قراءة في التاريخ والمسارات والأهداف
حوار مع السيد عباس نبوي(*)
ترحمة: محمد عبدالرزاق
بدايات تكون نظرية الوحدة بين الحوزة والجامعة، مشروع الإمام الخميني ـــــــ
_ منذ زمن وفكرة التقريب بين الحوزة والجامعة مطروحة على طاولة النقاشات. ولعلّ فضيلتكم كان متابعاً للموضوع عن كثب بحكم عمله ومجاله التخصّصي، فضلاً عن تجربتكم في الدراسة الجامعية قبل أن تنتقلوا للدراسة الحوزوية إبان العقد الأول من عمر الثورة الإسلامية في إيران، كيف يمكن رصد وتصنيف وجهات النظر حول الموضوع آنذاك؟
^ يعود التنظير الأوّل لمشروع الوحدة بين الحوزة والجامعة، أو بتعبير آخر حوار الحوزة والجامعة، إلى جهود الإمام الخميني؛ والقصّة تعود بتاريخها إلى بضع سنوات قبل انتصار الثورة الإسلامية، عندما أحسّ بضرورة التوفيق بين هاتين المؤسّستين؛ بغية التوصّل إلى أفضل النتائج في بناء المجتمعات.
إنّ انعدام آليات ناجحة في توحيد الحوزة والجامعة ستؤول على المدى البعيد إلى تفكيك المجتمع وتشتته، وهذا يعني استحالة قيامة مجتمع. ولعلّ هذه القضية التي توصّل إليها الإمام الخميني؛ فتبناها علناً عبر خطاب له بمناسبة أربعينية الشهيد مصطفى الخميني في جامع الأنصاري بالنجف الأشرف، فتوجّه بشكواه إلى طلبة الحوزة والجامعيين؛ فلام على الحوزويين تقصيرهم في مدّ جسور التواصل مع الجامعيين في الوسط الجامعي، وحذّرهم من أن يتبنّوا مواقف متزمّتة أو مناهضة لمواقف الجامعة. كما توجّه باللائمة على الجامعيين ودعواتهم إلى إسلام خال من رجال الدين؛ وقد كانت عباراته صريحة في هذا الخصوص وساءلهم: ما معنى أن تطالبوا بإسلام دون رجال دين؟ ماذا يعني هذا الكلام؟ فقال متذمّراً: ليس هذا الكلام مما يحكى ويقال ولا مجال لتطبيقه خارجاً، ودعا ـ ضمناً ـ الجامعيين إلى تفعيل الحوار وتوطيد أواصر العلاقة والتفاهم مع الحوزة.
إلى هذه الحقبة تعود بدايات مشروع الوحدة بين الحوزة والجامعة، وقد كانت للمبادرة انعكاسات مختلفة على أرض الواقع تمثّلت في الأفكار والرؤى المنبثقة عن الفكرة ومعطياتها العملية. ولعلّ قراءة الخميني للموضوع كانت بما يشبه انطباع السياسيين عن دور اتحاد الحوزويين مع الجامعيين في مجال السياسة والاجتماع، وأن تعامل هاتين الفئتين في هذا المجال يشكل مصداقاً بارزاً لتحقّق الوحدة بين الجامعة والحوزة، وأتذكر جيداً موقف بعض الفضلاء من الحوزة والجامعة من تأسيس الحزب الجمهوري الإسلامي سنة (1979م) عندما اعتبروه نتيجة واضحة للوحدة بين الحوزة والجامعة؛ لأنّهم اتحدوا فيما بينهم بما ينتج حزباً واحداً جامعاً للفئتين تحت شعار واحد يمكن بواسطته تأسيس مجتمع متماسك متّحد الأهداف والرؤى.
وقد أيدنا ـ بدورنا ـ الفكرة برمّتها وكانت الغاية إيجاد الانسجام والتعامل المنطقي، وهذا ما انعكس جليّاً في أداء الحكومة، حيث كانت الحاجة الملحّة إبان ولادة النظام الإسلامي للفكر الديني والخبرة الجامعية، وهي قضية قد تعثر على ضرورتها أكثر في موضوع تأسيس الجيش واختيار قياداته آنذاك.
