسندات»: «إن كثيراً من الكتّاب بحثوا عن هذا الموضوع باختصار، وأشاروا إلى أن الإسلام يحرم هذا النوع من المعاملات»([14]).
وبعد نقله القول بالحرمة عن محمد تقي الأميني والقرشي ينقل عن بعض الباحثين قوله([15]): «ما دام التعامل بالسندات يساعد في الإنتاج، ويخدم المجتمع، من خلال ضبطه لتبدّل القيم والأسعار، فإنه ينسجم مع روح الإسلام. وأما تحريم الإسلام للتعامل بالسندات فإنه منصبٌّ على ذلك النوع من التعامل الذي لا يسعى المتعاملون فيه إلا إلى منفعتهم الشخصية من خلال إيجاد ندرة وهمية»([16]).
وينقل عن منذر قحف قوله: إن علماء الاقتصاد يرفضون التعامل بالسندات؛ لسببين: أولهما: إنه نوع من المقامرة؛ وثانيهما: إنه في بعض حالاته بيعُ الإنسان ما لا يملك. وفي الختام ينتهي خورشيد أحمد إلى أن البيع والشراء في طول الزمان ـ كما البيع والشراء في المكان ـ ضرورةٌ اجتماعية، ولا بد لعلماء الاقتصاد الإسلامي من بحث ظاهرة التعامل بالسندات بشكل جاد([17]).
ويعرف عدنان خالد التركماني التعامل في البورصة، مسمّياً إياه بالمضاربة، بأنه: «البيع والشراء في الحال على أمل البيع والشراء في المستقبل عندما تتغير الأسعار والقيم»([18]).
ويرى تحريم المضاربة بالمعنى المذكور أعلاه؛ ويستدل لذلك بقوله: «ولأن النقود ليست وسيلة للتبادل وتقويم السلع والخدمات فزيادتها أو تراكمها لا تؤدي إلى زيادة الإنتاج، بل العكس هو الصحيح…، فالنقود الحقيقية هي المنتَجات…، كما أن من العوامل التي تزيد في انخفاض قيمة النقد هو تحويلها إلى سلعة للتجارة بها»([19]).
ويرى الدكتور غسان قلعاوي أن المقصود من المضاربة (التعامل في البورصة) التجارة بالأملاك والمقتـنيات النقدية، أو سندات الملكية، من غير أن تكون هذه البضائع موجودة بيد البائع، ودون أن يكون لدى المتعاملين نية استلام أو تسليم تلك البضائع أو المعادن التي يتم بيعها وشراؤها في الأسواق المالية، ودون أن تكون لدى المشتري رغبة اقتـنائها أو الاحتفاظ بها إلى حين استحقاق التسليم. وهذا الكلام كما ترى ناظر إلى ما هو متعارف في الأسواق المالية.
ويقول ما حاصله: لا يمكن أن يجيز الإسلام المضاربة؛ لأنها شبيهة بالقمار؛ حيث يزداد كل من الربح والخسارة دون أن يكون مرتبطاً بزيادة منفعة البضاعة التي وقع عليها التبادل. وكذلك لا تتوفر في هذا النوع من المعاملات الشروط اللازمة للصحة في الشريعة؛ لأنه ليس فيها قصد تحصيل أو إيجاد منفعة اقتصادية معتبرة. أضف إلى ذلك أن طبيعة الحصول على الربح في أسواق المال العالمية لا ينسجم مع النظرة الإسلامية القاضية بتحريم الربا، الأمر الذي يُعَدُّ أساساً في بنية النظام الاقتصادي العالمي([20]).
ومن الواضح أن المقصود بالبحث عند هذا الكاتب هو التعامل المتعارف عليه في الأسواق المالية في الغرب، والمقترن بالمعاملات الصورية الشكلية، وإشاعة الأخبار الكاذبة، والاحتكار، والتواطؤ، وما شابه. وفي هذا الميدان نجد أن بعض علماء أهل السنة لم يجعلوا موضوع البحث البيع والشراء بقصد الربح، بل اعتبروا أن موضوع البحث هو القوالب الفقهية والقانونية التي يستخدمها المتعاملون في البورصة، ويستفاد من مجموع كلمات بعضهم أنه إذا كان التعامل في البورصة على أساس العقود الإسلامية فتكون المعاملة جائزة، وإلا فلا.
