أ. د. إبراهيم عاتي(*)
تمهيد:
حينما ظهر الإسلام دين هداية للناس كافة جاء بنسق متكامل من التشريعات والقيم الخلقية التي تـنظم حياته الفردية والاجتماعية وتكفل له السعادة في الدارين.
لكنه لم يشأ أن يفرض تلكم القيم من الخارج، بل مهد لها أرضية الذات الكامنة عند كل فرد، وذلك بتعميق نوازع الخير الموجودة عند الإنسان وتـنميتها، حيث تحقق الأفعال الصادرة عن الإنسان المسلم الانسجام بين الذات والموضوع أو بين الفرد والجماعة.
ويزخر القرآن الكريم بالعديد من الآيات التي تحض على فعل الخيرات، وأعمال البر، والمعروف، والصدقات، ومساعدة المحتاجين والإحسان إليهم. قال تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لأنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللهِ} (البقرة: 110)؛ {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ} (البقرة: 215)؛ {لَن تـنالُواْ البِرَّ حَتَّى تـنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران: 92)؛ {لَّيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَالمَلائِكَةِ وَالكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ..} (البقرة: 177)؛ {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء} (البقرة: 261)؛ {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 274)؛ {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم} (التوبة: 103)؛ {يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (البقرة: 276).
ونلحظ في هذه الآيات الكريمة تشجيعاً للإنسان المسلم على أعمال الخير بوجه عام، وعلى الصدقات بوجه خاص، كنوع من التكافل الاجتماعي الذي يجعل من حل مشكلة مسؤولية المجتمع كما هي مسؤولية الدولة. وقد شكلت تلك الدعوة في حد ذاتها دافعاً رئيساً للإنسان المسلم على العمل الخيري الواسع، الذي يعتبر الوقف أحد مظاهره الواضحة.
الوقف في مسيرة الحضارة الإسلامية
لقد قام الوقف بدور مهم في الحضارة الإسلامية، وخاصة في مجالات التعليم، والصحة، والاقتصاد، والأعمال العسكرية الدفاعية التي تدخل في باب الجهاد، وغير ذلك، حيث كانت توقف العقارات والأراضي الزراعية للمساجد، والمدارس، والجامعات الإسلامية الكبرى، في بغداد، والنجف، وقم، والقاهرة، وفاس، وغيرها من بقاع العالم الإسلامي، مما ساهم بشكل فعال في انتشار التعليم وتقدمه، الذي صار محط أنظار العالم حتى مطلع العصور الحديثة، حيث ترجمت كتب الفلاسفة والعلماء المسلمين إلى اللاتينية، فتعرّف الغرب على مؤلَّفات ابن سينا، وابن زكريا الرازي، في الطبّ، والكنديّ في الفلك، وجابر بن حيّان في الكيمياء، والخوارزمي في الرياضيات، وكثيرين غيرهم ممّن أثَّروا في نقل أوروبا من العصور المظلمة التي كانت تسودها الخرافة والتفكير الأسطوري إلى عصر النهضة العلمية الحديثة.
وكانت المكتبات الكثيرة التي أُنشئت من قبل العلماء والحكام والوزراء وذوي اليسار ومحبي جمع الكتب، ثم أوقفت لتقدم خدماتها للقراء، مظهراً من مظاهر العمل الخيري الذي يساهم في نشر المعرفة وتـنميتها. وكم لاحظنا أشخاصاً أفنوا أعمارهم وتحملوا المشاق في جمع الكتب المطبوعة والمخطوطة من بلدان مختلفة، ثم أوقفوها على القراء حباً وكرامة.
والشيء نفسه يمكن أن يقال بالنسبة للوضع الصحي، وتأسيس المستشفيات، والمعاهد الطبية، والصرف عليها من الأعيان الموقوفة لها.
