السيد محمد حسين فضل الله(*)
مقدّمة في تحديد موضوع البحث
الكلام في الحاجب الذي يُعتبر عدمه في صحّة الوضوء والغُسل. ولتوضيح الحال ينبغي التعرّض في عدّة أمور لتحديد ما هو محلّ الكلام في المقام:
أوّلاً: الحاجب المنفصل
لا إشكال في مانعيّة مثل الخفّين، والخاتم الضيّق، والسوار، والخمار، وما إلى ذلك، ممّا يُعتبر من الأجسام التي توضع وتُرفع، أو تُلبس وتُنزع، فيُشترط إزالة كلٍّ منها، حيث تمنع من وصول الماء إلى عضو الغَسل، في صحّة الوضوء أو الغسل. وقد وردت في ذلك روايات عدّة، ومـن ذلـك: مـا رواه عليّ بن جعفـر ـ في الصحيـح ـ عـن أخيـه×، قـال: «سألته عن المرأة عليها السوار والدملج في بعض ذراعها، لا تدري يجري الماء تحته أم لا، كيف تصنع إذا توضّأت أو اغتسلت؟ قال: تحرّكه حتّى يدخل الماء تحته أو تنزعه؛ وعن الخاتم الضيّق، لا يدري هل يجري الماء تحته إذا توضّأ أم لا، كيف يصنع؟ قال: إن علم أنّ الماء لا يدخله فليخرجه إذا توضّأ»([1]).
نعم، ورد في هذا الباب العفو عن مثل الخاتم في حال النسيان، وذلك في صحيحة الحسين بن أبي العلاء، قال: «سألت أبا عبدالله× عن الخاتم إذا اغتسلت؟ قال: حوّله من مكانه، وقال في الوضوء: تديره؛ فإن نسيت حتّى تقوم في الصلاة فلا آمرك أن تعيد الصلاة»([2]). وهو لا يدلّ على عدم مانعيّة مثل الخاتم مطلقاً، بل في خصوص النسيان. وهو ـ في ذاته ـ لا مانع من الالتـزام بـه، إلاّ أن يُستفاد أنّ الحكم الوارد في الرواية يُشير إلى قاعدة الفراغ في حال الشكّ في الصحّة بعد كون المنسيّ هنا هو التحريك للتأكّد من وصول الماء تحته، وليس عدم التحريك ملازماً لعدم وصول الماء. قال صاحب الجواهر: إنّه «لا معنى لعدم الأمر بإعادة الصلاة في صورة النسيان مع العلم بعدم غسل ما تحت الخاتم، كما هو الفرض، فلم يبقَ إلا صورة الشكّ، بل قد يُدّعى أنّها هي المتعارف في السؤال عنها، وهو أولى من حملها على الاستحباب مطلقاً، أو مع حمل الخاتم على إرادة الواسع…»([3]).
نعم، هنا يأتي الكلام في إمكان التمسّك بقاعدة الفراغ مطلقاً، ولو في صورة عدم الالتفات إلى العمل في الأثناء. وفي كلّ الأحوال هذا أمرٌ آخر ليس هنا مجال بحثه.
ثانياً: حالات الحرج
يُمكن إخضاع صورة لزوم الحرج من إزالة الحاجب لقاعدة نفي الحرج، كما في بعض اللاصقات التي توضع لعلاج آلام الظهر، من غير كسرٍ أو جرحٍ، ممّا اعتُبر من موارد الجبيرة، فيقتضي دليل رفع الحرج، وهو قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78)، الوضوء والمسح عليها؛ لأنّ القاعدة تشمل موارد الطهارة الحدثيّة، وهي لا تنفي الحكم فحسب، بل تُثبته أيضاً في الموارد التي لا يكون فيها النفي حلاًّ للمشكلة، وإلا ـ أي فإن كانت لا تثبت ـ فلازمه بقاء المكلّف في حيرةٍ من ناحية العمل، وهذا خُلف كونها واردة لحلّ المشكلة. وقد أوردنا نظير ذلك في قاعدة نفي الضرر، ممّا ليس المقام مقام بحثه.
نعم، قد يُشكل على ذلك بأنّ مقتضى القاعدة في عدم التمكّن من غسل تمام أعضاء الوضوء هو سقوط الوضوء؛ لعدم التمكّن من المركّب. وعليه فلو خُلّينا والآية لاقتضى ذلك سقوط الوضوء، والانتقال إلى بدله المحدّد شرعاً، وهو التيمّم. وعليه فلا يُمكن استفادة المسح على الحائل في صورة لزوم الحرج من الآية.
أقول: إنّ آية تشريع التيمّم فرّعت التيمّم على عدم وجدان الماء. والظاهر منه معناه الحقيقي. وعليه فلا يُلجأ إلى التيمّـم ـ في غير صورة المرض الذي يضرّ فيه استعمال الماء ـ إلا في صورة عدم وجدان الماء. وصورة الحرج تقتضي حلّ المشكلة في إطار الالتزام بالوضوء.
وبعبارة أخرى: إنّ قوله: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء} (المائدة: 6) تفريعٌ على {أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاء} (المائدة: 6)، لا علـى المـرض والسفر ومـا بعده؛ ليقتضي الأمر تفسيـر عـدم وجـدان الماء بعدم القـدرة عليه؛ لأنّه تجوّز لا دليل عليه، بعد إمكـان القـول بأنّ ذكـر المرض كافٍ في بيان جهة المانعيّة بالنسبة إليه؛ لمناسبة الحكم والموضوع، بينما السفر وما بعده جاء مقدّمة لذكر المورد الغالب لعدم وجدان الماء، فلاحظ.
