د. حسن عواضة(*)
تمهيد
لقد كان السيد هاشم معروف الحسني ـ كما يعرف الجميع ـ رجل دين من نوع جديد ومميز. وإنه على غرار صديقنا المشترك الشيخ محمد جواد مغنية& كان يوصف برجل العقل، يرفض كل ما يخرج عن المنطق العقلي والعلمي، وكان في طليعة من حرَّر الفقه الإسلامي من أسر الجمود والتقليد الأعمى، وعرض الثروة التقليدية للفقه الجعفري ـ حسب تعبيره ـ بأسلوب جديد يضع المعنى في متناول القرّاء بيسر وسهولة، ويقول في ذلك: «… ولو تيسر للفقه الجعفري الخروج من عزلته، وإبرازه بثوب يسهل للباحثين الاطلاع عليه، ونشر المؤلفات الفقهية بالأساليب الحديثة، بنحو تصبح دراستها أمراً ميسوراً…، لو تيسر للفقه الجعفر هذا الأمر كنا قد أخرجناه من عزلته، وأظهرناه للعالم بواقعه، وأحيينا جانباً من جوانب ثقافتنا العالمية الخالدة، التي تساير الحياة، وتعيش معها جنباً إلى جنب».
كما أنه يرى في الأسلوب القديم الجامد أسلوباً «لم يعد يتفق مع روح العصر ومفاهيم الحياة، ولا مع وسائل الإعلام التي تطورت مع الزمن، ولا تزال في تطورها تساير الحياة ومتطلباتها»، ويرى أن «من الحكمة أن نخاطب كل قوم بلغتهم، وبما ألفوه واعتادوه في كل زمان ومكان». ومن هنا كان نهجه في جميع مؤلفاته القيمة، التي امتازت بهذا الأسلوب العلمي، المحبَّب والمتطوِّر، والمتطابق مع روح العصر، والذي انتهجه بكل كفاءة وجرأة وتعمق. ومن هنا كان مجلسه مجلساً شيِّقاً محبَّباً لأهل العلم وللناس جميعاً، ودافعاً لمحبة واحترام الدين ورجال الدين أمثاله.
وكان يرى أن الدين يجب أن يسير إلى جانب الحياة في جميع مراحلها وتطورها، وأن «التقليد تحجير على العقل، وحجاب بينه وبين إدراك الحقيقة»، وأنه من الواجب عدم التقيد بمذهب معين لا نحيد عنه، مستشهداً بقول العلامة السهنوري في كتابه «نظرية الالتزام»: «يجب أن يراعى عدم التقيد بمذهب معين من مذاهب الفقه الإسلامي، فكل مذاهب الفقه يجب الرجوع إليها والأخذ منها، ولا محل للوقوف عند أرجح الأقوال من مذهب أبي حنيفة، بل ولا التقيد بالمذهب الحنفي في جملته، ولعلنا نذهب إلى أبعد فنقول: إنّه لا موجب للتقيد بالمذاهب الأربعة المعروفة. هناك مذاهب أخرى؛ كمذهب الإمامية، والزيدية، يمكن الانتفاع بها إلى حدٍّ بعيد…». «وإن عدم التقيد بمذهب معين يساعد على تجانس التقنين المدني وانسجامه».
وأورد هنا، تأييداً لرأي السنهوري، أن القانون المصري أخذ بالمذهب الجعفري في بعض الأحكام، ومنها: حكم الوصية. وقد أورد الدكتور عبد المنعم الفرج الصده في كتابه «نظرية العقد» ما يلي: «وفي القانون اللبناني حكم الوصية عند أهل الشيعة طبقاً للمذهب الجعفري هو حكم القانون المصري، وعند أهل السنة طبقاً للمذهب الحنفي»([1]).
أي لا تنفذ الوصية إلا بإقرار الورثة، سواء كانت لوارث أو لأجنبي، في حين أنها تنفذ في حق الورثة بنسبة الثلث في القانون المصري والمذهب الجعفري بدون أي إقرار منهم.
