قراءة تفسيرية تجزيئية لآيات الحجاب في القرآن الكريم
ـ القسم الثاني ـ
السيد مهدي الأمين(*)
آيات الحجاب، دراسة موضوعية تحليلية
قبل الدخول في البحث حول مسألة الحجاب بشكل أعمق، لابد لنا أولاً أن نلقي نظرة على ما كان سائداً في المجتمع الذي نزل عليه هذا التشريع أوّل ما نزل. ومن هنا سوف نلقي نظرة سريعة تمهيدية على ما نقل حول أوضاع المرأة في المجتمع العربي الجاهلي قبل البعثة المحمدية، هذا المجتمع الذي لم يكن يخلو من مزيج يهودي ومسيحي وغيرها من الديانات السماوية، كالحنيفية التي كانت محدودة جداً([1]).
توزع مجتمع ما قبل البعثة المحمدية في الحجاز ونجد وباقي مناطق شبه الجزيرة العربية، وامتد جنوباً ليشمل اليمن، وشمالاً ليشمل بلاد الشام وقسماً من العراق. وكان القسم الأكبر من أبناء هذا المجتمع يعيش في البوادي والصحاري ضمن تشكيلات أسرية وقبلية، والقسم الأصغر منهم في حواضر ومدن تلعب دور الأسواق التجارية الثابتة. وقد كان من الطبيعي أن يختلف وضع المرأة العربية في الحواضر عنه في البوادي والصحاري. كما كان من الطبيعي أن تحمل النظرة إلى المرأة في القسمين بعضاً من رواسب الديانات التي كانت موجودة في المناطق العربية([2]).
لقد عاش العرب في جاهليتهم نظاماً قبلياً مضطرباً، تسوده الفوضى، ويغلب عليه التمزق الاجتماعي ـ بمعنى من المعاني ـ، وتطغى عليه غلبة القوي على الضعيف، وتجعل حق التصرُّف بيد الأقوياء فقط. وكانت القبيلة العربية تجد في سواعد فتيانها ورجالها من الحماية والقوة والقدرة على البقاء في هكذا مجتمع ما لا تجده في معاصم فتياتها ونسائها، الأمر الذي دعاهم إلى إيثار البنين على البنات، وتفضيل الذكور على الإناث.
قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} (النحل: 52). مما يدلّ على أن ولادة الأنثى كانت تعد مصيبة عظيمة على صاحبها، الأمر الذي كان يدفع بعض الآباء إلى التخلص من هذه المصيبة التي تشكل عبئاً على الأب، وذلك بدفنها حية عند ولادتها([3]).
وأما إذا لم يكن الوأد من نصيبها، وعفا عنها أبوها، فإنها كانت تعيش في بيت أبيها مشكِّلة عبئاً ثقيلاً على عائلتها، ممّا يجعلها مجرَّدة من الكثير من الحقوق الأسرية والاجتماعية، كحرمانها من الإرث مثلاً، إذا لم تكن في بعض الأحيان هي نفسها إرثاً، فتكون سلعة تحسب من نصيب أحد الورثة.
هذا كله لم يمنع أن تكون هناك بعض المجتمعات في الجزيرة العربية أكثر تحضُّراً في نظرتها إلى المرأة، وإن كان الأمر يقتصر على القليل منها داخل القبيلة أو العائلة. ففي المجتمع الجاهلي كان هناك من يعطي للمرأة مكانتها الطبيعية التي تؤهلها لها قدراتها، وكان ذلك يتطلب أن تكون المرأة ذات مزايا استثنائية وقدرات مهمة، والأهم أن يتفق وجود هذه المرأة في مجتمع متسامح يسمح لها بالبروز وإثبات الذات. وهذا الأمر يتضح من خلال بعض النساء اللاتي تناقل التاريخ أخبارهنّ ودورهنّ في المحيط الذي عشنَ فيه.
ففي القِدَمْ كانت بلقيس ملكة سبأ في اليمن؛ وكانت زنوبيا في تدمر، وأما في الزمن الذي سبق البعثة بمدة غير بعيدة فنلاحظ وجود شاعرة كالخنساء، التي تناقلت العرب شعرها بشكل كبير؛ وزرقاء اليمامة، تلك الكاهنة التي كانت تُقصد من شتى أصقاع الجزيرة العربية؛ وجهينة، التي اشتهرت بحكمتها؛ وغيرهن، إلاّ أن هذه الحالات بقيت استثناءً، أمّا القاعدة فقد كانت الاضطهاد والحرمان، ومصادرة أبسط الحقوق التي تستحقها المرأة.
إن تشريع الحجاب في الإسلام مسبوق ببعض الأحكام التي قد تعدّ مقدمة لهذا التشريع، وهي أحكام تتعلق بآداب التعاطي بين الناس عموماً، واحترام خصوصياتهم وعدم اقتحام حياة الآخرين، والتزام الحدود في هذا التعاطي. وأهم هذه الأحكام هو الاستئذان.
أكد الله على وجوب الاستئذان على كل مَنْ أراد أن يدخل بيتاً غير بيته، بل أوجب الاستئذان على سكان البيت الواحد من الإماء والعبيد والأطفال، مما يؤكِّد على مسألة حرمة خصوصية المؤمن. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (النور: 27 ـ 28).
والاستئناس في الآية ـ حسب أكثر المفسرين ـ هو الاستئذان، وقد يشمل غيره عند بعضهم. ومن جملة الخصوصيات الكثيرة للإنسان المسلم، التي أخذتها الآية بعين الاعتبار، مسألة الحشمة والستر عند النساء. فمن الواضح أن تشريع الاستئذان قد لحظ خصوصياتهنّ، حيث إنه من حق المرأة أن لا تتقيد بلباسها في بيتها، بخلاف القيود المفروضة عليها خارج بيتها، ولتأمين هذا الحق فرض الله على مَنْ أراد الدخول إلى بيتها أن يستأذن أولاً، حتى تتمكن المرأة الموجودة في البيت من الاحتشام والتستر فيما لو كان الداخل ممَّن يجب التستُّر أمامه. ومن هنا تتضح الصلة بين تشريع الاستئذان وبين تشريع الحجاب، وخاصةً إذا لاحظنا ما روي من سبب نزول هذه الآية الكريمة، من أن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول الله، إني أكون في بيتي على حال لا أحبّ أن يراني عليها أحد، لا والدة ولا ولد، فيأتي الأب ويدخل عليّ، وإنه لا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي وأنا على تلك الحال، فيكف أصنع؟ فنزلت الآية.
وتأكيداً على مسألة الخصوصية التي أولاها القرآن اهتماماً خاصاً، فقد أوجب الله تعالى الاستئذان على أهل البيت وسكانه أنفسهم كما تقدم، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاء ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيَاتِ وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (النور: 58). وقد تقدم في تفسير هذه الآية أن المقصود هو مروهم أن يستأذنوا؛ لأنه لا يمكن أن يكون الخطاب موجَّهاً إلى الذين لم يكلَّفوا بعد، واقتصار الآية الكريمة على الأوقات الثلاثة، وتسمية هذه الأوقات بالعورات، له غرضان:
الأول: المحافظة على خصوصية وحرمة الإنسان المؤمن، سواءٌ كان رجلاً أو امرأة، فهذه الأوقات غالباً ما تكون مخصَّصة لشؤون خاصة وشخصية، كخلع الملابس، والراحة، والجماع.
الثاني: التخفيف على أصحاب البيت وساكنيه. فلو كان الاستئذان واجباً في كل حين لسبَّب ذلك الحرج الكثير داخل البيت، ولذلك قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ…}.
ولعل هذا التخفُّف أكثر ما يطال المرأة المسؤولة عن البيت، حيث رفع عنها القيود التي كانت قد تلزمها لو لم يأتِ هذا الترخيص في بقية الأوقات، وخاصّة أن المرأة أو الزوجة صاحبة البيت غالباً ما تكون هي المسؤولة عن إدارة شؤون بيتها، واحتكاكها بالخدم والعاملين داخل البيت أكثر من غيرها، فجاءت الآية لتخفِّف عنها القيود التي أوجبها الله تعالى عليها في التعامل مع الرجال خارج البيت. وقد تقدم معنا في تفسير الآية في القسم الأول أنها تشمل الرجال من العبيد، الذين يكونون عادة من سكّان البيت.
ثم نبَّه الله تعالى بعد ذلك على وجوب استئذان البالغ من الأولاد، بنفس الطريقة التي فصّلها في استئذان العبيد، والذين لم يبلغوا من الأطفال، فقال تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (النور: 59).
ومن الآيات التي تعرضت لموضوع الاستئذان آية الدخول إلى بيت النبي، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ}. وهذه الآية، وإنْ خصَّت بيوت النبي، إلا أنها تؤكد على نفس المبدأ الذي نحن بصدد بيانه، وخاصة أنها أتبعت هذا الحكم بوجوب مخاطبة نساء النبي من وراء حجاب، أي بوجوب جعل حاجبٍ بينهنّ وبين من يخاطبهنّ من الرجال.
