تمهيد
إن حقوق المسؤولية المدنية مرتكزة على الفعل المضارّ مدى تاريخها. فهل الخاصيّة السلوكية للمسؤولية المدنية هي جوهرها؟ إذا كانت الخصيصة السلوكية للمسؤولية المدنية هي خصيصة أساسية فماذا يكون الضابط للفعل الموجب للمسؤولية المدنية؟ هل يمكن أن يستخدم قواعد المسؤولية المدنية كوسيلة لتوزيع الضرر على نظريات الرعاية الاجتماعية؟ هل تلاحظ المسؤولية المدنية مع الظروف الاقتصادية وملاحظاتها، بما فيها نظرية أصالة الفائدة الاقتصادية أو تـنعكس فيها الأصول الأخلاقية فحسب؟ هل المسؤولية المدنية هي العلاقة بين شخصين أو هي علاقة بين ملكياتهما؟ ما هو أثر الأفكار الموجّهة في حقوق المسؤولية المدنية؟
قد شرحنا في هذا المقال الذات الأولية للمسؤولية المدنية، التي هي ذات طابع سلوكي، والتفتـنا الى الأصول الهادية لتمييز السلوك الموجب للمسؤولية المدنية الذي يتبيّن بالمعايير العرفيّة. وفي نفس الوقت بحثنا حول أثر الأفكار التوزيعيّة والمتدخّلة والبراغماتيّة (الأفكار الآليّة) في هذا الصعيد من الحقوق. وعلى هذا الأساس يتبيّن أن لصور خاصّة من المسؤولية المدنية، وتبعاً لنظريّة «التوجيه القانونية ـ القضائي»، ولتحقيق الغايات التشريعيّة، خصيصة منفردة، فأسلوب البحث في هذا الصدد هو الأسلوب التحليلي المفهومي، والأسلوب المنطقي والأصولي.
1ـ الخصائص الذاتية للمسؤولية المدنية
1ـ1ـ الخاصيّة غير الآلية للمسؤولية المدنية
في ما عدا المجالات الاستثنائية، التي سميناها بمجالات النفوذ للأفكار الموجّهة، لا تكون المسؤولية المدنية في فلسفة القانون الإيراني آلة لتوزيع وتخصيص الموارد الاقتصادية. فتختلف المسؤولية المدنية اختلافاً كبيراً ومتأصّلاً مع آلات توزيع الثروة الاقتصادية من الحقوق الماليّة أو السياسات الآليّة لتوزيع الثروات العامة للبلد. ولا يخفى أن الحكومات، بواسطة الأساليب الآلية والتوزيعية، وإلى جانب التوجيه الاقتصادي، تؤثّر على حصة كل طبقة من الطبقات الاجتماعيّة من الموارد الاقتصاديّة. وإذا كان الأصل في مجال التجارة هو التبادل الحرّ على أساس السعي والتـنافس والتراضي فالتدخل الحكومي وتوجيهاته في إطار المصالح العامّة قد تتحقق في صورة استثنائية. وعلى هذا الأساس فالأصل هو أنّ مجال التجارة ليس مجالاً للتوجيهات التوزيعيّة. وكذلك الأصل في صعيد المسؤولية المدنية هو أنه لا يمارس القضاء على أساس النظرية التوزيعيّة، أي إن العدالة في المسؤولية المدنية ليست مبنيّة على أساس «العدالة التوزيعيّة»، كما زعمها الحكيم اليوناني «أرسطو»، بل «العدالة الإصلاحية». وقد وصف أرسطو تطبيق المعايير الحاكمة على توزيع الموارد الاقتصادية والثروات في المجتمع بـ «العدالة التوزيعيّة»، ووصف تطبيق القواعد الحاكمة على إعادة الانتظام وإصلاح ما يخلّ بالنتائج الحاصلة من العدالة التوزيعيّة بـ «العدالة الإصلاحية».
2ـ1ـ الخاصيّة التاريخية للمسؤولية المدنية
نعرف جيداً أن المسؤولية المدنية كانت لا تتميّز من المسؤولية الجزائية في النظم القانونية القديمة، فالجزاء القانوني في كلا المجالين كان ذا طابع عقوبي ونكالي. ففي القانون الروماني في البداية لم يكن حدٌّ واضحٌ بين المسؤولية المدنية من جهة والمسؤولية الجزائية من جهة أخرى. وعلى أثر التطور الواقع انتفت الخصيصة الجزائية في المسؤولية المدنية، وتحول التركيز من هذه الخصيصة إلى التركيز على «التقصير» في مفهومه الأخلاقي في وضع المسؤولية المدنية. وشيئاً فشيئاً انخفضت وكادت تغيب خصيصة مذمومية الفعل المضار، أي قابليته للملامة الأخلاقية، وكانت هذه نقطة لبدء التطور في المسؤولية المدنية.
الفعل المضار هو فعل مضاد للمجتمع، وقد ارتكزت عليه المسؤولية المدنية؛ لإعادة الأوضاع السابقة، ولتعويض الضرر لصالح المتضرّر. وبعبارة أخرى: يجب أن نصحّح الاختلال الذي حدث أثر وقوع الفعل المضار. والحقيقة هي أن هذا الاختلال يعتبر بشكل عام نتيجة للفعل المضار.
فاليوم قد تقلّل العناية بالمفاهيم الذهنية والأبعاد النفسية للسلوك الإنساني من اعتبار المسؤولية المدنية، بل نلتفت إلى السلوك بظهوره الخارجي وبعده الاجتماعي، وقد قامت معايير العرفية مقام معايير الشخصية والفردية، وفاتت مفاهيم المسؤولية المدنية صورتها الأخلاقية، وانتماءها إلى النوايا الباطنية في عصرنا الحالي. وإضافة إلى هذا فإن الفعالية والتأثير لقواعد المسؤولية المدنية قد تمتّعت بالعناية البالغة. وقد تأثّر هذا الاتجاه من الأفكار البراغماتية من جهة، ومن عملية التقرّب إلى العرفيّة في النظم القانونية من جهة أخرى. وبعبارة أخرى: إن التوجهات الاجتماعية في دورها البناء قامت مقام الإرادة التشريعية في التطورات القانونية.
3ـ1ـ الخاصية السلوكية للمسؤولية المدنية
الفعل المضار كفعل إنساني لا ينظر إليه بجميع خصائصه في المسؤولية المدنية المعاصرة، أي إن الدوافع النفسية فيه لا تتمتع بالأهميّة الجدّية، بل هذه النتائج، دون الدوافع الباعثة إليه، ودون كيفيات معرفة النفسية، قد وقعت في مركز العناية. ولذلك اذا لم تترتب خسارة نتيجة الإتيان بفعل ممنوع لا يوجد مجالٌ لتطبيق قاعدة المسؤولية المدنية مهما بلغ الفعل الممنوع من الخطورة، لذلك عندما نشير إلى الخصيصة السلوكية للمسؤولية المدنية فإن هذا لا يعني أن المسؤولية المدنية دائرة مدار القصد والنوايا الباطنية والدوافع النفسيّة، بل المقصود هو أننا ننظر إلى الفعل الإنساني بظهوره الخارجي وبعده الاجتماعي، أي في تأثيره على الحقوق والمصالح للآخرين. وعلى هذا الأساس، وفي تطوّر صائب، قد فرض التشريع المسؤولية المدنية على الصغار والمجانين.
ونجيب في المسؤولية المدنية على هذين السؤالين الأساسيّين: أحدهما: كيف يجب على المواطن أن يتعامل مع الآخرين؛ والثاني: إذا حدث انحراف عن هذا السلوك والتصرّف فما هي المسائل المطروحة آنذاك؟ إذ نحمّل المسؤولية المدنية التعويض عن الأضرار الواقعة في أموال مواطن على شخص آخر. إذاً يجب أن نعلم بأن هذا الشخص المسؤول قد خالف في تصرّفه إزاء المتضرّر ضابطاً سلوكياً ينتظم به السلوك المتعارف، فالسلوك المضار الممنوع هو من العناصر الرئيسيّة في المسؤولية المدنية([1]). إن امتزاج المعايير للمسؤولية المدنية بالمعايير السلوكية الاجتماعية قد بلغ مستوىً لا نستطيع معه أن نجعل حداً واضحاً بين المعايير الأخلاقية المحضة وبين المعايير القانونية؛ فالمسؤولية المدنية تجسّد المعايير العمليّة للتصرفات المطلوبة، والمطلوب من المسؤولية المدنية هو أن لا يترك الأفعال المضارة سدى ودون رد فعل مناسب، وأن تسهل التعويض عن الضرر الناتج عن الفعل المضار.
