أم منية المريد في آداب المفيد والمستفيد
ـ الحلقة الثانية ـ
تعرّضنا في الحلقة السابقة لبعض ما يتصل بعلاقة الأستاذ بتلميذه، والشيخ بمريده، ونكمل هنا بعض النقاط ذات الصلة إن شاء الله.
هـ ـ وفي سياق منطق مدح الطالب وذمّه تأتي قضية منحه ما يدلّ على موقعه العلمي، فنحن نجد هنا مشكلةً على الصعيدين: الجامعي؛ والديني.
أما مشكلة الوضع الجامعي فهي السياسات التي تضعها الكثير من دولنا المسلمة للحدّ من منح الشهادات العليا؛ خوفاً من مسألة تأمين فرص العمل، بل إنّ الوصول إلى المراحل الدراسية العليا في العديد من بلداننا الإسلامية لا يُشرط ـ إما إطلاقاً أو فقط ـ بالمؤهل العلمي للطالب، بل لابد من (واسطة) سياسية أو ذات نفوذ اجتماعي أو مالي، لكي يتأمن دخولـه إلى الموقع الذي يفترض أن تُدْخله إليه مؤهلاته العلمية، وعبر هذا الطريق يدخل الغني ـ ولو لم يكن مؤهلاً ـ إلى الجامعة ومراحلها العليا دون الفقير ولو كان مؤهلاً، ويدخل صاحب النفوذ والعلاقات دون المؤهل الذي لا يملك نفوذاً من هذا النوع.
ويعمّ منطق: «الولاءات قبل الكفاءات»، ويصبح الولاء السياسي مقدّماً على المؤهلات العلمية في دخول الجامعات والتخرّج منها، وتأمين فرص العمل و..، وهذه المشكلة عندما تعمّ تفقد البلدان نخبها وتخسر طاقاتها، وتضيع جهود أبنائها، وهذا ما يحصل ـ ومع كامل الحزن والأسف ـ في أكثر من موقع في بلداننا الإسلامية.
وأما مشكلة الوضع الديني، وفي المعاهد والحوزات الدينية، فنجد في بعض مواقعها بعض مظاهر المنطق السالف الذكر، فإذا لم تنتمِ إلى تيار معيّن يضيّق عليك في هذه الحوزة أو ذاك المعهد الديني، حتى لو كنت مؤهلاً علمياً، ولا نقاش في ذلك عند أحد، وفي بعض الحوزات إذا تسرّب أنك لا تقلّد فلاناً أو تقلِّد فلاناً، خسرتَ بعض المواقع والمصالح، ولو كنت موالياً هنا أو هناك نلت درجةً أعلى وأرفع، ولم تقف عند حدٍّ لا تتجاوزه.
هذه المشكلة الموجودة تقف إلى جانبها مشكلة أخرى، وهي مشكلة الشهادات، فحديثاً ـ في الوسط الشيعي ـ بدأ مشروع تسليم شهادات تدلّل على موقع الطالب العلمي ـ ولو دلالة إشارية ـ ومقدار ما قضاه في دراساته الدينية، وهذا عمل مشكور بدأ من مشروع كلية الفقه في النجف، لكنه شهد نهضة اليوم في مركز الحوزة العلمية في مدينة قم في إيران، وبالتحديد (جامعة المصطفى|)، لكن الوضع ما زال يسوده في مناطق أخرى نهجٌ لا يعتمد على وثيقة، ولا يدلّل على معرفة؛ فإن عدمها ليس دليلاً حاسماً أيضاً، بل يفتح المجال للمزيد من الفوضى، علماً أن من الضروري تحديد وضع الطالب؛ لأن ذلك يعطيه الفرصة لتحمّل مسؤولياته.
وفي هذا الإطار قضية شهادات الاجتهاد؛ فهناك مزاجان عامان في الحوزات العلمية ومنذ قديم الأيام: مزاج بالغ التشدّد، حتى لا يعطي الأستاذ لآلاف من طلابه عبر الزمن أية شهادة اجتهاد رغم تدريسه عشرات السنين، إلا نادراً؛ ومزاج أقلّ تشدّداً يفسح المجال أكثر للثقة بالمستويات العلمية للطلاب.