2 ـ الأمر بغضّ البصر
ومن الأحكام التي شرّعها القرآن؛ لغرض الإعانة على الالتزام بالحجاب، إيجابه تعالى غضّ البصر([4])، فقال: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} (النور: 30)، وقال: {قُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} (النور: 31). والغضّ لغة النقص والخفض والوضع، فيقال: غضّ الشيء أي خفضه واحتمل المكروه، ومنه غضه أي نقص ووضع من قدره، وغضّ الغضّ أي كسره، فمعنى غض البصر بهذا الاعتبار أن لا ينظر أي شيء بملء العين، وأن يكفّ النظر عمّا لا يصل النظر إليه بخفضه إلى الأرض، أو بصرفه إلى جهة أخرى، و«من هنا» للتبعيض كما تقدم، وليست زائدة كما نقل عن بعض المفسِّرين([5])؛ وذلك لأنّ الغضّ حينئذٍ يتعلق بالبصر بشكل مطلق، فيكون من الواجب على المؤمنين غضّ البصر دائماً، وهذا أمر شاقٌّ، إنْ لم يكن ممتنع التحقُّق؛ لمشقته.
وقد بلغ غض البصر من الأهمية في السياق القرآني إلى درجة تقديمه على حفظ الفرج في الآية التي نحن بصددها؛ وذلك لما هو معلوم من أن البصر هو الباب الأوسع إلى القلب والنفس، وبسببه يكثر السقوط في الحرام والفتنة، ولذلك جعل رسول الله’ غضّ البصر حقاً من حقوق الطريق، إلى جانب كفّ الأذى، والسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
لاحظنا من خلال بحثنا لآية الزينة أن تحديد معنى الزينة له أثر مهم في فهم الآية والحكم، حيث إن الاختلاف في معنى هذه الكلمة، التي تكرَّرت ثلاث مرات في الآية، كان هو السبب في اختلاف الآراء حول الآية. لذلك رأينا أنه لابدّ من إفراد بحثٍ مستقلٍّ نستطيع من خلاله استيضاح معنى هذه الكلمة واستعمالاتها، الأمر الذي يمكننا من تحديد موقفنا على أساس نتائج هذا البحث.
بعد مراجعة كتب اللغة لم نلحظ اختلافاً بينها في عرضها لمعنى الزينة، وإنْ اختلفت عبائرهم في توضيح معنى واحد.
قال ابن منظور: «والزينة اسم جامع لما يتزين به»([6]).
وفي تاج العروس: «الزينة ما يتزين به، كما في الصحاح… وفي التهذيب: اسم جامع لكل ما يتزين به»([7]).
وفي مجمع البحرين: «والزينة ما يتزين به الإنسان من حلي ولبس وأشباه ذلك»([8]).
وأما الزينة في الاستعمال القرآني فإنها تتعدى هذا المعنى، لتشمل الكثير من الأشياء المادية، التي لا تُعدُّ عادةً من الزينة، كما أنها تتعدى ذلك لتشمل الأمور المعنوية. قال تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} (الصافّات: 6)؛ و{الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} (النحل: 8)؛ و{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ} (الرعد: 33)؛ و{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} (النحل: 24).
الزينة في آية الزينة
بعد أن تقدم الكلام حول تفسير آية الزينة عموماً في القسم الأول نأتي هنا لتخصيص الكلام حول كلمة الزينة التي وردت في الآية الكريمة ثلاث مرات؛ وذلك للأهمية التي تنجم عن توضيح المقصود من هذه الكلمة في الآية، وما يترتب عليها من أحكام ملزمة في مسألة حدود الحجاب أو الستر الواجب.
من الواضح أن المعنى اللغوي للفظ الزينة ليس هو المقصود في الآية الكريمة، أي القول بأن الزينة هي ما يتزيَّن به، أو الغرض الذي يوضع على الجسم لأجل الزينة؛ وذلك أنه من الواضح أن النظر إلى الزينة بما هي زينة أمر مفروغ عن جوازه وإباحته، فلا بد من إضافة قيد ما على هذا المعنى لكي يكون منسجماً مع قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، و{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ}، وذلك بعد الإشارة إلى أن كلمة الزينة، التي وردت في ذيل الآية في قوله تعالى: {لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ}، لا تدخل في هذا البحث؛ وذلك لانسجامها مع المعنى اللغوي للفظ الزينة الذي عرضناه.
ومع أن الخلاف قد استحكم بين المفسِّرين حول تحديد معنى الزينة في الآية المباركة، إلا أنهم اتفقوا على تقسيم عام لهذه الزينة جاءت به الآية الكريمة من خلال قوله تعالى: {إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}. وهذا التقسيم يتلاءم مع كل المعاني التي ذهب إليها المفسِّرون، فقالوا: إن الزينة تنقسم إلى قسمين: الزينة الظاهرة؛ والزينة الباطنة والخفية.
وأما تحديد الزينة الظاهرة والزينة الباطنة فإنه يختلف ويتفاوت بحسب ما ذهبوا إليه من معنى الزينة.
أما بالنسبة إلى الأقوال التي ذهب إليها المفسِّرون في معنى الزينة فيمكن حصرها في ثلاثة:
القول الأول: إن المقصود من الزينة في الآية هو نفس الزينة، أي نفس ما يتزين به. وعلل بعضهم الذهاب إلى هذا القول بقوله: «لأن جواز النظر إليها وسيلة إلى جواز النظر إلى مواضعها»([9]).
القول الثاني: إن المقصود من الزينة مواضعها؛ وذلك لأن النظر إلى الزينة بما هي زينة أمر لا شك في جوازه وإباحته، فعندها لا بد أن يكون المقصود من الزينة هو مواضعها، لا عينها. قال الزمخشري: «وذكر الزينة دون مواضعها للمبالغة في الأمر بالتصوُّن»([10]).
القول الثالث: المقصود من الزينة هو الأعم من الخلقة ـ أي جسم المرأة ـ وما يتزيّن به. قال الفخر الرازي: «الأقرب أن الخلقة داخلة في الزينة. ويدل عليه وجهان:
الوجه الأول: إن الكثير من النساء ينفردن بخلقتهن عن سائر ما يعدّ زينة، فإذا حملناه على الخلقة وفينا العموم حقّه.
الوجه الثاني: إن قوله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} يدلّ على أن المراد من الزينة ما يعم الخلقة وغيرها، فكأنه تعالى منعهن من إظهار محاسن خلقتهن، بأن أوجب سترها بالخمار»([11]).
بعد عرضنا للأقوال الثلاثة لابد من الإشارة إلى مسألة كنا قد أشرنا إليها في القسم الأول، ونعاود هنا التأكيد عليها؛ لصلتها بالبحث، وهي أن الاختلاف بين القول الأول والقولين الآخرين يترتب عليه اختلاف في الاستثناء في قوله تعالى: {إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، أما الاختلاف بين القولين الثاني والثالث فلا يؤدّي إلى خلاف في الاستثناء.
بما أن تفسير الآية الكريمة يتوقف على وضوح معنى الزينة، والاختلاف في معناها سوف يؤدي إلى الاختلاف في الحكم القرآني في المسألة، كان لا بد لنا من الوصول إلى تفسير واضح لمعنى الزينة، وذلك عبر مناقشة الأقوال الثلاثة التي حصرنا فيها الخلاف بين العلماء والمفسِّرين، ومحاولة استيضاح المعنى الأقرب والأنسب، والذي ينسجم مع السياق ومع بقية الآيات التي تعرضت للموضوع.
القول الأول: القول بالمعنى اللغوي
وهو القول الذي ذهب إلى أن الزينة الواردة في الآية هي الزينة بالمعنى اللغوي، أي ما يتزين به، ومن جملتها الثياب.
إن هذا القول، وإن كان مطابقاً للمعنى اللغوي، إلا أنه مستبعد في هذه الآية؛ وذلك لعدة أسباب:
أولاً: إنه من الواضح وممّا لا مجال للشك فيه جواز إبداء نفس الزينة بما هي، أي حال عدم التزين بها من قبل المرأة، الأمر الذي يجعل ظاهر الآية بعيداً عن المراد منها.
ثانياً: إذا قال قائل: ليس المقصود من الزينة الزينة بما هي، بل المقصود الزينة حال تزيُّن المرأة بها، وإنما أطلق الزينة وأراد ما توضع عليه.
قلنا: إن ذلك سوف يعيدنا إلى القول الثاني، والذي قال: إن المراد من الزينة هو مواضعها.
وأما إذا قيل: إن المقصود من الزينة هو نفس الزينة حال كونها ملبوسة أو موضوعة على جسد المرأة.
فالجواب: إن ذلك سوف يجعل معنى الزينة في قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ} محصور بالنساء اللواتي عليهن زينة، ولن تشمل غير المتزيِّنات من النساء.
القول الثاني: تفسير الزينة بمواضعها
أما القول الثاني، والذي ذهب أصحابه إلى أن المقصود بالزينة هو مواضعها، فإنه أقرب الأقوال إلى ظاهر الآية؛ وذلك لأن مواضع الزينة هي أول ما يمكن التعدي إليه بعد نفس الزينة، ونحن عندما نرفع يدنا عن المعنى الظاهر لابد أن نتمسك بالمعنى الأقرب لهذا الظاهر، بل يرى الزمخشري في تفسيره «الكشاف» «أن ذكر الزينة وإرادة مواقعها أبلغ في الأمر بالتصوُّن والتستُّر؛ لأن هذه الزينة واقعة على مواضع من الجسد لا يحل النظر إليها لغير المستثنين، وهي الذراع والساق..، فنهى عن إبداء الزينة نفسها؛ ليعلم أن النظر لم يحلّ إليها إلا لملابستها تلك المواقع، بدليل أن النظر إليها غير ملابسة لها لا مقال في حلّه، ولذلك كان النظر إلى المواقع أنفسها متمكناً في الحظر، وثابت القدم في الحرمة»([12]).
ومن هنا يمكن استقراب هذا القول، دون غيره؛ لعدم المحذور في استقرابه.
القول الثالث: القول بالأعمّ من الخلقة وما يتزيّن به
أما القول الثالث، الذي ذهب أصحابه إلى أن معنى الزينة هو الأعم من الزينة نفسها ومن البدن كله، فقد أشرنا سابقاً إلى أن هذا القول يوصل إلى نفس النتيجة التي وصل إليها القول الثاني، أو بقول أدق: إن أصحاب هذا القول يوصلونه إلى هذه النتيجة بعد معالجته.
وهنا نسجل ملاحظة، وهي: إن المحذور من الذهاب إلى هذا القول هو أنه سوف يوقع القائلين به في حكم لا يلتزمون به، وهو أنه عند تفسيرنا لقوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ…} إلى آخر المستثنين، وهم المحارم وغيرهم، إذا اعتمدنا هذا المعنى في لفظ الزينة الأول، وهو نفس الزينة والبدن، فإنه يجب أن نلتزم بأنه يجوز للمرأة إبداء كامل بدنها للمستثنين في الآية، وهو ممّا لم يلتزم به أحدٌ، وخاصة القائلين بهذا المعنى للفظ الزينة، بينما على المعنى الذي استقربناه فإن الزينة هي مواضع الزينة، دون غيرها، وهي الرقبة والزندين والساقين والشعر والأذن.
تقدم أن الآية الكريمة ـ أي آية الزينة ـ قد قسَّمت الزينة إلى ظاهرة؛ وخفية، وأن هذا التقسيم تقسيمٌ عامٌّ، ينسجم مع كل الأقوال في معنى الزينة؛ لأنه يستمد معناه من معنى الزينة نفسها؛ فمن يرى بأن الزينة هي نفس الزينة فإنه يرى بأن الظاهر منها هو الثياب، والخفي هو الخلخال والسوار والقرطان([13])؛ وأما القولان الآخران فإنهما يتفقان في تحديد الظاهر والخفي من الزينة، دون أي خلاف بينهما، فكلاهما يرى بأن الزينة الظاهرة هي الوجه والكفّان والقدمان، وأن الزينة الخفية تشمل كل ما عدا ذلك من جسم المرأة.
الأحكام التخفيفية في مسألة الحجاب
بعد استعراضنا للآيات القرآنية التي تناولت موضوع الحجاب من جوانب عدة لاحظنا أن بعضها، أو بعض ما ورد فيها، يجعل للمرأة سعةً في أمر الحجاب، وخاصة مع ثبوت عدم وجوب الستر أمام العبد المملوك لمالكته.
وسوف نحاول هنا أن نحصي الموارد التي وسَّعت عليهن فيها، ونحاول أن نخلص منها باستنتاجات نحاول أن نستفيد منها في بحثنا هذا.
1 ـ القواعد من النساء
قيل في تفسير القواعد من النساء: إنهن اللواتي قعدن عن النكاح والحيض، وهو تعبير آخر عن أنهنّ اللواتي لا يُرغب بهنّ ولا هنّ يرغبن بالنكاح. هؤلاء النساء قد خصّهنّ الله بحكم يخفِّف عنهنّ في مسألة الستر وأحكامه، وفي مسألة التشدد في رعايته، حيث قال تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ}. وقد تقدم أن المقصود من ذلك هو أنه بإمكان القواعد من النساء تخفيف سترهنّ، بحيث لا يبلغ حدّ التبرُّج.
وإذا أمعنّا النظر في هذه الآية؛ لمعرفة الحكمة التي يمكن لنا أن نتصيّدها لمعرفة السبب الذي على أساسه خفَّف الله عن القواعد في مسألة الحجاب، فإننا سوف نلاحظ أن السبب هو عدم الرغبة فيهنّ من قبل الرجال عادةً، لا مطلقاً؛ وذلك أنه لا يمكن الجزم بهذا الأمر على إطلاقه في جميع الأحوال والأفراد، حتى لو تحقق هذا الإطلاق في نفس القواعد. فلا بد من الالتزام هنا أن الحكم اعتمد على الأعم الأغلب من الناس، ولم يلحظ الشاذّ النادر منهم، فإن أغلب الرجال لا يطمع بامرأة عجوز قعدت عن النكاح ومتعلَّقاته، ولا ينظر إليها نظرة ريبة وشهوة. من هنا يمكن أن نستنتج أن لحاظ الحكم كان نظرة الغالبية من الناس، دون القلّة الخارجة عن المتعارف.
في سياق تعداده للأفراد المستثنين من وجوب تستُّر المرأة أمامهم في آية الزينة قال تعالى: {…أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} (النور: 31)، كما قال أيضاً في ذيل آية الاستئذان: {…لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ…} (النور: 58).
تقدم بحث وتفسير هاتين الآيتين في القسم الأول، وخلصنا هناك إلى أن الآيتين فيهما دلالةٌ على عدم وجوب تستُّر المرأة أمام عبدها، وهو قول ذهب إليه العديد من المفسِّرين والفقهاء كما تقدم؛ اعتماداً على الآية الأولى، بالإضافة إلى بعض الروايات الصريحة والصحيحة في هذا المجال. فبناءً على هذا الرأي الذي تبنيناه في تفسير الآيتين السابقتين نسأل: إذا حاولنا البحث حول ما يمكن أن يكون الحكمة أو السبب في صدور هذا الحكم فماذا ستكون النتيجة؟
في الإجابة عن هذا السؤال نقول: إن المرأة كثيرة الابتلاء بمملوكها؛ ذلك أنه غالباً ما يكون في خدمتها وتحت تصرفها، فإذا كانت المرأة ملزمة بالتستر أمامه فسوف يعني ذلك التزامها بالحجاب في أكثر أوقاتها، وخاصة إذا كان ذلك العبد من سكان البيت، وهذا أمر يشقّ على المرأة في الغالب، ومن هنا قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ}، أي بعد الأوقات الثلاثة التي حدّدتها الآية، والتي هي خارجة عن محلّ الكلام هنا.
وهنا لا بد من الإجابة عن سؤال يفرض نفسه، ومفاده: إذا سلّمنا بما تقدم فماذا بالنسبة إلى نفس العبد، فإن رؤيته لسيدته بدون حجاب قد يؤدّي به إلى الوقوع في الحرام في بعض الحالات، فكيف يمكن أن نجوّز ذلك؟
والجواب: إن ما تقدم في الآية السابقة حول القواعد من النساء يأتي هنا أيضاً، وهو أن الحكم قد أخذ بعين الاعتبار نظرة الأعم الأغلب من العبيد، الذين عادة ما كانوا ينظرون إلى مالكهم نظرة احترام وتهيُّب، بالإضافة إلى الكثير من الاعتبارات الاجتماعية التي كانت سائدة آنذاك، والتي كانت تحكم علاقة العبيد بأسيادهم، والتي كانت تقف عائقاً أمام إمكان تفكير العبد بسيدته، وخاصّة إذا كان الطرفان من أهل الإيمان ومخافة الله، وإلا فإن الساتر الذي تضعه على رأسها لا يمكن أن يشكِّل عائقاً أمام جنوحهما إلى المعصية.
ومن هنا نستطيع أن نقول: إن الشارع المقدس أخذ الحالة الطبيعية التي تحكم علاقة السيدة بعبدها بعين الاعتبار، وحكم على أساسها، دون الأخذ بالشاذّ النادر الذي قد يطرأ على هذه العلاقة. وهو الأمر الذي يدفعنا إلى تصنيف هذا الحكم من جملة الأحكام التي خفَّف الله سبحانه وتعالى فيها على المرأة في بيتها.
3 ـ التابعون غير أولي الإربة من الرجال
إن قوله تعالى: {غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} مقيَّد بقيد لابدّ أن يؤخذ بعين الاعتبار، وهو قوله تعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ}. ولذلك سوف تكون أمثلتنا حول هؤلاء الرجال مقيَّدة بقيد التبعية، لا مطلق من لا إربة له.