ونستطيع التعبير عن دور المسؤولية المدنية بالدور الرائد للمعايير السلوكية الاجتماعية، وتُلفت انتباه الأشخاص إلى الالتزام بالمعايير المقبولة والتجنب عن السلوك غير المتعارف، فالدور الرادع للمسؤولية المدنية يتكون على هذا الأساس، نستطيع أن نتعرّف بوضوح من هذا المنظر على الدور التربوي والبنّاء لها في المجال التربوي والثقافي، فالمسؤولية المدنية لا تـنفرد في لعب هذا الدور، بل تـنعكس فيها المقتضيات العرفية الاجتماعية، فالعرف يتكون متأثِّراً بالأخلاق الاجتماعية.
إن القانون الفرنسي والنظم القانونية المماثلة لها ارتكزت على مفهوم «التقصير»([2])، وأبدت إصراراً على الاحتفاظ بتماميتها، ومن هذا المنطلق قد حافظ على الخصيصة السلوكية للمسؤولية المدنيّة. ففي النظام القانوني الفرنسي، وطبقاً للمادة 1382 من القانون المدني الفرنسي، يعتبر «التقصير» ركناً للمسؤولية المدنية، والتقصير هو عبارة عن الفعل أو الترك الذي يؤدّي في ظروف خاصة إلى المسؤولية المدنية لفاعله، وببيان آخر: إن حقوق المسؤولية المدنية تبذل الاهتمام إلى الفعل أو الترك الموجب للمسؤولية المدنية.
إن علماء القانون الفرنسيين قد بذلوا جهوداً في بيان أساس المسؤولية المدنية على أساس نظرية «التقصير»، وقد أحدثوا في هذا الاتجاه تطويراً في مفهوم التقصير، ليطبّقوا كافة صور المسؤولية المدنية على أساس هذه النظرية، حيث ابتعدت هذه الكلمة عن معناها الأخلاقي. وعلى هذا الأساس ظهرت المفاهيم الحديثة للتقصير، بما فيها «التقصير الاجتماعي»؛ و«التقصير النوعي»؛ و«التقصير المفروض»؛ و«أمارة التقصير»؛ وغيرها من المفاهيم. وكل هذه المفاهيم قد طرحت لكي يحافظ على تمام نظرية التقصير كالأساس للمسؤولية المدنية الفرنسية.
إن التزام القانونيين الفرنسيين بأصول هذه النظرية يكمن في إصرارهم على أن تبقى المسؤولية المدنية مشرفة على الفعل أو الترك الموجب للمسؤولية المدنية. ففي هذه الرؤية يكون الفعل الإنساني هو مدار رحى المسؤولية المدنية، والخصيصة السلوكية للمسؤولية المدنية هي مقدمة الحديث عن بُعدها التقصيري.
لا يلاحظ التقصير في مفهومه التقليدي، الذي يتضمن فكرة «مذموميّة» الفعل المضار، بالإذعان بالخصيصة السلوكية فحسب، بل إنّ مفاهيم «التقصير النوعي» و«التقصير الاجتماعي» لا يمكن اعتبارها دون النظر إلى هذه الخصيصة السلوكية.
فلا استبعاد في صحة القول بأن ضرورة التصديق على اطراد الخصيصة السلوكية للمسؤولية المدنية في كافة صورها تعتبر من المسلَّمات فيها.
وقد دارت الخلفيّة التاريخيّة للمسؤولية المدنية في النظم القانونية غير المدوّنة، وخاصّة النظام القانوني الإنگليزى «كامن لو»، مدار السلوك والفعل. ففي قضاء «كامن لو»، وفي صورة ممارسة أقسام خاصة من الأفعال المضارة، كان هناك أشكال خاصة من الدعاوى واجراءات قانونية خاصة([3]) متوفرة لصالح المتضرّر؛ وتتكوّن معظم الصور للمسؤولية المدنية بواسطة ممارسة أفعال خاصّة([4]).
وإضافة إلى هذا فإن «التقصير»([5])، كركن آخر للمسؤولية المدنية، هو من الخصائص الضرورية للفعل المضار. إذاً بغضّ النظر عن الفعل سيكون الحديث عن التقصير كلاماً فارغاً من المعنى، فلا يبقى للمسؤولية المدنية، فيمكن الاعتراف بالخصيصة السلوكية للمسؤولية المدنية كأصل أساسي من أصولها العامة. وبغضّ النظر عن صور قليلة تضعف فيها الخصيصة السلوكية للمسؤولية المدنية سيبقى تقويم الآثار والنتائج للفعل المضار موضوعاً للمسؤولية المدنية. ففي الصور التي يقل تأثير هذه الخصيصة في تحميل المسؤولية المدنية تعتبر المسؤولية المدنية المفروضة من أنواع المسؤولية غير التقصيرية([6]) أو المسؤولية المدنية المطلقة([7]). والخصيصة الغالبة لهذه الصور من المسؤولية المدنية ترجع إلى العلل التي أدّت إلى فرضها؛ وسنتكلّم عنها في مكانها.
1ـ3ـ1ـ تجسّد القيم الأساسية في معيار «السلوك المطلوب»
إن إحدى الغايات في المسؤولية المدنية هي توصيف المعايير الحاكمة على السلوك المطلوب، حيث يعلم الإنسان من خلالها كيف يتعامل مع الآخرين ويتصرّف بالنسبة إلى الحقوق والمصالح لهم. وبهذا النمط تقودنا الحقوق إلى «السلوك المتعارف»، دون أن تشرح لنا التفاصيل لهذا السلوك المتعارف، فإذا حدثت الظروف المتماثلة فيرجع إلى المعيار الكلّي، أي السلوك المتعارف، حيث يعرف في ضوئه القواعد الملائمة للسلوك بالنسبة إلى الظروف الحادثة([8]).
وإذا كان السؤال المطروح هنا هو: أي ّ ضررٍ يمكن تحميله على غير المتضرّر؟ أو أيّ ضابطٍ نعتمد عليه لمعرفة هذا الأمر؟ فالإجابة عنه تطرح ضمن المسائل في المسؤولية المدنية في النظم القانونية المختلفة، وأهمّها: كيف يجوز للمواطن أن يتصرّف في المجتمعات المعقّدة بكثرة سلائقها وميولها ومطالبها المتعارفة؟
وعندما نبحث عن الضابط والمعيار سنواجه الانتظام المنطقي، والقيم الهيكليّة للقانون، التي تشكّل أساس الحق والتكليف في المجتمع. ومن أجل أن نعرف السلوك المطلوب والسلوك المرفوض يجب أن نعرف نظام الحق والتكليف للمجتمع، ومعرفة هذه التكاليف وهذه الحقوق تتسنّى في ضوء الفلسفة السياسية الحاكمة ومعرفة المبادئ الأساسية الاجتماعية.
الأخطاء المدنية في مفهومها العام([9]) لا يمكن التفطّن إلى عمق معناها دون النظر إلى القيم التي هي الأساس «للسلوك المطلوب». وعلى أية حال فإن المسؤولية المدنية هي حصيلة التراكيب الهيكليّة والحياة الاجتماعية، فيمكن التعرّف على كيفيات الظهور والتطورات في هيكليّة المسؤولية المدنية بواسطة البحث في خلفياتها التاريخيّة.
2ـ3ـ1ـ السلوك المطلوب وضابط «الشخص المتعارف»
بعدما عرفنا السلوك المطلوب نقول: إذا حدث أيّ انحراف أو تخلّف عن السلوك المطلوب، وأدّى إلى ضياع حقوق الآخرين، فسيكون المجال مجال تطبيق المسؤولية المدنية. ومن هذا المنطلق نقترب إلى المعايير المقترحة للمسؤولية المدنية، بما فيها «التقصير»([10])، «الإهمال»([11])، «عدم الاحتياط»([12])، و«عدم المبالاة»([13])، أو كما عبّر عنها في لسان الفقه والقانون الإيراني بـ«التعدي»، و«التفريط»([14])، فنرى أنه قد يركّز في كل نظام من النظم القانونية على خصائص السلوك المطلوب؛ ليتبيّن السلوك غير المطلوب، والذي يوجب المسؤولية المدنية.
