يدور جدل معتاد في موسم عاشوراء كل عام حول بعض الفعاليات و النشاطات المستحدثة لغرض تجديد ذكرى سيد الشهداء الحسين بن علي عليهما السلام . و ثمة اختلاف حول مفهوم “الشعيرة” بين موسع و مضيق له . و يجادل بعض في تطبيق مفهومه على بعض الفعاليات ونفيه عن أخرى .
و ينطلق جانب من الجدال من هواجس مفادها ان بعض الفعاليات الجديدة تستهدف الحد من بعض ما هو قائم و سائد من الممارسات العزائية مما يدفع أصحابها إلى رفص بل و مواجهة كل فكرة او وسيلة جديدة .
و في هذا الصدد اود ان اطرح بعض الأفكار للتأمل و أطرح بعض التساؤلات لإثارة التفكير في بعض جوانب هذه القضية .
وردتنا روايات كثيرة في الحث على البكاء و الحزن على ما جرى على الامام الحسين عليه السلام .
بل ورد في مصادر الحديث للمسلمين من مختلف الاتجاهات ، مثل مسند أحمد و مستدرك الحاكم على الصحيحين و الطبراني في الكبير و غيرهم ، ما يؤكد بكاء النبي صلى الله عليه وآله عليه لما اخبره جبريل بمقتله . ففي مسند أحمد عن علي (رض) قال دخلت على النبي (ص) و عيناه تفيضان ، قلت : يا نبي الله ، أغضبك أحد ؟ ما شأن عينيك تفيضان ؟ قال : قام من عندي جبريل قبل فحدثني ان الحسين يقتل بشط الفرات ، و قال هل لك أن أشمك من تربته ؟ قلت نعم ، فمد يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها ، فلم أملك عيني أن فاضتا . صححه أحمد شاكر و الألباني و صرح الهيثمي في مجمعه أسناده ثقات . و روى الطبراني في الكبير عن أم سلمة ، قالت كان رسول الله (ص) جالس ذات يوم في بيتي ، فقال : لا يدخل علي أحد ، فانتظرت ، فدخل الحسين (رض) فسمعت نشيج رسول الله يبكي ، فاذا حسين في حجره و النبي (ص) مسح على جبينه و هو يبكي ، فقلت : و الله ما علمت حين دخل ، فقال : ان جبريل (ع) كان معنا في البيت ، فقال : تحبه ؟ قلت : أما من الدنيا فنعم . قال : ان أمتك ستقتل هذا بأرض يقال لها كربلاء ، فتناول جبريل من تربتها فأراها رسول الله (ص) . فلما أحيط الحسين حين قتل ، قال : ما اسم هذه الأرض ؟ قالوا : كربلاء ، قال : صدق الله و رسوله ، أرض كرب و بلاء . قال الهيثمي في مجمعه : رواه الطبراني في المعجم الكبير بأسانيد و رجال أحدها ثقات .
و جاء في حسنة معاوية بن وهب – حسب السيد الخوئي – عن الإمام جعفر الصادق : كل الجزع و البكاء مكروه ما سوى على الجزع و البكاء لقتل الحسين . و هنا قد يطرح تساؤل مفاده كيف يكون كل البكاء مكروها مع ان القرآن الكريم أخبرنا عن بكاء النبي يعقوب (ع) على ابنه يوسف (ع) حتى ابيضت عيناه من الحزن ؟ و كيف يكون مكروها مع ان النبي محمدا (ص) بكى على ولده ابراهيم و على عمه الحمزة و ابن عمه جعفر ؟ و قد رد السيد الخوئي على ذلك بحمل الكراهة على البكاء و الجزع في الرواية المذكورة على الكراهة العرفية لعدم المناسبة مع الوقار و المنزلة الإجتماعية أو بكون مجموع البكاء و الجزع مكروها و غير مرغوب شرعا إلا على الحسين .
و أيا كان ، فقد غدت قضية تجديدذكرى الحسين سيرة حميدة متجذرة عند اتباع اهل البيت عليهم السلام و هي من مصاديق المودة في القربى التي أكد عليها القرآن الكريم .