فإذا تمّ هذا الاستدلال يُمكن لنا أن نستفيد من الآية قاعدةً عامّةً في جواز الاكتفاء بالمسح على الحاجب في صورة استلزام الحرج من رفعه، فتأمّل جيّداً؛ فإنّ المسألة بحاجة إلى مزيد بحث، وقد أحببنا الإشارة إليها في هذه العجالة.
وعلى أية حال فقد يُمكن استفادة ذلك ممّا دلّ على حكم الجبيرة؛ فإنّه وإن اقتصر بها الفقهاء على صورة الكسر أو الجرح أو القرح، إلا أنّنا لا نفهم لذلك وجهاً سوى الحرج من الإزالة. وهذا ما ينطبق على ما استحدثه عالم الطبّ في بعض الأمور التي تُلصق بالبدن لفترات طويلة؛ لأجل العلاج؛ فإنّه لا إشكال في لزوم الحرج من إزالتها.
وهذا الحكم المذكور يُمكـن استفادته أيضاً ممّا رواه عبد الأعلى مولى آل سام، قال: قلتُ لأبي عبدالله×: عثرتُ فانقطع ظفري، فجعلت على إصبعي مرارة، فكيف أصنع بالوضوء؟ قال: «يُعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزّ وجل، قال الله تعالى: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78)، امسحْ عليه»([4])، فإنّنا نفهم أن المسح على الرجل حرجيٌّ، فيُمكن المسح على المرارة. والرواية تصلح دليلاً على ما حاولنا استفادته من حاقّ الآية ممّا سبق ذكره؛ إذ لا يخفى أنّ الرواية تفيد أبعد من إثبات الحكم بجواز المسح، فإنّها تؤكّد أنّ الحكم المذكور خاضع لمبنىً عامٍّ مرتكزٍ إلى قاعدة نفي الحرج؛ إذ أشارت إلى السائل أنّ المورد محكومٌ بالآية المباركة.
نعم، قد يُشكل بضعف سند الرواية، باعتبار أنّ عبد الأعلى لم يوثّق، كما يذكر السيّد الخوئي&؛ لأنّ الثقة هو ابن أعين، ولم يثبت اتّحاد المذكور في الرواية معه. هذا، وقد ذكر آخرون أنّه ثقة؛ بناءً على اتّحادهما؛ بشهادة المفيد وعليّ بن إبراهيم. وهو الأقرب. وإن أبيتَ فإنّه ليس ما يمنع من الاعتماد على الرواية وفق مبنانا في حجّية الخبر الموثوق به نوعاً.
ثالثاً: عدم مانعية الحاجب اللاصق للطهارة
إذا عرفتَ ذلك نقول: محلّ الكلام في مقامنا هو ما يُبتلى به بعض الناس من أنواع الأصباغ والدهان والشحوم التي تعلق باليد في أعمال إصلاح المحرّكات الآليّة، حتّى أنّ بعض ذلك يعسُر عليهم إزالته من دون إدماء اليد، أو ما يكون من قبيل الدواء الذي يُطلى به الجسم، وربما يدخل فيه ما اعتادته النساء من طلاء الأظافر([5])، بقطع النظر عن كونه زينةً لا يجوز إظهارها أمام الأجانب من الرجال. وذلك من الأمور التي يصعب إزالتها بشكل عاديّ طبيعيّ، وأصبحت من قبيل اللاصق بالبدن، فهل يُعتبر حائلاً تجب إزالته في الوضوء والغسل أم لا؟
ما ندّعيه في المقام هو أنّه لا يُشترط إزالة مثل هذا الحاجب الذي يلتصق بالبدن. ويدلّنا على ذلك:
الدليل الأوّل: إفادة إطلاق آية الوضوء عدم المانعيّة
قـــــال تعــالـــى: {فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَينِ} (المائدة: 6). وإنّ إطلاق الغسل فيها يقتضي جواز المسح على الحاجب اللاصـق بالبـدن؛ إذ يصـدق غسـل الوجه واليدين.
ولكن ذكر أستاذنا الخوئي& أنّ «مقتضى إطلاق الآية المباركة والروايات البيانيّة الواردة في حكاية وضوء النبيّ’ وجوب غسل الوجه واليدين بجميع أجزائهما، فإذا بقي منها شيء غير مغسول ـ ولو يسيراً ـ فلا مناص من الحكم بفساد الوضوء؛ لأنّ الواجب ارتباطي، ومع عدم غسل شيء من الوجه واليدين لم يأتِ المكلّف بالغسل المأمور به شرعاً. فلا بدّ من ملاحظة آماقه وأطراف عينيه وحاجبيه حتّى لا يكون عليها شيء ممّا يمنع من وصول الماء إليه، من قيح أو كحل أو وسخ أو وسمة على الحاجب ونحوها»([6]). وظاهره وجوب إزالة كلّ ما يمنع من وصول الماء إلى اليد الأصليّة وبشرتها، باعتبار ذلك مقتضى إطلاق الآية والروايات البيانيّة.
ولكنّنا نقول: لعلّه لا إشكال في أنّ إطلاق الآية يقتضي لزوم غسل كلّ عضوٍ من الأعضاء المذكورة فيها، بحيث لا يُترك شيء منها لم يُغسل. ويدلّ على ذلك أيضاً ما رواه زرارة، عن أبي جعفر× ـ وقد سأله: ألا تخبرني من أين علمتَ وقلتَ: إنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين؟ ـ قال: يا زرارة، قاله رسول الله’، ونزل به الكتاب من الله عزّ وجلّ؛ لأنّ الله عزّ وجلّ قال: {فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ}، فعرفنا أنّ الوجه كلّه ينبغي أن يُغسل، ثمّ قال: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ}، فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه، فعرفنا أنّه ينبغي لهما أن يُغسلا إلى المرفقين…»([7]). ولذلك فإنّه يصحّ السلب مع مثل الخاتم الضيّق والدملج والسوار، فيُقال: لم يغسل كلّ يده، مثلاً.