إنّ ضابط السلوك المطلوب في القانون الإنگليزى هو سلوك «الشخص المتعارف»([15]). وإذا ترتّب الضرر على الانحراف عن هذا السلوك يؤدي إلى مسؤولية الفاعل المدنية. صحيح أنّه من الضروري أن تتوفّر عناصر أخرى لإثبات المسؤولية المدنية لكنّ الأمر الذي يحظى بالأهميّة البالغة في تحقق التقصير([16]) هو الانحراف عن سلوك «الشخص المتعارف».
ومن أبرز المعايير للتقويم والمراقبة في القانون الإنگليزى هو مفهوم «التكليف بالاحتياط»، والمقصود منه الإتيان بشيء يقدم عليه كل إنسان متعارف متأثِّراً بالملاحظات الحاكمة على تمشية السلوك الإنساني، أو ترك الإتيان بشيء لا يقدم عليه الشخص الحازم المتعارف([17]). إنّ ضباط «الشخص المتعارف» هو ضابط نوعي([18])، لكنّ التعريف بالإنسان المتعارف لا يكون كاملاً دون أن يُضاف إليه «في ظروف الحادث»([19]) المؤدي إلى الضرر([20]).
والجدير بالذكر أنه يجب في كل موقف خاصٍّ أن يقوّم ويقدّر الاحتمالات للخطر الملازم لهذا الموقف؛ لكي نستـنتج ما إذا كان هناك ضرورة لإجراء الخطوات الاحتفاظية والاحتياطية، أي لكي نعرف هل كانت تصرُّفات المدّعى عليه تصرّفات دون قياسات معتادة وضروريّة، فنلاحظ الظروف التي وقع فيها الضرر والمقتضيات العرفيّة لها من السلوك، وتحظى هذه الملاحظة بأهميّة بالغة. إنّ التوزيع العادل للخطر، الذي هو اللازم الطبيعي للنشاطات الإنسانيّة الاعتيادية، يتحقَّق بواسطة تطبيق مفهوم «الشخص المتعارف»، ففي القانون الفرنسي معيار «الأب العائلة الحسن»([21]) هو الضابط في معرفة السلوك المطلوب.
3ـ3ـ1ـ ضابط المعتاد في الفقه الإسلامي والقانون الإيراني
إنّ الفقه الإسلامي قد بذل عناية بالغة بما هو «المتعارف» كضابطٍ لمعرفة «التعدي» و«التفريط»، فلا يوجد غيره ضابطاً آخر لمعرفة التعدي والتفريط. فيعتبر ما حكم به العرف فصل الخطاب في مجال المسؤولية المدنية. الاستـناد العرفي في الإتلاف والتسبيب هو محل عناية الفقهاء، فإذا أشعل المالك النيران في ملكه زائداً عن ما يحتاج إليه، فأضرّت النار بجاره، في حالة يتوقع فيها تعدّي النيران إلى ملك جاره، يضمن المالك التلف الذي حدث في أموال الجار.
وقد نقل بعض الفقهاء الإجماع على ضمان المالك في هذا الخصوص([22]). وللتفصيل في الدور الأساسي للعرف في الضمان القهري في الفقه الإسلامي كلامٌ مطوّلٌ وخارج عن نطاق هذا المقال، وقد وقع موضع النقاش بشكل واسع في المصادر الفقهية.
القانون المدني الإيراني في الموارد 951 إلى 953 عرّف التقصير بالأعم من التعدي والتفريط، وأشار إلى العرف كضابط لمعرفة مواردها. وقد أعلن علماء القانون كذلك «الشخص المتعارف» كضابط للسلوك الاجتماعي المطلوب، فيؤدي الانحراف عن سلوك الشخص المتعارف إلى المسؤولية المدنية. لقد بلغ الكلام ذروته في هذا الخصوص، وهذا المعيار بلا شك هو الضابط في معرفة السلوك الموجب للمسؤولية المدنية([23]).
إن نموذجية «الشخص المتعارف» يبيّن الحدود والثغور للمسؤولية المدنية في المسؤولية التقصيريّة؛ إذ يؤكد القانون الإيراني للمسؤولية المدنية (عام 1339هـ ش) على التقصير أنه لا مجال لتبديل العرف بشيء آخر يقوم مقامه ليبيّن ما هو التقصير. إن أي ضابط من الضوابط، بما فيها «عدم الاحتياط»، أو «اللامبالاتية»، لا يمكن أن تتبيّن دون استخدام المعايير العرفية.
ولنعترِفْ أن أوضح ضابط في ما يحكم على أساسه العرف هو ضابط «التقصير»، لكن الاعتماد فوق العادة والحد على هذه النظرية قد يؤدّي إلى الانزلاق في الدوافع والدواعي النفسية للسلوك الإنساني، كما أدّى الارتكاز عليه إلى النقاش الواسع في اشتراط ضرورة توقع الضرر من ناحية الشخص الموجب للضرر في ثبوت «التقصير»، الأمر الذي يؤدي إلى أن يكون تحميل المسؤولية على الصغير غير الضرر. موضع النقاش الجدّي، وقد لجأ مقدّمو هذه النظرية إلى اعتبار «التوقع العرفي للضرر» لرفع هذه النقيصة. هذا الحل يصحّح الأخطاء إلى حدٍّ ما، ولكن لنعترف أن العناية بهذا الضابط يكون بمنزلة الرجوع إلى الضابط الأصيل والشامل، أي ما يحكم به العرف.
4ـ3ـ1ـ خصيصة التقصير في القانون الإنگليزي والقانون الفرنسي
بما أن حقوق المسؤولية المدنية الإنگليزية يبذل العناية البالغة في البعد السلوكي للمسؤولية المدنية، إلى جانب الالتزام بقياسات المسؤولية التقصيرية، وتطبيقها على الحوائج الاجتماعية، وتجسيد العرف في قواعدها، فهو لا يعاني من المشاكل الناتجة عن إعلان الأصل الشامل، أي التقصير في مجال المسؤولية المدنية، كما يعاني القانون الفرنسي من مشاكل إعلان شمولها([24]).
إن مبادرة العلماء القانونيين الفرنسيين في إعلان «التقصير» كالأساس العام للمسؤولية المدنية، وإن الاعتراف بكميّة ضخمة من الاستثناءات في نفس الوقت، وخلق مفاهيم «التقصير الاجتماعي» و«التقصير النوعي» و«التفسير المفروض» و«أمارة المسؤولية» للخروج عن مأزق المسؤولية التقصيرية، قد أدّى إلى مجادلات كثيرة بين رجال القانون الفرنسيين. إلاّ أن عدداً من رجال القانون الفرنسيين، بما فيهم «سالي» و«ژوسران»، قد اقترحوا التخلي الكامل عن «نظرية التقصير».
إنّ سالي وژوسران قد ابتعدوا عن إرادة الشارع في القانون النابليوني؛ بواسطة اقتراح «نظرية الخطر» كأساس للمسؤولية المدنية الفرنسية. إنّ هؤلاء قد فسروا النصوص الشرعية بهذا الأسلوب؛ كي يجدوا طريقاً للخروج عن مأزق نظرية «التقصير»، وقد أطلق مخالفو سالي وژوسران على هؤلاء «مدراء تصفية الإفلاس لنظرية التقصير»([25]). ولا يمكن أن نجد مثل هذه المجادلات في القانون الإنگليزى في صعيد المسؤولية المدنية. لكن كما يعاني القانون الفرنسي من الميل إلى المعاني الكليّة ابتلي القانون الإنگليزى بالتفريع في النظريات الجزئيّة والتفصيل المعوّق في القواعد الجزئية الفرعيّة.
ولذلك قد حذر مجلس الأعيان من الاعتماد بشكل بالغ على القواعد الموجودة في القضايا المحكوم بها سابقاً([26]) لمعرفة ما هو الاحتياط([27]). الكلام في القياسات الموضوعيّة يحتمل أن يؤدّي إلى أن هذه القياسات ثابتة، ولا يهتم بمصالح الناس، والأهمية التي تحظى بها هذه المصالح.