تقدّم الكلام حول غير أولي الإربة من الرجال في سياق الأفراد المستثنين في آية الزينة، وأنهم ضمن الأفراد الذين سمح القرآن الكريم للنساء أن لا يتستَّرن أمامهم، إلا أن الكلام هنا يقع في تحديد هوية غير أولي الأربة.
تعرضنا في القسم الأول للأقوال في هذه المسألة. وبالعودة إلى هذه الأقوال نلاحظ أن فيها شيئاً من التناقض في بعض الأحيان، كما في قول بعضهم بأن {غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} هم البلهاء من الرجال، وفي المقابل أنهم المجبوبون من الرجال الذين لا حاجة لهم بالنساء، وقيل: هم الأطفال الذين لا حاجة لهم بالنساء، وهو ـ كما هو واضح ـ مخالفٌ لصريح الآية، وقيل: إنهم الشيوخ الكبار الذين بلغوا حدّ الهرم، وقيل: إنهم الفقراء الذين بهم فاقة، وقيل: إنهم كلّ مَنْ ليس له شهوة من الرجال، وأما القول الذي استقربناه هناك فهو ما ذهب إليه الفخر الرازي من أنه لا مانع من دخول كلّ مَنْ ذكر في معنى الآية.
ولمزيد من الوقوف على معنى هذه الآية رأينا أنه لابد من تتبُّع كتب اللغة، محاولةً منا لتوضيح معنى كلمة (الإربة)؛ لكي نحدِّد معنى واضحاً نبني عليه الحكم المتضمَّن في الآية الكريمة.
قال الفراهيدي في كتاب العين: الإرْب: الحاجة المهمة، يقال: ما إرْبك إلى هذا الأمر، أي ما حاجتك إليه([14]). وفي مجمع البحرين للطريحي: الإربة الحاجة، وفي الحديث: أول الإربة من الرجال الأحمق الذي لا يأتي النساء، وقيل: الخصي، وقيل: الشيخ الكبير الفاني، وقيل: العبيد الصغار([15]). وفي تاج العروس: الإربة في الآية النكاح، والإربة والمأرب: الحاجة([16]). وفي لسان العرب: الإربة الحاجة، وفي حديث عائشة: كان رسول الله أملككم الإربة، أي حاجته([17]).
إن المعنى المشترك بين أكثر اللغويين الذين تتبعتهم هو أن الإربة هي الحاجة، وهذا أمر مسلم عندهم جميعاً. لكن الملاحظ أن بعض اللغويين حاولوا إبراز مصاديق لهذا المعنى، ممّا جعلهم يخرجون عن وظيفتهم كلغويين، ليصبحوا مفسِّرين، كما هي عادتهم عند تعرُّضهم لأيّة كلمة وردت في القرآن الكريم، كما هو الحال عند الطريحي حيث أورد حديثاً مفاده أن المقصود من الآية قد يكون العبيد الصغار، والحال أن الآية قالت: إنهم رجال. أما نحن فما يعنينا في المقام هو المعنى اللغوي لهذه الكلمة، ومن ثَمَّ نتولى مسألة الفهم والتطبيق والتفسير.
إن المعنى اللغوي لهذه الكلمة هو الحاجة، ونحن لا نشكّ أن أكثر المفسرين أدركوا هذا المعنى، ولكنهم حاولوا تطبيقه على سياق الآية تطبيقاً استنسابياً، يرتكز على فهمٍ خاصٍّ متعدِّد المناشئ، مما يفسِّر التفاوت في تحديد المصداق الذي ينطبق عليه المفهوم الوارد في الآية، ومن ثَمّ يحصر المعنى به، دون دليل لغوي واضح.
والسؤال هنا: ما هو المعنى المشترك بين كل ما ذكره المفسِّرون في تفسير قوله: {غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ}؟ وإلى أيّ مدى ينسجم هذا التفسير مع المعنى اللغوي للكلمة؟
إن المعنى المشترك بين كل ما ذكره المفسِّرون في مقامنا هو: كل مَنْ هو غير صاحب حاجة لجماع النساء لأي سبب كان، ويخرج عن هذا المعنى المشترك قول نقله الفخر الرازي عن بعضهم دون تعليق عليه، وهو أنهم الفقراء الذين بهم فاقة([18]).
والسؤال الثاني هنا: ما هو مدى الانسجام والربط بين ما ذهب إليه المفسِّرون وبين ما ذهب إليه اللغويون؟
من المحقَّق أن المفسرين لاحظوا سياق الآية الكريمة، الذي يستعرض من يجوز للمرأة أن تبدي زينتها أمامهم، وقايسوها بالمعنى اللغوي الذي هو الحاجة، فنتج عندهم أن الحاجة هنا هي القدرة على الجماع. وهذا الأمر بحد ذاته صحيح لا غبار عليه، ولا يستطيع أحد أن ينكر صحة هذا المصداق، وأن الآية الكريمة أرادته، ولكن ـ والاستدارك هنا للتساؤل والبحث العلمي ـ ألا يمكن أن يشمل مفهوم {غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} مصاديق أخرى، أو بشكل أوضح: ألا يمكن أن يكون المفهوم أعم مما ذكر؟
استعرضنا المعنى اللغوي لكلمة (الإربة)، وهو الحاجة، والحاجة هنا قد تكون أعم مما ذكره المفسِّرون، وذلك بأن تشمل كل من لا حاجة له بالنساء عادةً، وهذا لا يعني أنه لا حاجة له مطلقاً بالنساء، بل عدم حاجته المخصوصة بالمرأة التي ينظر إليها، ويظهر ذلك من خلال بعض المصاديق التي ذكرها المفسرون، حيث قال بعضهم: إنه الأبله أو المجنون من الرجال، وقال آخرون: إنه الفقير، وهذان مصداقان لا ينطبق عليهما عدم القدرة على الجماع، فالجنون والفقر لا ينفيان القدرة والحاجة إلى الجماع، ومع ذلك فإن المصداقين ينسجمان مع المعنى اللغوي للكلمة.
إذا صح شمول الآية لهذين المصداقين فلماذا لا يدخل في معنى الآية هنا بقية الرجال الذين لا يكون لهم عادة غايات محرمة وغير شرعية من النظر إلى المرأة غير المحجَّبة، وهؤلاء كثر في المجتمع، ومحل ابتلاء دائم في بعض الأحيان، وخاصة بعد انتهاء زمن الرقّ والعبيد، ومثال ذلك: بعض الرجال الذين يعملون في البيوت بشكل دائم، كخادم للبيت، أو سائق، أو طبّاخ، أو غيرها من الأعمال التي تستدعي تواجده في البيت في أغلب الأوقات، مما يجعله محل ابتلاء سيدة البيت بشكل دائم، فلماذا لا يكون الرجال في الأمثلة المذكورة من مصاديق {غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ}؟ ولماذا لا يكون هؤلاء مشمولين للحكم التخفيفي على المرأة المحجَّبة، مع الأخذ بعين الاعتبار ما تقدم من ظهور الحكمة في الأمثلة السابقة ـ كمؤيِّد لا كدليل ـ، حيث لاحظنا أن القواعد من النساء خفف عنهن بناءً على أن نظرة الأعم الأغلب من الرجال لهن هي نظرة غير مشوبة بالريبة والحرام، وأن تخفيف حكم السيدة أمام عبدها كذلك مبنيٌّ على الأعم الأغلب من العبيد الذين ينظرون إلى سيداتهم نظرة لا تشوبها شائبة الحرام.
بقي هنا أن نشير إلى القيد الذي ذكرناه أول البحث، وكنا قد لحظناه في جميع الأمثلة التي أوردناها، وهو قوله تعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ}، فلا بد أن يكون واضحاً أن الرجال الذين تتحدث عنهم الآية يجب أن يكونوا متصفين بصفتين:
الأولى: أن يكونوا تابعين، كالخادم، والأجير، والفقير الذي يتبع الآخرين لينال شيئاً من طعام أو غيره.
الثانية: أن يكون من غير أولي الإربة، وقد تقدم الكلام حول هذه الصفة.
ارتأينا طرح هذا الاحتمال في تفسير الآية؛ لانسجامه مع ما قدَّمناه من تفسير للآيات القرآنية التي تعرضت لمسألة الحجاب، مع العلم أن ما نتوصل إليه من نتائج في هذا البحث يبقى قابلاً للتخصيص من قبل الروايات والأحاديث الواردة عن النبي الأكرم’ وأئمة أهل البيت^، وهم المؤتمنون على الشريعة الغراء والعارفون بأسرارها وأسرار الكتاب العزيز.
سوف نسعى هنا في هذا البحث إلى أن نستقصي الأشخاص الذين استثناهم القرآن الكريم من وجوب تستُّر المرأة أمامهم؛ وذلك محاولةً منا أن نضع يدنا على الخصوصيات التي لحظها القرآن الكريم في هذه الأحكام، وخاصة أن القرآن الكريم أحصى هؤلاء الأفراد والمجموعات بغاية حصرها. وفي نظرة أولية يمكن لنا تقسيم هؤلاء إلى قسمين أساسيين:
الأول: الزوج والمحارم، الذين أحصاهم القرآن في آية الزينة، وقد تقدم في القسم الأول الكلام حولهم.
الثاني: وهو قسم مؤلَّف من عدة مجموعات، سوف نعرضها كما جاءت في آية الزينة في أربع مجموعات.
الأولى: النساء في قوله تعالى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ}، سواء كان المقصود منهن نساء المسلمين أو الأعم منهن ومن غيرهن من النساء.
الثانية: العبيد المذكورون في نفس الآية تحت عنوان {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ}، الشامل بعمومه للمملوك الذكر البالغ.
الثالثة: بعض الرجال من غير الأرحام، الذين وضعتهم الآية نفسها تحت عنوان {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ}.
الرابعة: الأطفال، الذين عبَّرت عنهم الآية بـ {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ}، سواء كان المقصود من الطفل هو خصوص غير المميِّز أو كان المقصود منه غير القادر على النكاح.
هذه المجموعات الأربع هي عبارة عن القسم الثاني من الأفراد الذين سمحت الآية للمرأة بإبداء زينتها أمامهم.
فأما القسم الأول، أي المحارم، فإن خصوصية الرابطة الرحمية واضحة لا تحتاج إلى كثير نظر وتتبع، فإن الرابطة الرحمية هي الرابط الوحيد الذي يجمع كل المذكورين في القسم الأول. ومن هنا يظهر أن مجرد وجود هذا الرابط بين أية امرأة ورجل يعني أنه من المستثنين من حكم عدم جواز إبداء الزينة أمامه.
وأما القسم الثاني، وهو محل الكلام والبحث هنا؛ وذلك لأن الضوابط والخصوصيات هنا ليست واضحة بالشكل الذي كان في القسم الأول، الأمر الذي سبب خلافاً في تحديد مصاديق المجموعات الأربع جميعاً كما تقدم في القسم الأول من هذا المقال. ونحن هنا سوف نحاول أن نصل إلى الخصوصيات التي لحظها القرآن الكريم في الحكم بجواز إبداء الزينة وعدمه، وذلك انطلاقاً من تشخيصنا للأسباب التي أدت إلى الخلاف بين آراء المفسرين، والتي أهمها عدم ملاحظة الخصوصيات التي ميزت هذه المجموعات عن غيرها في المجتمع الذي تعيش فيه المرأة، وهو أمر بالغ الأهمية للوصول إلى ضابطة واضحة تؤسِّس لفهمنا لمسألة الحجاب في القرآن الكريم.
ففي المجموعة الأولى استثنت الآية الكريمة النساء ممَّن لا يجوز للمرأة إبداء الزينة لهم، فما هي الخصوصية الأبرز التي يمكن تسجيلها هنا لهذا الاستثناء؟
الجواب عن هذا السؤال يقع في نقطتين:
الأولى: إن النساء عادة لا ينظرن إلى بعضهنّ البعض نظرة ريبة وشهوة، إلا من شذّ منهنّ، ولكن الأعم الأغلب منهنّ لا تثيرهن رؤية شعر المرأة وشيء من جسدها.
الثانية: إنه لو كانت المرأة مكلَّفة بالتستر أمام النساء لأوقعها ذلك في حرج وضيق شديدين، مما قد يجعلها ملزمة بالحجاب في أكثر أوقاتها، وإلا كان ذلك سبباً في الحدّ من اختلاطها ببقية النساء.
وأما في المجموعة الثانية، أي (الذين ملكت أيمانهن)، وهم أيضاً من المستثنين في الآية الكريمة من الحكم، فنلاحظ أيضاً أن الخصوصية المأخوذة هنا هي عدم وقوع المرأة في الحرج؛ إذ لو أوجب الله عليها التستُّر أمام عبدها الذي تملكه فسوف يسبب ذلك حرجاً شديداً؛ وذلك لأن العبد المملوك غالباً ما يكون من أهل البيت، يطوف فيه للخدمة أو ما شابه، مما يجعل المرأة مضطرة إلى التستر بشكل دائم داخل منزلها، مما يؤدي أيضاً إلى أن تكون دائمة التستُّر في جميع الأوقات تقريباً؛ لأنها ملزمة بالتستر خارج البيت أيضاً، كما هو واضح.
وفي هذا السياق هناك سؤال يطرح نفسه، وهو: ألا يمكن أن تكون الملكية مأخوذة أيضاً كخصوصية في الحكم؟
والجواب: إنه من البعيد أن تكون خصوصية الملكية مأخوذة هنا في الحكم، وخاصة مع القول بأن الحكم يشمل حتى مملوك الزوج والولد، الذين يعيشون في نفس البيت، والذين شملهم عموم آية الاستئذان {الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، و{لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ}. أضِفْ إلى ذلك أن جواز إبداء الزينة للعبد هو محل خلاف بين العلماء، فقهاءً ومفسِّرين، مما يبعد احتمال اعتبار الملكية خصوصية مأخوذة في الحكم. والحال أن أحداً من القائلين بالجواز لم يتطرق إلى مسألة الملكية وخصوصيتها، بل كان قولهم مبنياً على الدليل الوارد في الآيات والروايات.
وأما المجموعة الثالثة، وهم {التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ}، فإنه بمراجعة كتب التفسير واللغة سوف نلاحظ عدم وضوح لهذا المفهوم من الرجال، إلا أن هناك حداً أدنى اتّفق عليه المفسِّرون والفقهاء في تحديد هؤلاء التابعين، وهم غير القادرين على الجماع. إلا أنه تقدَّم أن بعض المفسِّرين يوردون في تفسير الآية أفراداً لا ينضوون تحت هذه الضابطة، كالفقراء الذين بهم فاقة مثلاً. إنه لمن الواضح أن أفراد هذه الضابطة مشمولون لقوله تعالى: {غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ}، ولكن الآية كانت قد أضافت قيداً آخر، وهو قوله تعالى: {التَّابِعِينَ}، وهو ما يخرج أكثر أفراد هذه الضابطة؛ إذ إن التابعين عادةً ما يكونون قلة قليلة جداً بالنسبة إلى بقية غير أولي الإربة، وهذا القيد يؤدّي إلى القول بأن المرأة المسلمة لا يجوز لها إبداء زينتها أمام رجل من ضمن المجموعة الثالثة إلا إذا كان متصفاً بصفتين:
الأولى: أن يكون تابعاً. والتابع هو كالخادم والأجير، الذي يعتبر معاشه تبعاً لمن استأجره أو من يخدم عنده، وهو غالباً ما لا يكون كفواً للمرأة التي يعمل عندها.
الثانية: أن يكون من غير أولي الأربة، وهو ـ بحسب ما استقربناه ـ الرجل الذي لا يجد في نفسه، من حيث سنّه، أو عجزه الجسدي، أو ضعفه العقلي، أو فقره ومسكنته، أو خدمته وتبعيته لصاحب البيت، ما يحمله على أن ينظر إلى زوجة من يتبعه، أو ابنته، أو أخته، أو أمه، بنظر غير طاهر، أو يخطر بباله شيء من سوء الدخيلة نحوهن([19]).
إن هاتين الصفتين متلازمتان، ويجب توفُّرهما في الشخص الذي سوف يدخل في الاستثناء. ومن هنا سوف نحاول تصيّد الخصوصية التي لحظتها الآية في مَنْ توفرت فيهم هاتان الصفتان مجتمعتين.
إن خصوصية عدم القدرة على النكاح مستبعدة هنا؛ وذلك بعد الالتفات إلى الصفة الأولى التي أوردتها الآية، وهي التبعية، فلو كانت خصوصية القدرة على النكاح مأخوذة في الحكم لن يعود هناك مبرِّر لاشتراط التبعية في المقام؛ لأن عدم القدرة على النكاح متحقق مع التبعية ومن دونها. ولهذا السبب أيضاً لا يمكن أن تكون التبعية وحدها هي الخصوصية، فالتبعية بحدّ ذاتها لا تمنع الإربة.
فلا بد من خصوصية تجمع الأمرين معاً، فما هي هذه الخصوصية؟
إن هذه الخصوصية الجامعة للصفتين يمكن أن تتوضَّح بمجرد جمع هاتين الصفتين، بمعنى أن هذه الخصوصية يمكن أن تكون أجلى فيما لو أبرزنا مصداقاً للأفراد الذين عنتهم الآية، فلو قلنا ـ على سبيل المثال ـ: الخادم الذي توفر فيه الشرطان: التبعية، بأن يكون معاشه مرتبطاً بمَنْ يخدم؛ ومن غير أولي الإربة من الرجال، أي لا ينظر إلى نساء البيت نظرةً فيها شيء من الريبة؛ فإن هكذا رجلٌ بمجرد النظر إلى وضعه في البيت الذي يخدم فيه يتّضح لنا أن الخصوصية لابد أن تكون عدم وقوع المرأة في الحرج أمامه.
إن إيرادنا لهذا البحث هو من باب إثارة الموضوع، لا من باب تبنّيه والبناء عليه، وخاصة أنّ المقام هنا هو محاولة استظهار مفهوم قرآني للحجاب، قد تكون هذه النقطة أحد معالمه.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ… وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ…} (الأحزاب: 53). وقال تعالى: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} (الأحزاب: 32).
إن السؤال الأساسي المطروح للبحث هنا هو: هل هذه الأحكام المتضمَّنة في هاتين الآيتين هي من مختّصات نساء النبي أم أنها تشمل غيرهنّ من نساء المسلمين؟
لا شك ولا ريب أن هناك أحكاماً خصّ الله تعالى بها نساء النبي الأكرم’، وهذا مما لا نزاع فيه بين المسلمين، فلا خلاف بينهم أن نساء النبي هنَّ أمهات المؤمنين، ولا يجوز لأحد زواجهنّ بعد وفاة الرسول’، وأن أجرهنّ أعظم من غيرهنّ إذا عملن صالحاً، وعقابهنّ أعظم إذا أتين بفاحشة، وغير ذلك من الأحكام، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ الله وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِه} (الأحزاب: 53)؛ وقال تعالى: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} (الأحزاب: 30)، وقال تعالى: {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً} (الأحزاب: 31).
من هنا نلاحظ أن أصل مبدأ اختصاص نساء النبي بأحكام دون بقية النساء هو مبدأ مقبول عند كافة المسلمين، فلا نجد من داعٍ لبذل الجهد في إثبات هذا المبدأ.
أما بالنسبة إلى ما نحن فيه من أحكام ـ أي اختصاص الآيتين بنساء النبي ـ فهو محل خلاف بين المفسِّرين، وحتى بين الفقهاء المسلمين. لذا سوف نحاول هنا تسليط الضوء على خصوص هذه المسألة؛ لكي نتمكن من الوصول إلى جوابٍ شافٍ نتبناه في المقام؛ لأن لذلك أهمية كبيرة في مسألة الحجاب. وقد يتوقف موقفنا من الحجاب على النتيجة المترتبة على هذا البحث.
من الواضح أن الالتزام بظاهر الآيتين الواردتين في صدر البحث سوف يوصلنا إلى القول بأن الأحكام الواردة فيهما خاصة بنساء النبي؛ ذلك أن الآيتين صريحتان بذلك، وذلك مما لا ينكره أحد، إلا أن محل الكلام عندهم يكمن في إمكانية تعميم هذه الأحكام إلى بقية نساء المسلمين، أو الاقتصار على الظاهر، وهو القدر المتيقَّن في المقام.
بعد الجزم بأصل مبدأ تخصيص أحكام لنساء النبي سوف نحاول هنا درس هاتين الآيتين طبقاً لما جاء فيهما من أحكام؛ لنرى هل أن هذه الأحكام في نفسها قابلة للتعميم، ثم بناءً على النتيجة نبحث أو لا نبحث في مسألة التعميم وعدمها.
فأما بالنسبة إلى الآية الأولى، وهي آية الحجاب، فإننا نرى أنها خاصة ببيوت النبي ونسائه، دون غيرهنّ؛ وذلك لشواهد وردت في نفس الآية تؤكِّد هذا المعنى، ولشواهد أخرى وردت في آيات أخرى تدل على انصراف هذا الحكم عن غير بيوت النبي ونسائه. ويمكن إبراز هذه الشواهد ضمن النقاط التالية:
أ ـ إن ظاهر الآية يدل على ذلك، حيث قال: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ}، ولم يعمم النهي على غيرها من البيوت. ومن الواضح أن التعميم في هذه الحالة يحتاج إلى مؤونة وشواهد لا تحتملها الآية في المقام.
ب ـ إن قوله تعالى: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ} إشارة إلى أن الآية ناظرة إلى حالة خاصة موجودة عند النبي’، وهي في أحسن الأحوال قابلة للتعميم على مَنْ كان في هذه الحالة فقط، دون غيره ممّن لا تتوفَّر عندهم هذه الحالة، الأمر الذي يجعل تطبيق هذا الحكم مطاطياً وغير واضح. وبالتالي يمكن لنا هنا أن نلاحظ أن هناك خصوصية لبيت النبي’ تجعل التعاطي معه مختلفاً عن التعاطي مع بقية البيوت؛ ذلك أن نظرة المسلمين إلى بيت النبي تختلف عن نظرتهم إلى بقية البيوت.
ج ـ إن الضمير في {سألتموهنّ} في قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ}؛ بقرينة ما جاء بعدها مباشرة من قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ الله وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ الله عَظِيماً}، يرجع إلى زوجات النبي، دون غيرهنّ من النساء، فإن النهي عن الزواج من نساء النبي بعد وفاته واضح الاختصاص بهنّ دون غيرهنّ من النساء، مما يؤكِّد اختصاص عدم جواز التكلَّم معهنّ إلا من وراء حجاب بنساء النبي، دون غيرهنّ. كما أنه يمكن الاستئناس هنا بسياق الآيات التي سبقت هذه الآية مباشرة، والتي كان موضوعها النبي ونساءه([20]).
د ـ ورد في القرآن الكريم مجموعة آيات تعرضت إلى مسألة آداب التعاطي مع بيوت الآخرين، من حيث الدخول إلى هذه البيوت، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، ولم تتعرض في بيان الحكم إلى مسألة الحياء، وهي ـ أي مسألة الحياء ـ خصوصيّةٌ أكَّدت عليها الآيات التي نحن بصددها، مما يشعر أيضاً أنها بعيدة عن التعميم.
وتعقيباً على هذه النقاط قد يسأل البعض: ألا يقدح هذا الأمر ـ أي موقف النبي من بعض المؤمنين ـ بالخصال التي يجب أن تتوفر فيه، وخاصة في مجتمع كالذي يعيش فيه، يقدس عادات الكرم والضيافة، ويعتبرها من أولوياته الأخلاقية؟
والجواب: إن موقف النبي’ هذا لا علاقة له بالكرم والضيافة وما شابهها من خصال حميدة، بل هو متعلِّق بأمور أخرى فيها شيء من تهذيب هذه الخصال والمزايا. فما تعرض له الآية الكريمة هنا هو ما يمكن أن يرشح عن هذه الخصال من جلسات سمر وأُنْس قد تمتدّ إلى وقت غير معلوم، الأمر الذي سوف يعتبر مضيعة للوقت، ويوقع النبي’ في محذور اللهو والغفلة عن الشؤون التي نذر نفسه لها، فالنبي’ ليس شخصاً عادياً في مجتمعه، ولا ينظر إليه كذلك، بل هو شخصية عامة تعني جميع المسلمين، ووقته يجب أن يكون موزَّعاً على جميع المسلمين؛ لخدمتهم، وتوعيتهم، والقيام على شؤونهم العامة…، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا بالابتعاد عن كل ما يمكن أن يحدِّد من وقته واهتماماته المرتبطة بالرسالة، التي خصّه الله بها دون البشر جميعاً.
إن هذه الشواهد مجتمعة جعلتنا نتبنى أن هذه الآية ليست عامة، بل هي خاصة بنساء النبي’. وهذا الأمر يؤدي إلى طرح سؤال مهم له علاقة بأصل مفهوم الحجاب، كمصطلح قرآني يحكي عن رؤية قرآنية لمسألة الستر، وهو الأمر الذي التفت إليه الفقهاء في بحثهم حول الموضوع من الناحية الفقهية، حيث كان تعبيرهم غالباً بصيغة (الستر والنظر)، لا بصيغة الحجاب.
أما بالنسبة إلى الآية الثانية، وهي قوله تعالى: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} (الأحزاب: 32 ـ 33).
فإنها قد تكون أوضح في خصوصيتها من الآية السابقة، بل هي كذلك فعلاً، وذلك أن الآية الكريمة خصَّصت الخطاب في مطلعها بنساء النبي، دون غيرهنّ، وأكدت على هذا التخصيص بقوله تعالى: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء}، ممّا يجعل الأحكام الواردة فيها أحكاماً ينحصر الخطاب فيها بنساء النبي، دون غيرهنّ.
وهنا لا بد من إثارة نقاط تتعلق بهذه الآية:
أ ـ قد يتساءل القارئ لهذه الآية: لماذا يخصَّص الخطاب بنساء النبي، والحال أن الأحكام الواردة في الآية لا تأبى عن التعميم لبقية النساء؟
والجواب: أولاً: كون الأحكام الواردة في الآية لا تأبى التعميم، بل قد يكون هناك فعلاً خطابات واردة بهذا المعنى في القرآن الكريم، لا يعني عدم إمكانية تخصيص الخطاب بهنّ؛ لأننا قدمنا في ما سبق أن نساء النبي مطالبات أكثر من غيرهن بالالتزام بما أمر الله تعالى بشكل مؤكَّد، ولذلك ضاعف الله لهنّ الأجر وكذلك ضاعف عليهنّ العذاب فيما لو أصبنَ أو أخطأنَ. وهنا تأكيد على نساء النبي في هذه الأحكام؛ لإمكانية التساهل فيها، أو عدم الالتفات لها، من قبل النساء عموماً، فحذَّرهن الله تعالى حتى لا يقعن في هذه الأمور، ولأن ذلك سوف يمسّ النبي بشكل أو بآخر.