وهنا كانت ضرورة الوحدة المنشودة متجليةً أيضاً بدور الأمناء من الجامعات والنخبة الحوزوية وآرائها الفقهية في إنتاج منظومة موحّدة تدير عجلة النظام السياسي ـ الاجتماعي بالشكل المطلوب. كنّا سنواجه مرّة أخرى ومنذ السنوات الأولى نظير ما حدث في تأميم النفط وبدايات الحركة الدستورية [المشروطة]؛ لكن مقولة وحدة الحوزة مع الجامعة ـ على صعيد الدولة ـ ساعدت في تشريح الكثير من المفاهيم، الأمر الذي خلق لنا قاعدة من الحوزويين والجامعيين الموالين للإمام الخميني ومبادئ الثورة، ومن هذه الإرادة القويّة وثب النظام الإسلامي يشقّ طريقه رغم جميع التحدّيات. إن هذه المفاهيم مما يصعب على الأوروبيين والأمريكيين تحليله ضمن أبجدياتهم فعجزوا عن إدراكه، وظنّوا أن تلك الثورة بزعامة رجال الدين ستضعف بمرور الوقت وتبرز حاجتها للجامعيين والأكاديميين فتضطر إلى مخاطبتهم، وفاتهم ملاحظة التواصل الديالكتيكي خلف الكواليس بين الحوزة والجامعة، ولعلّ هذا التعامل المضمر والحوارية غير المعلن عنها هي التي خلقت اللحمة بين المكوّنات الاجتماعية في العقد الأوّل من عمر الثورة، دون أن تكشف عن أسسها وقواعدها المعرفية.
إذن، شهدت الحقبة الأولى دوراً فاعلاً لموقف الحوزة والجامعة الموحّد بوصفه الموجّه في الفكر والميدان على أبواب التحوّلات السياسية ـ الاجتماعية، وكان دوراً مؤثراً بجميع الموازين.
ما تأثير حلّ الحزب الجمهوري على علاقة الحوزة والجامعة؟ ــــــــ
_ كيف استكمل هذا المشروع خطواته عقب تجميد نشاط الحزب الجمهوري الإسلامي؟
^ لابدّ لنا هنا من رصد المسألة ببعدها الاجتماعي، ونستكشف ما إذا كان مآل الحزب الجمهوري وما قرّره حينها زعماؤه نظراً للانقسام الحاصل بالرأي، هل كان عاملاً في تعميق الرؤى وطرح الأفكار حول موضوعة الوحدة بين الحوزة والجامعة؟ أم كان الأمر على العكس من ذلك؛ فنعتبر فكرة الدمج بين الحوزة والجامعة هي السبب المباشر وراء انقسام الآراء داخل الحزب، أي أنه كان يعيش مخاضات هذه الأطروحة عشية انحلاله والتوصّل إلى قرار التجميد؟ أنا أرى أن الثاني أقرب للمنطق والصواب؛ بمعنى أن الحزب لم يتّخذ قراره نتيجة لمتغيرات سياسية آلت إلى توقيفه، ومن ثم تفكيك عناصره، واستعيض عن ذلك كلّه بهذا النوع من البحوث والأفكار، أجل إن الفكرة كانت قائمة بذاتها قبل أكثر من عامين على قرار الحزب بالتجميد، وقد انتشرت أصداؤها في الأوساط السياسية والاجتماعية تبحث وتوغل في البحث عن تساؤلات موضوعية ملحّة لم تتوفر الإجابة عليها، وهذا ما دعا إلى تعدّد وجهات النظر بين عناصر الحزب.