اعتمدت النظم القانونية؛ من أجل العناية بالظروف التي وقعت فيها الأضرار والمقتضي العرفي لها، على ضوابط ومعايير شتى، بما فيها الانحراف عن السلوك المطلوب، الذي يسقى في القانون الفرنسي «بالتقصير»([28])، وفي القانون الإنگليزى والأمريكي بـ «الإهمال»([29]). لكن تختلف الخلفية التاريخية للمسؤولية المدنية في كلا النظامين، ما يؤدي إلى أن يكون لهذين المفهومين في كلا النظامين مفهومٌ خاصٌ. وفي القانون الإنگليزى، واعتماداً على مفهوم «التكليف للاحتياط والحذر»([30])، الذي يعتبر نقضها في ظروف خاصة «الإهمال»، تبذل عناية خاصة بالظهور الخارجي للتكليف. وكذلك في القانون الفرنسي من أجل العناية بالظهور الخارجي للفعل المضار ابتدعوا مفاهيم «التقصير الاجتماعي» و«التقصير النوعي»، وقِسْ على هذا.
2ـ النظريات الموجّهة والازدواجية هما الأساس في المسؤولية المدنية
تقضي ضرورة الحياة الاجتماعية أن يكون التضييق وتحمُّل النقيصة لازماً للحياة الاجتماعية. فمعرفة ما إذا كان الخطر غير مشروع لتكون الأضرار الناتجة منها تستحق التعويض، ومعرفة ما إذا كان أي خطر مشروعاً ولا يستحق المتضرِّر منه التعويض وعليه أن يتحمّلها، تتيسّر في النظم القانونية المختلفة بأساليب متـنوّعة من التقويم على أساس «السلوك المتعارف» وما شابهه من المعايير المتشابهة في بعض النظم، واستـناداً إلى قياسات، كالمصلحة الاجتماعية، والنظريات البراغماتيّة التي أساسها الفائدة الاجتماعية في النظم الأخرى. وعليه فإنّ الباحث في مجال المسؤولية المدنية يجد نفسها فجأة في صعيد الفلسفة السياسية الحاكمة على المجتمع، ولابدّ له أن يوطِّن نفسه للاعتراف بالمعايير والقيم الحاكمة والضوابط الناشئة منها.
نظرية «العدالة الإصلاحية» تجعل المسؤولية المدنية حداً دون الأضرار والأخطار التي يحمّل الناس بعضهم بعضاً، وتبيّن أن أي شخص يجب عليه أن يتحمّل أية خسارة أو أي خطر من الأخطار المتواجدة في الحياة.
وقد تبين خلال المباحث المتقدّمة حول الخصيصة السلوكية للمسؤولية المدنية والدور الحاسم للعرف في تبيين وتفريع القواعد فيها، أنّه لا يوجد أي تعارض أو تـناقض في المبادئ والأفكار الأساسية في المسؤولية المدنية. ومع ذلك قد نجد قواعد خاصة أو صوراً خاصة في المسؤولية المدنية تقلّ فيها الملاءمة والتجانس النظري مع الصعيد العام للمسؤولية المدنية.
إن ما يؤدي إلى التغيير في التلاحم المنطقي في قواعد المسؤولية المدنية في هذه المواضع الخاصة هو تطبيق نظرية «التوجيه القانوني ـ القضائي»([31]). نحن نريد أن ندعي ـ ونحن صادقون في ادعائنا ـ أن الصور الخاصة للمسؤولية المدنية تتأثر من نظرية «التوجيه القانوني ـ القضائي» في طريق تحقيق الغايات الاجتماعية الخاصة.
وفي الحقيقة إنّ هذه الصور تتأثر من نظرية «العدالة التوزيعيّة»([32])، كما وصفها الحكيم اليوناني أرسطو بأنها تـنظم الأمور من الأساس، وتبيّن الحسن والقبيح في أساس المجتمع، وتعيّن كيفية التوزيع الصحيح للفوائد والأضرار في المجتمع. لكن «العدالة الإصلاحية» ـ على حد تعبيره ـ وتلاحظ فيها كيفية تصحيح الاختلال الحادث المؤقَّت في النظام الأساسي. وفي الحقيقة هو ردّ فعل المجتمع للاختلال في النظام الأساسي الحاصل عن تطبيق العدالة التوزيعيّة([33]).
فالعدالة التوزيعيّة مقدمة على «العدالة الإصلاحية» من حيث المرتبة والأولويّة، لذلك فإنّ المسؤولية المدنية غير التقصيرية مقدّمة على القاعدة العامة للمسؤولية المدنية من حيث المرتبة، فلا علاقة بين المسؤولية المدنية غير التقصيرية وبين درجة الحزم والاحتياط التي استعملها الشخص المسؤول، ولا يرفع عنه المسؤولية المدنية، ولو أثبت أنه تصرف في الاحتياط الملائم للظروف أو تصرّف تصرّفاً حماسياً ولكنه قد فشل في السدّ دون الضرر.
1ـ2ـ تبيين نظرية «التوجيه القانوني ـ القضائي»
المقصود من نظرية «التوجيه القانوني ـ القضائي» لا ينحصر في التدابير والسياسات القضائية في تطبيق التوجهات الاجتماعية على النصوص القانونية، بل هي تشمل التدابير التقنية في التشريع، وتحتوي على التوجيه العام للقواعد القانونية. إن المداقّة وإمعان النظر في نظرية «التوجيه القانوني ـ القضائي» هو مفتاح كثير من الأسئلة حول الأساس النظري للمسؤولية المدنية.
إن رجال القانون في بريطانيا قد اعتـنوا عناية بالغة بـ «التوجيه القضائي» في صياغة المسؤولية المدنية في مواضع خاصّة، أي إنّهم قد اعترفوا للمحاكم الإنگليزية بهذا الخيار؛ لتتفاعل وتستجيب في إطار تفسير «القاعدة السابقة»([34]) للحوائج الاجتماعية.
إنّ العوامل التي يمكن أن تؤثّر على القضاء في صناعة القرار متـنوعة جداً، بما فيها الأسئلة التالية: كيف توزّع مسؤولية التعويض عن الخسائر؟ هل اتخاذ القرار الخاص يؤدّي إلى اتساع نطاق الدعاوي المماثلة وعددها؟ ما هو التأثير لهذا القرار على الإنتاج الوطني؟ ما هو أثر الحكم على النشاطات في المهن الخاصة؟ هل تحميل المسؤولية المدنية يحرّض الناس على الاحتياط والحزم أكثر فأكثر؟ ما هي الملاحظات الأخلاقية المتدخّلة في هذا الأمر؟ وفي النهاية إلى أي حدٍّ يتـناسق تحميل أي تكليف مع المجالات الأخرى القانونية؟([35]).
يقسّم بعض المؤلفين الإنگليزيين استـنتاجات المحاكم في أحكامها إلى قمسين: الأول: استـنتاجات المحكمة التي تهدف المحاكم من خلالها تحقيق الغايات الاجتماعية والاقتصادية([36])؛ والثاني: استـنتاجات المحاكم التي تقصد منها تحقيق العدالة والإنصاف([37])؛ بغضّ النظر عن نتائج حكم المحكمة([38]). إن الإلزامات والمحرّمات تفرض نفسها في ضوء الأفكار الخاصة على أرض الواقع. وإن الانتظام القانوني ونتائج أحكام المحاكم في المجتمع يؤخذان معاً بعين الاعتبار.
2ـ2ـ نظرية «التوجيه القانوني ـ القضائي» وخلق المسؤولية المدنية غير التقصيرية([39])
إن المسؤولية المدنية «للعاقلة»، وما تضمن الحكومة وبيت المال من الدية في مواضع خاصة، وكذلك المسؤولية المدنية للغاصب على أساس القاعدة الفقهية «الغاصب يؤخذ بأشق الأحوال»([40])، والمسؤولية المدنية لأرباب العمل، والمسؤولية المدنية لمالكي وسائل النقل البري المحركي في القانون الإيراني، تعتبر فيها المسؤولية المدنية غير التقصيرية.