ثانياً: إن الأحكام الواردة في الآية ليست كلها قابلة للتعميم بهذا الشكل الواضح الذي يُدَّعى، فإنّ قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} يشعر بأن الخطاب غير موجَّه إلى بقية نساء المسلمين، فالقرار في البيت هو لزومه وعدم مغادرته مطلقاً، وهو أمرٌ بعيدٌ؛ لأنه سوف يؤدي إلى عسر وحرج شديدين في المجتمع الإسلامي، فبقاء كل نساء المسلمين في بيوتهن أمر يصعب تحقيقه خارجاً، بل قد يستحيل ذلك.
ب ـ في هذه النقطة الثانية توخَّينا توضيح السبب الذي دفعنا لإدراج هذه الآية في بحثنا، سواء في أصل البحث أو في خصوص الموضوع الذي نحن بصدده الآن؛ وذلك لأنه قد يخفى على البعض، وإنْ كان لا يخفى على المتبصر الفطن.
لقد قدَّمنا بحثنا هذا بمقدمة أوضحنا فيها الغرض منه، وكان من جملة هذا الغرض تقديم مفهوم قرآني حول مسألة الحجاب. ولما تبين لنا أن الأحكام الواردة في القرآن حول هذه المسألة فصَّلت بين نساء النبي وغيرهن من النساء كان لا بد لنا إفراد الآيات بحسب هذا التفصيل، حتى لا يتمّ الخلط بين الخطابين، وبالتالي عدم جمع الخطابين للخروج بمفهوم واحد، فللحجاب في القرآن مفهومان، وليس مفهوماً واحداً، وهذا ما سوف نوسِّع الكلام حوله لاحقاً، أما في ما يخصّ مقامنا هنا ـ أي دخالة هذه الآية بمسألة الحجاب ـ فإننا نرى أن قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} هو نوع من الحجاب الذي فرضه الله على نساء النبي، وخصّهن دون غيرهن بمسألة القرار في البيت، وأشركهن مع غيرهنّ في مسألة التبرُّج، كما هو واضح من الآيات التي تعرضنا لها في القسم الأول. فالقرار في البيوت يعتبر مقدمةً لمفهوم الحجاب عند نساء النبي لا يمكن إغفاله هنا، فكان لا بد لنا من التعرض له هنا عبر تعرُّضنا لهذه الآية الكريمة.
الحجاب بين التشريعات الأصلية والتشريعات الاستثنائية
تقدم في تفسيرنا لآية الجلباب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} أنها أضافت شيئاً على حكم الحجاب عند المرأة لم تُشِرْ إليه الآيات الأخر، وهو إدناء الجلباب. وقد أوضحنا في محله أن إدناء الجلباب هو تعبير آخر عن المبالغة في التستُّر أمام الناظر. وهنا سوف نقف على المقصود من هذه المبالغة، والمراد منها في هذه الآية الكريمة.
لما كان اللباس عند النساء أحد أدوات التمييز بين الحرة والأمة في ذلك الوقت([21]) كان من السهل على الناظر أن يميز بينهما بمجرد النظر إلى لباسهما.
وهنا نستعين بأسباب النزول، لا لتفسير الآية ـ كما التزمنا به في أول بحثنا ـ، وإنما للاستفادة التاريخية من هذه الأسباب، حيث ذكر أكثر المفسِّرين عند تعرُّضهم لهذه الآية أن سبب النزول كان أن النساء أول الإسلام كنّ إذا أردن قضاء حاجتهن يخرجن إلى النخيل والغيطان خارج المدينة، فكنّ في بعض الأحيان يتعرَّضن لشيء من المضايقات من بعض الشباب؛ بحجة أنهم ظنوا أنها أمة، فأمر الله الحرائر من النساء أن يخالفن بزيّهن الإماء، ويلبسن الجلباب، ويدنينه عليهن. كما أن لهذا الموضوع شواهد تاريخية أخرى يمكننا الاعتماد عليها، وقد تعرضت لها كتب التاريخ والموسوعات المتخصِّصة، كالمفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام([22]).
من هنا نفهم أن خروج النساء إلى قضاء الحاجة أول الإسلام لم يكن كباقي خروجهنّ لأغراض أخرى، فهذا الخروج غالباً ما لا يكون مخطَّطاً له، وغالباً أيضاً ما يستدعي العجلة من المرأة، مما يجعلها تتهاون في ارتداء ثيابها التي ترتديها عند خروجها المعتاد، مما يجعلها تظهر كالأمة، الأمر الذي يعطي المعترضين من الشباب الفرصة للتعرُّض لها، فأراد الله تعالى أن يرفع الأذيّة عنها، وفي نفس الوقت أن يرفع المبرِّر الذي يتسلَّح به المعترضون من أهل الشطارة عندما يطالبون بما يفعلونه مع الحرائر من النساء، فأمرهن الله أن يلبسن الجلباب، ويبالغن في لبسه، بأن يدنينه عليهنّ، حتى يتميَّزن عن الإماء.
إن الحكم الذي جاءت به الآية ـ سواءٌ كان مرتبطاً بسبب النزول أم لم يكن كذلك ـ لم يأتِ مطلقاً من ناحية المبالغة في التستُّر (أي إدناء الجلباب)، بل جاء مقيَّداً بقوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ}، مما يدلّ على أن الغرض المأخوذ في التشريع لهذا الحكم هو دفع الأذية عن النساء الحرائر في الظروف التي قد يتعرَّضن فيها للأذية، وإلا لماذا أوردت الآية هذا القيد؟
من خلال هذه الآية (آية الجلباب)، والآيات الأخرى التي نصّت على وجوب الحجاب، نلاحظ أن هناك حالتين لكيفية التستر والحجاب:
الأولى: وهي الحالة الطبيعية. وقد جاءت أحكامها في غير هذه الآية من الآيات التي تناولت مسألة الحجاب وكيفيته([23]). وهي ناظرة إلى المرأة في حالتها الطبيعية، أي المرأة البعيدة عن الظروف الخاصة، كتعرُّضها للأذى أو المضايقة أو حتى الخوف من هذه المسائل، أي إنها ناظرة إلى مجتمع يسوده الأمان والاستقرار الاجتماعي من ناحية تعاطيه مع المرأة، وهو الأمر الذي يجب أن يكون سائداً غالباً، وعلى أساسه تأتي التشريعات على اختلافها.
الثانية: وهي حالة استثنائية، خارجة عن المألوف في مجتمع إسلامي. وقد جاء حكمها في آية (الجلباب) التي نحن بصددها، ففي هذه الحالة يجب على المرأة دفع الأذية عن نفسها بالمبالغة في الاحتشام، وذلك بأن لا تقتصر في اللباس على ما هو واجب عليها في الحالة الطبيعية، بل يجب عليها إضافة ما يجعلها مميزة عن بقية النساء اللاتي لا يتأثّرن بهذا النوع من الأذية، واللواتي قد يظهرن وكأنهن هنّ اللواتي يسعين وراء هذا النوع من الأذية ولفت انتباه الرجال لهنّ، ممّا يشجعهم على الأذية أكثر فأكثر. هنا تبرز أهمية المبالغة في التستر والحجاب؛ لأن هذه المبالغة تؤدي إلى تمييزها عن غيرها من النساء، وتدل على أن هذه المرأة المحتشمة في لباسها هي امرأة بعيدة عن الابتذال والريبة، الأمر الذي يدفع عنها عيون الرجال، ويصرف عنها أذيّتهم.
أما بالنسبة إلى الشكل الذي طرحه القرآن في اللباس فقد لا يكون شكلاً تعبدياً، فالغرض من التشريع في مسألة الحجاب عموماً هو رسم حدود لمسألة الستر، أما شكل الساتر فهي مسألة خاضعة للظروف الزمانية والمكانية المتغيرة، إلا أنه يجب أن نشير هنا إلى أن ما ورد في الآية من شكل، أي إدناء الجلباب، هو قريب جداً مما هو متعارف بين المؤمنات في عصرنا، اللواتي يلتزمن ارتداء (العباية) أو (الشادور) بشكل يراعي شروط هذا النوع من اللباس، وقد تكون الطريقة التي يرتدين فيها العباية هي مصداق واضح لإدناء الجلباب.
يبقى هنا أن نشير إلى مسألة مهمة لها علاقة بحدود الستر الواجب في الحالة الطبيعية، وهي أنه من الملاحظ كأن الآية الكريمة قد ارتكزت على عدم وجوب ستر الوجه، كما في الحالة الطبيعية، أي في حالة عدم المبالغة بالتستُّر؛ لأن إحدى المناطق الأساسية في جسد المرأة التي يدنى عليها الجلباب هي الوجه، وسياق الآية الذي أراد تمييز النساء الحرائر من خلال قوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} بحيث إنهن في حالتهن العادية لا يعرفن، فهنَّ كبقية الإماء.