ماهية الوقف
الماهية هي جوهر الشيء أو حقيقته التي يكشف عنها التعريف، وبهذا المعنى فالوقف هو «تحبيس العين أو فك ملكها، وتسبيل المنفعة أو الانتفاع؛ أو هو المال الذي أخرج عن الملكية الشخصية وجعلت منفعته لأفراد مخصوصين أو للأمور الخيرية»([1])؛ أو هو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة. فإذا وقف الفرد شيئاً من أملاكه زال ملكه عنه إذا قبض الموقوف عليه أو من يتولى عنه، وإن لم يقبض الوقف لم يخص الوقف ولم يلزم، فهذان شرطان في صحة الوقف. فمتى لم يقبض الوقف ولم يخرجه من يده، أو وقف ما لا يملكه، كان الوقف باطلاً، فإذا قبض الوقف فلا يجوز الرجوع له فيه بعد ذلك، ولا التصرف فيه ببيع ولا هبة ولا غيرها، ولا يجوز لأحد من ورثته التصرف فيه([2]).
والوقف عند صاحب «اللمعة» هو تحبيس الأصل، أي جعله على حالة لا يجوز التصرف فيه شرعاً، وإطلاق المنفعة([3])؛ أو هو عقدٌ ثمرتُه تحبيس الأصل وإطلاق المنفعة([4]).
وعرفه الشيخ القليوبي الشافعي بأنه حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه على مصرف مباح.
أما الفقيه المالكي ابن عرفة فالوقف عنده إعطاء منفعة شيء، مدة وجوده، لازماً بقاؤه في ملك معطيه ولو تقديراً.
وعند ابن قدامة الفقيه الحنبلي فإن الوقف هو تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة.
كما يعرفه أبو حنيفة بأنه حبس العين على ملك الواقف، والتصدق بمنفعتها إلى من أحب([5]).
والناظر في تلك التعريفات للوقف في المذاهب الإسلامية المختلفة، وداخل المذهب الواحد، يلاحظ اتفاقها في القاسم المشترك، وهو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، مع الاختلاف في التفاصيل التي تشير إلى القرائن التي تميزه عن غيره من العقود والصدقات، كالهبة والإبراء، رغم أن التعريفات السابقة، كما يرى بعض الفقهاء، ليست بتعريفات تامة؛ لأنها تذكر شيئاً من خصائص الوقف، أو إنها تعريفات لفظية موافقة للحديث الوارد عن النبي‘: «حبِّس الأصل وسبِّل الثمرة»، وإلا لانتقض بالسكنى وأختيها ـ أي الرقبى والعمرى ـ والحبس، وهي خارجة عن حقيقته. لكن الشيخ صاحب «الجواهر» يرى أن المقصود من أمثال هذه التعريفات هو التمييز في الجملة، فلا ينبغي نقض تعريف المصنِّف ـ المحقق الحلي ـ بالسكنى وأختيها والحبس([6]).
وعلى الرغم من اختلاف الفقهاء في تعريف الوقف فإن الوصول إلى تعريف جامع مانع له ليس بالأمر العسير، وخاصة إذا استخدمنا المنهج المنطقي المتبع في هذا المضمار، بجمع الأمثال ومنع الأغيار.
الوقف عمل خيري مستمر
لقد اعتبر الوقف في جملة الصدقات؛ بدلالة الحديث المشهور: «إذا مات المؤمن انقطع عمله إلا من ثلاثة: ولد صالح يدعو له، وعلم ينتفع به بعد موته، وصدقة جارية».
وقول الإمام الصادق×: «ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلا ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته، وهي تجري بعد موته؛ وسنة هدى سنّها يعمل بها بعد موته؛ وولد صالح يدعو له».
ولعل التعبير عن الوقف بالصدقة هو الغالب في الحديث والروايات، ولفظ الصدقة يتسع له ولغيره من أعمال البر والإحسان والزكاة، ولكنه يتعين منها عندما يقال: صدقة جارية، أي مستمرة، في مقابل غيره من الصدقات التي تحصل بين الحين والآخر، ولمناسبات محدودة خاصة([7]).
وهو ما يعطي للعمل الخيري في الإسلام طابع الاستمرارية الذي يشمل أجيالاً متعاقبة، مما يعد حجر الأساس في ما يسمى بالتـنمية المستدامة.