ومن هنا نجد أن السيد الحسني، قبل الدخول في نظرية العقد، خصَّص قسماً كبيراً (نحو مئة صفحة) من كتابه القيم (نظرية العقد في الفقه الجعفري) للمواضيع الفقهية العامة؛ تمهيداً للدخول في صلب الموضوع. ومن أهم هذه المواضيع «مبدأ الاجتهاد»، الذي رأى وجوب تطوره مع تطور الظروف والحضارات، وأنه «واجب وجوباً كفائياً على كل مسلم»، وأن من الواجب «التحرر من تقليد الماضين» تقليداً أعمى يتصف بالتبعية، وأن يفتح باب الاجتهاد واسعاً، مما يساعد على الانطلاق، وكثرة الإنتاج وغناه، واستمرارية حركة التشريع مع استمرارية تجدُّد الحياة.
1ـ مفهوم الاجتهاد عند السيد هاشم معروف الحسني
حدد السيد الحسني الاجتهاد في الفقه الجعفري بأنه «بذل الجهد واستفراغ الوسع في سبيل تحصيل العلم والظن بالأحكام… بالتتبع والدراسة واستقصاء الأدلة، بنحو يصبح الإنسان قادراً على استنباط الأحكام من أدلتها…»([2]).
وقد أورد في مقدمة الكتاب أن «القرآن تعرض للمواضيع بصورة إجمالية ـ كما في الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالعُقُودِ} (المائدة: 11) ـ، «وترك للرسول تفصيل هذا الإجمال». ويزيد أن «دائرة الاجتهاد اتسعت لدى الشيعة الأولين…، فكانوا أكثر إنتاجاً، وأوسع تفكيراً، وأقرب في أحكامهم إلى كتاب الله وسنة نبيّه».
ويورد؛ تأييداً لرأيه المتطور، أن الرسول’ نفسه فتح باب الاجتهاد عندما أوصى معاذ بن جبلة حين أرسله إلى اليمن؛ ليقضي بين أهلها، «أن يجتهد برأيه في ما لا نص فيه، ويقيس الأشياء بالأشياء، والنظائر بمثلها»([3]). وكذلك قول الإمامين الباقر والصادق‘ عندما قالا لجماعة من أصحابهما: «إن علينا إلقاء الأصول، وعليكم التفريع»([4])، ويستنتج بأنه «لابد من الاجتهاد في مقام تطبيق تلك الأصول على جزئياتها وفروعها». كما يورد تلك الوثيقة التاريخية التي زود بها عمر بن الخطاب أبا موسى الأشعري حين أرسله والياً على الكوفة، وقد جاء فيها: «إذا أتاك أمرٌ فاقضِ فيه بما في كتاب الله، فإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله’، ولم يتكلم فيه أحد، فإن شئت أن يجتهد رأيك فتقدم»([5]).
ويخلص السيد الحسني ـ بعد أن استعرض المراحل التي مرّ بها الاجتهاد عند المسلمين وبخاصة بعد الرسول’، عندما عرضت لهم حوادث كان الكثير منها لا يشبه ما مضى من الحوادث التي أخذ الناس أحكامها من الرسول’ ـ إلى القول: «…وبدون شك إن آيات الأحكام ونصوص الرسول الواردة في مقام التشريع، بالإضافة إلى أنها ليست وافية ببيان جميع الأحكام، لا تفيد في الغالب أكثر من الظن، من حيث دلالتها وانطباقها على الجزئيات المختلفة. وكلما ألحّت عليهم الحاجة، بسبب اختلاطهم بغيرهم من الأمم التي لها أعرافها وعاداتها، وجدوا أنفسهم في أمسّ الحاجة إلى مصادر أخرى للتشريع، تؤمن لهم معرفة الأحكام التي لم يهتدوا إليها في كتاب الله وسنة نبيه’، فرجعوا إلى القياس والإجماع، كما يبدو من تتبع المراحل التي مرّ بها التشريع الإسلامي في تلك الفترة من تاريخه…»([6]). «… ولم تقتصر الحاجة على القياس والإجماع، بل كانت تتسع دائرة الاجتهاد كلما بعد الزمن عن عصر الصحابة، واتسعت المعارف، وتباينت آراء العلماء في أقضيتهم وفتاواهم»([7]).