وبعدما تقدم من رؤيتنا للبحث نلاحظ أنه لا يمكن حمل آية (الجلباب) على أنها آية تشرِّع لأصل حكم الحجاب أو الستر، كما هو الحال في آية الزينة مثلاً، بل هي في مقام التشريع لمرحلة أخرى من مراحل التشريع، وهي مرتبطة بظروف موضوعية خارجية يشترط تحققها، فإذا توفرت هذه الظروف كان لا بد من الالتزام بهذا الحكم، وإلا فلا تكون المرأة ملزمة بهذا الحكم، مع الأخذ بعين الاعتبار انه لا شيء يمنع المرأة من اختيار ما تريده من اللباس في حجابها، وأنه لها أن تغطي وجهها حتى في الحالات العادية والطبيعية، وذلك أن الكلام هنا حول الحدّ الأعلى الذي يمكن للمرأة كشفه أمام الأجنبي من الرجال، وأما من ناحية الحدّ الأدنى فهو متروكٌ لها بحسب الظاهر، فهي حرّةٌ في تحديده.
تُعدُّ آية الزينة العُمْدة في الدليل القرآني على وجوب الحجاب. فقد تعرّضت الآية لكيفية الحجاب، ثم تعرّضت للأفراد الذين يعدّون من المستثنين من حكم عدم جواز الإبداء، ثم تعرضت أخيراً إلى سلوك المرأة عندما تكون خارج بيتها، مما يعني أن هذه الآية تناولت مسألة الحجاب من عدة نواحٍ، بما في ذلك الحكم.
وقد بقي هنا بعض المسائل العالقة في هذه الآية الكريمة:
1 ـ العم والخال والصهر
إن القارئ لآية الزينة، وخاصة لقوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} لن يشك أن الآية هنا في مقام تعداد جميع المحارم الذين يجوز لهم النظر إلى المرأة المحرم. إلا أننا إذا أحصينا هؤلاء المحارم فسوف نلاحظ أن الآية الكريمة لم تذكر ثلاثة من المحارم المسلَّمين، والمسلَّم كونهم من المستثنين، وهم: العمّ، والخال، والصهر، أي زوج البنت، وبما أنه لا مجال لحمل الآية على أنها في صدد التمثيل لا الحصر؛ بسبب أنّها عدَّدت الأكثر وتركت الأقل، وليس العكس، فما هو السبب لعدم ذكر هؤلاء الثلاثة؟ وهل هم خارجون عن الحكم في الآية؟ وهل يبقون من المحارم، إلا أنّه لا يجوز لهم النظر إلى محارمهم؟
إن هذه الاسئلة موجَّهة إلى هذه الآية التي نحن بصددها، بغضّ النظر عن أي دليل آخر يمكن الاستدلال به في المقام. ومن هنا سوف ينحصر كلامنا حول المسألة في هذه الآية فقط.
في العودة إلى الآية الكريمة سوف نلاحظ عدداً ممّن ذكرتهم الآية (كالأب، وأبي الزوج، والابن، وسواهم) يختزنون في ألفاظهم عدداً آخر من المستثنين من حرمة النظر. فإذا أُخذ (الأب) مثلاً فإننا سوف نلاحظ أن الأب يختزن في لفظه الجدّ وأب الجد و… مهما علا، وهم حتماً داخلون في المستثنين في الآية. وكذلك أبو الزوج، والابن، وبقية المذكورين في الآية. وهذا لا يخرج عن دلالة هذه الألفاظ في اللغة، وكذلك بالنسبة للابن بالرضاع، والأخ بالرضاع، فإنهم داخلون في لفظ الابن والأخ.
وأما بالنسبة إلى العم، والخال، والصهر، فإنهم أيضاً داخلون في الآية الكريمة، إنما بطريقة أخرى لا تختلف كثيراً عن الدلالة السابقة. ولبيان ذلك لا بد من الإشارة هنا إلى مسألة أساسية في الآية، وهي أن الآية في مقام تعداد جميع مَنْ يجوز الإبداء أمامهم، إلا أنه لا يمنع أن تكون مبنيةً أيضاً على الاختصار وعدم الإطالة، مع إمكان الإشارة إلى البعض. وهذا الأمر واضح بالنسبة إلى الأجداد، والأحفاد، والإخوة بالرضاع، أما بالنسبة إلى هؤلاء الثلاثة، الذين لم تذكرهم الآية بشكل صريح، فإننا بشيء من التدقيق سوف نلاحظ أن الآية عندما ذكرت أبناء الإخوان فإنها تكون قد أشارت إلى العُلْقة القائمة بين العمّة وابن الأخ([24])، وهذه العلقة من ناحية النسب هي العُلْقة نفسها القائمة بين العمّ وبنت الأخ، ولا تختلف عنها بشيء إطلاقاً، سوى أن طرفَيْ هذه العلقة تارةً يكونان عمة وابن أخ؛ وأخرى عمّاً وابنة أخ، أي إنهما يختلفان ذكورةً وتأنيثاً، وهذا لا يبدِّل في العلقة شيئاً. وبهذا تكون الآية الكريمة قد أشارت إلى العمّ من خلال قوله تعالى: {أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ}.
وإذا اتضح دخول العمّ في المستثنين تتضح كيفية دخول البقية؛ وفاقاً للمبدأ نفسه، فإن العلاقة بين الخالة وابن الأخت هي عينها العلاقة التي تربط الخال ببنت الأخت. وهكذا الحال أيضاً بالنسبة إلى الصهر، الذي هو زوج البنت، فإن العُلْقة التي تربط الزوج بأم زوجته هي نفسها العلاقة التي تربط الزوجة بوالد زوجها. والكلام هو الكلام في مسألة زوج الأم بالنسبة إلى البنت، فإنه مشارٌ إليه في أبناء الأزواج. وبذلك يكون الجميع داخلين في الآية من خلال الإشارة إلى العُلْقة القائمة، لا إلى عين الأشخاص، وذلك في قوله تعالى: {… أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ… أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ… أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ}.
2 ـ الضرب بالأرجل وإلغاء الخصوصية
جاء في ذيل آية الزينة قوله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ}. وهذا المقطع من الآية يشير إلى عدم جواز الضرب بالأرجل بشكل يؤدي إلى إبراز صوت الزينة التي تلبسها المرأة تحت ثيابها، كالخلخال مثلاً. ففي الآية نهي صريح عن هذا الفعل المثير للرجل. وهنا نسأل: هل هناك خصوصية للزينة الموجودة تحت الثياب في هذا الحكم؟ وهل العلم بالزينة عن طريق الضرب بالأرجل هو فقط المنهي عنه في الآية؟
بأدنى تأمُّل لهذه الآية سوف نلاحظ أن النهي لم ينصبّ على هذه الحالة دون غيرها، بل انصبّ عليها باعتبارها حاكية عن بقية الحالات التي قد تستعملها النساء في لفت نظر الرجال. إذاً الحكم في الآية منصبٌّ على كل ما يمكن أن تفعله المرأة لإثارة الرجل، وهو لا ينحصر بضرب الأرجل؛ ليعلم ما تحت الثياب من زينة. ففي زماننا لم تُعدْ هذه الأنواع من الزينة موجودة، فهل يمكن أن لا نكون مخاطبين بالحكم؟ كلا، فإن هناك حالات كثيرة قد تستعملها المرأة في إثارة الرجل في الشارع، كلبس الثياب الضيقة والملتصقة بالجسم؛ فإنها، وإنْ كانت ساترة للجسم كلّه، إلا أنها مثيرة للرجل. وقد تشمل الآية أموراً أخرى، من قبيل: طريقة المشي في الشارع، أو استعمال العطور و(الماكياج) المثير، إلى ما هنالك من أمور نرى أنها كلّها ـ بعد رفع الخصوصية ـ مقصودة في الآية.
الهوامش
(*) أستاذ وباحث في الحوزة العلمية، من لبنان.
([1]) المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام 5: 511، 623.
([3]) المرأة من خلال الآيات القرآنية: 32.
([5]) نقل هذا القول في الميزان: 15: 110.
([11]) التفسير الكبير 23: 205.
([13]) مجمع البيان 7: 191؛ التبيان 7: 429.
([14]) ترتيب كتاب العين 1: 74.
([15]) مجمع البحرين 1: 36 ـ 37.
([18]) التفسير الكبير 27: 208.
([20]) {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء الله عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً * تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَالله يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ الله عَلِيماً حَلِيماً * لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً} (الأحزاب: 50 ـ 52).
([21]) المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام 5: 154.
([23]) أهمها: آية الزينة، النور: 31.
([24]) هذا ما ذهب إليه السيد الخوئي& في بحثه حول النظر إلى المحارم (موسوعة الإمام الخوئي 32: 51).