كيف بدأ الخلاف الحوزوي الجامعي؟ ـــــــ
_ ما هي الدواعي إلى طرح تلك التساؤلات؟
لقد شهدت الحياة السياسية والاجتماعية في بدايات الثورة تساؤلات عديدة بين الحوزويين والجامعيين، لكن ثمة توافق نصّ على تجنّب الخوض فيها في هذه المرحلة، وترجيح الالتفات إلى قضايا الدولة الملحّة آنذاك في ظلّ أجواء الشراكة والوحدة بين الحوزة والجامعة من قبيل: تثبيت نظام الحكم، وكتابة الدستور الدائم للبلاد، وتشكيل السلطات داخل نظام الحكم. وفي هذا الموضوع بلغ التفاعل بين الحوزة والجامعة أوجه على شتى الصعد؛ فكنّا نشاهد القضاء مكوّناً من عناصر جامعية وحوزوية، وهكذا في مجلس صيانة الدستور عندما وقف الفقهاء إلى جانب الحقوقيين الأكاديميين في تأدية الواجبات الملقاة على عواتقهم، والحكم سار على سائر الوظائف الأخرى. أما في مجلس الشورى الإسلامي [البرلمان] فإن قوائم المرشحين في عقد الثمانينات تشير إلى أن التيارات السياسية كانت تسعى إلى توزيع أسماء مرشحيها بين فئة الحوزويين والجامعيين على نحو المناصفة. وقد بقيت التساؤلات مؤجّلة حتى هذه الفترة نظراً للتحفظ ومتطلبات المرحلة ومصالح الثورة الوليدة وعملاً بوصايا الإمام الخميني نفسه في الإبقاء عليها حتى تسنح الفرصة، لكن هذه الأسئلة الجوهرية الحسّاسة أخذت تبرز للواجهة رويداً رويداً، لاسيما على أعقاب الحركة الثقافية وما نتج عنها من اهتمام بالغ بالجامعة الإسلامية. فبدأ الحديث حول كفاءة العناصر الحوزوية ومدى فاعلية التحام الحوزة مع الجامعة وما سينتج عن ذلك من حقائق ملموسة على أرض الواقع؟ وما منهجيتها الفكرية ونظرياتها المعرفية؟ وكيف ستكون المعطيات من النتاج العلمي فاعلة في دورها الاجتماعي فتتحوّل إلى مبتنيات ثابتة في علم الاجتماع نظرياً وتطبيقياً؟ الأمر الذي أدّى إلى أن تتحوّل تلك التساؤلات إلى جدالات سياسية واجتماعية، فلم يؤخذ معظمها على محمل الجد، حتى أن بعضها كان يجاب عليه بردود سطحية لا تتناسب وحجم المواضيع المطروحة. وتركّز البحث حينها حول التقصير الحاصل في تجريد المناهج الجامعية من المفاهيم غير الإسلامية وتقاعس المسؤولين في ذلك.
أسلمة مناهج الجامعات مطلع الثورة ـــــــ
وقد طرحت المحاولة أكثر من مرّة من أجل غربلة تلك الكتب ووجهت خطة لمركز الدراسات الثقافية والعلوم الإنسانية في طهران ليقوم بالمهمة من جديد فيقدّم إحصائيات عن مضامين الكتب الجامعية وما تحمله من رؤى منافية للرؤية الإسلامية، أي أن المسألة تحوّلت إلى ردود أفعال سياسية ـ اجتماعية وسجالات من هذا النوع. لكن التساؤلات بقيت على أهميتها، وبدأ التساؤل عمّا إذا كانت هناك قواسم مشتركة بين الفكر الحوزوي والفكر الجامعي وتلاقيهما في النتاج والعمل؟ فما هي تلك القواسم؟ بعد ذلك يأتي دور التساؤل الآتي: هل مع هذه القواسم من ضرورة لوجود منهجية واحدة للحوزة والجامعة في طرح الرؤى المعرفية؟ فإن انتفت الضرورة، فما مدى انعكاس التعدّدية على اتساع رقعة الرؤى والأفكار والاتجاهات؟ فهل سيحصل تعدّد أشكال ووجهات نظر إلى حدّ التناقض والتباين؟ أي بأن تصبح منهجية الجامعة مغايرة لمنهجية الحوزة. وإذا حصل ذلك، فما هي مكتسباته؟ وكيف سيمتلك الحوزوي مبادئ علمية مشتركة ـ ولو في أدنى مصاديقها ـ مع الجامعي؟ وما يزال هذا الموضوع آخذاً بالتفاقم على صعيد الفروع العلمية.
_ كان هذا البعد المعرفي للقضية. علماً أن الاهتمام بالجانب المعرفي لكلا الفئتين كان مغيّباً في الوقت ذاته.
نعم، فالمسلمات المنتجة للعلم لم تكن جميعها معرفية؛ حيث كان بعضها هادفاً، وبعضها الآخر اتخذ طابعاً نفسانيّاً، أي غلبت الفرضيات النفسانية ـ كما يعبّر عنها علماء الاجتماع ـ على فئة معيّنة كالحوزة أو الجامعة، وبهذا كلّه يتأثر الجانب العلمي، ومن أبرز مصاديق ذلك، الجدلية المطروحة حول الحرية العلمية المطلقة، وهي من المواضيع التي ربطها الغرب بالدواعي النفسانية خلال العقود الأخيرة.