ولعلّنا نستفيد لزوم الاستيعاب أيضاً ممّا ورد عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبدالله×، قال: «اغتسل أبي من الجنابة، فقيل له: قد أبقيت لمعةً في ظهرك لم يصبها الماء، فقال له: ما كان عليك لو سكتَّ؟! ثمّ مسح تلك اللمعة بيده»([8]). فإنّ مسحه لها مع غسله المعظم يؤيّد أنّ المراد غسل الجميع، والله العالم.
أمّا في صورة كون الحاجب لاصقاً بالبشرة، لا يقبل الإزالة بشكل طبيعيّ عاديّ، فيُصبح جزءاً من الجسد والجارحة، أو بمنزلة الجزء، فغسله غسلٌ لليد كعضوٍ، فيُقال: غسل وجهه مع وجود بعض الدهان عليه، وغسل يديه كذلك، ولا يصحّ السلب عرفاً بالنسبة إلى الغَسل في مثل هذه الموارد.
وبعبارة أخرى: إنّ إطلاق الآية لا يدلّ على أكثر من استيعاب غسل الجارحة، وهي الوجه واليد إلى المرفق، بحيث لا يترك شيئاً منها لم يُغسل. وهذا الترك يصدق في صورة وجود الخاتم المانع من استيعاب الغسل للجارحة، أمّا في صورة كون الحاجب لاصقاً فالاستيعاب متحقّق بغسل كلّ الجارحة، ما بين المرفق إلى أطراف الأصابع. ولا يقتضي إطلاق الآية لزوم غسل البشرة بما هي بشرة، بل لزوم غسل الجارحة بما هي جارحة.
ولعلّ منشأ الصدق في ذلك هو أنّه في موارد الروايات، أعني وجود الخاتم الضيّق والسوار ونحوهما، هناك شيئان: اليد والخاتم، أو اليد والسوار، وما إلى ذلك، فلا بدّ من إزالة ذلك الشيء الذي يمنع من غسل اليد. أمّا في صورة وجود مثل الصباغ، ولو كان سميكاً يمنع الماء من الوصول إلى البشرة، فليس هنا شيئان، بل شيء واحد، وهو اليد المصبوغة.
وممّا يؤكّد الفرق في المقام بين الموردين أنّه لو مسّ أجنبيٌّ امرأةً من وراء قفّازٍ تلبسه فلا يُقال: مسّ يدها، وكذلك لو مسّ السوار، أو الخمار، أو الثياب، بينما لو مسّ بيده مكان الصباغ اللاصق الذي له جُرمٌ فيصدق أنّه مسّ يدها.
نعم، لو دلّ دليل على لزوم غسل البشرة بعنوان أنّها بشرة لزم التمسّك به، ولكنّ الدليل مفقود في المقام، إلا ما قد يُتوهّم من بعض الروايات الآتية.
هذا، وقد يُستدلّ على المنع بالروايات الآنفة الذكر، التي تحدّثت عن مانعيّة مثل: الخاتم والدملج والسوار وغيرها، بدعوى عدم خصوصيّة تلك الأمور سوى كونها مانعاً من وصول الماء إلى البشرة، وهو مشتركٌ مع المذكورات. قال في الجواهر ـ بعد إيراده روايات الخاتـم والدمـلــج والسـوار ونحـوهـا ـ: «والظاهر أنّه لا فرق في ما تقدّم بين الخاتم وغيره من الحواجب لما يجب غسله من ظاهر البشرة، ومنه الوسخ تحت الأظفار، إذا تجاوزت المعتاد، وكان ساتراً لما لولاه لكان ظاهراً… وكفى من النبيّ’ بياناً ما دلّ على وجوب غسل البشرة واليد ونحو ذلك…»([9]). إلا أنّ ما أشار إليه من الروايات دالّ على ما يكون خارجاً من الجسم، دون ما كان لاصقاً بالبدن. وقد ذكرنا أنّ المستفاد من مثل: روايات الخاتم والسوار ونحوهما أنّ هنا شيئين: اليد والحاجب، فيجب إزالته أو تحريكه مقدّمة لإيصال الماء إلى اليد؛ أمّا في صورة الحاجب اللاصق فليس هنا شيئان عرفاً، بل شيء واحد، وهو اليد، غايته أنّها يدٌ مصبوغةٌ.
وعليه فليس ما يمنع من التمسّك بإطلاقات غسل اليد والوجه ومسح الرأس والرجل. وعلى هذا الأساس لا يُمكن بهذا اللحاظ إلغاء خصوصيّة الخاتم والسوار ونحوهما في المقام، بأن يُدّعى أنّ الخصوصيّة إنّما هي المانعيّة من غسل البشرة؛ فإنّ موردها هو المانعيّة من غسل اليد أو الوجه، أو المسح لمواضع المسح، ممّا ينتفي معه حصول المأمور به على وجهه.