أركان الوقف
إن أركان الوقف أربعة: الصيغة؛ والواقف؛ والعين الموقوفة؛ والموقوف عليه.
1ـ صيغة الوقف
اتفق الفقهاء على أن الوقف يتحقق بلفظ «وقفت»، لأنه يدل على الوقف صراحة، وبدون قرينة لغةً وشرعاً وعرفاً، لكنهم اختلفوا في تحققه بلفظ «حبست؛ وسبّلت؛ وأبَّدت»، وغير ذلك. والحق أنه يقع ويتم بكل لفظ يدل عليه، حتى باللغة الأجنبية؛ لأن الألفاظ ـ هنا ـ وسيلة للتعبير، وليست غاية في نفسها([8]).
وقد عبر المحقق الحلي عن الاختلاف المشار إليه فذهب إلى أن الوقف يتم بصيغة «حبَّست؛ وسبَّلت» بدون قرينة؛ استـناداً لقوله ‘: «حبّس الأصل، وسبِّل الثمرة»، لكن هناك من اشترط وجود القرينة لتحقيق صيغة الوقف. وقد أفاض الشيخ النجفي في «الجواهر» في شرح هذه المسألة([9]).
وتثار هنا قضية المعاطاة، وهل يتم الوقف بالفعل دون ذكر الصيغة، كمن بنى مسجداً، وأذَّن للصلاة فيه، أو أذِن بالدفن في قطعة أرض بنيّة وقفها مقبرة، أو لا بد من النطق، ولا يكفي مجرد الفعل؟ وعلى الرأي الأول جماعة من كبار الأمامية، بينما خالف الشافعية ذلك، ورأوا أن الوقف لا يتم إلا بالصيغة اللفظية([10]).
كما تبرز أيضاً مسألة القبول، فهل يحتاج الوقف إلى قبول، أو يكفي فيه مجرد الإيجاب؟ وقد اختلف الفقهاء هنا تبعاً لاختلاف الوقف؛ وكونه غير معين، كالفقراء والمسجد والمقبرة، أو معيَّناً، كالوقف على الأولاد أو ما شابه. وتتفق المذاهب الأربعة على أن غير المعين لا يحتاج إلى قبول، وذهب المالكية والحنابلة إلى أن المعين لا يحتاج أيضاً إلى قبول. أما عند الإمامية فهناك من ذهب إلى اشتراط القبول في جميع الحالات، بينما ذهب آخرون إلى احتياجه في غير المعين فقط، وهو القول الراجح عند الشافعية([11]).
وهناك موضوع التـنجيز الذي يعني انعقاد المعاملة أو العقد حين إنشائه، وترتيب أثره بعد تمام العقد. وقد ذهب أكثر الإمامية إلى وجوب التـنجيز وعدم جواز التعليق؛ وذهب المالكية إلى جواز تعليق الوقف على شرط، كقول المالك: إذا جاء الوقت الفلاني فداري وقفٌ؛ بينما رفض الحنفية والشافعية ذلك؛ لأن الوقف عندهم يجب أن يكون مطلقاً؛ وقال الحنابلة: يصح التعليق على الموت فقط([12]).
2ـ الواقف
اتفق الفقهاء على أن كمال العقل شرط لإنشاء الوقف، وكذا البلوغ. فلا يجوز وقف الصبي، مميزاً كان أو غير مميز، ولا يحق لوليه أن يقف عنه، ولا للقاضي أن يتولى ذلك أو يأذن به. وقال بعض الفقهاء الإمامية: يصح وقف الصبي البالغ عشراً، ولكن أكثرهم على المنع([13]).
وبخصوص نية القربة فإن الحنفية والحنابلة يشترطانها في الوقف؛ بينما لا يعتبرها مالك والشافعي شرطاً؛ أما الإمامية، فالشيخ صاحب «الجواهر» وصاحب «العروة الوثقى» يذهبان إلى أن القربة ليست شرطاً لصحة الوقف، ولا لقبضه، بل للأجر والثواب عليه، ولذا يتم الوقف بدونها، كما ينقل عنهما الشيخ مغنية، لكن الراوندي في «فقه القرآن» يرى أن الوقف والصدقة شيء واحد، ولا يصحان إلا بالقربة إلى الله تعالى([14]).