وكمثال لأسلوب العرض هذا نجد أن أحمد الدريويش يقسم البورصة إلى: بورصة البضائع؛ وبورصة الأوراق المالية. ويقسم التعامل في البورصة إلى: عمليات عاجلة؛ وعمليات آجلة. وبعد ذلك يبين حكم كل واحد من هذه الأقسام الأربعة على حدة. ويخلص إلى أنه إذا تمت هذه المعاملات على ضوء الشرع ووفق ضوابطه فلا مشكلة؛ ولكن إذا تمت المعاملة على البضاعة دون تحديد السعر عند العقد، وتُرِك تحديده إلى يوم التسليم الذي قد يكون متأخّراً شهراً أو أكثر عن وقت العقد، فمثل هذا «يعتبر مضاربة يقصد منها الاستفادة من فروق الأسعار؛ إذ كل من المشتري والبائع غير راغب بالتسليم والتسلم، وإنما البائع يضارب على الهبوط، والمشتري يضارب على الصعود…، وعملية المضاربة على فروق الأسعار تدخل في الرهان الممنوع؛ لأن البائع يراهن على هبوط السعر في اليوم المحدّد، والمشتري يراهن على صعوده، ومن صَدَقَ توقّعه يكسب الفرق»، وأما ما يتعلق ببيع ما لم يقبض، وذلك كما لو اشترى البضاعة أو الأوراق المالية ثم باعها قبل قبضها، فهو يدخل في بيع ما لا يملك، وهو منهي عنه في الشريعة»([21]).
وفي السياق عينه تجدر الإشارة إلى باحث آخر، هو الدكتور يوسف كمال محمد؛ حيث يرى: أن «المشكلة هي أن نشاط البورصات تحوّل من الاستثمار الحقيقي إلى عمليات صورية، يُؤجَّل فيها كلا طرفي المعاوضة، وهما: الثمن؛ والسلعة، سعياً وراء انتهاز الفرص التي تسنح من خلال تغيّر الأسعار، فإن صحت توقعاتهم ربحوا، والعكس إن لم تصح. وبهذا أصبح المتعاملون في البورصة في الغالب من المقامرين على ارتفاع أو هبوط الأسعار»([22]).
وبعد ذلك ـ وعند طرحه للتقييم الفقهي للموضوع ـ يرى أن الإسلام شرّع أنواعاً من المعاملات، هي:
1ـ البيع الحاضر spot.
2ـ لا يمنع الإسلام من تغطية المخاطر (hedging)، ولكنه اشترط أن يكون أحد طرفي المعاوضة مدفوعاً…
3ـ لا يمنع الإسلام من المرابحة (arbitrage) بين الأسعار مكاناً أو زماناً، وما يترتب عليها من كسب من فروق الأسعار، وذلك حيث تـندر السلعة في زمان أو مكان معين وتتوفر في زمان ومكان آخر…، ولكن الإسلام يضع لبيوع الآجال ضوابط حتى يحمي السوق من الانحراف»([23]).
ثم يستعرض هذه الضوابط التي أقرّتها الشريعة، ليختم البحث بعرض فتوى المجمع الفقهي الإسلامي، وهذه مقتطفات منها:
«أولاً: إن غاية السوق المالية (البورصة) هي إيجاد سوق مستمرة ودائمة يتلاقى فيها العرض والطلب…، وهذا أمر جيد ومفيد…، ولكن هذه المصلحة الواضحة يواكبها في الأسواق المذكورة أنواع من الصفقات المحظورة شرعاً، والمقامرة، والاستغلال، وأكل أموال الناس بالباطل؛ ولذلك لا يمكن إعطاء حكم شرعي عام بشأنها، بل يجب بيان حكم كل معامل تجري فيها على حدة»([24]).
