دراسة موسّعة في المواقف والنظريات
الشيخ مسعود إمامي(*)
مقدمة
من خصوصيات المجتمع المدني نبذه العنف ضد الإنسان بكل أشكاله. هذا الالتزام أخذ صبغة معاهدات واتفاقات دولية تحت بنود ترعاها منظمات حقوق الإنسان الدولية . ومن أهم هذه البنود البند الخامس، الذي جاء فيه: «لا يجب أن يتعرض أي إنسان للتعذيب، ولا للعقوبات، أو المعاملات القاسية والمتوحِّشة، وكل أشكال الإهانة والتعريض بكرامة الإنسان».
وعلى الرغم من بعض التعليقات والبيانات الصادرة عن المنظمات الحقوقية وشبه الحقوقية، وبعض وكالات الرقابة، التي تصرِّح بأن بعض العقوبات البدنية تدخل ضمن نطاق التعذيب البدني والنفسي، إلا أن تحصيل اتفاق عام حول منع جميع أشكال العقوبات البدنية لم تحظَ بالقبول لدى الكثير من المنظمات والوكالات الحقوقية المكوِّنة لمنظومة حقوق الإنسان. اللهم إلا ضمن نطاق ضيق، حيث اعتبرت العقوبات البدنية الشديدة في حق الطفل ممنوعة مطلقاً، في الوقت الذي تعارض المنظمة الدولية لحقوق الإنسان العقاب البدني، وخاصة الشديد والعنيف منه، وترى أنه منافٍ لكرامة الإنسان.
ومن جهة أخرى فقد أخذت مسألة الدفاع عن حقوق المرأة مسعى آخر، حيث أصبحت تناقش ضمن المطالبة بتحقيق شعار المساواة بين المرأة والرجل. وتسعى المنظمات التي تقف وراء هذا الاتجاه إلى تركيز ثقافة المساواة، وتعمل جاهدة إلى أن تصبح واحدة من الأصول التي تحكم العلاقات الإنسانية.
إلا أن بعض مؤسسات المجتمع المدني أصبحت في مواجهة مع بعض التشريعات الإسلامية، التي تتنافى حسب الظاهر مع بندَيْن من بنود حقوق الإنسان، والمرأة خاصة، وخصوصاً ضرب المرأة، الذي يستفاد من ظاهر الآية 34 من سورة النساء: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً}.
فالآية تصرح أن الله سبحانه وتعالى أعطى الرجل حقوقاً في تعامله مع الزوجة الناشز، في محاولة لإرجاعها إلى المسار الطبيعي الذي تقوم عليه العلاقة الزوجة. هذه المحاولة ذات مراحل تراتبية، فالأولى: المخاطبة العقلية، وهي ما سُمِّي في الآية بالوعظ، والثانية: الهجران، والثالثة: بعد أن لم تنجح المرحلتين الأولين يأتي الضرب.
ترى مؤسسات المجتمع المدني أن المرحلتين الأولى والثانية، الوعظ ثم الهجران، تتوافق وروح العصر، ولا يسجَّل عليها أي إشكال. أما المرحلة الثالثة، أي الضرب، فإنه يعتبر في نظرهم تصريحاً بممارسة العنف ضد المرأة، الذي نصت منظمات حقوق الإنسان على ممنوعيته. كما أنها ترى فيه سلوكاً بدوياً لا يتناسب وأنماط العلاقات الإنسانية في المجتمع المدني المتحضِّر.
و في نظرة أولى للآية الشريفة يتبين أنها تتكون من أربعة أقسام:
القسم الأول: تتحدث فيه الآية عن قوامية الرجل على المرأة. هذه القوامية هي التي تجعل نوعاً من التفاضل بين الجنسين، وتوجب على الرجل واجبات خاصة، من بينها: النفقة على المرأة.
القسم الثاني: وتدلّ الفاء في {فَالصَّالِحَاتُ} على أنه نتيجة للقسم الأول. فالنساء اللواتي يمتثلن للأوامر والقرارات السماوية، ولا يجدن في صدورهن أيّ حرج في اعتبار قوامية الرجل، هنّ القانتات والحافظات.
القسم الثالث: وقد جعلته واو العطف تابعاً للثاني، وهو يتحدث عن القسم من النساء اللواتي اخترن عدم الامتثال، والتمرد على هذه القوامية.
فتبيَّن أن الموضوع الأصلي في هذه الآية الكريمة هو قوامية الرجل، وبيَّن ذيلُها تعامل النساء مع هذا الأمر الإلهي، حيث إن قسماً من النساء وجد الأمر الإلهي بالقوامية للرجل كأمره بالصلاة، أي إنه اختار الطاعة والامتثال لجميع القرارات مادام مصدرها واحداً، والقسم الثاني اختار رفض تلك القوامية، ووقف موقف المتحدي.
القسم الرابع والأخير في الآية: تحدث عن بعض الأوصاف الخاصة بالذات الإلهية المقدَّسة: العلي والعظيم.
وهذه المقالة تتناول بالدرس القسم الثالث من الآية الشريفة. أمّا باقي الأقسام فهي خارجةٌ عن البحث موضوعاً.