ويلتقي السيد الحسني في آرائه هذه مع كثير من العلماء والفقهاء المسلمين المتنوِّرين، ومنهم: الدكتور بدران أبو العينين بدران، أستاذ الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق في جامعتي الإسكندرية وبيروت العربية، في كتابه «تاريخ الفقه الإسلامي ونظرية الملكية والعقود»، حيث يقول: «إن الشرع الإسلامي قيَّد الملكية الفردية بواجب تأمين العدالة الاجتماعية والتكافل الاجتماعي… أما ناحية العقود فقد أوجب الوفاء بها (الآية الكريمة)، كما حرم الربا وأحل البيع، وحرم الغش والاحتيال في العقود والمعاملات. فقال’: ليس منا من غش»([8]). «وأحياناً أخرى كان الرسول يجتهد في الحكم، ثم يصدر رأيه قبل الوحي. وكان الرسول في اجتهاده يستلهم ما نزل من قانون الله وشريعته، مع تقدير للمصلحة، وأحياناً كان يستشير أصحابه قبل إصدار الحكم»([9]).
ويضيف الأستاذ بدران أنه عندما أغلق باب الاجتهاد «وقع المسلمون في الجمود على أقوال السابقين»([10]).
2ـ المنهجية العلمية التي اتبعها الحسني في «نظرية العقد في الفقه الجعفري»
أول ما يلفتنا في كتاب السيد الحسني تلك المنهجية العلمية التي اتبعها، والتي تدل على غزارة معرفته وواسع اطلاعه، والتي تضعه في مصافّ أعلام المؤلفين الباحثين. ويكفي أن يكون قد استعان في هذا الكتاب بثلاثة وعشرين مرجعاً فقهياً، وتسعة مراجع مدنية، فأتى الكتاب مثالاً يحتذى في البحث والدراسة المقارنة؛ إذ لم يقتصر بحثه على عرض الفقه الجعفري وشرحه، وإنما، بعد أن يتوسع في شرح ما ورد في الفقه الجعفري بالنسبة لكل قضية ـ حيث نجد أحياناً اختلافاً في الاجتهاد حتى عند الجعفريين، ولا يتورع السيد عن ذكر هذا الاختلاف وإبداء رأيه فيه ـ ينتقل إلى المقارنة بين المذهب الجعفري والمذاهب الإسلامية الأربعة، ثم بين المذاهب الخمسة والقانون المدني وآراء كبار الفقهاء المدنيين، من أجانب وعرب، كالسنهوري، ومرقس، ومصطفى الزرقا، والدكتور عبد المجيد الحكيم، وأنور سلطان، وكابيتان، وجوسران، وغيرهم، من الذين اطلع على آرائهم من خلال الترجمات إلى العربية.
ولا يكتفي السيد الحسني بالمقارنة، بل يبدي رأيه العلمي السديد في كلٍّ من هذه الآراء الفقهية، من خلال مفهوم الاجتهاد في الفقه الجعفري.
على أساس هذه المنهجية العلمية في الدراسة المقارنة عرّف السيد الحسني مفهوم الاجتهاد ووجوبه، كما بيّنّا سابقاً، ثم تطرق إلى المراحل التي مر بها الاجتهاد عند السنة والشيعة، وإلى الأسباب التي دعت إلى سد باب الاجتهاد، وانتقل بعدها إلى بحث المواضيع الفقهية العامة الأخرى، مثل: الفرق بين أنواع الحقوق، وبخاصة الحق الشخصي والحق العيني، والموارد التي يلتقي بها الفقه الغربي مع الفقه الجعفري، والأهلية وعوارضها، والمفلس وشروط التحجير عليه ومصير أمواله، والرضا وآثاره على التصرفات المالية، لينتقل بعدها إلى صلب موضوع الكتاب، أي إلى بحث العقد في تكوينه، وأنواعه، وصيغه، وشروطه، والإرادة وأثرها في العقود، ونظرية السبب في العقود، وعيوب الرضا، والفضولية، ومحل العقد (موضوعه)، وموارد انحلاله، والغبن، وغير ذلك، مما سيأتي بحث بعض تفاصيله فيما بعد.