ويستفاد من كل ما تقدم نقله من آراء فقهاء أهل السنة في البورصة أن الموضوع للحكم الشرعي المبحوث عنه هو واقع ما يتم التعامل به في الأسواق المالية، وما فيها من معاملات صورية تهدف إلى التلاعب بالأسعار بشكل اصطناعي، وما فيها من احتكار، وبث شائعات كاذبة تهدف إلى نفع المتلاعبين والمتعاملين. ويبدو أن اصطلاح المضاربة في اللغة العربية المعاصرة قد استقر على هذا النوع من المعاملات([25])، وأما إذا جرت المعاملات في البورصة وفق الموازين الشرعية فلا يرى فقهاء أهل السنة أي محذور شرعي فيها.
التقييم الفقهي للتعامل بالبورصة
إن البيع، سواء كان نقداً أم نسيئةً أم سلفاً، إذا كان بقصد الحصول على الربح من خلال توقّع تبدّل الأسعار جائز في حال تم وفق الضوابط الشرعية، وهذا الحكم محل اتفاق بين فقهاء السنة والشيعة. ولهذا الرأي أدلته الشرعية التي نشير في ما يلي إلى شيء منها:
1ـ المستند القرآني:
إن الآيتين: {أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ} (البقرة: 275)، و{لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} (النساء: 29)، مطلقتان تشملان حكم هذا النوع من المعاملات. ومثال ذلك: إذا توقع شخص ارتفاع قيمة سيارة، فاشتراها بمبلغ، وانتظر إلى أن ارتفعت قيمتها، وباعها بقصد الحصول على الربح، فلا شك في جواز هذه المعاملة، ودخولها في منطوق آية أحل البيع والتجارة عن تراضٍ.
وقد يعترض على هذه المعاملة بأن هذا الشخص لم يقم بأي عمل في مقابل الربح الذي حصل عليه، ولذلك يكون هذا العمل مصداقاً لأكل المال بالباطل، الذي نهت عنه الآية.
ولكن هذا الكلام غير صحيح؛ وذلك لأن الباء في قوله تعالى «بالباطل» إما أن تكون للسببية؛ أو للمقابلة.
وعلى الاحتمال الأول يكون معنى الآية: لا تأكلوا أموالكم بينكم بسبب باطل، أي لا تأكلوا أموالكم بواسطة معاملات غير مشروعة.
وعلى الاحتمال الثاني يكون معنى الآية: لا تأكلوا أموالكم بينكم في مقابل أمر باطل. وعليه تكون الآية في مقام تحريم أخذ مال الآخرين من دون تقديم مقابل معتبر.
ولا تـنطبق الآية في كلا الاحتمالين على مثالنا المذكور أعلاه؛ وذلك لأن عندنا معاملتين، هما: البيع في المرتين، ولأنه في الحالتين كان في مقابل المال عين لها قيمة شرعاً، وكل ما في الأمر أنه عندما توقّع ارتفاعاً إذا صدق توقّعه يكون قد حصل على ربح جراء ارتفاع قيمة العين التي اشتراها، ولما كان هو المالك للعين، فلا شك في كونه مالكاً لقيمتها التي ارتفعت أيضاً.
وقد يطرح إشكال آخر على هذا المثال، وهو أن هذه المعاملة مصداق للاحتكار؛ وذلك لأن هذا الشخص احتفظ بالسيارة لتوقعه ارتفاع قيمتها، والاحتكار ممنوع في الشريعة الإسلامية.
والرد على هذا الإشكال له صور عدة:
أـ إنه في كثير من الحالات لا يتحقق الاحتكار أبداً، فأين الاحتكار لو فرض أن شخصاً توقع ارتفاع قيمة سلعة معينة فاشتراها سلفاً (سلماً)، ثم عند مجيء وقت الاستلام قبضها، وباعها نقداً بالسعر الأعلى، ففي هذه الحالة لم يحتفظ بالعين أبداً حتى يكون هناك شبهة الاحتكار.