نحن نعتقد أنه يجب وضع ضابط موضوعي يعطي شهادات الاجتهاد، لا بطريقة متساهلة مفرطة، ولا بطريقة متشدّدة محتاطة، كأنّ شهادة الاجتهاد اعترافٌ بالنبوّة، ومن وجهة نظر شخصية نجزم بأن هناك المئات ممن يستحقون شهادات الاجتهاد لا تمنح لهم؛ إما عدم ثقة؛ أو عدم علاقة؛ أو تحسباً لمحذور؛ أو…
فالاجتهاد المتجزئ ليس أعلميةً، ولا تصدّياً، بل هو شهادة بالعلم والمعرفة، ومشكلة مشاكلنا أننا ما زلنا نعتقد أن كل مجتهد هو نائب الإمام المعصوم، وحجة الله على الأرض، وأهلٌ للمرجعية الدينية، فيما من يملك منصباً من هذا النوع يشترط فيه سلسلة شروط تليق بهذا المنصب، أحدها فقط الاجتهاد في الفقه والأصول، فهذا الاختزال أضرّ بعدّة جهات، وإن أفاد من جهات أخرى أقلّ أهمية.
لا ينبغي الاستخفاف بجهود الطلاب المتميزين ـ وهم كُثُر ـ ، ولا يجدر تحطيم عنفوانهم وحدّة ذكائهم، فنحن نملك الكثير الكثير من هذه الطاقات في حوزاتنا العلمية والحمد لله، وتغييبها وانعدام الثقة بها في أوساطنا؛ سعياً وراء نهج الاحتياط، ومنهاج تقديم دفع المفسدة المحتملة على جلب المصلحة المحتملة.. خسّرنا الكثير من الإمكانات والفرص.
نحن ندعو إلى نهج متوازن في هذا الموضوع؛ ذلك أننا لا نقبل بتسهيل الأمور العلمية وتبسيطها كما يفعل بعض، أو جعلها في موقعٍ متأخّرٍ جداً لحساب مواقع أخرى، لكن هذا لا يعني الإسراف في التشدّد مما يفقدنا حضور طاقات هادرة وواعدة.
ومما يتصل بهذا الموضوع مسألة احترام جهود التلامذة، والآخرين عموماً، في ما يقدّمونه من مساعدات علمية للأستاذ أو لمؤسسة علمية، فقد وجدنا ظاهرة واسعة الانتشار في بعض الأوساط، وهي أن بعض الطلاب قد يساعدون أستاذهم في إعداد بحث ما، ويكون لهم دور فاعل في هذا الأمر، لكن عندما يراد طبع هذا العمل وإخراجه للناس نلاحظ غياب أسماء الذين شاركوا فيه وحضور اسم الأستاذ فقط، وهذا ظلم كبير رضي به التلميذ أو لم يرض؛ فالمطلوب تشجيعه وعدم مصادرة جهوده، والإعلان عن خدماته التي قدّمها؛ فإنّ هذا هو مقتضى الأمانة والصدق، لا أن يسهم العشرات في تأليف كتاب ثم يصادر الأستاذ هذا الجهد ويُصدر الكتاب باسمه، ليبقى الكتاب لـه عبر التاريخ؛ ويقنع التلميذ بالكلام المعسول أو بالبدل المادي، فهذا ظلم كبير، بل لقد وجدنا بعض من يكتب لغيره ويتقاضى أجراً، ثم تصدر الكتب بأسماء ليست لأصحابها، ولا أدري كيف ينسجم هذا الوضع مع القيم الرفيعة للدين، ومع قيم: عدم بخس الناس أشياءهم، ومع قيم احترام الغير في نفسه وماله وعرضه وما يصدر منه، ومع قيم الصدق والوفاء؟!
وـ ومن منطلق أن التعليم مسؤولية، وليس منصباً فحسب، أحببت في هذا الإطار أن أستشهد ببعض النصوص الدينية، ففي رسالة الحقوق للإمام علي بن الحسين جاء: «وأما حق رعيتك بالعلم فأن تعلم أن الله عز وجل إنما جعلك قيماً لهم في ما آتاك من العلم، وفتح لك من خزانة الحكمة، فإن أحسنت في تعليم الناس، ولم تخرق بهم، ولم تضجر عليهم، زادك الله من فضله، وإن أنت منعت الناس علمك، أو خرقت بهم عند طلبهم العلم منك، كان حقاً على الله عز وجل أن يسلبك العلم وبهاءه، ويسقط من القلوب محلّك» (انظر: الصدوق، الأمالي: 453؛ والخصال: 567؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 621:2 و…).
هذا النص الدالّ يقدّم لنا عدّه مفاهيم:
المفهوم الأوّل: مفهوم إعطاء العلم، وهو مفهوم زكاة العلم الذي ورد في الروايات الحث عليه، ففي خبرٍ عن الإمام علي×: «وما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلّموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا» (نهج البلاغة 4: 110؛ وخصائص الأئمة: 125 و…)؛ فالتعليم فريضة، وهذا ما يناقض احتكار العلم، أو الزعم بأنه لابد أن يُبخل به، فالبخل بالعلم غير صحيح، إلا مع وجود المانع عن إعطاء العلم، لا أنه المبدأ في ذلك.
وفي الخبر عن علي× قال: «..والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق» (الخصال: 186؛ وخصائص الأئمة: 105؛ والإرشاد 1: 227؛ وجامع بيان العلم وفضله 1: 57؛ وتاريخ بغداد 6: 376 و..).
فما نجده عند بعضٍ من الاستخفاف بالعقول، ولهذا يضنّ بالعلم، ولا يكشف عنه، بحجّة أن المطلوب هو الطاعة، وليست المعرفة إلا لأهلها؛ كلامٌ لا نجده ينطبق تماماً ـ إلا في حالات استثنائية ـ على الثقافة الدينية، وهي ثقافة بث المعرفة ونشر العلم، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} ]البقرة: 159[، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ]البقرة: 174[، وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ…} ]المائدة: من الآية 15[.
فالبخل على الناس بالحق والعلم؛ بحجة احترام الحق وهيبة العلم، بدل مساعدة الناس في فهم الحق وإدراك العلم، مبدأٌ غير أصيل في الثقافة الإسلامية، وأعتقد أن ظروف القمع التي مرّت على الفلاسفة والمتصوّفة لعبت دوراً تاريخياً في نشر مثل هذه الثقافة على أنها مبدأ، وليست استثناءً.
المفهوم الثاني: الرفق والصبر على من نعلّمه، مقابل الخرق والضجر والحماقة وعدم الإحسان في ممارسة التعليم، وهذا ما يلاحظ كثيراً من قلّة صبر بعض المعلّمين، ومنهم شخصيات كبيرة في هذا المضمار، وفي هذا الإطار يقول سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} ]آل عمران: 159[.
فالرحمة والرأفة في التربية والتعليم مبدأ أصيل، قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ]التوبة: 128[.
أما منطق القسوة وانعدام الصبر والحلم من النفوس، وعدم مراعاة أواسط الطلبة، فهو خلاف العدل والإنصاف.
3ـ تحدّثنا سابقاً عن ضرورة الربط والدمج بين التربية والتعليم، وأن أيّ فصل بينهما يؤدي إلى الإضرار حتى بإنتاجية التعليم نفسه، فالتعليم ليس علاقة معرفية فقط، في اتصال عقلين ببعضهما، بل هو علاقة تستمرّ لتربط القلوب أيضاً، من حيث نشعر أو لا نشعر.
ولهذا نختم بالحديث عن صفة الأستاذ في نفسه، وخارج إطار قاعات الدراسة وصفوف التعليم، وهي صفة لابد أن يتصف بها الداعية إلى الله أيضاً، أن يتناسب القول والفعل، وليس هذا وظيفة علماء الأخلاق فقط، بل وظيفة مدرسي العلوم كافة في دائرة ما يوجّهون به طلابهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} ]الصف:2ـ3[، وقال سبحانه: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} ]البقرة: 44[.
وقد توصّلنا في أبحاثنا الفقهية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى أنه لا يبعد ثبوت حكم إلزامي آخر بأن لا يتصف الإنسان بأنه ممن يقول ما لا يفعل أو يأمر بما لا يأتي وينهى عن ما لا يترك، فالتعنون بهذا العنوان محّرم، دون أن يعني ذلك اشتراط العدالة في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، وتفصيله موكول إلى محلّه.
وفي مقابل صفة الأستاذ تقع صفة الطالب، وأهمها الصبر؛ فإن طريق العلم والمعرفة عسير وطويل وشاق، فعليه أن يقصد التقرّب إلى الله تعالى بذلك، لا أن يقصد أن يصبح كذا وكذا في العلم ليصفي حساباً مع فلان وفلان..، قال تعالى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}
]الكهف: 66 ـ 69[.
إن الحديث عن هموم التربية والتعليم لا يكاد ينتهي؛ فالمشكلات كثيرة والواقع مرير، لكننا نسأل الله تعالى أن يوفق الصالحين من عباده لتحقيق المزيد من معاني الخير والعطاء في حياة الإنسان والعالم.
{الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} ]الرحمن: 1 ـ 4[.