3ـ تطبيق المنهجية التي اتبعها السيد الحسني على العقود بجميع أنواعها
أ ـ في العقود المستحدثة
يقول السيد الحسني: «إن الإسلام وضع لمعاصريه قواعد الأحوال الشخصية، ووضع الأصول والقواعد لأنواع العقود التي كانوا يتعاطونها، كالبيع، والإجارة، والصلح، والرضا، والشركة، والمضاربة، وغير ذلك من أنواع العقود التي كانوا يتعاطونها…»([11]). ثم يتساءل في هذا المجال: «هل العقود المعروفة في كتب الفقه هي المرجع في عصرنا بحيث يكون كل عقد أو تعامل باطلاً لمجرد كونه لا ينطبق عليه واحد من العقود أو أشكال التعامل المقرَّرة سابقاً في فقه المسلمين الأولين؟».
ويجيب السيد الحسني عن هذا التساؤل مستنداً إلى العقل والعلم، ويقرِّر ـ بكل ثقة ـ أن المبدأ العام في القوانين المدنية المعاصرة يقضي بأن جميع الاتفاقات والالتزامات، مهما كان نوعها، وبأي شكل وجدت، هي من العقود، وتصبح نافذة لدى المتعاقدين، إذا لم تخالف القانون والنظام العام. ويخلص بعد ذلك إلى وجوب العمل بما تقتضيه ظروفنا المعاصرة، أي إلى إثبات مشروعية العقود المستحدثة، «التي لا ينطبق عليها أحد العناوين المدونة في كتب الفقه الإسلامي». ولا يتورع السيد الحسني عن القول: «ولكن من المستصعب أن تنتزع هذا المبدأ العام من الفقه الإسلامي…؛ لأن التعامل بين الناس في الغالب، في عصور التشريع وما بعده، لم يتعدَّ هذه الأنواع من العقود. ولازم ذلك أن الظروف والحضارات التي تختلف باختلاف العصور إذا اقتضت نوعاً آخر للتعامل والإنجاز، لا يخل بالنظام ولا بالآداب العامة، يكون مصداقاً للعقود التي أقرها التشريع الإسلامي في الكتاب والسنة»([12]).
ويضيف: «بهذا البيان نستطيع أن نقرِّر أن العقود التي أوردها الفقهاء في كتبهم، وتعرضت لبيان أحكامها جملة من النصوص، لا ينحصر بها التعامل، ولم يتقصر عليها الفقهاء إلا لأن الزمان لم يفرض غيرها في عصور التدوين والتشريع، فإذا أوجدت الحاجة أو الحضارة طرقاً غيرها للتبادل والتكسب، وسماه الناس عقداً، كانت كغيرها من العقود التي كانت في عصر التشريع…»([13]).
ويذكر السيد الحسني في هذا المجال بعض العقود الحديثة التي لم تكن موجودة في العصور القديمة، مثل: عقد التأمين، والإذعان، والمساومة، وغيرها. وعقد التأمين هو أبرزها وأكثرها انتشاراً، كما يقول. مع العلم أنّه فصَّل في كتابه «بحث عقود التأمين» في جميع أشكالها (على النفس أو المال)، مما يدل على سعة تعمقه في البحث والدرس والاجتهاد([14]).
ب ـ الفورية في مجلس العقد
عند بحثه في «مجلس العقد» في الفقه الإسلامي أورد السيد الحسني المقصود منه كما جاء عند السنهوري: «هو المكان الذي يضم المتعاقدين، وليس المعنى المادي للمكان، بل الملحوظ فيه هو الوقت الذي يبقى فيه المتعاقدان مشغولين بالتعاقد، دون أن يصرفهما عن ذلك شاغل آخر».
ويضيف الحسني: إن الفقه الإسلامي كان يرى أن من شروط إتمام العقد الفورية في مجلس العقد، بحيث لا يتم العقد بدونها، أي ما يسميه السيد الحسني في كتابه: «اتصال القبول بالإيجاب»، أو أن الفاصل بين الإيجاب والقبول يجب أن يكون يسيراً.
يقول السيد الحسني في هذا الصدد: «ومهما كان الحال فاتحاد مجلس العقد بمعنى عدم الفصل الطويل بين الإيجاب والقبول، الموجب لعدم ارتباط كل من جُزْءَيْ العقد بالآخر، هذا النوع من الاتحاد متفق عليه بين جميع المذاهب الإسلامية (بما فيها المذهب الجعفري)([15]).