ب ـ إن أكثر الفقهاء يحصرون موضوع الاحتكار بأعيان محددة، كالقمح والشعير والزبيب والتمر والزيت والملح([26])، ولا يحرمون الاحتكار في غير هذه الأعيان.
ج ـ يمكن القول: إن الفقهاء جميعاً ذكروا لحرمة الاحتكار شرطين: 1ـ أن يكون الغرض من شراء العين واحتكارها ارتفاع سعرها؛ 2ـ أن لا يتوفر شخص آخر غير المحتكر يكون على استعداد لبذل العين المحتكرة([27]).
واشترط بعض الفقهاء الحاجة إلى العين المحتكرة؛ بحيث يؤدي احتكارها إلى وقوع الناس في الضيق([28]).
وبالالتفات إلى الشروط المذكورة أعلاه تخرج الموارد التالية من الاحتكار المحرم:
1ـ احتكار الأعيان التي لا يحتاج إليها الناس، مثل: الأدوات التجمُّلية (وسائل الترف).
2ـ أن لا يؤدي احتكار العين إلى ارتفاع قيمتها في السوق؛ بسبب وفرة عرضها في السوق، ولكن يحتفظ بها الشخص لتوقعه ارتفاع السعر لأسباب أخرى.
3ـ إذا وجد من هو مستعدٌّ لعرض العين المحتكرة في السوق.
وهكذا يتضح من الشروط المذكورة جميعاً أن الاحتفاظ ببعض الأسهم، وهو من لوازم التعامل في البورصة؛ لتوقع ارتفاع سعرها، خارج من دائرة الاحتكار المحرم، ولكن لا شك في حرمة التعامل في البورصة إذا أدى إلى احتكار مضرٍّ بالمجتمع الإسلامي.
ولصاحب الجواهر كلام جميل في هذا المجال، في مقام الرد على من يدعي قبح الاحتكار عقلاً، حيث يقول: «… كما أن من الواضح عدم استقلال العقل بإدراك قبح ذلك، خصوصاً وموضوع البحث حبس الطعام انتظاراً لغلوّ السعر على حسب غيره من أجناس التجارة من حيث كونه كذلك، لا مع قصد الإضرار بالمسلمين، ولو شراء جميع الطعام فيسعره عليهم بما يشاء، أو لأجل صيرورة الغلاء بالناس بسبب ما يفعله، أو لإطباق المعظم على الاحتكار على وجه يحصل الغلاء والإضرار على وجه ينافي سياسة الناس، ولذا أمر أمير المؤمنين× مالك الأشتر بما سمعت، أو لغير ذلك من المقاصد التي لا مدخلية لها في ما نحن فيه، مما هو معلوم الحرمة لأمرٍ خارجيٍّ، بل هو كذلك في كل حبس لكل ما تحتاجه النفوس المحترمة، ويضطرون إليه، ولا مندوحة لهم عنه من مأكول أو مشروب أو ملبوس أو غيرها، من غير تقييد بزمان دون زمان، ولا أعيان دون أعيان، ولا انتقال بعقد، ولا تحديد بحدّ…، وإنما الكلام في حبس الطعام انتظاراً به غلوّ السعر على حسب غيره من أجناس التجارة مع حاجة الناس، وعدم حصولهم إلى حد الاضطرار، فدعوى وصول العقل إلى القبح التحريمي في مثل ذلك واضحة المنع»([29]).
والحاصل هو القول بحرمة حبس العين بانتظار غلاء سعرها في حال حاجة الناس إليها، وكون حبسها سبباً في ارتفاع سعرها، بحيث يضر بالمسلمين. وفي مثل هذه الحالة على الدولة الإسلامية التدخل لحفظ مصالح الناس، وإلا إذا لم يكن الحبس مؤدّياً إلى الاضطرار مع الشروط المذكورة أعلاه فلا حرمة.
