تمهيد
ونحن نشرع في هذه الكتابة ، لا بّد أن يكون واضحا أنّ الغاية ليست بيان المتراكم المدرسي و الاصطلاحي في تلك الجوانب المعرفية ، و إنما في الأساس الغاية تبيّن نظرية واضحة لتلك المعارف ، لأجل بلوغ المقاصد و عدم تحميل الأبحاث ما لا يجب ، و لا الميل في الرؤية والافكار الى جانب بعيد . من هنا كانت صياغة المنهج في الكتابة و طريقة البحث بالاتجاه نحو معارف عليا موحدة تحكم انظمة العلاقات بين قواعد العلوم ، و بعارة أخرى هذه الكتابة وغيرها تسعى للكشف عن جوهر الأنظمة التي تنبع منها المعارف الخاصّة بالعلوم ، لأجل رؤية أوضح و نظرة أشمل لتلك المعارف سواء على مستوى القواعد العامة او التطبيق ، و الداعي لذلك هو التقليل من الإختلافات والإجتهادات التي صارت تشكّل عبأ على العلوم بدل أن تقدّم الحلّ .
هنا سنعمد الى أحد العلوم المهمّة إن لم يكن الإهم من علوم الشريعة وهو علم الحديث الضارب في القدم و المتكامل من حيث الجوانب و الذي يعدّ أحد مفاخر هذه الأمّة التي تتفرّد بهكذا علم . يقول عبد الهادي الفضلي : غير خفيّ أنّ علم الحديث يأتي في طليعة العلوم الإسلامية التي وضعها العلماء المسلمون وسيلة من وسائل معرفة الفكر الاسلامي بعامة، والتشريع الاسلامي بخاصة .
لقد بلغ علم الحديث من الدقّة ما لا يمكن لإي متتبع التشكيك في البناء الفذّ لهذا العلم ، يقول رضا الجزائري لما جعل الله هذا الدين خاتمة الرسالات والأديان وتعهد بحفظه وصونه، اختص هذه الأمّة بأن وفقها لحفظ كتاب ربها وصيانة حديث نبيها. فإذا بها تبتكر لحفظ الحديث قواعد المصطلح على أدق منهج علمي يمكن أن يوجد للاستثبات من النصوص المروية وتمحيصها.
إن علم الحديث و أسسه و أصوله قديمة قدم التشريع كما هو واضح لكل متتبع يقول حاتم بن عارف العوني : قد اجتمع في هذا الجيل ( اي الصحابة ) ، من دوافع نشر السنة وتعليمها ، ومن أسباب التوثق والتورع ؛ ما جعله يقوم بأداء الأمانة خير أداء ، من غير زيادةٍ ولا نقصان ، على الوجه الذي تكفل بتحميل تلك الأمانة للأجيال من بعدهم ، وإخلاء المسؤلية عنهم بعد ذلك الكمال والشمول والدقة المتناهية في التبليغ والأداء . و يقول عبد الله الفريج : كانت قواعد علم مصطلح الحديث مبثوثة في قلوب الرجال فهم ما ان يسمعوا كلاما حتى يعرضوه على كلام الله تعالى و على سنة رسوله صلى الله عليه و اله .
التعريف
العلم هو منظومة الأبحاث المختصة بميدان معين بغية الوصول الى قواعد متناسقة بخصوص ذلك الميدان ، و لا ريب أنّ موضوع علم الحديث هو الحديث ، لأجل قواعد بخصوص القبول والرد ، و إنّ جميع ما طرح من تعاريف و تسميات إنّما يصبّ في تلك الغايات .
عُرّف علم الحديث بتعاريف مختلفة الا أنّها بعد ما بينها و وضوح ميدان أبحاثه لا يكون لها كثير أهمية ، يقول نعيم ابو بكر ( أختلف العلماء في حد علم الحديث وموضوعه, وذلك لتشعب هذا العلم وكثرة فروعه, فاضطربت أقوالهم في هذا الشان. ) ، فعن الشهيد الثاني زين الدين العاملي: انه علم يبحث فيه عن متن الحديث، وطرقه، من صحيحها وسقيمها وعليلها، وما يحتاج إليه ليعرف المقبول منه والمردود . و قال ابراهيم وادي : علم الحديث : “هو علم بأصول وقواعد يعرف بها أحوال السند والمتن من حيث القبول والرد” . وعن تدريب الراوي : قال الشيخ عز الدين بن جماعة : علم الحديث : علم بقوانين يعرف بها أحوال السند والمتن . و عن ابن حجر بن حجر : أولى التعاريف له أن يقال : معرفة القواعد والمعرفة بحال الراوي والمروي .