ولكن القانون المدني في ضوء تطورات العصر يرى أن العقد يتم ولو لم يصدر الإيجاب فوراً، إذا لم يوجد ما يدل على أن الموجب قد عدل عن إيجابه في الفترة ما بين الإيجاب والقبول، أي إنه يتوسع في هذا الموضوع، ولا يقتصر على الفصل القصير أو الطويل بينهما. وقد نصت المادة 179 من قانون الموجبات والعقود في لبنان، بهذا المعنى، على ما يلي: «إن الإيجاب الصريح أو الضمني لا يلزم في الأساس صاحبه، بمعنى أنه يستطيع إذا شاء الرجوع عنه. ووفاته أو فقدانه الأهلية الشرعية يجعلان الإيجاب لغواً.
ويكون الأمر على خلاف ذلك عندما يتحصل من ماهية الإيجاب، أو من الظروف التي صدر فيها، أو من نص القانون، أن صاحب الإيجاب كان ينوي إلزام نفسه، فيجب حينئذ استمرار الإيجاب في المدة المعينة من صاحبه، أو المستمدة من العرف أو القانون، بالرغم من حدوث وفاته، أو فقدانه الأهلية الشرعية.
كذلك يكون الأمر، ولا سيما:
1ـ إذا كان الإيجاب مقروناً بمهلة على وجه صريح.
2ـ إذا كان الإيجاب في أمور تجارية.
3ـ إذا كان الإيجاب بالمراسلة.
4ـ إذا كان وعداً بمكافأة.
ويخلص السيد الحسني في مكان آخر إلى هذا الاستنتاج الهامّ بالنسبة لعصرنا الحالي: «وهذا المفهوم لمجلس العقد ينطبق على عاقدين بعدت المسافة بينهما، وانصرفا إلى موضوع التعاقد، دون أن يشغلهما شاغل آخر، كما ينطبق على وسائل الاتصال الحديثة؛ بحيث يسمع أو يرى أحدهما كلام الآخر، كما هي الحال في التعاقد بالهاتف والتلكس، أو التلفزيون، أو البريد الآلي (الإلكتروني).
ج ـ في نظرية تحول العقد
وقد أفرد السيد الحسني في كتابه قسماً خاصاً لنظرية حديثة أخرى هي «نظرية تحول العقد»([16])، وهي نظرية مستحدثة يقول فيها: «إن المقصود منها، كما جاء في الوسيط، لعبد الرزاق السنهوري، وفي نظرية العقد؛ لسليمان مرقس، وغيرها، أن العقد الباطل الذي يقصد المتعاقدان إبرامه يمكن تحويله إلى عقد آخر من العقود إذا كانت عناصر الثاني بتمامها موجودة في حطام ذلك العقد الفاسد»، مثل: تحول عقد البيع إلى عقد هبة إذا لم يذكر فيه الثمن، أو إذا كان الثمن فيه صورياً.
ويضيف: «إن هذه النظرية، بصيغتها الموجودة عند المدنيين، لم يبحث عنها الفقه الإسلامي بحثاً مستقلاًّ بهذا العنوان، ولكن النتيجة التي يحاول المدنيون التوصل إليها من هذه النظرية قد تنبه لها الجعفريون في فقههم، ولكن لم تتوفر العناصر الكافية للاقتناع بها إلا عند القليل منهم». والذين لم يأخذوا بها لم يقرّوها كمبدأ عام؛ بحجة أن نية المتعاقدين لم تتجه إلى العقد الثاني، والذين أخذوا بهذه النظرية من الفقهاء الجعفريين «اعتبروا إرادة المتعاقدين في واقعها متجهة إلى الهبة أو العارية» في العقد الذي لا يذكر الثمن، أو في الإجارة بدون بدل.
دـ نظرية الظروف الطارئة
كما أنه بحث في «نظرية الظروف الطارئة»([17])، وهي نظرية حديثة في القانون المدني، أخذ بها أولاً القضاء الإداري، ثم تبعه القانون المدني، في كثير من البلدان. وهذه النظرية «تحدّ من القوة الملزمة في العقد، وتفسح المجال أمام المتعاقدين للتحلل من سلطان العقد، وذلك فيما لو طرأت على العقد أو على المتعاقدين ظروف لم تكن متوقعة تؤدي إلى اختلال توازنهما الاقتصادي، أو إلى الإضرار بهما»، مثل: الحروب، أو الفيضانات، إلخ…
وبعد أن يشرح السيد الحسني تطور هذه النظرية في القانون الكنسي، ثم القانون الفرنسي، يورد الشروط التي يجب أن تتحقق لتطبيق هذه النظرية على العقود، وهي:
1ـ أن يكون العقد من العقود المستمرة التنفيذ.