3ـ العين الموقوفة
اتفق الفقهاء على أن الموقوف يشترط فيه ما يشترط في الشيء المباع من كونه عيناً معيّنة مملوكة للواقف، فلا يصح وقف الدين، ولا المجهول. واتفقوا أيضاً على أنه لا بد من إمكان الانتفاع بالموقوف مع بقاء عينه، أما ما لايصح الانتفاع به إلا بإتلافه، كالمأكول والمشروب، فلا يصح وقفه، ومن هذا النوع المنفعة، فمن استأجر داراً أو أرضاً لأمد معين لا يصح منه وقف منفعتها؛ إذ لا يصدق عليها مفهوم الوقف، وهو تحبيس الأصل وتسبيل العين. وكذلك اتفقوا على صحة وقف الأعيان الثابتة، كالأرض والدار والبستان، أما الأعيان المنقولة، كالحيوان والماعون، فقد اتفقوا ـ ما عدا الحنفية ـ على صحة وقفها، رغم أن المحقق الكركي (940هـ) ينقل عن مالك قوله: إن المنقول مطلقاً لا يجوز وقفه([15]).
4ـ الموقوف عليه
وهو الذي يستحق فعلاً ريع الوقف، والانتفاع بالعين الموقوفة، ويشترط فيه ما يلي: أن يكون موجوداً حين الوقف؛ وأن يكون أهلاً للتملك؛ وأن لا يكون معصية لله تعالى؛ وأن يكون معيَّناً غير مجهول، فإذا وقف على رجل أو امرأة من غير تعيين بطل([16]).
شروط الواقف وألفاظه
كما أن للوقف شروطاً فللواقف شروط أيضاً، وأهمها ما يتعلق بإرادة الواقف. فإذا كان الوقف عطية وتبرعاً وصدقة يكون الواقف معطياً ومتبرعاً ومتصدقاً. وبديهي أن للإنسان العاقل البالغ الراشد الصحيح غير المحجّر عليه في التصرفات المالية أن يتبرع من أمواله بما يشاء، إلى من يشاء، بالنحو الذي يراه. وفي الحديث: «الناس مسلّطون على أموالهم». ولهذا قال الفقهاء: شروط الواقف كنص الشارع، وألفاظها كألفاظه، في وجوب اتّباعها والعمل بها. وعلى هذا فإنْ عُلم قصد الواقف، وأنه أراد هذا المعنى دون سواه، أُخذ به، حتى ولو خالف فهم العرف، كما لو علمنا أنه أراد من لفظة «أخي» صديقه فلاناً، فنعطي الوقف للصديق، لا للأخ؛ لأن العرف إنما يكون حجة متبعة باعتباره وسيلة تكشف عن القصد، فإذا عرفنا القصد يسقط العرف عن الاعتبار؛ أما إذا جهلنا القصد كان العرف هو المتَّبع، وإذا لم يكن للعرف اصطلاح، ولم يفهم من ألفاظ الواقف شيء رجعنا إلى اللغة، كما هو الشأن في ألفاظ الكتاب والسنة. وعلى العموم فإن شروط الواقف في الموقوف عليه إذا فقدت خرج عن الوقف([17]).
الوقف ودوره في التنمية
إن التـنمية «هي الجهود المنظمة التي تبذل وفق تخطيط مرسوم للتـنسيق بين الإمكانات البشرية والمادية في وسط معين؛ بقصد تحقيق مستويات أعلى للدخل القومي والدخول الفردية، ومستويات أعلى للمعيشة والحياة الاجتماعية في نواحيها المختلفة، كالتعليم والصحة والأسرة»([18])؛ أو هي الاستخدام الأمثل للموارد الطبيعية والبشرية، ومحورها الإنسان في المجتمع، بحاجاته المادية وغيرها، وبقيمه الروحية الأخلاقية، وإنها تهم عامة الشعب (الأمة)، كما أنها تـنمية مستمرة([19]).