وقد وجدت في أزمنة أئمة اهل البيت -الى جانب البكاء و اظهار الحزن على المصيبة – وسائل اخرى لإحياء الذكرى من قبيل قول الشعر و إنشاده في جماعة من الناس و من ثم عقد مجالس مخصصة لذلك . و لما كان هذا الجانب من طرائق تجديد الذكرى يتسم بالحركة و المرونة و قابلية التواؤم مع الزمان و المكان ، لهذا ظهرت مع الزمن
أساليب اخرى حسب تفاعل البيئات الثقافية و الاجتماعية المتنوعة لأتباع اهل البيت مع القضية الحسينية في شتى بقاع العالم . بل يلاحظ الدارس ان المجالس الحسينينة ذاتها – و التي تشكل إحدى الدعامات الأساس في تجديد الذكرى الحسينية ، و تعتبر قاسما مشتركا بارزا في مختلف البقاع الجغرافية – شهدت تطورا ملحوظا عما كانت عليه في بدايات ظهورها ، فلم تكن تشتمل على التقسيم القائم حاليا و الذي يتكون من القصيدة الكربلائية و الموضوع و النهاية الرثائية . كما تطور جانب الموضوع فيها كثيرا حيث صار متنوعا يشتمل على البحث التاريخي و العقدي و الفكري و الفقهي والأخلاقي و الوعظي و ما الى ذلك من الموضوعات المفيدة .
كما يعتبر البكاء و الحزن عاملا مشتركا مهما في مختلف المجتمعات التي تحيي ذكرى عاشوراء الدامية .
و مع الجدل المتصاعد حول مفهوم ” الشعيرة ” و تطبيقاتها في المجال بين موسع و مضيق ، و مع الجدل الدائر حول مدى انضواء بعض الفعاليات تحت مفهومه بين ناف و مثبت . فانه يحسن البحث في أغراض الفعاليات المستحدثة وأهدافها ومدى اتساقها مع النظر العقلائي ، و ذلك بعد التحقق من كونها منسجمة مع الجانب الشرعي . بل لعل الأجدر هو البحث في تطبيقات مفهوم “إحياء الذكرى الحسينية ” و في تجسيد مفهوم ” إحياء أمر أهل البيت”
و هو العنوان الذي ورد في جملة من الروايات .
فقد ورد عن الإمام محمد الباقر (ع) : إن في اجتماعكم و مذاكرتكم إحياءنا و خير الناس من بعدنا من ذاكر بأمرنا و دعا الى ذكرنا .
و عن الإمام جعفر الصادق (ع) :
يا فضيل : أتجلسون و تتحدثون ، قال نعم ، قال : ان تلك المجالس أحبها ، فأحيوا أمرنا ، فرحم الله من أحيا أمرنا .
و عن الامام علي الرضا (ع ) : من جلس مجلسا يحيا فيه امرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب .
وفي ضوئه ، و مع تأكيدنا على ان أهمية البكاء و الحزن و ضرورة استمرار المجالس الحسينية ولزوم عرض السيرة الكربلائية الدامية و عدم المساس بهذا الجانب ، دعونا نتساءل :
أليس رفع الاعلام و الرايات السود يرمز -في بعض المجتمعات – إلى إحياء ذكر الحسين ؟
اليس رفع لافتات تحمل كلمات النبي صلى الله عليه وآله و اهل البيت في الحسين تدل على احياء ذكرهم ؟
ألا تعتبر شعارا و علامة دالة عليهم ؟
أليس في إقامة حفل تأبيني أو مهرجان أدبي و خطابي يتضمن أهداف حركة الحسين و يبين حقيقة مواقفه و يحلل كلماته ورسائله و أراجيزه و كذا كلمات أبطال كربلاء و أراجيزهم و مواقفهم ، أليس في كل ذلك إحياء لذكر الحسين ؟
أليس في كتابة مقال او كتاب تعريفي بالحسين و ملحمته واهدافها و نتائجها إحياء لذكره ؟
اليس في إعداد عمل فني – رسم ، فلم ، مسرحية ، قصة ، شعر – يبرز حركة الحسين و مأساته و اهدافه إحياء لذكره ؟ ألا تؤدي الى نشر محاسن كلم النبي المصطفى (ص) وولده الحسين و أصحابه و أهل بيته المستشهدين بين يديه ؟
وكما نرى فان جملة من الفعاليات السابقة قد لا تشتمل على إحداث الألم الجسدي ، بل قد تكون فكرية و علمية وتاريخية و حديثية و أدبية و إعلامية ولكنها تحقق إحياء ذكره و ذكر اهل البيت عليهم السلام . و هل من عاقل بوسعه ان يقرر بأنها لا تحقق غرض إحياء الذكرى و لا تجسد بعض تطبيقات إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام ؟
ألم يرد عن الإمام الرضا عليه السلام : رحم الله عبدا أحيا أمرنا ، فسئل كيف يحيي أمركم ؟ قال : يتعلم علومنا و يعلمها الناس فان الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا .
ألا تشتمل كل تلكم الفعاليات على محاسن كلم الحسين و أصحابه و أهل بيته المستشهدين معه في كربلاء ؟
و إذا كان تجديد ذكرى الحسين ليس مقتصرا على طريقة معينة ، و اذا كانت الجغرافيا و التاريخ يشهدان على وقوع تطورات و تغيرات غير قليلة على أساليب الإحياء و وسائله ، فلم يقف بعض الناس متوجسين من أي أسلوب جديد أو طريقة مستحدثة يراد إيجادها هنا أو هناك بحسبان انها تهدف الى القضاء على بعض الأساليب القائمة ؟
و اذا كانت كثير من الأساليب القائمة مما استحدث في أزمنة متأخرة عن أهل البيت عليهم السلام ، فلم يتعامل بعض الناس مع بعضها و كأنها توقيفية منزلة و مطلوبة لذاتها ؟
فاذا كان أحد المجتمعات ابتكر اللطم بطريقة معينة ، و اخترع مجتمع آخر ضرب السلاسل المجردة ، فيما استحدث مجتمع ثقافي ثالث ضرب النواصي بالآلات الحادة ، فأي مانع في البين ، من أن يأتي مجتمع رابع في عصر معين فيوجد فعالية التبرع بالدم بما يرمز الى معنى بذل الدم لإنقاذ إنسان أو نجدة من يحتاج اليه من البشر ، و ربط هذا العمل الإنساني بواقعة كربلاء الدامية و رسالتها الإنسانية ؟
ان فعالية التبرع بالدم حسنة في نفسها – كما يقرر العلماء- فاذا أنجزت بمناسبة تضحية الحسين و ربطت بمناسبة عاشوراء وأقدم الناس في شتى بقاع العالم ، أفواجا يتبرعون بالدم مستشعرين تلكم المعاني والقيم الإنسانية الجميلة ، ألا يشكل ذلك إحياء لذكرى عاشوراء ؟
ألا تؤدي هذه الفعالية الى تعريف الناس بالحسين و تذكيرهم بملحمته الخالدة ؟
و اذا أمكن ان يهيأ مخيم كبير او قاعة كبرى لهذه الغاية النبيلة ، و اقترن ذلك مع لافتات و كلمات و مطويات تعريفية بالحسين و نهضته ، و مصحوبة مع بعض كلماته و خطبه و مع بعض القصائد الكربلائية الرائعة ، بل مع قاعة أخرى للرسم المعبر عن إشعاعات كربلاء ، و أخرى لعرض فلم مستلهم من نهضة الحسين و هكذا ،
أليس في ذلك إحياء لذكرهم ؟ أليس في ذلك تعريفا للمجتمع الإنساني بمحاسن كلامهم و جميل أعمالهم و عظيم تضحياتهم ؟ اليست تلكم مصاديق عرفية ﻹحياء ذكرهم ؟
و قد يقول قائل : ان هناك من يتحفظ على بعض هذه النشاطات متوجسا منها و من دوافعها ! أو بدعوى انها لا تشتمل على عنصر الألم الجسدي ! و انها لذلك لا تنضوي تحت عنوان ” الشعيرة الحسينية ” المعروف !
و يجاب : ان من حق من يرى ذلك و يقتنع به أن يمتنع عن المساهمة في هذه الفعاليات ، تماما كما هو الحال بالنسبة لمن لا يشارك في أعمال إدماء الجسد و لا يقتنع بها . و لا نغفل ان هناك من يتحفظ أيضا على مختلف الممارسات التي تؤدي الى إدماء الجسد بالأدوات الحادة و لا يراها تندرج تحت هذا العنوان .
أما كون الفعاليات المذكورة ، في نظر بعض ، لا تندرج تحت العنوان المتعارف ل” الشعيرة الحسينية ” !
فيرد : بان هناك من لا يشترك مع هذه النظرة ، كما اننا ذكرنا بانها إن لم تندرج تحت هذا العنوان فانها يمكن ان تندرج تحت عناوين أخرى محبوبة و حسنة أيضا . و قد أسلفنا القول بأن كثيرا من الأعمال لا تشتمل على العناصر المذكورة و مع ذلك لم يقل قائل بأنها لا تحقق إحياء ذكر الحسين و لا تجسد إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام .
إن إحياء ذكر أهل البيت و إحياء أمر أهل البيت ليس مقتصرا على أساليب ووسائل بعينها بحيث يصدق عليها فقط و لا يصدق على غيرها ، و إن كانت في الواقع تحقق إحياء ذكرهم ونشر مبادئهم و فضائلهم ؟
و لنختم بما ورد عن الامام علي الرضا (ع ) :
رحم الله عبدا أحيا أمرنا ، فسئل كيف يحيي امركم ؟ قال : يتعلم علومنا و يعلمها الناس فان الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا .
إنها دعوة للتأمل و التفكير وليست في وارد الدعوة الى إقامة مناشط وفعاليات معينة على حساب أخرى .
و آخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين .