دراسة إيبستمولوجية
د. إبراهيم الفيّاض(*)
ترجمة: السيد حسن مطر
نبذة أولى ـــــــ
إنّ الاهتمام بالأسس المعرفيّة لوحدة الحوزة والجامعة ينقلنا من استعراض الأفق التقييمي إلى الاهتمام بالحقائق الماثلة في هذا المجال. ويسعى هذا المقال إلى بيان العامل الرئيس في إقرار الوحدة بين الحوزة والجامعة من خلال تأصيل العلوم في قالب الارتباط بين المجامع التنظيريّة (الجامعات) والمجتمع. وقد رأى هذا المقال أنّ السبب الأساس لانفصال الجامعة عن الحوزة يكمن في عدم ارتباط المجامع العلميّة بالمجتمع وغياب العلم المتأصّل.
الإطار النظري ـــــــ
يشتمل محتوى الإطار النظري على المباحث المعدّة من تركيب العناصر النظريّة في مختلف الأبواب، وتلك العناصر عبارة عن: مقدمة عن معرفة النشوء، ومقدمة عن علم الاجتماع المعرفي القائم على أساس نظريّة معرفة النشوء وأصالة المجتمع في قبال أصالة الفرد، وكذلك معرفة الجغرافيا الإنسانية.
بديهيّ أنّ كلّ التنظيرات في هذا الإطار تقوم على أساس الاهتمام بالحقائق المعرفيّة في مجال العلوم التجريبيّة والإنسانيّة.
وتتألف جميع أنواع المعرفة والعلوم من عدّة أجزاء: 1ـ المفاهيم، 2ـ النظريّات،
3ـ الأساليب، 4ـ المجالات.
- المفاهيم : دورها وعلاقتها بالبناء الحضاري ـــــــ
تعرّف المعاني التي تعمل على اقتناص الحقائق الخارجيّة وجمعها بالمفاهيم. وبعبارةٍ أخرى: إنما يمكن التفكير في الحقائق الخارجيّة ويُميّز بعضها من بعض عن طريق تعيين حدودها في ضوء المفاهيم. وإنّ الوصول إلى أكثر الحقائق الخارجيّة في كلّ علمٍ منوط بكثرة المفاهيم المبحوثة في ذلك العلم. وعليه كلما كانت المفاهيم متكثرة ومتنوّعة أمكن إبداء الكثير من النظريّات القائمة على تلك المفاهيم. وهذا بدوره يؤدّي إلى قابليّة ذلك العلم أو المعرفة على إبراز موضوعات خارجيّة أكثر وأشدّ تنوّعاً. دائماً ما تكون المفاهيم ذات مسيرة تاريخيّة وفلسفيّة، حيث تكون لظهور المفهوم بداية، ومن ثمّ تطرأ عليه بعض التغييرات خلال مسيرته التاريخيّة، وعليه يكون تاريخ الاستفادة من المفاهيم هو بنفسه تاريخ المعرفة المبحوثة.
من هنا، كان من الضروري دراسة تاريخ المفاهيم بشكلٍ كامل تجنباً للوقوع في السهو والغفلة العلميّة، إذ غالباً ما يتصوّر الفرد، بسبب جهله بتاريخ المفاهيم ومسيرة تحوّلها، أنّ المفاهيم المذكورة أنما كانت منذ البداية على الهيئة التي وصلت فيها إليه، وأنها تبقى ثابتة ولا تتغيّر، إلا أنه ما إن يدرس خلفيّات ذلك المفهوم وسابقته التاريخيّة حتى يقف على التغييرات الكثيرة التي طرأت عليه طوال مسيرته التاريخيّة، فالمفاهيم لها جذور ضاربة العمق في الذاكرة التاريخيّة لحضارة أو ثقافة أي شعبٍ أو رقعةٍ بعينها.
من هنا، كان لابدّ لبلوغ المعرفة الكاملة بمسار التحوّلات والتغييرات الطارئة على أيّ مفهوم من دراسة الثقافة العامّة والدين والأدب والفن والعلم، بل وحتى التكنولوجيا، لذلك الشعب وتلك الأمّة. ولو لم تدرس جميع هذه الموضوعات لا يكون هناك إمكان للوصول إلى جذور تلك المفاهيم بشكلٍ كامل. وباتضاح الكثير من الزوايا والخفايا التاريخيّة للمفاهيم، ندرك عدم إمكانيّة الوثوق بثبات المفاهيم منذ نشوئها وعدم تعرضها للتغيير والتحول .
من جهةٍ أخرى، فإن تغيّر أيّ مفهوم يستند ـ مضافاً إلى الذاكرة التاريخيّة المشتملة على العناصر المعرفيّة الستة المتقدّمة ـ إلى عنصر آخر يتمثل في واقعيّات الحياة (التاريخيّة، والمعاصرة). ومن ثمّ تظهر التغيّرات المذكورة في قالب علم منتظم على هيئة انتزاعيّة.
من هنا، يمكن إيضاح البنية المعرفية على شكل مثلث يرسم علاقة المعارف بالحضارات، ولمّا كان الدين يعدّ العنصر الأساس في الذاكرة التاريخيّة، وأنّ كلّ حضارةٍ إنما تستمدّ هويتها من الذاكرة التاريخيّة، ندرك أنّ الدين هو العنصر الرئيس في قيام الحضارات.
الدين وبُنية الذاكرة التاريخية ـــــــ
لما كانت جميع أنواع المعرفة المنسجمة والمنتظمة رهناً بالحضارة، لا محالة تكون هذه المعرفة رهناً بأهم عناصر الحضارة التي تتمثل بالدين، ولا يقتصر هذا الارتهان على طرحه في قالب ظاهري، بل يتعداه إلى المضمون والمحتوى أيضاً.
وبعبارةٍ أوضح يمكن القول: إنّ المفاهيم المكوّنة للمعارف البشريّة تضرب في جذورها في الذاكرة التاريخيّة لبلادٍ أو أمّة أو رقعة.
و الذاكرة التاريخيّة هي التي تمثل الهويّة الحضاريّة لتلك الأمّة والبلاد. وبعد نظرة وجوديّة ومعرفيّة تغدو تلك المفاهيم رهناً بالحضارة وبما أنّ الدين يشكل مفصلاً أساسيّاً في الحضارة، عليه تكون المفاهيم من الناحية المعرفيّة والوجوديّة رهناً بالدين.
وأما بيان سبب كون الدين عنصراً أساسيّاً وجذريّاً في بنية الذاكرة التاريخيّة، فهو بحاجة إلى نموذج معرفي؛ فالدين بمجرّد ظهوره يترك أثره قبل كلّ شيء على الثقافة العامّة، وفي الحقيقة فإنّ بعثة الأنبياء تقترن على الدوام بالتأثير على الشعور العام للمجتمع وتغيره، إذ يتغلل التأثير الديني طوال التاريخ على الشعور العام ويتحوّل إلى نوعٍ من الإبداع العام في أذهان العباقرة. وتتجلى هذه الحقيقة بدورها على الأدب، وفي الحقيقة فالأدب الذي يستلهم من الدين هو حالة أكثر انتزاعيّة من الثقافة العامة، لكنها لا تبقى على هذه الحالة الانتزاعيّة إطلاقاً؛ بل تتحوّل بالتدريج إلى فن.
لهذا؛ كانت الفنون تظهر على الدوام في لحظة تاريخيّة بعد الأدبيّات. وفي هذه المرحلة تظهر الفلسفة لتعمل على تفسير منهجي للكون والوجود؛ وتمهّد الأرضيّة للمعارف التالية لها من العلوم التجريبيّة والتطبيقيّة. وعليه لولا الفلسفة لما كان هناك وجود للعلم. فالعلم في نهاية المطاف ـ بوصفه نتيجة وانعكاساً واضحاً ـ مدين في إبداعاته وإنجازاته لدعم فلسفته؛ مثلاً العلم التجريبي في الغرب هو حصيلة الفلسفة البروتستانتيّة المسيحيّة واليهوديّة. إنّ عقلانيّة الأدوات الناشئة من هذه الفلسفة التي تمتزج بالعلم فتؤدّي في نهاية الأمر إلى ظهور الإبداع في شكله الراهن الذي قامت عليه الهويّة الغربيّة.
في الحقيقة لو أنّ ديناً لم ينجح في التحوّل إلى حضارة، فهذا يعني أنه لم يتمكّن من بلوغ حدّ الكمال في واقعيّته التاريخيّة. فالطريق الوحيد الذي يؤدّي إلى الحضارة المنشودة إنما يتمّ عبر الدين لا غير. كما يُعدّ قيام الفن والإبداع على الدين أمراً واضحاً وبديهيّاً؛ لأنّ جميع أنواع الإبداع رهن بالدين بنحوٍ من الأنحاء ومتوقفة عليه.
- الدين ودوره الخفي في إنتاج النظريات العلميّة ــــــ
لو تجاوزنا إطار المفاهيم وبلغنا مرحلة النظريّات سنجد أنّ النظريّات بدورها رهن بالدين؛ وذلك لتكونها من مفاهيم هي بدورها متوقفة على الأديان. وقد حدد (غولدزمن) خمس نظريّات في بحث نظرية علم الاجتماع:
أـ المعرفة العلميّة أو النظرية المتكفّلة ببيان مجالات المعرفة، والتي تشكّل إطاراً لمختلف الآراء حول الكون. وهذا النوع من النظريّات يبحث حول العلوم القابلة للتحقيق.
ب ـ المعرفة الفلسفيّة أو النظريّة المتكفّلة ببيان الرؤية الشموليّة، والمعرفة الفلسفيّة ضمن اشتمالها على القيم، تعمل على تحديد الظواهر الاجتماعيّة فكريّاً. وهذ النوع من المعرفة يتضمّن فعاليّة التنظير أيضاً.
ج ـ النظريّة بمعناها المعروف، والمتكفّلة ببيان ودراسة الفرضيّات الواقعيّة والمعقّدة والملموسة.
د ـ معرفة الأساليب أو تأييد صحّة نوع الأساليب التحقيقية.
هـ ـ توصيف أو تحديد أرضيّة الدراسة تحت عنوان الموضوعات المتناغمة.
يرى (غولدزمن) أنّ التصنيف المتقدم يقوم على ترتيب نزولي في التجربة الفكريّة، وليس له جنبة إلزاميّة وقطعيّة([1]). وبعبارة أُخرى يمكن للنظريّة أن تحتوي على جميع الأُمور الخمسة المتقدّمة، حيث يبدأ العلم من الفلسفة التي تعدّ من أكثر الأُمور انتزاعيّة، وتمضي في مشوارها إلى قمّة المستويات الانتزاعيّة المتمثلة في تنظيم المفاهيم والموضوعات، إذن فالنظريّة ليس لها مستوىً انتزاعي واحد، وإنّما لها مستويات انتزاع متعددة ومختلفة.
المسألة الأُخرى فيما يتعلق بتوقف النظريّات على الدين. إنّ تاريخ العلم يُظهر أنّ النظريّات لا يتمّ الحصول عليها من طريق الاستقراء، ولو حدث وتمّ الحصول في بعض الموارد المعدودة على نظريّةٍ من هذا الطريق، فهي ذات تأثير محدودٍ جدّاً حتى لا يمكن تسميتها نظريّة([2]).
إنّ ما يكون منشأ لظهور النظريّات عبارة عن الحدسيّات العلميّة ـ الفكريّة ـ والمعنويّة والروحيّة، أو بعبارة أخرى هو الشعور الحكيم والمدرك الذي يخطر في ذهن العالم. فحاليّاً لا تقتصر هذه الرؤية على علماء الظواهر، بل إنك تجد (بوبر) وأمثاله من الذين يقفون على الطرف النقيض من هؤلاء العلماء يرون أيضاً أنّ منشأ النظريّات حدسيّات تسعى العلوم إلى إبطالها. وبديهيٌّ أنّ لكلّ حدسٍ وشعورٍ أرضيّته الفكريّة والروحيّة التي تتحقق في ضوء إدراك المعارف والواقعيّات المرتبطة بها. ولذلك فهي تظهر في قالب نظريّات المعرفة المذكورة. ومن أهمّ الأحاسيس التي تشكل أرضيّة لإبراز النظريّة هو الإحساس الديني، إذ ينشأ الإحساس الديني في كونه مصدراً لإظهار النظريّة على النحو الآتي: بأن تكون مفاهيم النظريّات مسبوقة بالذاكرة القوميّة والتاريخيّة والحضاريّة لأمّة أو رقعةٍ جغرافيّة.
وعليه، فإنّ النظريّات التي تقوم على الأحاسيس إنما تتحقق وفقاً للذاكرة القوميّة المشتملة على جميع المعارف، وتتجلّى في قالب مفاهيمها وتبلغ مرحلة الظهور، وبما أنّ الدين يُعدُّ محوراً أساسيّاً في قالب الذاكرة التاريخيّة والقوميّة، فإنه يُشكل مهداً لإحساس وظهور الحدسيّات النظريّة.
من هنا، يمكن الإذعان بأنّ للدين تدخلاً كاملاً في تكوين النظريّات، مضافاً إلى أنّ نفس الإحساس والحدس يمتاز من النواحي العاديّة في هويته المعنويّة والدينيّة. (مهما كان متضمّناً لمناهضة الدين الخاص والرقعة الجغرافيّة الخاصّة)، وبعبارةٍ أُخرى يمكن تصوير عمليّة التنظير من خلال الدين على النحو الآتي:
لمّا كان الدين واقعاً بين الإبهام والوضوح، والظاهر والباطن، والوحدة والكثرة وما إلى ذلك، فقد ظهرت عبر التاريخ نظريّات كثيرة في مجال العلوم البشريّة. ولكن يبقى السؤال عن سبب اختلاف هذه النظريّات فيما بينها مطروحاً. وجوابه أنّ منشأ اختلاف التنظير في مختلف العلوم يكمن في اختلاف رؤية الدين للمسائل المختلفة طوال التاريخ. فقد حظي التنظير الديني بالتنوّع والتكثر، نظراً لاختلاف العلوم وتنوّع الأمكنة والأزمنة. وحتى لو انفصلت نظريّة عن الدين لا شعوريّاً، فإنما هي ذات منشأ دينيّ بحسب اللاشعور، حيثُ يكون للدين دخل في ذلك التنظير بنحوٍ من الأنحاء. وهذا ما تؤكّده الدراسات المعاصرة حول تاريخ العلوم وخاصّة الإنسانيّة منها، فعلم الاجتماع المؤلف من المسيحيّة البروتستانتيّة كان يحمل في طيّاته روح اليهوديّة أيضاً. وعلم الاجتماع، الذي يعتبر أُمّ العلوم الإنسانيّة، ذو علاقة وثيقة وواضحة بالإلهيّات. وقد قامت العلوم التجريبيّة، وخاصّة علم الفيزياء منها، على مختلف الرؤى الكونيّة، حتى ذكرت في تاريخ الفيزياء مصاديق عديدة لإرجاع الكثير من النظريّات الفيزيائية إلى الرؤى الميتافيزيقيّة، ومنها: السماوات السبع المذكورة في الأديان، حيث يتمّ تطبيقها على المدارات الألكترونيّة السبعة. وإذا أردنا الذهاب في بحثنا إلى أبعد من النماذج المذكورة فلا بد من النظر إلى مستوى النظريّات الانتزاعيّة، وعندها سنجد تفاوتاً كبيراً بينها. وعليه، يتّضح أنّ النظريات ليست على وتيرةٍ واحدة أو مستوىً واحد.
فهناك ما يتمتع بمستوىً متدنٍ من الانتزاع، وهناك ما يتوفر على مستويات أرفع. وهذه الوضعيّة المختلفة رهنٌ في الغالب بسعة رقعة الدين والمذهب، وذلك لأنّ موقع الدين، بالالتفات إلى الوضوح والإبهام، والظاهر والباطن، والمحكم والمتشابه، يمهّد الأرضيّة الانتزاعيّة من رقعة مختلفة المستويات والسطوح، فترتفع تارة إلى القمة، بينما تهوى في أحيانٍ أخرى إلى الحضيض. في حين أننا لو أردنا النظر إلى هذا الأمر من زاويةٍ أخرى في محاولةٍ منّا لتوضيح أسسه الفلسفيّة والكلاميّة، لأمكننا الاستفادة من مفهوم الشعور أو الحسّ العام <common sense>.
من ناحيةٍ أخرى، فإنّ الشعور والإحساس العام لا يقبل الخطأ، وذلك لارتباطه بالشهود من جهة، وبسلسلة من الحقائق من جهةٍ أُخرى، من هنا سمّاه بعضٌ بالعقل السليم، وإن لم يكن هذا المفهوم ترجمةً دقيقة للمصطلح الإنجليزي، ولكنه لازمٌ لـه من الناحية المفهوميّة. كما أن الشعور العام ضارب الجذور في معارف الأمّة المسيطرة على مفكريها في جميع أبعادها،بمعنى أنّ الشعور العام كما هو سائدٌ على جميع مستويات الفكر والعلم، ابتداءً من العلوم التخصّصيّة إلى العلوم العامّة، فهو يسود جميع أحكام الأُمّة أيضاً إبتداءً من المفكرين إلى عامّة الناس.
بعبارةٍ أُخرى: إنّ أصل وجوهر المعرفة والشعور العام كامن في مستويات عامّة المجتمع، إلاّ أنّ المفكرين ومن خلال تنظيم المعرفة والشعور الديني في كافة الفروع والعلوم يعملون على التنظير، ولما كان الدين هو العنصر الأساس في المعارف العامّة، ويدخل في تكوين الهويّة الثقافيّة والمعرفيّة للأُمّة، نستنتج من ذلك أنّ النظريّات التي توصّل إليها المفكرون إنما كانت إلى حدٍّ كبير بتأثيرٍ من وحي الدين. وإن كان هذا التأثير يقع من خلال الكثير من الوسائط، وقد يكون بعضها يقف على طرف النقيض من الدين. وإنّ التعبير بـ(الذكر) الوارد في الدين الإسلامي يشير إلى هذا المعنى، أي التذكير بالشعور العام أو الإيمان به من خلال الدين. فما هو الحقّ والحقيقة كامنٌ في الإنسان الذي هو مرآة الوجود، وبما أنّ الإنسان متحد بالوجود، فإذا تمكن من معرفة نفسه يكون قد تعرف لا محالة على الوجود. كما أنّ لخالق الوجود معرفة فعلية وحضورية عنه. والعرفاء الذين يسعون إلى التعرف على أنفسهم يتوصّلون ـ بنحوٍ من الأنحاء ـ إلى إنطواء العالم في وجودهم. ولا تقتصر رؤيتهم هذه على العالم المعاصر، بل تتخطاه إلى العوالم الماضية والآتية، ويكمن وجودهم في رقعة من تاريخ العالم الماضي والحاضر والآتي. ولو تمكن الفرد من إدراك معنى ذاته لأمكنه الوصول إلى الشعور العام وإدخال الذكر في كيانه، والقرآن بوصفه ذكراً إنما يترك تأثيره على الخاشعين والمتقين. فالقرآن مذكّرٌ بالذات والحقيقة الكامنة في وجود الإنسانيّة جمعاء، وبإمكان الناس من خلال تصفية أنفسهم بلوغ تلك الذات والحقيقة. وقد جاء الدين للتذكير وصفاء الذات؛ وللتذكير بأُمور تمثل الشعور العام الكامن في ذوات جميع الناس والتي لا تحتاج في ظهورها لغير التذكير.
على صعيد آخر، فإنّ للوجود ارتباطاً وثيقاً بهذا الشعور العام، ومن هنا يتجلّى الارتباط الثلاثي الوثيق بين الدين والكون والشعور العام تلقائيّاً، ولذلك يمكن التوصّل إلى أنّ لجميع النظريّات في مختلف الفروع ارتباطاً وثيقاً بالدين.
وباتضاح هذه الحقيقة تثبث الأُسس الكلاميّة للعلوم الإسلاميّة على الصعيد التجريبي والإنساني، وتتمخض وحدة الإنسان من إطلاق هذا الكلام في وحدة الوجود بجميع أبعاده الطبيعية والإنسانية والتاريخية. وقد عمد القرآن ـ استناداً إلى كمون الحقّ والحقيقة في وجود الإنسان ـ إلى مؤاخذة حتى الكفار الذين لم يؤمنوا بالوحي؛ وذلك لأنّه إنما يُرجعهم بذلك إلى فطرتهم. والفطرة الموجودة عند جميع الناس لا تخطئ أبداً، وإلاّ لما تمّت مؤاخذتهم من خلالها.
إنّ النفس المطمئنة كامنة أيضاً، بمعنى ظهور الشعور العام والحقّ والكون في وجود الفرد، وكذلك النفس اللوامة على ذات الوتيرة، أي النفس التي تلوم الإنسان على الإخفاق في بلوغ الحقّ، وهي تعدّ من أكبر الموانع التي تحول دون تجلّي الوجود والشعور العام في ذات الإنسان. ويمكن من هذا الطريق فهم علاقة الإبداع بالعلم أيضاً، حيث يشهد تاريخ العلم على عدم إمكانيّة الوصول إلى العلم لولا الإبداع الروحي، والذي لولاه لبقي الإنسان مجرّد مقلدٍ بعيد عن جميع أنواع الإبداع العلمي والتنظيري.
وكما تقدّم؛ فإنّ رقعة الشعور العام تسود المستويات والطبقات كافة، ولا تختص بالطبقة المثقفة والمتعلمة، من هنا يخاطب الدين جميع الطبقات الاجتماعيّة، وتبدأ اللغة البيانيّة للشعور العام من اللغة التخصصية والانتزاعيّة لتتواصل حتى باللغات العامّية؛ وبرغم أنّ الأديان في مراحل ظهورها الأُولى تخاطب العامّة، نجد هذا الخطاب مشتملاً في واقعه على بطون وطبقات متعددة. وبذلك يمكن القول بعدم أهميّة التعارض الظاهري بين لغة الدين ولغة الجامعات المتخصّصة، وذلك للتفاوت الكبير في مستويات الانتزاع لدى الشعور العام، فهو يبدأ من أدنى المستويات الانتزاعيّة المتمثلة بلغة العامّة، ويصل إلى أعلى المستويات الانتزاعيّة المتمثلة بلغة العلوم التخصّصيّة. من هنا، لم يقتصر العلماء على تطوير قابليتهم في استخدام اللغة التخصصيّة، بل نجدهم يفهمون لغة العامّة أيضاً. فيعمدون إلى التنظير من خلال تحصيل المفاهيم من الشعور العام وتنميته وتنظيمه. ولو لم يعمد المفكرون في أُمّة إلى دراسة الشعور العام والذاكرة التاريخيّة، وخاصّة الدين، فلن يتمكنوا من تكوين علم تخصصي متأصّل، وبترك الجانب التنظيري سيمكثون في دائرة التقليد والتبعيّة إلى الأبد. وقد برزت هذه الحقيقة في إيران على هيئة التبعيّة للغرب.
- الأساليب الشهودية ومستويات الانتزاع ـــــــ
بعد اتضاح إطار النظريّة، تتضح حالة الأُسلوب أيضاً، وهو أُسلوب الشهود من خلال تضاعيف الحركة بين مستويات الانتزاع الأُولى وصولاً إلى المستويات العالية. وفي الحقيقة فإنّ الحركة بين هذه المستويات، أو بعبارةٍ أُخرى بين العلم الحضوري والحصولي، هي التي تؤدي إلى تحقق النظريّات والحدسيّات.
- العلاقة الجدلية بين المجتمع والجامعات ـــــــ
بما أنّ جميع الأُمور المذكورة (المفاهيم والنظريّات والأساليب) إنما تحصل عند مواجهة الحقائق والاهتمام بها، فمن الطبيعي أن يكون لها ارتباط وعلقة بمختلف مجالات العلوم. إنّ التحقيق والبحث الذي يعدّ من أهمّ الأمور التي تشكل مهداً للتنمية والتطوير العلمي إنما يحصل من خلال رؤية الحقائق والمجتمع. ويؤدي هذا الارتباط إلى تأصيل العلوم وتعميق الارتباط بين المجتمع والجامعة، حتى لا يتحرك المجتمع بعد ذلك من دون الالتفات إلى الجامعة، ولا تتحرك الجامعة من دون أخذ الحقائق الاجتماعيّة بنظر الاعتبار، وهذه هي القطيعة الكاملة التي نشهدها حاليّاً للأسف الشديد بين المراتب العلميّة والحقائق الاجتماعيّة في العالم الثالث، ومنها إيران.
إنّ المجتمع لا يشكل مجرد مهد ومصدر لاستنباط النظريّات من قبل الجامعة فحسب، بل هو المتلقي أيضاً لتلك النظريّات، فالمجتمع ينمو من جهةٍ، وتكون لـه بعض الانفعالات وردود الأفعال، ومن جهةٍ أخرى تعمل الجامعة والمؤسسات العلميّة على التنظير من خلال هذه الانفعالات.
ويؤدي هذا الارتباط تلقائيّاً إلى النمو العلمي والفكري لدى الجامعة والمجتمع. وقد أدّى بنا فقدان هذا الارتباط إلى التخلف في مجال الصناعة والفكر والعلوم الإنسانيّة، فكانت نتيجته ضعفنا وقصورنا في مجال الاكتفاء الذاتي والتنمية والتنظير. والشاهد على ذلك أنه لو ظهر أفراد قادرون ـ لو بنحو رمزي وشكلي ـ على التنظير في مجتمعنا، فإنما كانوا من المطلعين على العلوم الحوزويّة بوصفها معياراً أساسيّاً للشعور العام والذاكرة التاريخيّة، وإن كانت للنظريّة المذكورة جهة انتقاديّة فيما يتعلق بالحوزة والعلوم الحوزويّة. وهذا ما يشهد لـه بقوّة تاريخ المتنوّرين والمصلحين في إيران. وإنما يمكننا بلوغ نوعٍ منطقيّ ومتين من الوحدة الحقيقيّة بين الحوزة والجامعة من خلال التمسّك بالارتباط والعلقة بين الجامعة والمجتمع.
الهوامش
(*) أستاذ جامعي، عضو الهيئة العلمية في جامعة الإمام الصادق.