منذ انفجار «الثورات العربية» وتداعياتها الكارثية، يسيطر قلق عارم على الطوائف كلها في العالم العربي. ثمة توجس عام لدى المذاهب والأديان يرافقه تغول مذهبي يستحضر من التاريخ كل أنماط العنف الديني ومناهجه الإقصائية. السُنّة قلقون على هويتهم وخائفون على مكاسبهم التاريخية في السلطة وإدارة الدول. يصفهم البعض بأن «لديهم شعور الأمة وإحساسها»، غير أنهم اليوم تدرجوا نحو حالة من التطييف نتيجة المتغـيرات في المجتمعات والإقليم. الشيعة قلقـهم ثنائي : مخاوف من ثأر خفي بسبب التعملق والحضور السياسي الذي لم تألفه الأكثريات؛ واستنفار شيـعي نتيـجة المدّ الجهادي التكفيري، سبقه قدرة سياسية على تعويض الخسائر المترتبة على نهج التهميش التاريخي الذي لحق بهم في أكثر من دولة وفي حقبٍ مختلفة.
المسيحيون العرب بين الماردين السُنِّي والشيعي تتسلط عليهم عقدة المصير ونرجسية الأقلية، وتتهددهم مخاطر عدة: إفراغ الشرق من الأقليات وهجراتها المتتالية إلى الغرب، وتجفيف دورهم التاريخي الذي اضطلعوا به بدءاً من عصر النهضة العربية، وخوف من «سفر خروج» آخر على شاكلة ما حدث مع الأيزيدية. لسان حالهم اليوم نحن على مشارف الخطر الوجودي، لا سيما بعدما خسر العراق وربما سوريا الوجود المسيحي. الدروز على خريطة هذا المشرق أكثر الطوائف قلقاً، يتخوفون من الصراع السُنِّي الشيعي، ويسعون لتأكيد تجذرهم العروبي بعد الاجتياح الداعشي لدول أمنية هشة، واستباحة الجهاديين للحدود. ليس سهلاً ما قاله رئيس «اللقاء الديموقراطي» وليد جنبلاط حين دعا أبناء طائفته إلى بناء المساجد، والعودة إلى أصول الإسلام، وممارسة فروضه: الشهادة والصلاة والصوم والزكاة والحج، مطالباً بتوجيه بعثات من طلاب العلوم الدينية عند الدروز إلى الأزهر. فهل عمد البيك إلى إجراء إنقلاب عقدي لإنقاذ جماعته؟ أراد تأكيد تضامن أمته الوافدة من رحم الأصول الإسلامية مع عمقها العربي والإسلامي لحفظها من العنف الديني والصراع السُنّي ـ الشيعي.
يُعد الاحتداد السُني الشيعي المحكوم بخط التصدع التاريخي/ المذهبي منذ صفِّين إلى اليوم الأشد خطورة. ليس هذا الاحتداد عاملاً طارئاً على الطائفتين. نحن نشهد الموجة التاريخية الثالثة من الصدام بينهما، حيث مرت من قبل ـ كما يلاحظ رضوان السيد في دراسته: «الشيعة والسُنّة: التوتر ومداه ومصائره» ـ «بحقبتي توتُّر كبريين، وهما الحقبة الواقعة بين القرنين الرابع والسابع للهجرة، والحقبة الواقعة بين القرنين التاسع والحادي عشر للهجرة، ونعيش خلال النصف الأول من القرن الخامس عشر الهجري، حقبة التوتر الثالثة والحاضرة». ويلاحظ السيد أن الحقـبة الأولى للصراع كانت حاسمة لثلاث جهات: أنها المرة الأولى التي يُقال فيها من جانب المؤرخين إن هناك صراعاً شيعياً/ سنياً، أو بين الخلافة والإمامة، وأنها المرة الأولى التي تعلن فيها الدولة العباسية عن نفسها باعتبارها دولة أهل السُنّة والجماعة (العقيدة القادرية)، وأخـيراً لأن الإسماعيـلية والزيديـة شهـدوا انحساراً كبيراً بين القرنين الخامس والسابع، بحيث زالت الدول الإسماعيلية في المغرب ثم مصر واليمن، وظهر تيارٌ مهدويٌ في قلب الزيدية نفسها.