2ـ أن تكون الحوادث الطارئة من الحوادث الاستثنائية العامة، مثل: الحروب، والفيضانات، والجراد، إلخ…
3ـ أن لا تكون تلك الحوادث متوقعة للمتعاقدين عند إبرام العقد.
4ـ أن يكون تنفيذ الالتزام مع هذه الظروف والحوادث مرهقاً للطرف الآخر، ولا يشترط أن يكون مستحيلاً في حقه.
ثم ينتقل بعدها إلى «موقف الفقه الجعفري من هذه النظرية»، فيبيّن من خلال أمثلة عملية بلغت السبعة أن هذا الفقه أخذ بها منذ أقدم عصور التشريع، «دون أن يتحدث عنها بعنوان خاص»، أو يستنتج منها نظرية مستقلة. ويخلص إلى القول بأن الفقه الإسلامي عامة وجد من الضرورة الملحة مراعاة الظروف الاستثنائية التي تعترض المضي في تنفيذ الالتزام العقدي، في كثير من العقود التي أعطى أمثلة عنها، مع العلم ـ كما يقول السنهوري ـ أن الأحناف يتوسعون في العذر المسوِّغ لإبطال العقد أكثر من المذاهب الفقهية الأخرى.
هـ ـ في العقد، وأنواعه، وصيغته، بصورة عامة
يقارن السيد الحسني ـ بتوسع ـ بين مفهوم العقد وتكوينه في القانون المدني وما هو عليه في الفقه الشرعي. ويستنتج من هذه المقارنة أن «الفقه المدني قد أعطى للعقد معنى أوسع مما هو عليه عند الشرعيين، فاعتبر العقد والاتفاق من الكلمات المترادفة من حيث المعنى إذا كان الاتفاق موضوعاً لأثر من الآثار، وبأي شكل وقع الاتفاق بين الطرفين»([18])، وبمعنى أوسع يرى القانون المدني ـ كمبدأ عام ـ أن الاتفاق هو كل التئام بين مشيئة وأخرى لإنتاج مفاعيل قانونية. وإذا كان يرمي إلى إنشاء علاقات إلزامية سمي عقداً (المادة 165 من قانون الموجبات والعقود). هذا مع العلم أن حرية التعاقد لدى الفقه المدني واسعةٌ لا تقف عند حدٍّ معين، ولا تتقيد من حيث الشكل بصورة واحدة، فللأفراد أن يرتبوا علاقاتهم القانونية كما يشاؤون، «بشرط أن يراعوا مقتضى النظام العام والآداب العامة والأحكام القانونية التي لها صفة إلزامية»([19]).
أما في الفقه الإسلامي ـ كما يقول السيد الحسني في كتابه([20]) ـ فإن النصوص الفقهية قد تعرضت لمواضيع مختلفة من حيث موضوعها وآثارها، وأسمتها بالعقود، وعدوا منها البيع، والصلح، والإجارة، والنكاح، والكفالة، والوديعة، والهبة، والعارية، إلخ…
ولكن من المستصعب أن تنتزع المبدأ العام الذي اعتمده الفقه المدني من الفقه الإسلامي، كما ورد معنا سابقاً([21]).
وفي معرض الكلام عن صيغة العقد يقول السيد الحسني: «ولكي يكون العقد ويتحقق لابد له من إيجاب وقبول دالين على إرادة المتعاقدين؛ ذلك لأن الإرادة مما لابد منها في تكوين العقد، وهي كسائر الأمور القائمة بالنفس، لا تظهر إلا بما يدل عليها من قول أو فعل، وبدون ذلك تبقى سراً مكتوماً، ولا شيء أدلّ من الأقوال والأفعال، لذلك نص الفقهاء على أن الألفاظ لابد منها في جميع العقود…»([22]).