إشكال وجوابه
قد يُقال: إنّ التمسّك بصدق غسل الوجه واليدين في صورة وجود الحاجب اللاصق يقتضي التوسّع ليُقال بصدقه على من غسل يده والخاتم فيها، حتّى لو علم أنّ الماء لا يدخل تحته، بحيث حال الخاتم بين البشرة ووصول الماء إليها. وهكذا يُقال: غسل وجهه ويديه لمَنْ ترك فيهما لمعةً صغيرةً من دون غسل، ولو من دون اللاصق. وهذا ما لا تلتزمون به، كما أشرتم سابقاً.
ولكن هذا الإشكال غير وارد؛ لأنّنا نقول: إنّ الغَسل لا يصدق في صورة الخاتم الضيّق المانع من وصول الماء إلى اليد، بعد التفات المكلّف إلى لزوم غسل اليد بكاملها. وكذلك فإنّه إنّما يصدق غَسْل العضو مع إبقاء لمعةٍ جافّة فيه مع عدم الالتفات إلى اللمعة، لا لعدم منافاتها لغسل جميع العضو.
نعم، لو بنينا على ما ذهب إليه المحقّق الخوانساري، الذي قال ـ بعد ذكره للروايات الدالّة على عدم الأمر بالإعادة إذا نسي تحريك الخاتم، مما تقدّم ـ: «ولا يبعد أيضاً القول بمضمونه الظاهر، لو لم يكن إجماع على خلافه»، وقال ـ بعد إيراده صحيحة إبراهيم بن أبـي محمـود الآتيـة ـ: «ولا يبعـد أيضـاً القـول بعدم الاعتداد ببقاء شيء يسير لا يخلّ عرفاً بغسل جميع البدن، إمّا مطلقاً؛ أو مع النسيان، وهو الظاهر، وتُجعل هذه الرواية دليلاً عليه، لو لم يكن إجماعٌ على خلافه. لكنّ الأولى أن لا يجري عليه»([10])، فلو بنينا على ما ذهب إليه أمكن الالتزام بذلك أيضاً، كما هو واضحٌ.
الدليل الثاني: ما دلّ على عدم إضرار مثل العلك
ومن ذلك ما رواه إبراهيم بن أبي محمود ـ في الصحيح ـ قال: «قلت للرضا×: الرجل يجنب، فيصيب جسده ورأسه الخلوق والطيب والشيء اللكد، مثل: علك الروم، والظرب، وما أشبهه، فيغتسل، فإذا فرغ وجد شيئاً قد بقي في جسده من أثر الخلوق والطيب وغيره، قال: لا بأس»([11]). ورواه الكليني، إلا أنّه قال: الطراز، بدل الظرب([12]).
ويقول أستاذنا الخوئي& معلّقاً على محتملات الرواية في ما خصّ الظرب، أو الطراز، أو الطرار، كما ذكره في الوافي: «ولم يظهر لتلك الكلمة معنىً مناسب للرواية؛ لأنّ الطرار هو ما يزيّن به ولو بالتعليق، وليس ما يلصق بالبدن. والطراز بمعنى الطرز والنمط، أي الأسلوب، ولا يناسب الرواية؛ لأنّها في مقام التمثيل للكد. والظرب بمعنى ما يلصق، وهو أيضاً غير مناسبٍ للرواية؛ لأنّها في مقام التمثيل للّكد، الذي هو بمعنى ما يلصق، فكيف يمثّل له بما يلصق. فلم يظهر معنى هذه الكلمة، ولعلّها كانت في تلك الأزمنة بمعنى مناسب للرواية…». ثمّ يعلّق على نسخ الوسائل والكليني بأنّ «النسخ مغلوطة قطعاً؛ فإنّ الكلمة ليست بالظاء، بل بالضاد، والضرب بمعنى العسل الأبيض الغليظ، كما في اللغة. وفي مجمع البحرين ذكر الحديث نفسه في مادّة (الضرب). وهذا أمر يناسب الرواية، كما لا يخفى، بخلاف الظرب الذي هو بمعنى اللاصق؛ فإنّه كما ترى لا يناسبها بوجه. وأمّا الطرار فهو جمع الطرة، ولم نرَ استعماله مفرداً، وقد جعله في مجمع البحرين مفرداً، وفسّره بالطين، ونقل الحديث واستشهد به»([13]).
قال الزبيدي في «تاج العروس»: «لكد عليه الوسخ، كفرِح: لزمه ولصق به، قاله الأصمعيّ. وقال غيره: لكد الشيء بفيه لكداً: إذا أكل شيئاً لزجاً فلزق بفيه من جوهره أو لونه. وفي حديث عطاء: إذا كان حول الجرح قيح ولكد فأتبعه بصوفة فيها ماء فاغسله. يقال: لكد الدم بالجلد: إذا لصق»([14]). وفي الصحاح، للجوهري: «الأصمعي: لكد عليه الوسخ ـ بالكسر ـ لكداً: أي لزمه ولصق به. وتلكّد الشيء: لزم بعضه بعضاً»([15]).
وإذا صحّ ما ذكره الزبيدي، حكايةً، من أنّه قد يكون الجوهر وقد يكون اللون، فيكون أعمّ من المطلوب؛ فإنّ إطلاقه كافٍ في المقام، بل هو الصريح في الرواية بعد التمثيل له بعلك الروم، الذي من المعلوم عدم كونه في عداد الألوان، فلاحظ.
وقال في الحدائق ـ بعد حمله الخبر المذكور على الأثر الذي لا يمنع وصول الماء إلى البشرة ـ: «ويظهر من بعض فضلاء متأخّري المتأخّرين([16]) الميل إلى العمل بظاهر الخبرين([17]) المذكورين، من عدم الاعتداد ببقاء شيء يسير لا يخلّ عرفاً بغسل جميع البدن، إمّا مطلقاً؛ أو مع النسيان، لو لم يكن الإجماع على خلافه». ثمّ نقل عنه قوله: «لكنّ الأولى أن لا يُجترأ عليه». ثمّ إنّ المحقّق البحراني استقرب التأويل بما ذكره من الحمل على الأثر الذي لا يمنع الوصول»([18]).