و لأجل تميّز أبحاث الرواية عن المتن أطلق على كل منها اسما، و وضع لكل منها تعريفا فعلم الحديث رواية : وهو دراسة سند الحديث و رجاله. فموضوعه: ألحديث من حيث صحة صدورها عنه. و عرف علم الحديث دراية: انه دراسة متن الحديث. و موضوعه الحديث من حيث دلالته على المفهوم والمراد.
و في نظرة اكثر تفصيلية يقول السبحاني علم الدراية يبحث فيه عن الحالات الطارئة على الحديث من جانب السند أو المتن. وما يقال من أنّ علم الرجال يبحث في السند، والدراية تبحث في المتن، بعيد عن الصحة ; لأنّ الدراية تبحث في السند أيضاً كعلم الرجال، إلاّ انّ الاختلاف بينهما يكمن في أنّ علم الدراية ينظر إلى مجموع السند، فيبحث عن الأحوال العارضة له، في حين انّ علم الرجال يبحث في آحاد رواة السند على وجه التفصيل من حيث المدح والقدح.
من خلال ما تقدم يكون واضحا أننا أمام علم يبحث الحديث من جوانب متعددة و لا مبررة لجعل كل جانب علما و لا لطغيان احد الجوانب ليتسمى به العلم ، فلقد سمي العلم بأسماء مخالفة للعملية و لا مبرر لها ـ إذ قد سمي هذا العلم بأكثر من اسم، وأطلق عليه أكثر من عنوان، من أشهرها تسميته بعلم الحديث . – دراية الحديث. – مصطلح الحديث. – قواعد الحديث. – أصول الحديث ، يقول الفضلي وكلها تعني معنى واحدا، وذلك لأن العلم – في أصوب تعاريفه : مجموعة الأصول العامة أو القواعد الكلية التي تجمعها جهة واحدة. فتسميته (قواعد الحديث) أو (أصول الحديث) تعطي المعنى المقصود. ولأن الدراية – لغة – ترادف العلم تأتي تسميته (دراية الحديث) من الوضوح بمكان. إذ كلها تعني مجموعة القواعد الكلية أو الأصول العامة التي تنضوي تحت عنوان واحد هو اسم العلم الذي تؤلفه، وهو هنا علم الحديث. فتسميته ب (علم الحديث) أو (دراية الحديث) أو (قواعد الحديث) أو (أصول الحديث) شئ منهجي يلتقي وطبيعة التسميات العلمية ، ) انتهى ، وهذا كلام غير دقيق و قد عرفت ما فيه و الصحيح الذي لا مبرر للجوء الى غيره هو تسميته بعلم الحديث لا غير .
ثم يقول الفضلي ( قد يثار التساؤل حول تسميته ب (مصطلح الحديث)، والمصطلح – كما هو معروف – من العلم، وليس هو كل العلم، ولكن عند معرفتنا لأصل التسمية بهذا الاسم من ناحية تاريخية سوف نرى أن هناك وجها علميا لهذه التسمية، وذلك أن اسم (مصطلح) هنا أطلق على (أقسام الحديث) أولا، ولك لكثرتها – كما سنرى – وكأنها لهذه الكثرة الكاثرة إذا قيست بالمعلومات الأخرى في هذا العلم هي كل العلم، ثم تجوزوا فيها فسموا بها العلم كله، فقالوا (مصطلح الحديث) وهم يريدون به (علم الحديث) من باب تسمية الكل باسم الجزء . ) لكن هذا التوجيه لا يمكن المساعدة عليه ، و لا مبرر له ..
موضوع علم الحديث
موضوع علم الحيث هو الحديث وهذا ظاهر من أبحاث العلم و مسائله ، و ليس ظاهرا وجود تخصيص شرعي لمعنى الحديث لذلك عادة ما يكون هناك استذكار لهذا المعنى وسط الاصطلاح المشهور يقول الدهلوي : إعلم أن الحديث في إصطلاح جمهور المحدثين يطلق على قول النبي صلى الله عليه واله و سلم وفعله وتقريره ، وكذلك يطلق الحديث على قول الصحابي وفعله وتقريره وعلى قول التابعي وفعله وتقريره . و من هنا يكون المفهوم العرفي للحديث هو جوهر ابحاث هذا العلم .