وقال في مكان آخر: «ويبدو من النصوص الفقهية المنتشرة في مجاميع الفقه الشيعي أن الألفاظ من أفضل الوسائل التي تستعمل للتعبير عن الإرادة وتجيء في المرتبة الأولى مع التمكن منها».
وبعد أن يستعرض موقف مختلف المذاهب الإسلامية من التعبير عن الإرادة لإنشاء العقد، يتساءل: «…هل أن الفقه يقف عند الألفاظ في إبرام العقود، أو أنه يتخطاها مع العجز عنها إلى الإشارة والكتابة والتعاطي، كغيره من القوانين المدنية، التي تنص على أن التعبير عن الإرادة يتم بكل واحد من هذه الأمور الثلاثة، حتى مع تمكن المتعاقدين من استعمال الألفاظ لهذه الغاية».
ثم يخلص إلى النتيجة التالية: «وهنا يختلف نظر الشرعيين، وبخاصة الجعفريين منهم، عن المدنيين، حيث إن المجوِّزين لاستعمال الإشارة والكتابة في العقود إنما يكتفون بهما بعد العجز عن الألفاظ، أما مع التمكن من استعمال الألفاظ فلم يذهب أحد إلى الاكتفاء بالإشارة والكتابة في إنشاء العقود».
وأخيراً يستمر السيد الحسني في كتابه القيم في بحث مستفيض عن شروط العقد، ونظرية السبب في العقود، وعيوب الرضا في العقد، والفضولية، وتحديد نطاق العقد، ودور العرف والعادة في هذا المجال…، مستعرضاً مواقف وآراء المذاهب الإسلامية الخمسة، مبيِّناً الفوارق بينها وبين الفقه المدني والقوانين المدنية، مدلياً بآرائه القيمة، مما يجدر الرجوع إليه عند من يريد التوسع والاطلاع الدقيق من أهل القانون والشرع على آراء العلماء والفقهاء، التي عالجها بأسلوب علمي جذّاب عالم جليل متضلِّع كالسيد هاشم معروف الحسني&.
خلاصة
يمكننا القول بكل ثقة: إن السيد هاشم معروف الحسني& عالج نظرية العقد في الفقه الإسلامي، وبخاصة الجعفري، بالمقارنة مع القوانين الوضعية الحديثة بأسلوب علمي عميق، وبجرأة فكرية نادرة، وروح نقدية، ومنهجية علمية، وبعقلية العالم والباحث المنفتح على حياة العصر، وأحدث المفاهيم القانونية، مستنداً إلى مبدأ الاجتهاد الذي كان في أساس الفقه الإسلامي، والذي لابد من العودة إليه إذا أردنا أن تكون حركة التشريع متجددة ومتلائمة مع تجدد الحياة وتطور الظروف والحضارات.
ومن الضروري أن نذكر من جديد ـ مع السيد الحسني ـ أن الاجتهاد عند السنة والشيعة كان في العصور الذهبية الأولى من أهم العوامل التي ساعدت على ازدهار النهضة العلمية في مختلف الأقطار الإسلامية. ولكن «جريمة التحجير على الأفكار» اقترفت في القرن الرابع الهجري، في أيام المنتصر العباسي، وكانت نتيجة لسد باب الاجتهاد، بعد موافقة جماعة من علماء عصر المنتصر، بسبب انقسام الدولة الإسلامية، وتناحر ملوكها، وانقسام علماء الدين فيها تبعاً لانقسام رجال السياسة، وبذلك ساد التعصب والتحاسد والتباغض بين العلماء، فسُدَّ باب الاجتهاد، وتحجرت العقول، «وفي ذلك حدٌّ من سلطة العقل، وجعله عبداً بعد أن كان سيداً…».
وكم نحن بحاجة لتذكر ذلك في ضوء انقساماتنا في هذا العصر المضطرب المليء بالأخطار؟!
الهوامش
(*) كاتب وأستاذ جامعي، من لبنان.
([1]) نظرية العقد في الفقه الجعفري: 531.
([8]) تاريخ الفقه الإسلامي ونظرية الملكية والعقود: 40.
([11]) نظرية العقد في الفقه الجعفري: 9.
([14]) المصدر السابق: 115 ـ 128.