ونعني بالدافع النفساني نزعة الفرد نحو الحرية المطلقة في استنتاجاته العلمية، لكن هذا لا يعني أن يكون الباب مفتوحاً فيما يخصّ وسائل تحصيل ذلك العلم وكيفما اتفق، فيعطي العالم الضوء الأخضر في توظيف كل شيء. هذا ما حصل فعلاً في الغرب وعندنا على صعيد النقد التأويلي خاصة، دون أن يسمح لذلك النقد بالتعليق على النص الديني ذاته، فنحن اليوم نعلّق ونكتب في تفسير النص الديني، مع حظر الخوض في نقد ذاتيات النص، وهو ما يستلزم تناقضاً معرفياً آخر، أي سلب البعد المعرفي عن مصدر الوحي.
سطحية أكثر مشاريع الوحدة بين الحوزة والجامعة ـــــــ
_ إن هذا الموضوع يستبطن بين ثناياه قضايا عديدة، منها الكشف عن مدى تلاقي الواعز والدافعية النفسية لدى الحوزويين في تعليمهم الديني، مع نظيره عند الجامعيين، وما هي سبل التوفيق بينهما؟
^ يظهر أنه كانت هناك تنظيرات أُخرى في الموضوع، منها الدعوة إلى الوحدة الاستراتيجية والتنظيمية أو البراغماتية، وهي دعوات ظلّت متأرجحة بين المدّ والجزر. وكنت قد قدّمت بحثاً إلى المؤتمر المنعقد بخصوص الوحدة بين الحوزة والجامعة عام (1373ش/1994م)، استعرضت فيه سبع أو ثماني نظريات في هذا الباب. وهناك تطرّقت للنماذج التي ذكرتَها بإسهاب؛ حيث أشرت إلى سطحية أكثر تلك التنظيرات من قبيل الدعوة إلى الوحدة على صعيد المؤسّسات والعناصر فيها؛ فكان يعتقد أنه من الممكن دمج إدارات الحوزة بإدارات الجامعات فنؤسّس بذلك منظومة تجمع بين كيان مؤسسات العلوم الدينية والعلوم الأكاديمية على حدٍّ سواء، وهي التي تنظّم شؤون الحوزة والجامعة في آن واحد.
وقد قدّم بعض طلبة الحوزة والجامعة ممّن كانوا على تواصل فيما بينهم أطروحة موسّعة في هذا الخصوص، وأرسلوها إلى كل من مجلس التعليم العالي في الحوزة، ومركز الدراسات الاستراتيجية بمقرّ رئاسة الجمهورية. وتضمّنت الفكرة تعطيل الدراسة في الحوزة والجامعة لعدّة سنوات؛ بغية إعادة تشكيل مفاصلهما من جديد وفي قالب واحد.
_ هل يعني أنهم قدّموا للعلم أنموذجاً يصبّ في خدمة السلطة؟
لا، لم يقصدوا ذلك، إنّما كان غرضهم تأسيس بيروقراطية تخرجهم من مأزق الحوزات الراهن، وكأن المشكلة في انتشار المدارس الدينية في أبنيتها وتشتتها، وأن معضلة إدارات معاهدنا الدينية هي في فقدانها تطبيق الآليات البيروقراطية فقط.
فإذا افترضنا لها بناية مكوّنة من طوابق في كل طابق كادر يدير اختصاصه، كأن يكون التحقيق في حقل الفلسفة في طابق، والفقه في طابق آخر، وهكذا سائر الفروع الأخرى، فسوف تتطوّر الحوزة أسوةً بأختها الجامعة فيتحد الاثنان عملياً!
هذه انطباعات البعض عن مشروع الوحدة، وهو انطباع غير ناضج، وقد يكون بعض المسؤولين تحدّث بما يشبه ذلك الانطباع، من طلب هدم المباني القديمة لكل من الحوزة والجامعة وإعادة بناء بنايات متحدة الشكل والمساحة، زعماً منهم أن ذلك سيجعل الحوزة جامعة والجامعة حوزة.