والتفاصيل في ذلك خارج عن نطاق هذا المقال. وكل هذه الصور من المسؤولية المدنية مشتركة في نطقة واحدة، وهي أن هذا النوع من المسؤولية المدنية قد تفرض لمقاصد خاصة، ولحماية فريقٍ خاصٍّ من المتضرّرين. وتؤكّد هذه الصور من المسؤولية المدنية على النوع الخاص من النشاط الموجب للمسؤولية أكثر مما تؤكّد على الخصيصة السلوكية لفعل الشخص المسؤول. ويبدو من بعض القوانين أنّ المسؤولية المدنية غير التقصيرية هي في الواقع نوع من التوزيع للخسائر.
3ـ2ـ تفضيل نظرية «التوجيه القانوني ـ القضائي» على نظرية «الخطر»
إنّ العالم القانوني الفرنسي «سالي» عرّف المسؤولية المدنية بأنّها ليست علاقة قانونيّة بين شخصين، بل هي العلاقة بين ملكياتهما([41]). ويمكن القول ـ على عكس ما يعتقد فيه الذين يميلون إلى نظرية «الخطر» كأصل عام ـ بأن علاقة المسؤولية المدنية ليست العلاقة بين ملكيات الأشخاص، أو بين ما في الذمم، ولا يجوز أن يخلط بين ما تؤول إليه المسؤولية المدنية من النتائج، التي هي ضرورة تحميل الخسائر على ملكية الشخص العامل للضرر، وبين كيفية تحقق هذه العلاقة بين الشخصين.
والارتكاز على نتيجة المسؤولية المدنية هو حصيلة عدم التوفيق في التحليل المنطقي لعناصر المسؤولية المدنية. ومن جانب آخر بما أنّه لا تعتبر الأضرار البدنيّة والمعنويّة أضراراً مالية بحتة فلا يؤول الضرر فيها إلى النقيصة في ملكية المتضرر أو ما في ذمّته.
فلذلك نلفت النظر إلى الخصيصة السلوكية للمسؤولية المدنية، قبل العناية إلى النتائج وأثر المسؤولية المدنية في ملكية الأشخاص أو على ما في ذممهم، فيكون محطّ المسؤولية المدنية الفعل المضار في أوصافه الخاصّة. وقد تفطن الذين يعتقدون بـ «نظرية الخطر» إلى أنّه لا يمكن الدفاع عن «نظرية الخطر» دون الالتفات إلى هذه الفكرة، فأدّى هذا الأمر إلى أن لا يُتبع اليوم «نظرية الخطر» في مفهومها المطلق. ولذلك سعوا، مع الاحتفاظ بالخصيصة السلوكية للمسؤولية المدنية، إلى أن يُنكروا ضرورة وجود «التقصير» فيها.
إنّهم قد بذلوا جهوداً ليوفِّروا ضابطاً آخر بدلاً من التقصير؛ لتعيين الشخص المسؤول؛ فذهب البعض إلى عدّ «التصرّف» غير المتعارف سبباً للمسؤولية؛ وذهب البعض إلى الاعتقاد بثبوت المسؤولية للذي أحدث الخطر بقصد الانتفاع والحصول على الفوائد؛ وذهب آخرون إلى ثبوت المسؤولية المدنية للذي يستغلّ الأشياء المولّدة للخطر، أو يُقدِم على النشاطات الموجبة للخطر([42]). ويظهر أنّ الذين يعتقدون بمثل هذه النظريات لا ينكرون الخصيصة السلوكية للمسؤولية المدنية، ولكن ينتقدون ضرورة البحث عن الخصائص النفسية للفعل الموجب للضرر. ويبدو أن السبب في عدم اعتـناق النظرية المطلقة للخطر، والاعتراف بتعديلات فيها، يكمن في الاعتراف بالخصيصة السلوكية للمسؤولية المدنية.
فاليوم تصلح «نظرية الخطر» أن تشمل مواضيع كالمسؤولية المدنية لأرباب العمل الذين يشملهم قانون العمل، والذين يمتلكون وسائل النقل البري المحرّكية وبعض النشاطات المولِّدة للخطر، والمسؤولية المدنية لمنتجي السلع المعيبة وما شابهها، ويمكن الدفاع عن هذه النظرية إلى حدٍ ما في مثل هذه المواضيع.
ولكنّ شمولها لهذه الأمور لا يسلم من الإشكال أيضاً. فعلى سبيل المثال: نسأل: لماذا يحكم نظامان من المسؤولية المدنية على الأعمال التي يشملها قانون العمل وعلى عقود العمل التي لا يشملها؟ ولماذا يحكم نظامان من المسؤولية المدنية على الأحداث الناتجة عن وسائل النقد البري المحرّكية وعلى الأحداث التي تـنتج من العربات غير النارية والدراجات؟
نحن وضعنا النقاط على الحروف، ووضّحنا ما خفي من الأفكار الأساسية في المسؤولية المدنية. ومما غفل عنه مشايعو نظرية الخطر في المجالات التي يبدو أنها متلائمة مع هذه النظرية:
أولاً: إن المسؤولية المدنية غير التقصيريّة ليست من «الماهيات المهملة»، بل هي من «الماهيات بشرط شيء»، أي إن الماهيات باعتبار أن يكون لها ذات مستقلة أو ذات متعلقة بأمر آخر تقسّم إلى أقسام مختلفة([43])، فإذا كانت هذه الماهيات تحتاج في تحققها إلى أمر خارجي تكون من «الماهيات بشرط شيء»؛ لكن إذا كانت ـ بعض النظر من أي أمر آخر ـ لا تحتاج إلى أمر خارجي لتتحقق ذاتها فإنها تعتبر من الماهيات المهملة أو «الماهيات لا بشرط». الأمر البسيط هو أمر يتمتع في ذاته بالخلوص والأصالة، ولا تتدخّل فيه العناصر الأجنبيّة والغيريّة.
إن المسؤولية المدنية غير التقصيرية تتحقق بواسطة التدخل التشريعي في أرضية لا يوجد فيها مثل هذه المسؤولية، طبقاً للعمومات، فيعتبر التدخل التشريعي بالنسبة إلى أرضية عامّة للمسؤولية المدنية أمراً خارجياً، فيتحقق بواسطة هذا التدخل نتائج لا تتـناسق في ذاتها مع ذات المسؤولية المدنية البسيطة العامة.
إن التدخل التشريعي ونتيجته، أي المسؤولية المدنية المفروضة، لا تعتبر نتيجة الضرورة المنطقية، بل هي اتجاه حمائي يقصد منها الرعاية الاجتماعية، وإن هذه الاتجاه يلوح واضحاً للباحث المتتبع، فنرى أن هذا التكثر في ذات المسؤولية المدنية لا يُلتفت إليه في «نظرية الخطر». ولذلك يبدو أن «نظرية الخطر» لا تتمتع بالاستقلال، بل تـنتمي إلى نظرية «توجيه القانوني ـ القضائي»، التي سوف نبيِّنها لاحقاً.
ثانياً: إن «نظرية الخطر»، وبشكل عام النظريات التي تعرّف السببية كأساس المسؤولية المدنية، يوجد فيها نقص فالج (في إسناد المسؤولية المدنية؛ إذ إن الأسباب متعدّدة)، ونحن نعلم أن الأسباب والشرائط المتـنوعة قد تؤدّي إلى الضرر، فضابط السببية يرشِّح العديد منها لتحمل المسؤولية المدنية، ولا يمكن أن نحمِّل المسؤولية المدنية على سببٍ خاص، إلاّ أن نستعين بالاستـناد إلى معايير «سلوكية» أخرى في تعيين العامل والسبب الذي أدّى إلى الضرر.
إنّ هذه المعايير توضّح لنا «التوجيه» في السببية([44]). ففي نهاية المطاف يستعان بمعايير أخرى كي يعرف السبب المسؤول لنحمّل عليه المسؤولية المدنية. ومن أجل هذا قدّم موافقو «نظرية الخطر» معايير، بما فيها «الخطر غير المتعارف» و«الانتفاع المادي من النشاط» الموجب للخطر.
ثالثاً: لا يمكن الادعاء بأن «نظرية الخطر» فيها الكفاية المطلوبة لتشمل جميع المواضيع للمسؤولية المدنية غير التقصيرية في القانون الإيراني؛ لأنّه لا يمكن لهذه النظرية أن تشمل مثل مسؤولية «العاقلة» المدنية، الذين لا علاقة لهم من الناحية السببية بالحادث المؤدّي إلى الجناية، ولم يحضروا المكان الذي حدثت فيه الجناية خاصة.