فالتـنمية ـ حسب التعريف الأول ـ تعني تغيير بيئة الإنسان وظروفه المادية ضمن خطة منظمة نحول الأفضل، وهي ـ حسب التعريف الثاني ـ تركز على الإنسان بقيمه الروحية واحتياجاته المادية وسبل تطويرها، وهذا أقرب للروح الإسلامية التي تراعي الناحيتين، بينما تُعنى النظريات الغربية بالجانب المادي وحسب.
وعلى الرغم من حداثة مفهوم التـنمية فإن مضامينه عند المسلمين كانت موجودة في مجالات متعددة، تتمثل في تـنمية الموارد الطبيعية، كاستصلاح الأراضي، وإقامة السدود، وشق الترع، وحفر الأنهار والآبار، وكل ما يطلق عليه عنوان «عمارة الأرض»، وكذلك استثمار الموارد المالية في تحسين المستوى الاقتصادي للدول والمجتمعات عن طريق تـنمية الصناعات، ورفع مستوى الدخل، وتأسيس دور العلم، وبناء المساجد، وغير ذلك.
ونستطيع أن نستشف هذا التفكير التـنموي العميق في عهد الإمام علي× لواليه على مصر مالك الأشتر، والذي لم يترك شاردة ولا واردة من شؤون الحكم حينذاك إلا وأشار إليها، حيث يوصيه قائلاً: «وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم؛ لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله. وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخارج؛ لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد، وأهلك العباد، ولم يستقر أمره إلا قليلاً»([20]).
فالمعروف أن الدول، قديمها وحديثها، تفرض الضرائب على المواطنين، ولكن القلة منها تستخدم أموال الضرائب في تحسين حياة الناس والارتقاء بمستواهم المعيشي والخدمي، لذا نجدها تتكدس في خزائن الطبقات الحاكمة، التي تـنفقها في أغراضها الخاصة، وتقوية بينتها الأمنية، وتعطي الشعب الفتات. ومن هنا تبرز أهمية الإشارة إلى موضوع الخراج، وهو ضريبة الأرض الزراعية، والمورد الرئيس للدول الإسلامية في ما مضى، حيث تمثل الآراء الواردة هنا مثالاً صالحاً لكل ضريبة أخرى. ويمكن أن نستـنتج من هذا النص العديد من الحقائق التـنموية التي يمكن الاهتداء بها في موضوع استثمار الموارد المالية للوقف. ومثال ذلك:
1ـ الاهتمام بالسياسة المالية وإصلاحها.
2ـ توجيه الموارد المالية نحو تحسين أحوال الناس، وخاصة الذين تؤخذ منهم الضرائب. وتـندرج تحت مفهوم «الإصلاح» شتى السياسات التي تهدف للارتقاء بالمستوى المعاشي والاقتصادي والعملي والاجتماعي والثقافي للفرد والجماعة، وإن إصلاح جماعة معينة سيؤدي إلى صلاح غيرها، حتى نصل إلى تـنمية شاملة تعم كافة أرجاء المجتمع.
3ـ إن النظرة في إعمار الأرض واستصلاحها يجب أن يفوق في الأهمية النظر في استحصال الضريبة المفروضة عليها؛ «لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة»، أي إن الناس ليسوا مستعدين لدفع الضريبة المقررة عن طيب خاطر إلا حينما يرون مردود مساهمتهم تـنعكس بشكل إيجابي في الواقع المعاش، وهكذا تتحقق التـنمية.
4ـ ثم نخلص إلى قاعدة جوهرية في التـنمية سبق فيها الإمامُ عصره، وتتضح في قوله: «ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد، وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلاً». فالحكم الذي يهدف لجمع الضرائب، دون وضع خطة منظمة للأعمار والتـنمية، سيؤدي إلى خراب البلاد وهلاك العباد، وانهياره سريعاً. وفي هذا إشارة للارتباط الوثيق بين عنصري السياسية والاقتصاد، حيث يشكل الثاني دعامة للأول.
وبالعودة إلى موضوع العلاقة بين الوقف والتـنمية نشير الآن إلى نماذج من تلك العلاقة كما يطرحها الفقهاء:
1ـ إن المتأمل في أحكام الوقف التي عرضناها آنفاً يجد أن الوقف في جوهره يدخل في صلب التـنمية. فتعريف الوقف الذي ذكرناه في بداية هذا البحث، وهو «تحبيس العين وتسبيل المنفعة»، والمستقى من حديث المصطفى ‘، يمثل في حد ذاته استثماراً للموارد المادية من أملاك وأموال، وتعميم منفعتها لعامة الناس، وبخاصة المحتاجين منهم. وتتـنوع مجالات الاستثمار بحسب مقاصد الواقفين وشروطهم، فهناك الوقف الثقافي، والاقتصادي، والديني، وغير ذلك. والوقف يحافظ على العين الموقوفة، سواء كانت عقاراً أم أرضاً زراعية أم أموالاً أم كتباً، وغير ذلك، من التلف والانقراض أو الضياع، فتعم فائدتها لأجيال متعددة، فتكون التـنمية حينئذ مستدامة.
2ـ الأصل في الأملاك الموقوفة ديمومتها وحصول التـنمية (النماء / النمو) المرجو منها. يقول السيد أبو القاسم الخوئي&: «إذا احتاجت الأملاك الموقوفة إلى التعمير أو الترميم؛ لأجل بقائها وحصول النماء منها، فإن عيّن الواقف لها ما يصرف فيها عمل عليه، وإلا صرف من نمائها وجوباً مقدماً على حق الموقوف عليهم، وإذا احتاج إلى التعمير بحيث لولاه لم يَبقَ للبطون اللاحقة فالظاهر وجوبه، وإن أدى إلى حرمان البطن السابق»([21]).
3ـ مقاصد الواقفين فيها شيء من المرونة، فإذا عجزت الموقوفات عن تأدية الأهداف والغايات التي وقفت من أجلها جاز أن تصرف عائدات الوقف في مصلحة أخرى مماثلة، وإلا ففي وجوه البر القريبة منها. يقول السيد الخوئي: «إذا وقف على مصلحة فبطل رسمها، كما إذا وقف على مسجد فخرب، أو مدرسة فخربت، ولم يمكن تعميرها، أو لم يحتاجا إلى مصرفٍ؛ لانقطاع من يصلي في المسجد، أو مهاجرة الطلبة، أو نحو ذلك، فإن كان الوقف على نحو تعدد المطلوب، كما هو الغالب، صرف نماء الوقف في مسجد أو مدرسة أخرى إن أمكن، وإلا ففي وجوه البر، الأقرب فالأقرب»([22]).
4ـ مما يساعد على تطوير الأوقاف وتـنميتها هو انفتاح الفقه الإسلامي وحركيته في هذا المضمار، حيث نجد تشريعات تبيح بيع الوقف، غير المساجد، وعمارة الباقي إذا انتفت الوظيفة التي خُصِّص لها الوقف. يقول السيد الخوئي: «غير المسجد من الأعيان الموقوفة إذا تعذر الانتفاع بها في الجهة المقصودة للواقف؛ لخرابها وزوال منفعتها، يجوز بيع بعضها، وعمارة الباقي للانتفاع به، فإن لم يمكن ذلك جاز بيعها وتبديلها بما يمكن الانتفاع به، وإن لم يمكن ذلك أيضاً صرف ثمنها في الجهة الموقوف عليها»([23]).
ويتضح من ذلك أن المنفعة المتوخاة من الوقف مقدّمة على مقاصد الواقفين رغم مكانتها وأهميتها التي يتيحها لها الشرع، وهل التـنمية إلا البحث عن المنافع التي تلبي الاحتياجات الإنسانية وتطويرها لتعم كافة طبقات المجتمع، وبخاصة المحرومة منها؟
وهكذا نلاحظ أن التشريعات الخاصة بالأوقاف جامدة أو مغلقة، مما قد يؤدي إلى ضياع الأوقاف أو اندثارها، بل هي منفتحة وتراعي متغيرات الزمان والمكان، الأمر الذي يساعد على صيانة الأوقاف الحالية، وربطها بعجلة التقدم والتـنمية، وتشجيع الناس على المساهمة في الوقف الخيري، بعد أن ضعفت المبادرة إلى ذلك خلال العقود الأخيرة.