وقال سيّدنا الأستاذ الخوئي&: ذلك أنّ «الصحيحة إنّما دلّت على جواز الغسل وصحّته مع بقاء أثر الخلوق والطيب والعلك، لا مع بقاء عينها. وكم فرق بينهما؛ فإنّ أثرها، من الرائحة اللطيفة أو لون الصفرة، غير مانع من وصول الماء للبشرة. وهذا بخلاف عينها. والعين غير مذكورة في الصحيحة. على أنّها دلّت على صحّتها مع بقاء أثرها، أعمّ من أن يكون يسيراً أو كثيراً، كما إذا دهن بالخلوق جميع رأسه ـ مثلاً ـ، ولا دلالة فيها على جوازه وصحّته مع شيء يسير في البدن. فلو كان الأثر بمعنى العين فلازمها صحّة الغسل ولو مع وجود العين في تمام الرأس، وهو كما ترى»([19]).
ويظهر من النراقي الاعتراف بدلالتها على المدّعى، حيث علّق قائلاً: «ولكنّها غير ناهضةٍ للمعارضة؛ لشذوذها، ومخالفتها لعمل الأصحاب، المخرجة إيّاها عن الحجّية»([20]).
وأمّا صاحب الجواهر فحمله على «إرادة الصبغ، أو أثر غير مانع، أو حصل له الشكّ بعد الفراغ، أو نحو ذلك»([21]).
والذي يُقال في المقام: إنّه لا ينبغي الإشكال في أنّ مفاد الصحيحة يُنافي حملها على صورة عدم المانعيّة من وصول الماء إلى البشرة؛ لوضوح أنّ مثل الشيء اللزق واللكد، ولا سيّما في مثل العلك، مانعٌ بطبيعته من ذلك، مهما كان ضئيلاً… وبذلك أيضاً لا يُمكن حمله على صورة الشكّ في وصول الماء بعد الفراغ من الوضوء أو من الغسل؛ لأنّه مفروض التحقّق. وهو بطبيعته مانعٌ. ومع ذلك أطلق الإمام نفي البأس عنه.
وبهذا تكون هذه الرواية دالّةً على الحكم الذي ارتأيناه صراحةً بخصوصها، مع صرف النظر عن إطلاق الآية، التي قلنا بتماميّة دلالتها على المدّعى، ممّا قد يأباه البعض في المقام.
ولنا أن نسجّل ملاحظة على طريقة الفقهاء في توجيه الروايات، وهي طريقةٌ تكاد لا تخلو من غرابة؛ لأنّه بعد عدم تماميّة ما يمنع من التمسّك بمضمونها يتمّ ارتكاب التوجيه بمحامل بعيدةٍ عن طبيعة مضمون الرواية وموردها، مع أنّ مقتضى القواعد إمّا الأخذ بالرواية أو طرحها. وتلك الطريقة تربك الفكر الاجتهادي، وقد تجعل فهم النّص غير منسجم مع قواعد الفهم العرفي، بل قد يصطدم أحياناً ببديهيّات اللغة وأسس التخاطب، والله المسدّد.
هذا، وفي رواية أخرى عن إسماعيل بن أبي زياد، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن آبائه^، قال: «كنّ نساء النبيّ’ إذا اغتسلن من الجنابة يُبقين صُفرة الطيب على أجسادهنّ، وذلك أنّ النبيّ’ أمرهنّ أن يصببن الماء صبّاً على أجسادهنّ»([22]). وهذه الرواية وإن لم تدلّ على ما نحن بصدده؛ لأنّ الصُفرة لونٌ، وليست محلاًّ للنزاع، بعد الاتفاق على عدم قدحها في وصول الماء إلى البشرة، إلا أنّ التعليل الوارد ـ مع ما هو المشار إليه في خلفيّة الحكم الوارد في الحكاية عن نساء النبيّ ـ يصلح مؤيّداً على الأقل، إن لم يشكّل ظهوراً في عموم الحكم لكلّ ما علق بالبدن، ولا سيّما أنّها تدلّ صراحةً على صبّ الماء بشكلٍ طبيعيّ، من دون حاجة إلى المبالغة في تتبّع ما يعلق بالبدن. وهذا ما توحي به الرواية السابقة، حيث ساوت في المصاديق بين الخلوق وغيره، كعلك الروم، فتأمّل.
الدليل الثالث: ما دلّ على جواز المسح فوق الحنّاء
لعلّه يُمكن الاستدلال أيضاً بما رواه محمّد بن مسلم ـ في الصحيح ـ،عن أبي عبدالله×: في الرجل يحلق رأسه، ثمّ يطليه بالحنّاء، ثمّ يتوضّأ للصلاة؟ قال: لا بأس أن يمسح رأسه والحنّاء عليه([23]). وكذلك صحيحة عمر بن يزيد، قال: سألت أبا عبدالله× عن الرجل يخضب رأسه بالحنّاء، ثمّ يبدو له في الوضوء؟ قال: يمسح فوق الحنّاء([24]). حيث من الواضح أنّ الحنّاء يمثّل جرماً يمنع من وصول الماء إلى البشرة. والصحيحتان حكمتا بجواز المسح عليه، ولا سيّما الصحيحة الثانية، فإنّ الفوقيّة واضحةٌ في إرادة السماكة المانعة من مماسّة الماء للشعر أو البشرة.