إن القانون المدني الإيراني، في المادة (303) وغيرها من المواد، قد قرّر المسؤولية المدنية المطلقة لصاحب «اليد» غير المستحقة في تصرف مال الغير، ولو كان جاهلاً بعدم استحقاقه فيه. ولو سلّم المال صاحب اليد الجاهل بعدم الاستحقاق إلى غيره فحق رجوع المالك إلى المتصرف الأول ثابت لو تلف المال، ولو كان التلف بآفة سماوية أو القوة الجبارة.
كيف يمكن إسناد الخطر إلى المتصرِّف الأول الذي لا علم له بعدم استحقاقه، ولا علاقة له بالحادث الموجب للضرر؟ إننا قد بيّنّا نقاط الضعف في الأساس النظري لهذه المادة من القانون المدني الإيراني في مقالٍ آخر([45]).
وبغض النظر عما أشرنا إليه من الإشكال، لو اعتمدنا على نظرية «الخطر مقابل الانتفاع»، واعترفنا بها، فإنها لا تشمل إلاّ قسماً صغيراً من أبعاد الحياة، أي النشاطات الاقتصادية والاستغلال لوسائل النقل البري المحرّكية، لو كانت هذه النشاطات والوسائل تستغلّ بغرض الانتفاع المادّي؛ لأن المسؤولية المدنية الناتجة عن النشاطات الاقتصادية الصناعية مفروضة إزاء العمّال والذين لهم علاقة بالعمل والمعمل، ويركّز على الأضرار البدنيّة والنفسيّة خاصة.
3ـ كيفية تطبيق النظريات الموجّهة في المسؤولية المدنية
إن تطبيق النظريات الموجّهة في مجال المسؤولية المدنية ـ وبشكل عام نظرية «التوجيه القانوني ـ القضائي» ـ يتيسّر بطريقين: أحدهما: قيام القضاء بتطوير المفاهيم الأساسيّة في صعيد المسؤولية المدنية؛ والثانية: قيام المشرّع بفرض المسؤولية المدنية غير التقصيرية أو التخفيف في المسؤولية المدنية.
1ـ3ـ التدخل التشريعي المباشر في فرض المسؤولية المدنية غير التقصيرية
ينظر الشارع إلى المسؤولية المدنية غير التقصيريّة نظرة آلية في تخصيص الموارد الاقتصادية، أعم من الفائدة الاقتصادية أو تكاليفها، ومن هذا المنظر ـ واعتماداً على المؤشرات السلوكية الاقتصادية ـ يعيّن القانون الشخص المسؤول للتعويض عن الضرر أو تحمُّل التكاليف.
إن توزيع خطر الخسائر أو أية كلفة تتعلق بأي فعل لا يمكن أن نفهمه بسهولة، بل يجاب على مسألة تخصيص التكاليف في ضوء الفلسفة السياسية الحاكمة على التوزيع الصائب للأخطار، ليتحقق في خاتمة المطاف هذا المهم عن طريق تخصيص المسؤولية المدنية.
ويمكننا عبر هذا الطريق أن ننال بعض الغايات الأخرى، وتحقيق الإصلاحات الاجتماعية والأغراض الاجتماعية على صعيد المسؤولية المدنية. فهذه الطريقة توفّر الدعم لبعض النشاطات الاقتصادية الخاصة، وتوفّر أيضاً إمكانية الرعاية الاجتماعية لمجموعات أو طبقات خاصة، بما فيها العمّال أو الذين هم في معرض المخاطر في الصناعات الخاصّة. وإليكم جملة من الأمثلة، وخاصة في التشريع الإيراني:
إنّ المشرِّع الإيراني، في المواد (305) و(306) من القانون الجزائي الإسلامي (عام 1370هـ ش)، قد حمل المسؤولية المدنية على «العاقلة» في الجنايات الخطئية المحضة الموضحة فما فوقها؛ وفي المادة (12) من قانون المسؤولية المدنية (عام 1339هـ ش) قد حمّل المسؤولية المدنية الناشئة عن حوادث العمل على أرباب المعمل. والأمثلة القانونية كثيرة في هذا المجال، بما فيها التشديد القانوني على الغاصب في المادة 315 من القانون المدني، وفرض المسؤولية المدنية الناشئة عن حوادث الطريق على أرباب وسائل النقل البرّي المحرّكية في المادة الواحدة من القانون (عام 1347هـ ش).
وقد تظهر مما ذكرنا أن التغيّر في الصفة العامّة لنظام المسؤولية المدنية في هذه المواضيع يتحقق بواسطة التدخل التشريعي المباشر، وفي ضوء التطبيق التشريعي للنظريات الموجّهة؛ بغرض إنهاض نظام المسؤولية المدنية في تحقيق الغايات الاجتماعية.
2ـ3ـ التدخل التشريعي المباشر في تخفيف المسؤولية المدنية
إذا كان شخص ما مسؤولاً عن تعويض الضرر فهل يمكن للمشرِّع أن يخفِّف من مسؤوليته المدنية؟ يمكننا الإجابة عن هذا السؤال بقولنا: إذا اعترفنا بإمكانية التدخل التشريعي في المسؤولية المدنية، واستخدامها كآلةٍ لتوزيع الموارد الاقتصادية، فائدةً كانت أم ضرراً، وبواسطة هذه الطريقة تتحقق الغايات الحمائية، فلا فرق بين الزيادة في المسؤولية المدنية والتخفيف منها.
لقد قرّرت المادة (7) لقانون المسؤولية المدنية (عام 1339هـ ش) التخفيف في المسؤولية المدنية لفريق من حضنة الأطفال إذا كان الضرر الناتج عن فعل الطفل نتيجة التقصير في الرقابة والمحافظة من جانب الحاضن. فلا يجوز أن يؤدّي التعويض عن الضرر إلى العسرة والمسكنة في جانب الحاضن المقصِّر. والحكم في هذه المادة من القانون المدني ينشأ من الإنصاف، ولولاه لا يمكن للمحكمة أن تُخفِّف من المسؤولية المدنية للحاضن المقصِّر.
3ـ3ـ نظرية «التوجيه القانوني ـ القضائي» وتطوير المفاهيم في المسؤولية المدنية
تعتبر المسؤولية المدنية في النظرة التقليدية إليها وسيلة للقضاء في دعاوى المتضررين، ولتعويض الضرر عنهم، ولا تهدف المحكمة غير غاية واحدة، وهي إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الضرر. لكن بواسطة تطبيق نظرية «التوجيه القانوني ـ القضائي»، واعتماداً على طريقة تخصيص المسؤولية المدنية، تستخدم المحكمة القواعد التقليدية، غير أنّ المفاهيم التقليدية تتأثر بالاتجاه الحديث و«التوجيه القضائي»، لتتطوّر المفاهيم التقليدية إلى مفاهيم جديدة في مسار تحقيق الغايات لهذا الاتجاه، فيصعب فهم الاتجاهات القضائية الناظرة إلى النيل من هذه الغايات، دون العناية بالغايات والاتجاهات في تخصيص المسؤولية المدينة.
1ـ3ـ3ـ نظرية أصالة الفائدة([46]) في القانون الإنگليزي
الوظيفة الرئيسيّة لحقوق المسؤولية المدنية الإنگليزية من خلال هذه الرؤية، بغض النظر عن ما تقتضيه العدالة، تكون تخفيف الكلفات الاجتماعية للحوادث، وكذلك تخفيف الكلفات للابتعاد عنها. اعتمد مجلس الأعيان في إنگلترا على الفائدة الحاصلة من الفعل لتمييز الفعل الموجب للمسؤولية عن الفعل المجاز. يجب أن تكون الفائدة الاجتماعية للفعل بحدٍّ يبرز خطر الضرر الحاصل من ذلك الفعل، فيسمى هذا الخطر «الخطر غير المتعارف»([47]).
«إذا خفّفت كل القطارات في هذا البلد سرعتها إلى 5 أميال تقلّ الحوادث، لكنّ الحياة العامة ستواجه الشلل. إذا كان الغرض من نشاط خاص يحظى بالأهمية فإن ذلك يبرّر استقبال ما هو غير معتاد من الخطر…»([48]). يجب أن تلاحظ المحكمة كلفات المجتمع التي تترتب على الإلزام بترك الأفعال النافعة للمجتمع بشكل عام. ففي معادلة (الفائدة ـ الكلفات)([49]) لا يتضمن أيّ نشاط مشتمل على الخطر توجد فيه الفائدة الاجتماعية تكليفاً للاحتياط والحذر المهمّة، فلا تـنشأ منه المسؤولية المدنية. لا يكون التكليف بالاحتياط إزاء الآخرين تكليفاً مطلقاً كي يستلزم عدم مراعاته المسؤولية المدينة في كل حالٍ؛ لأنه يمكن أن تكون كلفات الاحتياط بالنسبة إلى أهمية الخطر غالية جداً([50]).
قد ينسب إلى التقصير بواسطة تطبيق النظريات الحديثة غاية خاصة. إن نظرية التقصير تكون ذات صلاحية للتطابق مع النظريات الاقتصادية، أي يجب وجود نوع ملاءمة بين الخطوات الاحتياطية الضرورية وكلفات الابتعاد عنها، فلا يتوقع القيام بالخطوات الاحتياطية الغالية التي تكلف المجتمع أضراراً كبيرة.
إن طريقة تقويم النتائج ينسب إلى «التقصير» مفهوماً خاصاً. وهذه هي الفوائد والمصارف التي تبيّن ما هو المتعارف؟ وهل يُبرَّر الخطر في مثل هذه الظروف؟ فإحدى الطرق التي تزيد من تأثير تخصيص الموارد الاقتصادية بواسطة المسؤولية المدنية الاعتراف بالمسؤولية المدنية للذي يستطيع أن يمنع من الحادث بأقل المصارف([51]).
وتقلّ في هذه النظريات أهمية الخصيصة السلوكية للمسؤولية المدينة. ولو أننا نلتفت إلى السلوك الذي يوفّر الأكثر من الفوائد الاقتصادية للمجتمع فستكون هذه النظريات آلة للزيادة في الفوائد والثروات لصالح العامة، وتقود المسؤولية المدنية في هذا الاتجاه أيضاً.
ونستطيع القول بأنها تتضمن المفاهيم المركبة من «العدالة الإصلاحية» و«العدالة التوزيعيّة»، كما زعمها أرسطو الحكيم اليوناني.
إن معادلة الفائدة ـ الكلفة([52]) قد واجهت في الولايات المتحدة الأمريكية إقبالاً أكثر. ومع هذا تواجه المحاكم مشاكل كثيرة من ناحية حساب الكلفات والفوائد. وعلى سبيل المثال: كيف يمكن أن ننظر إلى الملاحظات المرتبطة بالانتظام العام ككميّة خاضعة للحساب؟ فيطلب هذا الحساب الوسائل الملائمة لها، ويمكن أن لا يكفينا هذا الحساب الخبراء الاقتصاديين بسهولة؛ إذ إن هذه الطريقة تـنبع من الاقتصاد المبنيّ على الرفاهية والرخصة في العيش والذي ينظر إلى النظم القانونية كآلة للازدياد في التخصيص الهادف لموارد المجتمع، أي إن دور الحقوق في هذه الطريقة دور آليٌّ([53]).
كانت حقوق المسؤولية المدنية الإنگليزية مركز التطوّر في النظريات الاقتصادية القانونية، وكانت مجالاً ملائماً للنقاش بين علماء عالم «كامن لو». لكن المساعي الأكاديمية قد تخلصت قليلاً من مصفاة المحاكم الإنگليزية([54]). وفي الحقيقة يستفاد من التحليل الاقتصادي في تبيين مفهوم التكليف بالاحتياط والحذر([55])، الذي يشكل نقضه أساس الإهمال والتقصير([56]).
إن الفائدة الاجتماعية للسلوك، على غرار الكلفات للخطوات التأمينية، قد دخلت في الهيكلية المفهومية للإهمال والتقصير([57])، فنرى أن استغلال التحليل الاقتصادي كان محفوفاً بالاحتياط البالغ.
إنّ مفاهيم الأخلاق والعدالة التقليدية قد واجهت معارضة جدية من جانب الاقتصاديين والقانونيين الذين تدرّبوا في العلوم الاقتصادية في الولايات المتحدة الأمريكية. وكذلك لم تَبْقَ نظرية أصالة الفائدة سليمةً من النقد؛ لأنها لم تستطع أن تأخذ «الحق» بعين الاعتبار والجد. فمن هذه الرؤية نرى «الحق» في مقابلة الضروريات للمجتمع متكسراً في الغاية. ويمكن أن يُستَغَلَّ المواطن ويُستثمر لمصالح الآخرين. ففي رؤية فائدية لا يكون المواطن المصدر النهائي للقيم الأخلاقية([58]).
وعلى أية حال فالذين يعتقدون بأصالة الفائدة، وخاصة الأخصائيون في الحقوق الاقتصادية، يدّعون أنه برغم من قلة في جاذبية نظرية أصالة الفائدة فإنها تشكّل أساس القانون الإنگليزى وسياستها، ويبيّن المفاهيم الحقوقية، وخاصة حقوق المسؤولية المدنية، بشكل أفضل([59]).
إن هذه الرؤية تجاه حقوق المسؤولية المدنية واجهت النقد الشديد في السبعينات لجهة التحليل الاقتصادي وآثاره ونتائجه من جانب أولئك الذين يعتقدون أن حقوق المسؤولية المدنية له أساس رصين في الصعيد الأخلاقي. وقد ظهر في عامي 1982 و1983 حجم عظيم من النقد، ويعتبر من مراحل التطوّر في القانون الإنگليزى؛ لأنه كان أوّل معارضة متـناسقة من جانب العلماء في المستويات العليا؛ لصيانة أفضل النظريات الاقتصادية المبتـنية على الفائدة والتعاليم النظرية الحاكمة([60]).
2ـ3ـ3ـ نظرية «التوجيه القانوني ـ القضائي» والتطور في مفاهيم المسؤولية المدنية في القضاء الإيراني
إن القضاء في إيران لم يعتـن بشكل جدّي بهذا الأمر. وطبقاً لمادة (3) من قانون القضاء المدني 1379هـ ش يجب على المحكمة أن تحكم على طبق النصوص القانونية والأصول القانونية، وفي صورة إجمالها طبقاً للمصادر الإسلامية المعتبرة.
فلا يوجد في القوانين ـ إذا استقرأنا فيها ـ ما نُسنِد إليه التطبيق القضائي للنظريات المبتـنية على الفائدة. ويبدو أن المحاكم الإيرانية لم تستعد لتطبيق «التوجيه القضائي» في هذا الخصوص.
وهنا نسأل هل نستطيع أن نستخدم نظرية «التوجيه القضائي» المبتـنية على أصالة الفائدة في إطار دور العرف في تفريع قواعد المسؤولية المدنية، ومن هذا المنطلق نطور مفاهيم المسؤولية المدنية؟ فنرى أننا نستطيع أن نستـنبط بوضوح من نظرية «الشخص المتعارف» المفهوم الانتزاعي المستتر، أي «المصلحة الاجتماعية».
تتضمن نظرية «الشخص المتعارف» هذا المعنى، أي أن الحقوق يجب أن تحرّض السلوك العقلائي، وتقف دون السلوك غير العقلائي. ونستطيع أن نؤكِّد قاطعين بأن السلوك الذي يتضمن الخسارة الاجتماعية لا يؤيِّده العرف؛ لأن العرف يطلب من المواطنين أن يتركوا كل سلوك لا يتضمن المصالح الاجتماعية، فالرعاية المتعادلة للمواطنين تستلزم ترجيح المصالح الاجتماعية على المصالح الشخصية.
ومن جانب آخر فإن الأصل (41) من الدستور الإيراني لا يسمح لأحد أن يمسّ المصالح الاجتماعية بمبرِّر استيفائه الحق الفردي.
فإذا كان الحفاظ على المصالح العامة يقتضي التضييق في استيفاء الحق الفردي فبطريق أولى يحرّض القانون السلوك الذي له فوائد أكثر للمجتمع، ويفضّله على السلوك الذي له فوائد أقل.