وبهذا المنظار ذاته كان ينظر للوحدة بين الأعضاء والكوادر؛ لكنها اختلفت بالنسبة لتوحيد العمل البراغماتي، نظراً لصعوبة التوفيق بين آليات الحوزة في تحصيل العلم وآليات الجامعة؛ ذلك أن العملية شائكة تختلف خيوطها باختلاف الفئتين، لكن الأهم من ذلك هو توحيد المعطيات والنتاج الفكري لهما؛ فبواسطتهما تحاك الحُلة التي تكسو قامة المجتمع. أعود لأذكر بصعوبة تحقيق الوحدة على صعيد الأداء العملي والبراغماتي، ومن الوهم والسذاجة أن يقول أحدهم بتبيان المقدمات والمواد ثم من ذلك التبيان يفترض ولادة مفهوم للوحدة!
غائية العلم: هل ذات المعرفة أم السلطة والثروة؟! ــــــ
_ فما هي الآليات المتبعة في العملية التعليمية داخل الحوزات والجامعات؟ وما هي القواسم المشتركة بين المؤسّستين؟
^ عندما تتوحّد الأهداف الاستراتيجية بين الحوزة والجامعة على مدى خمسين أو مائة عام قادمة بما يخدم الواقع الاجتماعي، حينها سيمكننا أن نقدِّم تصوراً عن آليات مشتركة في طريق تحصيل العلم والمعرفة، والشراكة في تأسيس المجتمعات.
لقد طرح فلاسفة الاجتماع في القرنين الماضيين مسألة غاية في الأهمية، وهي هل أن أهداف تحصيل العلم جزء من علم المعرفة أم أنها تفوق ذلك؟ وإذا كانت أعلى مرتبة من علم المعرفة فأين يمكن تحديدها وكيف تُعرف؟ وقد بحثت المسألة من قبل الكثيرين أمثال: نيوتن، فرانسيس بيكون، وآخرين. وكنت قد اطلعت على كتابات (لابلاس) حول هذا الموضوع، فجاء تعريفه للأهداف العلمية ـ وهو يعيش في القرن الثامن عشر في أوروبا ـ على أنها حقائق ما وراء الأمور العلمية، وليست جزءاً من علم المعرفة. وهنا يأتي دور السؤال الآتي: كيف يمكن تحديد تلك الأهداف؟ وما تعريفها؟
قالوا: إنها تتناسب طردياً ومدى رغبات الإنسان وميوله ومن خلال ذلك يمكن وضع حدّ لها؛ ولهذا أقرّ الغرب شرعية تحصيل الثروة والسلطة بعد عصر النهضة بعد أن كان أمراً محرّماً في السابق، وقال بوجود هدفين أساسيين هما: تحصيل السلطة بأقصى مدى ممكن، وتحصيل الثروة بأكبر مقدار ممكن، ولابد للعلم أن يصبّ في خدمة هذين الهدفين، بينما كانت السمة الغالبة على قصدية تحصيل العلوم في الغرب قبل عصر النهضة ـ وكذلك في الشرق ـ هي طلب المعرفة والعلم لذاته، دون أن يكون لذلك تأثير في الوصول إلى السلطة والثروة؛ ولهذا كان التراث الفكري قبل عصر النهضة في شتى أنحاء العالم تراثاً معرفياً خالصاً، ولم يكن موضوع السلطة أو الثروة مطروحاً آنذاك، ثم أثير ذلك بعد عصر النهضة. وهذا ما يفسّر لنا تقدّم العلوم الفيزيائية والميكانيكية في الغرب وإقبالهم عليها، نظراً لفاعلية تلك العلوم في التوصّل إلى السلطة والثروة، مع أن الاتجاه الفكري كان يحوم حول قضايا أخرى. وبعد اكتشافهم «البارود» بدأوا ببسط هيمنتهم على مساحات واسعة من العالم.
إذن، كان الغرب قد وظّف العلم نحو هدف عمره عدّة قرون من الزمن ومن العلم أنتج الثروة والسلطة معاً. وكذلك يتحتم علينا أن نحدّد للغاية العلمية أهدافاً مشتركة على المدى البعيد.