والغريب أنّ صاحب «الوسائل» علّق على رواية ابن مسلم بحملها على إرادة لون الحنّاء، وأضاف إليه إمكانيّة الحمل «على حصول الضرر بكشفه»، ناقلاً ذلك عن المنتقى وغيره. وقد أنكر عليه أستاذنا الخوئي ذلك الحمل على إرادة اللون؛ لوضوح أنّ الطلي والمسح فوق الحنّاء ينافي إرادة اللون. وقال& ما نصّه: «وربّما يُجمع… بحملها على إرادة الحنّاء، دون نفسه. ويدفعه أنّ ذلك خلاف الظاهر، بل خلاف الصريح في موارد من الصحيحتين، منها: قوله: يمسح فوق الحنّاء؛ لأنّه كالصريح في أنّ المراد به هو الجسم الخارجي الذي يُتصوّر له فوق وتحت، وظاهر أنّ اللون عرض، وليس للأعراض تحت ولا فوق. ومنها: قوله: ثمّ يطليه بالحنّاء، وظهوره، بل صراحته، في إرادة الجسم الخارجي غير قابل للإنكار؛ فإنّ الطلي بماء الحنّاء أمر غير معهود…»([25]).
أمّا مسألة الضرر فاستلزامه غير واضح، إلا إذا فهمنا ذلك من حلق الرأس، باعتباره لا يكون غالباً مع طليه إلا لعلّـة، كما احتمله في الوسائل. ولكنّ هذا التوجيـه ـ مـع أنّـه خـلاف الظاهر ـ لو صحّ فهو لا يتأتّى في الرواية الثانية؛ لأنّه لم يُذكر فيها الحلق أصلاً.
نعم، ثمّة رواية تحدّثت عن المسح على الطلاء للدواء، وهي صحيحة الحسن بن عليّ الوشّاء، قال: سألت أبا الحسن× عن الدواء إذا كان على يدي الرجل أيجزيه أن يمسح على طلاء الدواء؟ فقال: نعم، يجزيه أن يمسح عليه. ورواه الصدوق في «عيون الأخبار» عن أبيه، عن سعد، نحوه([26]). لكنّ هذه الرواية ـ على أية حال ـ لا تشكّل قرينة على أنّ الحنّاء كان بهدف الدواء في الروايتين السابقتين، بل لا علاقة بين الروايتين، كما هو واضح.
على أنّه قد يُقال: إنّ ترك الاستفصال تجاه إمكانيّة إزالة الدواء عن اليد، وإيصال الماء إلى البشرة، يدلّ على أنّ مثل ذلك لا يمنع من صحّة الوضوء، فتأمّل جيداً؛ فإنّ مورد هذه الروايات هو الحنّاء الذي هو من قبيل تعدّد الجسم، وليس من قبيل اللاصق بالجسد، المتَّحد معه عرفاً.
وإنّنا إنّما ذكرنا مثل هذه الروايات والاستدلال عليها لرفع الاستيحاش عمّا استقربناه في ما هو محلّ الكلام، والله العالم.
الدليل الرابع: السيرة
إضافةً إلى ما تقدّم فإنّه قد يُستدل بالسيرة القائمة على عدم الاعتداد بكثيرٍ ممّا يعلق بالأيدي نتيجة طبيعة بعض الأعمال التي يساور معها الإنسانُ الشحوم، والطين، وغيره من الأمور، التي تقتضي وجود سماكةٍ لها تصعب إزالتها، ولو بتراكم العمل يوماً بعد يوم. ومع ذلك لا نجد ما يتناسب مع ذلك أسئلةً وأجوبةً. والحال أنّ الوضوء ممّا تعمّ به البلوى. وكذلك هذا النوع من الحائل. فلو كان مثل ذلك ضارّاً بصحّة الوضوء لبان شيءٌ من ذلك، مع توفّر كلّ دواعي النقل في المقام. وقد يُستدلّ بذلك على أنّ مثل هذه الأجرام التي تلصق بالبدن لا تضرّ في صحّة الوضوء.
نعم، قد يُقال بأنّ السيرة دليل لُبّي، والقدر المتيقّن منها هو الأشياء التي تلتصق بنفسها، ويلزم الحرج العرفي من إزالتها، فلا تشمل ما يضعه الإنسان ممّا يسهل إزالته، كطلاء الأظافر الذي تضعه المرأة في أيّامنا هذه، أو ممّا له أدوية تسهّل عمليّة الإزالة.
ولكن لا يخفى أنّه لو ثبتت السيرة فإنّ بالإمكان التعدّي فيها من ذات الفعل إلى النكتة المركوزة فيها، وهي صدق الغسل مع كون الموضوع لاصقاً بالبشرة، بخلاف ما لو كان جسماً ثانياً، كالخاتم، والسوار، والعمامة، ونحوها، كما ذكرنا سابقاً.
نعم، يبقى الكلام في إثبات انعقاد السيرة بالمضمون المذكور، وعدم الاعتناء بما يعلق بلحاظ عدم اعتباره مانعاً، أو في ثبوت أساس لاستلزام الحكم المفتى به اليوم إشكالات للمكلّفين تقتضي السؤال والجواب أكثر ممّا هو الوارد في المقام، فتأمّل.
أدلّة المنع في الحاجب اللاصق
قد يُقال ـ إضافة إلى ما ذُكر من دلالة الآية وبعض الروايات المتقدّمة ـ: إنّ ثمّة روايات يُمكن أن يستدلّ بها على إطلاق المنع، حتّى لصورة الحاجب اللاصق، محلّ كلامنا.