الهوامش
(*) عميد الدراسات العليا في الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية (لندن).
([1]) د. أحمد فتح الله، معجم ألفاظ الفقه الجعفري: 449، ط1، الدمام، السعودية، 1995.
([2]) قطب الدين الراوندي، فقه القرآن 2: 290ـ 291، تحقيق: السيد أحمد الحسيني، ط1، مطبعة الخيام، قم، 1399هـ.
([3]) الشهيد الثاني زين الدين الجبعي، الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية 3: 164، تحقيق: السيد محمد كلانتر، دار العالم الإسلامي، نسخة مصورة عن طبعة النجف.
([4]) المحقق الحلي، شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام 2: 165، تحقيق: عبد الحسين البقال، منشورات إسماعيليان، قم، إيران. وانظر: جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، للشيخ محمد حسن النجفي 10: 5، بيروت، 1992.
([5]) الشيخ عز الدين الخطيب، مشروعية الوقف وطبيعته وأنواعه: 42 ـ 43، ضمن أبحاث الندوة التي عقدت في لندن حول (أهمية الأوقاف الإسلامية في عالم اليوم)، المجمع الفكري لبحوث الحضارة الإسلامية ومؤسسة الإمام الخوئي الخيرية، طبع في عمان، 1996.
([6]) انظر: اللمعة 3: 163؛ والجواهر 10: 6.
([7]) هاشم معروف الحسني، الوصاية والأوقاف: 127، ط1، دار القلم، بيروت، 1980.
([8]) الشيخ محمد جواد مغنية، الفقه على المذاهب الخمسة: 589 ـ 590، ط8، دار الجواد، بيروت، 1984.
([9]) شرائع الإسلام 2: 165؛ وانظر: الجواهر 10: 7 ـ 8.
([10]) الشيخ مغنية، المصدر السابق: 590.
([12]) معجم ألفاظ الفقه الجعفري: 127؛ والشيخ مغنية، المصدر نفسه: 592.
([13]) الشيخ مغنية، المصدر نفسه: 593.
([14]) المصدر نفسه: 594؛ وانظر: فقه القرآن 2: 297.
([15]) المحقق الكركي، جامع المقاصد في شرح القواعد 9: 60، دار إحياء تراث أهل البيت^، قم، إيران، 1410هـ؛ وانظر: الشيخ مغنية، المصدر السابق: 595.
([16]) المصدر نفسه: 596؛ وانظر: السيد أبو القاسم الخوئي، منهاج الصالحين 2: 235 ـ 236، ط 22، دار الزهراء، بيروت.
([17]) السيد الخوئي، المصدر نفسه: 240؛ وانظر: الفقه على المذاهب الخمسة: 599 ـ 600.
([18]) د. مهى سهيل، مقومات التـنمية الاجتماعية وتحدياتها ـ تطبيقات على الريف اللبناني: 22، معهد الإنماء العربي، بيروت، لبنان، 1978.
([19]) د. عبد العزيز الدوري، دور الوقف في التـنمية، ندوة (أهمية الأوقاف الإسلامية في عالم اليوم)، المصدر السابق: 80.
([20]) الإمام علي بن أبي طالب×، نهج البلاغة، مجموع ما اختاره الشريف الرضي من كلام أمير المؤمنين×: 436، تحقيق: د. صبحي الصالح، قم، إيران، 1395هـ، مصور عن طبعة بيروت، 1387هـ.
([21]) الخوئي، منهاج الصالحين 2: 241، ط 22، دار الزهراء، بيروت، لبنان؛ وإلى الرأي نفسه يذهب السيد السيستاني، منهاج الصالحين 2: 412، ط 6، دار فدك، قم، إيران.