بقي أمر واحد تجدر الإشارة إليه، وهو إشكال القمار الذي مر ذكره سابقاً، وهو ما نقلناه عن بعض العلماء من أهل السنة في مقام الاعتراض على ما هو متداول في بعض أسواق البورصة من العقود الشكلية غير الحقيقية([30]).
يميز يوسف كمال محمد بين المقامرة وبين المخاطرة، معتقداً أن المقامرة مبنية على تخمين تغير القيم في المستقبل؛ بينما المخاطرة مبنية على الربح الناتج عن الاستثمار، وهو يعتقد بالأثر السيّئ للمقامرة على الاقتصاد، وينقل عن (كينز) قوله: «بأن المضاربين قد لايؤثّرون على الاقتصاد إذا كانوا فقاعة بسيطة في اقتصاد قائم على مشروعات منتجة وناجحة، أما إذا سيطرت هذه المراهنات على رأس مال الاقتصاد فإن الأمر يصبح خطراً؛ حيث إن الاقتصاد يصبح ككازينو القمار»([31]).
ويميز أحد علماء الاقتصاد بين القمار وبين تجارة السندات بقوله: «لا بد من الانتباه إلى الفرق الماهوي بين تجارة السندات والقمار؛ وذلك لأن تجارة السندات تبتـني على حسابات اقتصادية معقدة، بينما القمار يبتـني على الحظ والمصادفة»([32]).
وعلى أية حال لا شك في وجود الفرق بين الموضوعين (القمار؛ وتجارة السندات)، ولكن وفق أصول الفقه السني وقواعده يكفي وجود تشابه بين الموضوعين لتسري الحرمة من أحدهما إلى الآخر؛ بواسطة القياس.
وصفوة القول: إن إشكال وشبهة التحريم قد تـنشأ في بعض أشكال التعامل في البورصة، المبنية على المعاملات الشكلية غير الواقعية، وهي خارجة عن محل بحثنا. وما نحن فيه هو التعامل الواقعي في البورصة، وشراء بعض الأسهم أو الأوراق المالية وفق الضوابط المقررة للعقود الشرعية. وهذا النوع من العقود لا شك في عدم كونه قماراً، حتى عند فقهاء أهل السنة.
2ـ الروايات الخاصة
توجد روايات عدة([33]) تدل على جواز الشراء والبيع بقصد الحصول على الربح دون أن يكون في مقابله نشاط اقتصادي منتج، وفي ما يلي نذكر بعضاً منها:
أ ـ عن إبراهيم الكوفي، قال: سألت أبا عبد الله×: إني كنت بعت رجلاً نخلاً كذا وكذا نخلة بكذا وكذا درهماً، والنخل فيه ثمر، فانطلق الذي اشتراه مني، فباعه من رجل آخر بربح، ولم يكن نقدني، ولا قبضت، قال: فقال: لا بأس بذلك، أليس كان قد ضمن لك الثمن؟ قلت: نعم، قال: فالربح له([34]).
وظاهر هذه الرواية أن المشتري لم يحدث أي عمل في النخل ما بين شرائه وبيعه. وكذلك يظهر في الرواية أن البيع كان نقداً، ولم يفصل بين المعاملة الأولى والثانية زمن طويل. ومع ذلك كله يقول الإمام×: «فالربح له». إذاً ربح التجارة القانونية ـ بحسب مصطلح الشهيد الصدر ـ لا محذور شرعي فيه.
ب ـ توجد روايات عدة تدل على أن ما يباع بالعد لا مشكلة في أن يشتريه الإنسان، ثم يبيعه بسعر أعلى قبل أن يقبضه، ويربح من ذلك البيع([35]). ولا شك في أن ما حصل في هذا النوع من العقود هو تجارة قانونية، ولا يمكن دعوى وجود عمل منتج في مقابل الربح الحاصل.
ج ـ عن الحلبي عن أبي عبد الله× قال: سألته عن الرجل يحتكر الطعام ويتربص به هل يصلح ذلك؟ قال: إن كان الطعام كثيراً يسع الناس فلا بأس به»([36]).
هذا وقد مرت الإشارة إلى أن الاحتكار، وهو حبس السلعة بانتظار غلاء سعرها، وبيعها بعد ذلك للحصول على الربح، يحرم فقط في حال أدى إلى الإضرار بالمسلمين وتضييق معيشتهم، وفي غير ذلك لا يحرم؛ ولذلك يقول الإمام الصادق×: «إنما الحكرة أن تشتري طعاماً وليس في المصر غيره، فتحتكره، فإن كان في المصر طعام أو متاع غيره فلا بأس أن تلتمس بسلعتك الفضل»([37]).
وعليه يشترط في حرمة الاحتكار عدم وجود باذل آخر للسلعة، وأما إذا وجد من يبذل هذه السلعة، وأراد شخص الاحتفاظ بها؛ بانتظار غلاء سعرها للحصول على الربح، فلا حرمة إن لم يكن له داعٍ آخر غير ذلك، وهذا نوع من التعامل في البورصة جوّزه الإمام×.
النتيجة
إن التعامل في البورصة، وشراء الأسهم أو البضائع، والانتظار بها حتى يرتفع سعرها، جائزٌ بشرطين:
أـ أن يتم البيع والشراء وفق شروط النقد والنسيئة والسلف.
وبهذا الشرط تخرج المعاملات الشكلية، وكذلك المعاملات على البضائع مع عدم تحديد قيمها.
ب ـ أن لا يكون في ذلك إضرار بالمسلمين، وإلا فعلى الدولة الإسلامية المكلّفة بحفظ مصالح المسلمين أن تضع القوانين والضوابط التي تحول دون ذلك.
وبهذا الشرط يخرج التعامل في البورصة المقترن بالكذب والتواطؤ الذي يؤدي إلى تغيير اصطناعي في القيم والأسعار.
وبعبارة أخرى: التعامل بالبورصة جائزٌ ومشروعٌ ما دام المتعاملون خاضعين للقيم والأسعار الطبيعية، وأما عندما يريدون التحكّم بالأسعار من خلال الشائعات والتواطؤ والمعاملات الوهمية فيصبح التعامل في البورصة محرّماً.
وفي الختام نذكّر بأنه ربما يظن بعضهم أنه إذا كان التعامل في البورصة جائزاً بالشرطين المذكورين فعندها يمكن القول: إن هذا الأمر يفتح الباب واسعاً أمام الطلب على النقد بقصد الحصول على الربح والمرابحة، وعندها لا يكون تحريم الربا والمنع من المتاجرة بالسندات سبباً لنفي هذا النوع من المتاجرة بالنقد. وهذا البحث لدقته وأهميته في الاقتصاد الكلي يحتاج إلى بحثٍ معمّقٍ في مقالة أخرى.
الهوامش
(*) أحد الباحثين المختصين بالفقه الاقتصادي، ومسؤول القسم الاقتصادي في مركز الثقافة والفكر الإسلاميين.
([1]) Oxford Dictionory of Economics, JHON Black, oxford university press, 1997, p. 90.
([2]) انظر: علي جهان خاني وعلي بار سائيان، بورصة الأوراق المالية: 117 ـ 134، كلية الإدارة جامعة طهران، 1375هـ ش (فارسي).
([3]) للاطلاع على المزيد، راجع: في الفقه النجفي وفي الفقه السني: فقه الاقتصاد النقدي، ليوسف كمال محمد: 272 ـ 285، دار الهداية، 1414هـ.
([4]) انظر: حسن گلريز، بورصة الأوراق المالية: 101 ـ 106، مؤسسة أمير كبير للنشر، 1372هـ ش (فارسي)؛ وغلام رضا سرآباداني، نظرة الإسلام إلى أنشطة البورصة المالية: 66، رسالة ماجستير في الاقتصاد، جامعة مفيد، 1379هـ ش (فارسي).
([5]) انظر: فريدون تفضلي، اقتصاد كلان: 273 ـ 278، ني للنشر، (فارسي).
([6]) انظر: السيد محمد باقر الصدر، اقتصادنا: 645 ـ 652، مكتب الإعلام الإسلامي (فرع خراسان)، 1375هـ ش (عربي).
([10]) المصدر نفسه: 564 ـ 567.
([11]) انظر: إيرج توتونجيان، النقد والبنوك الإسلامية: 242 ـ 243.
([12]) محمد باقر الصدر، اقتصادنا: 49.
([13]) انظر: السيد حسن مير معزي، ترسيم النظام الاقتصادي الإسلامي على أساس المذهب الاقتصادي من وجهة نظر الإمام الخميني: 72 ـ 74، رسالة ماجستير في الاقتصاد، جامعة مفيد.
([14]) خورشيد أحمد، أبحاث في الاقتصاد الإسلامي: 319 ـ 320، ترجمه إلى الفارسية: محمد جواد مهدوي، مؤسسة أبحاث الحضرة الرضوية، 1374هـ ش.
([15]) ينسب الكاتب في الأصل إلى: ع. منان. (المعرب).
([18]) عدنان خالد التركماني، السياسة النقدية والمصرفية في الإسلام: 114 ـ 115، مؤسسة الرسالة، 1988. (ولم أعثر على هذا النص في الكتاب الأصلي، ولعه نتيجة خطأ في طباعة الإحالة إلى الكتاب).
([20]) غسان قلعاوي، المصارف الإسلامية ضرورة عصرية: 146 ـ 147، دار المكتبي، دمشق، 1418هـ/ 1998م.
([21]) انظر: أحمد الدريويش، أحكام السوق في الإسلام وأثرها في الاقتصاد الاسلامي: 573 ـ 584، دار عالم الكتب للنشر والتوزيع، 1409هـ / 1989م.
([22]) يوسف كمال محمد، فقه الاقتصاد النقدي: 261، دار الصابوني ـ دارالهداية، 1414هـ / 1993م.
([25]) وهذا في كثير من الكتب التي بحثت هذا الموضوع، ومنها الكتب التي استشهدنا بها في هذه المقالة، وقد أشارت المعاجم الفارسية العربية إلى هذا الأمر: لاحظ مثلاً: آذرتاش ـ آذرنوش، فرهنگ معاصر عربي ـ فارسي: 383 نشر ني، 1379 ش، نجفعلى ميرزايى، فرهنگ اصطلاحات معاصر: 548، دار الاعتصام.
([26]) الشيخ مرتضى الأنصاري، المكاسب المحرمة: 212، مطبعة الاطلاعات، تبريز، 1375 ش؛ ومحمدحسن النجفي، جواهرالكلام 22: 482، دار الكتب الإسلامية، 1374 هـ ش؛ والسيد محمدجواد الحسيني العاملي، مفتاح الكرامه 8: 188، دار التراث، بيروت 1418هـ.
([27]) انظر: المصادر المذكورة في الهامش السابق، وكذلك الشهيد الثاني، مسالك الأفهام 3: 192، مؤسسة المعارف الإسلامية، 1414هـ.
([29]) الشيخ محمد حسن النجفي، جواهر الكلام22: 480 – 481.
([30]) نقلنا هذا الأمر في هامش سابق عن الكاتبين قلعاوي ودريويش.
([31]) يوسف محمد كمال، فقه الاقتصاد النقدي: 206 – 262، نقلاً عن:
Keynes, John(1936) General Theory, College Writings, Vol.7, P. 159: London. Macmillan/Cambridge University Press for the Royal Economic Society.
([32]) حسن گـلريز، بورصة الأوراق المالية: 103.
([33]) هذه الروايات مستفيضة، ولذلك لا داعي للبحث في سندها.
([34]) الشيخ الحر العاملي، وسائل الشيعة 18: 64، باب 15، ح1، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث.
([35]) المصدر نفسه: 65، باب 16، ح1 و8 و12 و16 و18.
وأما ما يباع بالوزن أو الكيل ففيه خلاف بين الفقهاء، للمزيد انظر: مسالك الأفهام 3: 247 – 249.