الأولى: موثّقة عمّار، قال: «سئل أبو عبدالله× عن الرجل ينقطع ظفره، هل يجوز أن يجعل عليه علكاً؟ قال: لا، ولا يجعل إلا ما يقدر على أخذه عند الوضوء، ولا يجعل عليه إلا ما يصل إليه الماء»([27]). حيث إنّها بإطلاقها تدلّ على مانعيّة ما لا يقدر على أخذه عند الوضوء، ومنه ما هو محلّ الكلام؛ لأنّ الأصباغ أشياء خارجيّة توضع على اليد، فيشملها إطلاق هذه الرواية، فيقال: لا يجعل عليها من الأصباغ إلا ما يقدر على أخذه حين الوضوء.
ويرِدُ على ذلك:
أوّلاً: إنّ العلك شيء خارجيّ يوضع على القدم. وقوله: «إلا ما يقدر على أخذه» يدلّ على المتحرّك، ولا يشمل اللاصق، الذي يثبت على البشرة كما يثبت اللون، غايته الفرق في الجرم. ونحن نلتزم بالحكم بالنسبة للموانع الخارجيّة، كما تقدّم. وبعبارة أخرى: لا يُقاس العلك بمثل الأصباغ ونحوها، التي تصبح معدودة جزءاً من اليد عرفاً. كذلك فإنّ مضمون هذه الرواية لا ينافي ما ورد في صحيحة ابن أبي محمود المتقدّمة؛ لأنّ المورد هنا العلك بما يصدق معه أنّ هنا شيئين على الجسد، بينما ما يبقى هناك هو أثر العلك الذي يشكّل ـ بطبيعته ـ مانعاً من وصول الماء إلى نفس البشرة، ولكنّه لا يمنع من الصدق عرفاً.
فإن أبيتَ الفرق فلا أقلّ من المعارضة بينهما. وسيأتي الوجه في علاجه.
ثانياً: إنّ الرواية أخصّ من المُدّعى؛ إذ غاية ما تدلّ عليه هو عدم وضع ما يعجز عن إزالته حين الوضوء، فلا يشمل ما يُبتلى به أمثال العاملين في الدهان، ممّا يقع على أيديهم قهراً أثناء عملهم. اللهمّ إلا أنّ يُقال: إنّه مع إثبات الحكم لا يعود فرقٌ بين صورتي الاختيار وعدمه، فلا بدّ من الالتزام بالمانعيّة مطلقاً.
إلاّ أنّ بالإمكان القول: إنّ الإمام في مقام الإرشاد إلى أنّه إذا أراد وضع شيء على قدمه فليضع شيئاً ينفذ إليه الماء، فهي واردة لبيان الحُكم الأوّلي في المسألة، وهذا ما لا إشكال فيه.
هذا، والرواية موثّقة سنداً، وإن طعن بعضهم في روايات عمّار؛ باشتمالها على بعض الغرائب. وربما يكون منها ما ورد في هذه الرواية؛ إذ لا يخفى دلالتها على لزوم استيعاب المسح لتمام القدم، وهو خلاف المعروف بينهم، بل خلاف الأدلّة في المقام.
الثانية: موثّقة عمّار الأخرى، عن أبي عبدالله×: في الرجل ينكسر ساعده، أو موضع من مواضع الوضوء، فلا يقدر أن يحلّه لحال الجبر إذا جبر، كيف يصنع؟ قال: «إذا أراد أن يتوضّأ فليضع إناءً فيه ماء، ويضع موضع الجبر في الماء، حتّى يصل الماء إلى جلده، وقد أجزأه ذلك من غير أن يحلّه»([28]). حيث قد يُدّعى إطلاقها من جهة لزوم غسل الجلد. وهو غير حاصلٍ مع الحاجب اللاصق، كما هو معلوم.
ولكنّ هذه الرواية أيضاً ممّا لا يُمكن الاستدلال بها؛ لأنّ موردها الحاجب المانع من غسل اليد. ومقامنا ليس من هذا القبيل، كما أسلفنا. كما أنّه من غير الواضح كون الجلد مقصوداً بعنوانه هنا؛ لأنّ الرواية ليست في مقام البيان من هذه الجهة، أي ليست في مقام بيان ما يمنع من الوضوء وعدمه، بل هي في مقام بيان إمكان إيصال الماء مع وجود الحاجب المتعدّد. ألا ترى أنّه لو كان على يده ـ تحت الجبر ـ حاجبٌ لاصق بالبدن فإنّه يُمكـن أن تجـري الروايـة أيضـاً فيـه، فيُقـال ـ عرفاً ـ: إنّه يضع يده في الماء، حتّى ينفذ الماء فيها إلى الجلد.
هذا، مع العلم أنّ المورد ممّا يجوز المسح فيه على الجبر قطعاً. وإذا جاز المسح فسيّان وصل الماء أو لم يصل. وإن كانت المسألة في المقام خلافيّة، حيث ثمّة رأيٌ بوجوب إيصال الماء إلى البشرة مع عدم التضرّر من ذلك. ولا مانع من الالتزام بذلك ـ بعد تماميّة الأدلّة عليه ـ، ولكنّه ـ على أية حال ـ خارج عن محلّ الكلام، من جهة الاثنينيّة بين الحاجب والجلد، وهي غير متحقّقة في صورة اللاصق، كالطلاء الذي يتّحد مع الجلد، والله العالم.