و قيل ان موضوعه السنة و ليس الامر كذلك انما اصابة السنة غاية من غايات علم الحديث ، و قيل أنّ المهم هو بحث السند والامر ليس كذلك بل أبحاث السند جزء منه ، و كذلك أحوال الرواة .
و لقد عرفت مما تقدم ان الموضوع غير مختص بالمنقل عن الجهة المعصومة و اخبار الخطاب الشرعي بل يجري في جميع الإخبار البشري و معارفهم المنقولة ، و يكون للمعارف القطعية تقدّم واضحة في بلورة الصورة التي يجب أن تكون عليها الأخبار الظنية ، هذا الفهم يعطي اولوية للمعارف النقلية القطعية ، و يعطي مركزية للمعارف الشرعية القطعية ، و لا يرضى من المنقول الظني مهما كانت درجة الاطمئنان له الا بما يوافق تلك القطعيات لاجل عدم التناقض و اختلال التوازن الفكري .
من الواضح عدم وجود استحداث شرعي لمفهوم الحديث أو الخبر او الأثر ، فتخصيص أيّ منها بغير المعروف عرفا بحجة الاصطلاح خال من العلمية ، كما ان التمييز بينها بصورة اصطلاحية غير لغوية ايضا غير سديد ، و مع ان من القطعيات تعبدّ المسلم بالقران و السنة، الا انه من الواضح انّ المقصود هو الحجة النقلية في الشريعة و هو يرجع الى الحجة في الشريعة بشكل عام . و لحقيقة جري الشارع على طريقة العقلاء بالتوصيل ، و عدم ظهور طريقة لمن يتناول الاخبار غير المعصومة غير طريقة اهل علم الحديث ، و إستناد المشتغلين في هذا العلم على المعارف العقلائية ، يكون واضحا شمول ابحاث هذا العلم لكل منقول عقلائي سواء كان في الشرع او غيره ، و الإهتمام الكبير بالخطاب الشرعي المنقول و كونه سببا حقيقا لظهور هذه الأبحاث لا يمنع من أن يكون تطبيقا جزئيا لمعارف كلية عقلائية .
وظيفة علم الحديث
اهم وظيفة لعلم الحديث بل هي اساس وجوده معرفة ما يقبل ويرد من الراوي والمروي مما يسهم في تنقية الأدلة الحديثية وتخليصها مما يشوبها مما لا يصح الاعتماد عليه ، الا انه ولأجل ان المنهج الذي يتبعه المشتغلون في هذا الفن وهو الارتكاز على المعارف العرفية و سلوك العقلاء في قبول الاخبار كما سنبين يكون واضحا ان ثمرة هذا العلم لا تختص بأدلة الفقه ، بل تشمل جميع المعارف المنقولة ،فيمكن الاستفادة من قواعد علم الحديث في فحص جميع المعارف المنقولة ، و يمكن رد علم الحديث الى معرفة عقلائية اوسع هي معارف قبول الاخبار .
و المهم هنا كموضوع موحد للبحث هو ما قدمناه من تلك الوظيفة يقول رضا الجزائري أن علم الحديث دراية يوصل إلى معرفة المقبول من المردود بشكل عام، أي بوضع قواعد عامة. أما علم رواية الحديث فإنه يبحث في هذا الحديث المعين الذي تريده ، فيبين بتطبيق تلك القواعد أنه مقبول أو مردود، ويضبط روايته وشرحه ، فهو إذن يبحث بحثاً جزئياً تطبيقاً ، فالفرق بينهما كالفرق بين النحو والإعراب ، ) وهذا موافق لسلوك العقلاء و عليه الاعتماد حيث ان لكل نظام معرفي عقلائي اركان و اسس و اصول مرجعية و مرتكزات ترد اليها غيرها من المعارف ، و لا تقبل تلك المعارف الثانوية الا بموافقتها للمعارف الاولية المحورية في ذلك النظام المعرفي ، و هذه الحقيقة المهمة يجب ان تكون المدار في قبول الاخبار سواء ما يخص الخطاب الشرعي او غيره المعارف .
و كما اسلفنا ليس هناك تخصيص او استحداث شرعية بخصوص جوهر فكرة علم الحديث وهي تمييز الاخبار و طريقة تقبلها ، لذلك يكون الوظيفة الاهم تمييز المقبول الذي يصح الاعتماد عن غيره ، و هناك وظيفة أخرى هي رفع الاختلاف ليس فقط على مستوى الموروث الحديثي بل في عالم الشريعة بشكل عام ، اذ مع تحقق اتفاقات عامة و قواعد قبول عامة ، تكون التصنيفات و المجاميع التطبيقية موحدة بلا ريب .