يشتبك السُنّة والشيعة على أكثر من محور في الاجتماع السياسي والتاريخ والانشقاق العقدي (الذي يشبه الانشقاق البروتستانتي الكاثوليكي في المسيحية الغربية) والجغرافيا والديموغرافيا. هذا الاشتباك يتقاطع مع قلق لدى الطرفين: أكثرية سُنيّة تفاجأت بالعملاق الشيعي الخارج من جرح الخسارات الماضية، قبل أن تشكل الثورة الإسلامية في إيران (1979) بوابة العبور إلى الحضور الحسيني الإقليمي؛ وأقلية إسلامية شيعية/ عربية خائـفة على النـجاحات التي حققتها في دول عدة، خصوصاً إثر التحور الذي صنعته «العالمية الجهادية» فانتقلت من محاربة العدو الأبعد (أميركا والصليبين) إلى العدو الأقرب (الشيعة وكل من يخالف عقائد «القاعدة» وأخواتها من المسلمين السُنّة). لدى السُنّة في العالم العربي، شعور مرير ورفض للانزلاقات العنـفية والدموية التي جرهم إليها عنوة ما يسمى «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام». تقول أكثريتهم عن قناعة صلبة وراسخة إن «داعش» ستبقى وصمة عار في تاريخ الإسلام السُنّي ونحن براء منها، ويؤكد الشيعة ما يذهب إليه السُنّة مع التشديد على أن الإرهاب الداعشي يهددنا ويهددكم. إلى جانب المخاوف التي تخطها الإيديولوجيات الديـنية وحروبها العبثية التي تشكل خطراً ماحقاً على كل الطوائف في العالم العربـي، ثمة قـلق آخر لـدى بـعض «الإسلام السُني الرسمي» من المحادثات الإيرانية ـ الأميركية التي يصاحبها اضطراب في العلاقات بين واشنطن والرياض تبدت ملامحه منذ عام تقريباً.
في «صحوة الشيعة: الصراعات داخل الإسلام وكيف سترسم مستقبل الشرق الأوسط»( تعريب سامي كعكي، دار الكتاب العربي، 2007) خلص ولي نصر إلى أن الولايات المتحدة تخطئ إذا لم تأخذ بعين الاعتبار واقع المنطقة الجديد، ألا وهو تنامي نفوذ الشيعة في العراق ولبنان والبحرين. أثار هذا الكتاب تعليقات كثيرة من قبل الكتّاب في الغرب والعالم العربي، غير أن أطروحته اليوم يشوبها تحولات كثيرة، أشد تعقيداً من مسألة التعلمق السياسي لطائفة على حساب أخرى؛ إذ إن الواقع الراهن المصحوب بانسداد إقليمي وانسحاب أميركي تدريجي من الشرق الأوسط، ساعد على زيادة الاستقطاب الشيعي السُنّي الحاد الذي يتغذى من انتشار المدّ الجهادي أو «إسلام التوتر العالي»، كما يسميه المفكر السوري صادق جلال العـظم، وتاليـاً فهو يفرض مشهداً جديداً قوامـه تصـادم الأصـوليات (الشيعة والسُنيِّة) والسلفيات مع استحضار وصناعة غير مسبوقة لـ «فقه الكره»، وما ينتج عنه من تذرير للإسلام وتفكيك للدول وتقسيم لها على مشرحة الطوائف المتنازعة والمتقاتلة بالدين والدم.
يمكن القول إننا اليوم في حال من توازن الرعب والقلق بيـن السُنَّة والشيعـة؛ توازن تدعـمه ذاكـرات جمـعية مذهبية نزاعية/ ثأرية بمداها العقدي والتاريخي والسجالي. تتحمل الأكثريات السياسية الشيعية والسُنيِّة (يقترح جمال باروت مصطلح الشيعويّة، مقابل السّنويّة في كتابه العقد الأخير في تاريخ سوريا) مسؤولية الفشل في إدارة التعدد واحتضان الأقليات المذهبية وبناء دولة الحداثة.
الحاصل أن الخطر الممهور بالقلق الطـائفي يهدد كل المسلمين بالحروب المذهبية ومخاطـر الزوال، حيث تعمل البؤر الدينية بقوة هائلة على تذرير الإسلام التسالمي من الداخل. تجاوز عقدة الأقليات وتصلب الأكثريات وتجفيف منابع الحقد المذهبي الكامن في بطون كتب التراث وتجارب التاريخ، تقتضي الانتقال من دول الطوائف المتصارعة، إلى الدول العصرية التي تحاكي الجماعات الدينية في إطار الحياد والشراكة السياسـية والتـمدين وإعـطاء الحقوق وإطلاق الحريات وإصلاح التعليم الديني.
بين «أشياع السُنّة وأسنان الشيعة» (أحمد بيضون، ضمن كتاب: نواصب وروافض: منازعات السُنّة والشيعة في العالم الإسلامي اليوم) طرأت تحولات كبيرة على الجماعـتين في العـقود الأخيرة آلت إلى ترسيخ خط التصدع المذهبي، وقد تتـخطى بـ «فتنتها الجديدة» معركتي «صفِّين» و«الجمل».