الثالثة: ما رواه الكليني، عن محمّد بن يحيى، رفعه، عن أبي عبدالله×، في الذي يخضب رأسه بالحنّاء، ثمّ يبدو له في الوضوء؟ قال: لا يجوز، حتّى يصيب بشرة رأسه بالماء([29]). وقد دلّت على أنّ الواجب إيصال الماء إلى البشرة، فلذا وجب إزالة الحنّاء مقدّمة له.
ويرد على ذلك ـ مضافاً إلى ضعف سند الرواية ـ: إنّ الظاهر هو كون الحناء بحيث يجتمع، فيكون من قبيل تعدّد الجسم، ممّا لا يتّحد مع البشرة، الذي هو محلّ الكلام، وليس المقصود ما يبقى من لونه، ممّا قد وردت الروايات واضحةً في عدم إضراره بالوضوء أو الغسل.
على أنّ هذه الرواية ـ حتّى لو قيل بصحّتها ـ معارضةٌ بصحيحتي ابن مسلم وعمر بن يزيد المتقدّمتين، والدالّتين على جواز المسح فوق الحنّاء، فتدبّر.
الرابعة: صحيحة زرارة، عن أبي جعفر×، في الوضوء؟ قال: إذا مسّ جلدك الماء فحسبك. ورواها الطوسي بإسناده عن الحسين بن سعيد، مثله([30]).
ولكنّ الرواية لا تنافي ما ذكرناه؛ لأنّها واردة في الحكم الأوّلي في المقام، أعني بيان كفاية مسّ الماء للجسد من دون حاجةٍ للدلك، أو للمبالغة فيه، كما تشهد بذلك روايات الباب، وليست في مقام بيان خصوصيّات الغسل من جهة الحاجب وغيره.
فرضيّة التعارض وعلاجها
وعلى أية حال فإن أبيتَ ذلك فالمصير إلى القول بالتعارض بين ما ادّعي دلالته على المنع وبين ما استدلّ به على صحّة الوضوء في محلّ الكلام. والأرجحيّة لروايات الطائفة الثانية؛ لموافقتها لعموم القرآن ـ كما هو مقتضى قواعد الترجيح في المقام ـ.
الخلاصة
لا يظهر أنّ ثمّة دليلاً معتبراً على مانعيّة مثل الأمور اللاصقة بالبدن، كالدهان، والصباغ، وغيره، ممّا يحجب الماء بسماكته عن نفس البشرة؛ فإنّه بعد شمول إطلاقات غسل الوجه واليد، وإطلاقات مسح الرأس والقدمين، له يُعتبر محقّقاً للمأمور به على وجهه، ولو في غير صورة لزوم الحرج والضرر من الإزالة. إضافةً إلى دلالة الروايات الخاصّة على عدم المانعيّة، وصلاحيّة غير واحدةٍ من الروايات للتأييد، إن لم يُمكن الاستدلال بها، والله الموفّق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الهوامش
(*) أحد كبار مراجع التقليد الشيعة، فقيه ومفكّر إسلامي، صاحب نظريات تجديدية في الاجتهاد الإسلامي، تعرّضت نظرياته لانتقادات واسعة، توفي أثناء إعداد هذا العدد للنشر، رحمه الله.
([1]) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة 1: 467، باب 41، ح1، مؤسسة آل البيت^ لإحياء التراث.
([3]) النجفي، جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 2: 290، دار الكتب الإسلاميّة، طهران، إيران، ط2، 1365هـ ش.
([5]) قد ذكر بعض أهل الخبرة أن ما يوضع على الأظافر منه ما يكون من قبيل الجسم الذي يُلصق. وكلامنا هنا هو ما يكون من قبيل الصباغ الذي تُطلى به الأظافر، كما هو شأن أنواع الدهان، ونحوه.
([6]) الخوئي، التنقيح في شرح العروة الوثقى 5: 70، مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي، قم، إيران.
([7]) الوسائل، المصدر السابق: 413، باب23، ح1.
([8]) الوسائل 2: 259، باب41، ح1.
([9]) النجفي، جواهر الكلام 2: 291.
([10]) الخوانساري، مشارق الشموس 1: 170، مؤسّسة آل البيت^ لإحياء التراث، الطبعة الحجريّة.
([11]) الوسائل 2: 239، باب31، ح1.
([12]) الوسائل، المصدر نفسه: 239.
([13]) الخوئي، المصدر السابق 5: 446.
([14]) الزبيدي، تاج العروس 5: 240 ـ 241، دار الفكر، بيروت، لبنان، 1994م.
([15]) الجوهري، الصحاح 2: 535، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، ط4، 1407هـ.
([16]) ويقصد به المحقّق الخوانساري، مّما تقدّم ذكره وذكر قوله.
([17]) الخبر الآخر هو خبر الخاتـم المتقـدّم، وفيـه: «إن نسيت حتى تقوم في الصلاة فلا آمرك أن تعيد».
([18]) البحراني، الحدائق الناضرة 3: 91، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، قم، إيران.
([19]) الخوئي، التنقيح في شرح العروة الوثقى 5: 446.
([20]) النراقي مستند الشيعة 2: 318، مؤسسة آل البيت^ لإحياء التراث، قم، إيران.
([21]) النجفي، جواهر الكلام 3: 81.
([22]) الوسائل، المصدر نفسه، ح2.
([23]) الوسائل 1: 456، باب37، ح4.
([24]) الوسائل 1: 456، باب37، ح3.
([25]) الخوئي، المصدر السابق 5: 132.
([26]) الوسائل 1: 455، باب 37، ح2.
([28]) الوسائل 1: 465، باب39، ح7.