ومن هذه الرؤية يجوز لنا أن نؤكّد على حماية السلوك النافع للمجتمع. وعلى هذا الأساس يتمتع الاتجاه المبتـني على الفائدة بالدعم النظري القوي. ولنعترف أن هذه الفائدة ليست فائدة اقتصادية فحسب، بل في هذا المنطلق يجب أن نأخذ بعين الاعتبار مجموعة مركبة ومتلائمة من المثل الاجتماعية العليا والفائدة الاقتصادية وما يقتضيه النظام العام في المعايير الأخلاقية.
إذاً هذا الاتجاه الموجِّه يحظى بمساندة العرف وأصالة ترجيح المصالح العامة على المصالح الفردية في الدستور.
ونستطيع أن نفسّر المفاهيم الأساسية للمسؤولية المدنية في اتجاه المصالح العامة، فيجب الاحتياط وملاحظة جميع الجهات في اتخاذ أي اتجاه موجّه في التفسير والتطوير لمفاهيم المسؤولية المدنية.
يبدو أن إمكانية استخدام «التوجيه القضائي» في حقوق المسؤولية المدنية؛ للوقوف دون السلوك الضار الخاص، متوفرة. إذاً هناك مشابهة قليلة موجودة بين وظيفة المسؤولية المدنية وبين وظيفة القانون الجزائي في الردع، دون السلوك الممنوع في كلا المجالين. لكن لننتبه أن المسؤولية المدنية لن تتراجع من جديد إلى التكلف في لعب دور معاقبة السلوك الضار بعدما تباعدت عن القانون الجزائي شيئاً فشيئاً عبر التاريخ.
النتيجة
كانت المسؤولية المدنية في القانون الإيراني تابعةً للعرف عبر تاريخها. وكثيرٌ من قواعد المسؤولية المدنية مبتـنية على سيرة العقلاء والعرف. إن التعدي والتفريط من حيث المجموع يعتبران ضوابط لما هو «المتعارف» أو «المعتاد». وقد استخدمت هذه الرؤية في صورة نموذجيّة، أي «الشخص المتعارف» في النظم القانونية المتقدمة كذلك.
ونحن في هذا المقال خلصنا إلى أن الصور الخاصة والشاذة من المسؤولية المدنية غير التقصيرية تكون في الاتجاه التوزيعي، ومتأثِّرة بنظرية «التوجيه القانوني ـ القضائي»، بواسطة التدخل الحكومي التشريعي في طريق تحقيق الغايات الاجتماعية والحمائية. وهناك ما يكفي من الأدلة للتباعد عن الأساس العام للمسؤولية المدنية في هذه المجالات.
إن حقوق المسؤولية المدنية في إيران قد تفرض المسؤولية المدنية على أشخاص غيّب حين وقوع الحادث. إن هذا التطور لا يمكن الابتعاد عنه، ويكون مطلوباً إلى حد ما.
إن المسؤولية المدنية في هذه المجالات قد بنيت على طريقة تسويق الضرر إلى الذين علاقتهم ضعيفة بالنسبة إلى الحادث الموجب للضرر.
هذا الاتجاه الموجِّه قد يتحقق بشكل مباشر، وبواسطة فرض المسؤولية المدنية غير التقصيرية (المادة 315 من القانون المدني الإيراني)، والمادة 12 من قانون المسؤولية المدنية)، وفي الموارد (305) و(306) من القانون الجزائي الإسلامي (عام 1370هـ ش)، ضمان «العاقلة» في الجنايات الخطئية المحضة، وغيرها من القوانين؛ وقد يتحقق بشكل مباشر من طريق تطوير المفاهيم الأساسية للمسؤولية المدنية. وفي بعض البلدان تطور مفهوم «التقصير» من «المفهوم الاجتماعي» إلى «المفهوم الاقتصادي»؛ نتيجة تطبيق نظرية «أصالة الفائدة».
ويستطيع القضاء الإيراني أن يستخدم النظريات الموجِّهة لتطوير المفاهيم الأساسية للمسؤولية المدنية الرامية إلى التحريض على السلوك النافع للمجتمع، وفي تحقيق الفائدة الإجتماعية والاقتصادية في إطار الدور البنّاء للعرف وأصالة أفضلية المصالح العامة على المصالح الفردية المأخوذة من الأصل (41) من الدستور الإيراني. ولنعترف أن التتبع لأي اتجاه موجِّه في التفسير والتطوير للمفاهيم الأساسية للمسؤولية المدنية يجب أن يحقق في صورة متفاوتة عما يجري في بعض البلدان، ويجب أن تكون متـناسقة ومتلائمة مع القيم الاجتماعية الإسلامية، وفي صورة بالغة الاحتياط، وبالمراعاة للجوانب المختلفة؛ كي لا يمسّ من هذا القيم أو المباني الأساسية للحقوق الإسلامية.
الهوامش
(*) عضو الهيئة العلمية في جامعة طهران، پرديس قم.
([1]) كثير من الآثار المكتوبة في مجال فلسفة القانون الإنگليزي قد ركّزت على «الفعل» (Act) ليكون له الدور الأساسي في المسؤولية المدنية. وتشمل هذه الآثار عناوين مثل:
Act as the basis of liability, Act as foundation of legal liability.
([4]) B.S. Markesinis S.F. Dakin, Tort Law, 1998, 4th edn, Clarendon Press, P.18.
([8]) Margaret. Brazier, Street on Torts, 8th edn, 1982, Butterworth’s, p.198.
([9]) David G. Owen, Philosophical Foundation of Tort Law, Oxford. 1995 p.8.
([14]) المواد 952 و953 من القانون المدني الإيراني.
([17])Margaret. Brazier, op.cit p.201.
([20]) Margaret. Brazier, op.cit p.201.
([22]) الشيخ مرتضى الأنصاري، المكاسب 2: 436، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1995.
([23]) دكتر ناصر كاتوزيان، وقايع حقوقى، الشركة المساهمة: 50، انتشار، ط11، 1385هـ ش (باللغة الفارسية).
([24]) للتفاصيل حول المعايير العرفية في القانون الإنگليزي راجع: شرح الدعاوى المذكورة في المصادر التالية:
Hepple & Matthews, Tort, Cases & Materials, 4edn Butterworth’s p248, 250, 268, 276, 329
Clasgow corpn V. Muir (1943) Ac. 448
Bolton. V. Stone Hose of Lords (1951) 1 All ER 1078
Haley. V.London Electricity Board hose of Lords (1964) 3All ER 185
Morton. V. William Dixon Ltd Court of Session 1909.
([25]) ميشل لور راسا، المسؤولية المدنية: 41، ترجمه إلى الفارسية: الدكتور محمد الأشتري، منشورات حقوقدان، 1375هـ ش.
([27]) Vivienne, Modern Tort law 5thedn 2003 Cavendish, publishing Limited, p.116.
([33]) George p. Flecther, Basic Concepts of Legal Thought, Oxford, 1996, p. 80.
([35]) Vivienne.H, op.cit, p.30.
([40]) السيد أحمد الخوانساري، جامع المدارك في شرح المختصر المنافع 5: 210، مكتبة الصدوق، ط2، 1405هـ.
([41]) Mazeaud, Lecons de droit civil, T. I, Spetime edition, Montchrstien, Paris, 1985, p.421.
([42]) للتفاصيل راجع: الدكتور ناصر كاتوزيان، إلزامهاى خارج از قرارداد، المجلد الأول، جامعة طهران، 1374هـ ش (باللغة الفارسية).
([43]) محمد رضا المظفر، أصول الفقه: 174، الطبعة الرابعة، 1370هـ ش.
([45]) مجلة المطالعات الإسلامية، جامعة فردوسي، رقم79، عام 1387هـ ش، «مباني نظري مسؤوليت مدني متصرف در مال غير» (باللغة الفارسية).
([46]) Utilitarian – efficiency.
([47]) Mullis & Oliphant, Torts, 3th edn, 2003, polgrave, p.126.
([48]) Dobarn. V. Bath Tramways… [1964] 2 All ER 336 CA, Margaret Brazier, op.cit, p.197.
([50]) Mullis & Oliphant, op. cit p.226.
([51]) B.S. Markesinis…, op.cit p.29.
([54]) B.s. Markesinis op.cit p.24.
([58]) George, P.Flether, op.cit, p.146.