_ هل أن تحقيق ذلك بحاجة إلى فلسفة مشتركة تنظّر وتنظّم؟
لا حاجة لذلك، وأنا لا أرى عمل أولئك الذين يسعون إلى ربط كل شيء بفلسفة القطعات الشطرنجية إلا مضيعة للوقت على أنفسهم وعلى الحوزة والجامعة. لقد ذكرت لكم أن هذه المسائل خارج حدود العلم والفلسفة. وقد بحثت هذا الموضوع مفصلاً في محلّه، وهناك أشرت إلى أنه بإمكاننا أن نفترض للدين دوراً في هذا الخصوص، لا أن نتصوّر للدين مدخلية في توحيد جميع المفاهيم العلمية والمعرفية، فهو ليس بالأمر الممكن من جهة، ولا هو مطلب من مطالب الدين من جهة أخرى. لكن بإمكان الدين أن يلعب دوراً في مجال هام وحسّاس فيما يخصّ تلك الأهداف نفسها، وذلك من خلال فهم إجماعي بالاعتماد على النصوص لا الظواهر، فأنت عندما تراجع النصوص الدينية تجدها واضحة في ترسيم تلك الأهداف بما لا يترك مجالاً للشك، أي أننا نعلم أن الدين ورسالته الخالدة لم تحرّم تحصيل السلطة والثروة، لكنّه وضع ضوابط وشروطاً لذلك، وليست ثمة حاجة للخوض في تفاصيل الشروط، بل يكفي استبيانها بشكل عام وفهم مضامينها، فلا داعي للاستغراق في أقسامها وتصنيفها.
مجلّة «الحوزة والجامعة» ــــــ
لعلّنا لو تمعّنا في مصادرنا وتجاربنا وجدنا الكثير من المقاربات والأفكار المشتركة بين مراكز العلم التقليدية والجامعات الحديثة؛ فعندما صدرت مجلة (الحوزة والجامعة) في إيران سنة (1373ش/1994م) وشمل توزيعها الدول الأخرى، كانت مثار دهشة من حيث عنوانها البارز بغض النظر عن محتوى المقالات المنشورة فيها، وكان من جملة المقالات بحث للسيد فيلين ريتشارد ـ الأستاذ بجامعة نيويورك ـ تحت عنوان (إلهيات لكلّ الأديان)، ترجمه بعض الزملاء ونشرناه في هذه المجلة، ثم أرسلنا نسخةً منه للأستاذ المذكور مصحوبة برسالة، وقد أجاب عليها شاكراً.
كما أوصلنا المجلة لأصدقائنا في جامعات ألمانيا وبريطانيا، وقد سمعنا بعد مضي خمسة أو ستة أشهر من ذلك الحين، بأن موضوع الحوزة والجامعة أخذ يشقّ طريقه إلى بحوث الجامعات الأوروبية. وكان قد وصلني فاكس من شابين أحدهما من جامعة (بون) الألمانية، والآخر من جامعة (فرانكفورت) ذكرا فيه أنهما اختارا موضوع الوحدة بين الحوزة والجامعة عنواناً لبحوث تخرّجهما، كما طلبا زيارة إيران لهذا الغرض.
كيف فهمت إيران والغرب مسألة العلاقة بين الحوزة والجامعة؟ ـــــــ
_ إذن، ما حقيقة مشروع الوحدة بين الحوزة والجامعة؟
^ لقد فسّر الأوروبيون ذلك بوصفه هدفاً سياسياً، وهكذا كان انطباعهم تجاه دعوة الإمام الخميني، وإصدار المجلة المذكورة، فمثلاً كانوا يقولون عنّا: لعلّ قواهم أوشكت على التشتّت والانحلال، فقرّروا إصدار المجلة محاولةً منهم في لمّ الشتات والتقريب.
كان جمع من الطلبة الألمان يطلب زيارة مدينة قم في إيران للدراسة والبحث حول الحوزة، وكان تجمّعهم يضم بعضاً من ذوي الأصول الإيرانية المقيمين بألمانيا، بالإضافة لسيدتين، وعندما بدؤوا زيارتهم كانوا يدهشون بما يلمسونه من حقائق على أرض الواقع، حتى أن أحدهم حدثني عن استنتاجاته، وقال: إنه بعث بها إلى أساتذته يخبرهم فيها بما وقعت عينه عليه، فوجده مغايراً لأفكارهم وفهمهم تجاه الموضوع.
إن مشروع وحدة الحوزة والجامعة عبارة عن نظرية لها بُعدها الواسع والمعمّق، ولو أن الغرب اهتمّوا بها لما دخلوا في العلمانية بهذه السهولة، فلو دقّقنا في الخلفيات والأسباب جيداً لفهمنا الحقيقة التي عاشها الغرب من انفعالات لا موضوعية جاءت نتيجة للحروب التي خاضها الشعب الأوروبي، والنزاعات السلطوية و… تلك العوامل كلّها حالت دون ابتكار طريقة مجدية للتعامل بين قواعد الفكر الديني والعلوم الحديثة. فلم يكن ثمة تواصل بين الكنيسة والمفكّرين خلال القرون الثلاثة الماضية إلاّ على الصعيد الروتيني الصوري، وهذا ما ظلّ سائداً حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر عندما كانت الحكومات الأوروبية ـ بوصفها دولاً مسيحية ـ تدعو أحد الأساقفة للاشتراك في الاحتفالات الرسمية، ولم يكن حضور الكنيسة يتعدّى هذا الحدّ إطلاقاً.
لقد كانت رؤية الإمام الخميني هي الأكثر محورية في عهد الصحوة الإسلامية التي شهدت بدورها انتصار الثورة الإسلامية في إيران؛ وليست فكرة الوحدة بين الحوزة والجامعة إلاّ من بنات أفكاره المبتكرة. وقد اتصلت ـ بحكم رحلاتي خارج الوطن ـ بالعديد من المفكّرين في دول الشرق الأوسط وأفريقيا ورجال الدين هناك، فلم ألمس بوادر تتصل بهذا النوع من التفكير والتنظير للوحدة بين الحوزة والجامعة. وهكذا الحال بالنسبة للمراكز الدينية عند أهل السنّة التي كان يهيمن عليها الفكر الأصولي التقليدي. وغالباً ما أجد مفكّرينا يقرؤون هذه المسألة بمنظار ضيّق، فيعتبرون ـ مثلاً ـ تأسيس الأزهر على الطراز الحديث عاملاً يقضي بالضرورة إلى كون الدين في مصر حديثاً ومتطوراً أيضاً. وليس هو كذلك أبداً.
كذلك الغربيون لم يكن لديهم الدافع لملاحقة مثل تلك الطريقة في التعامل المتبادل كما لا يجدون حاجة إلى ذلك حالياً، فالمفكّرون والجامعيون في العالم الغربي ينظرون للكنيسة التي كانت تقودهم للمشانق قبل ثلاثة قرون، أنها تقاد في نهاية القرن العشرين إلى المشنقة ذاتها وعلى أيديهم هذه المرّة، ولذا لا يجدون مبرّراً لإحيائها وفكّ حبل المشنقة عن رقبتها؛ لكي يفكروا بعد حين بسبل التعامل معها.
هنا تجدر الإشارة إلى مسألة هامّة جداً بحاجة إلى دراسات معمّقة، وهي قدرة الفكر الديني على تفهّم التحولات الطارئة على العالم وكيفية التعامل معها، فأنا أعتقد أنه يمكننا إثبات عجز الفكر الديني في الأديان السماوية السابقة للإسلام عن ذلك، سواء كانت المسيحية أم اليهودية، وحتى الفكر الديني المؤسَّس في ظلّ الاتجاه السلفي عند أهل السنّة، فجميع هذه المذاهب والنحل لا يمكنها استيعاب الأهداف الاستراتيجية بآفاق جديدة، أو خلق أجواء مساعدة على التفاهم المتبادل. أما التشيع فيتمتع بكل الوسائل التي تؤهله للقيام بكل تلك المهام، لا من حيث كونه مذهباً وحسب، بل بوصفه رؤية معرفية مترامية الأطراف. ولذا تجد من بين نتاجات التشيّع نشاطات قام بها علماؤه أمثال الشيخ الأنصاري والآخوند الخراساني والنائيني، مما يرفد رؤية المذهب ويوسع من آفاقها. فماذا كان يجري لو انتشر الفكر الإخباري ـ لاسيما في النجف الأشرف وكربلاء المقدسة وسامراء ـ فتغلّب على عامّة المذهب الشيعي؟ لكان ذلك ـ دون أدنى شك ـ عائقاً أمام المؤهلات واتساع الأفكار، لكن جهود علمائنا الأصوليين والحكماء الشيعة أسهمت كثيراً في الحفاظ على تراث يعيننا على التعامل مع الآخرين وتفهّم مواقفهم.
(*) أُستاذ وباحث في الحوزة العلمية، ورئيس تحرير نشرية «بكاه» المعروفة.