و لو اعتمدنا فكر ان مناهج علم الحديث و قواعده ما هي الا تطبيقات جزئية لمعارف كلية تخصّ نظام النقل العقلائي يكون الباب واسعا امام حقل معرفي كبير يهتم بالمنقول البشري ، و يقدم تصورات عامة عن نظام القبول و الرد للاخبار غير مختص بالمنقول الشرعي ، و يكون اكثر تجذرا في المعارف الانسانية لانه ينطلق من مجال و نظرة اوسع و مادة موضوعاتية اكبر ، و يقدم تفسيرات كلية مستقاة من تجارب واسعة النطاق يقل التوهم فيها ، و لا بد من القول انه رغم التراكم الكبير للمعلومة الحديثية و الكم الهائل من الكتابات الا ان من الواضح انّ الوضع القائم بالنسبة لنقل المضامين لا يحقق المبتغى ، فاضافة الى توسّع الاجتهادات في القواعد الأساسية بخصوص النقولات ،فان العجز واضح في تبين المنهج الواقعي و العلمي لتصنيف الاخبار . لذلك اصبح الان علم واسع مختص بالمنقول البشري بشكل عام يكون علم الحديث جزء منه ضرورة ملحة .
منهج البحث
لقد اختلفت مناهج ابحاث علم الحديث و طريقة تبويبها اختلافا كبيرا يعود الى التركيز على موضوعات المسائل و تهميش النظرية العامة ، يقول حاتم بن عارف العوني تعددت المناهج في فهم مصطلح الحديث ، فاختلفت الأقوال في تفسيره ؛ وتباعدت الطرائق في دراسة أصوله ، فتباينت المذاهب في وضع قواعده وتحديد ضوابطه . وتأثرت كتب علوم الحديث بعقائد مؤلفيها ومذاهبهم ، وبعلوم أجنبية عنها ، تشبع بها أولئك المصنفون ) . لذلك يكون من المفيد اعتبار جوهرية التقييم في الابحاث كمستند و مرجع ترد اليه المسائل و بذلك يكون تقديم الاهم لازما .و لحقيقة ان علم الحديث يرجع الى نظام اكبر يتعلق بالخبر و يخضع الى تقييم العقلاء و سلوكهم و كيفية قبوله عندهم يكون من الانسب طرح منهجية البحث وفق هذه الرؤية، و من الواضح ان علم الحديث يبحث في موضوعه من جهتين متميزتين الاولى المتن و الثانية سند.
في الجهة الاولى ثلاث مباحث : الاول المصدّقية او مقدار الموافقة للمعارف الثابتة و الثاني ضبط المتن المنقول وهو من الابحاث المهمة التي تبحث مسائله بشكل متفرق بين باقي المسائل و الثالث الدلالة وفقه الخبر . اما الابحاث السنديةفجوهر غايتها الاطمئنان للمنقول وهو محصلة ابحاث الاتصال واحوال الرواة .
و من هنا يكون من المفيد جعل ابحاث علم الحديث في خمسة ابواب في جهتين
الجهة الاولى : الابحاث المتنية
المبحث الاول : المصدّقية او موافقة الخبر للمعارف الثابتة
المبحث الثاني : ضبط المتن المنقول
المبحث الثالث : دلالة المتن و وسائليته
الجهة الثانية : الابحاث السندية
المبحث الاولى : درجة الاتصال
الدرجة الثانية : أحوال الرواة
المصادر
1- عبد الهادي الفضلي : أصول الحديث 1421ه
2- عبد الله بن حمود الفريج : مصطلح الحديث ( تعريفه ، فوائده- غاياته )2014
3- زين الدين العالمي : الرعاية في علم الدراية ت 965 ه
4- ابراهيم وادي : ملخص عام في مصطلح الحديث 1436
5- جلال الدين السيوطي : تدريب الراوي في تقريب شرح النواوي ت911ه
6- جعفر السبحاني : كليات في علم الرجال 1414 ه
7- رضا الجزائري : مبادئ علم الحديث 2014
8- منعم أبو بكر : الفرق بين علم الحديث رواية ودراية 2014
9- عبد الحق الدهلوي : مقدمة في اصول الحديث 1406 ه
10- حاتم بن عارف العوني : المنهج المقترح لفهم المصطلح 1996