آراء في فهم النصّ القرآني حول ضرب المرأة
تعتبر هذه الآية التي تتحدث عن الأمر الإلهي للرجل بضرب زوجته في حالة نشوزها من أكثر الآيات القرآنية إثارة للجدل. موقفٌ لم يقصر على المرأة وحدها، بل شمل شريحة واسعة من الرجال، وبالخصوص الشباب منهم، الذين أبدوا أشكالاً مختلفة من التعامل مع الأمر الإلهي في هذه الآية؛ فالبعض منهم يعترض كليّاً؛ والبعض الآخر يطرح استفساراته وإشكالاته حول الموضوع. وقد سارع العديد من العلماء والباحثين إلى الرد على هذه الاعتراضات، واستعان البعض منهم بالتفاسير التي تناولت الآية. ومن بين هذه التفسيرات:
1ـ يوجد نوع من النساء يعاني من حالة نفسية يطلق عليها في علم النفس الماسوشية أو المازوخية (والسادية بالنسبة للرجال)، بحيث تحصل لديهن المتعة حين يتلقّين العذاب. وقد تعدّ حالة طبيعية ما لم تتجاوز الحد الطبيعي. فحينها يصبح الضرب أسلوباً ضرورياً لإعادتهن إلى المستوى الطبيعي. فتكون الآية ناظرةً إلى هذا النوع من النساء، حيث يصبح الضرب علاجاً لهنّ، وليس مصدر أذى. إلا أن القرآن حين جوَّز هذا النوع من العلاج اشترط أن يكون ضرباً خفيفاً، وليس مبرحاً، حتى لا تصبح هذه الإجازة مصدراً للعنف ضد المرأة.
إلا أن في هذا التفسير لآية الضرب تكلُّف واضحٌ. بالإضافة إلى انعدام أيّة قرينة تدلّ عليه. فموضوع الآية خاصٌّ بالمرأة الناشز، دون غيرها، سواء كانت في حالة نفسية سويّة أم غير سوية. وتعريف المرأة الناشز يختلف عن تعريف المرأة الماسوشية، وإن كانت نسبة المصاديق بين كلا النوعين عموماً وخصوصاً من وجه. فالآية تهمّ المرأة الناشز، أعم من الماسوشية وغير الماسوشية، ولا تهمّ المرأة الماسوشية التي لا يصدق عليها عنوان الناشز. كما أن ضرب المرأة الناشز يأتي بعد أن تفشل المراحل التأديبية الأخرى التي ذكرتها الآية، من وعظ وهجران في المضاجع.
2ـ فسَّر فريق آخر الآية بقوله: ليس المراد من الضرب الوارد في الآية المعنى الحقيقي، وإنما يراد به الإعراض والابتعاد. فيصبح مراد الآية في تعامل الزوج مع زوجه الناشز أن يعظها، ويبيِّن لها الأضرار التي تلحق بعلاقتهما الزوجية جرّاء سلوكها ذلك، فإنْ لم ينفع الوعظ تأتي المرحلة الثانية، وهي أن يأخذ فاصلة عنها داخل فراش الزوجية، فإنْ لم يصلح حالها توسَّل بالمرحلة الثالثة، بأن يغادر فراشها ويعتزلها.
وهذا التفسير هو الآخر لا يتناسب والعرف اللغوي. ومع كون الضرب يحمل معاني متعددة فإن العرب إذا أرادت بالضرب غير معناه العرفي استعملت معه حرف «عن»، كما هي الحال في الآية الكريمة: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ} (الزخرف: 5).
3ـ لقد كانت الثقافة السائدة في مكّة مبنية على اعتبار المرأة كائناً من الدرجة الثانية، ليس لها أية حقوق، ولا استقلالية. وكان ضرب المرأة وممارسة العنف في حقّها شكلاً رائجاً، بينما كان الدفاع عن حقوق المرأة ثقافة أهل المدينة. فلما دخل المسلمون المدينة أصبحت تتشكل من فرقتين: المهاجرين، وهم أهل مكة الذين هاجروا إليها بأمر من رسول الله‘؛ والأنصار، وهم أهالي المدينة الذين استقبلوا النبي‘ وناصروه. وكلُّ واحد منهما يحمل ثقافة خاصة تختلف عن ثقافة الآخر. وقد نزلت آية الضرب في فترة ما قبل غزوة أحد، وهي الفترة التي عرفت بتأزم الأوضاع، حيث أصبح الإسلام والمسلمون بين جبهتين من الأعداء: الأولى: من خارج المدينة، وهم كفار قريش والمشركون؛ والثانية: جبهة اليهود والمنافقين داخل المدينة. وكان وجود هاتين الجبهتين يشكل خطراً حقيقياً على الإسلام والمسلمين، وخصوصاً أن الجبهتين كانتا تنسِّقان فيما بينهما، وهو تنسيق طبيعي فرضته وحدة نظرتهما إلى الإسلام ونبي الإسلام‘. هذه الأجواء السياسية والأمنية فرضت على المسلمين ترسيخ مبادئ الوحدة ورصّ الصفوف، فكان ترسيم الوحدة بين الوحدات البشرية المكوِّنة للكتلة المسلمة من الضروريات. وطبيعة الحال فإن خلق الوحدة بين المرأة والرجل أول أنواع الوحدة. لذا جاءت الآية 34 من سورة النساء حتى تتَّحد نظرة الرجل المكّي والمدني حول ضرب المرأة، لكي لا يصبح هذا الموضوع نقطة اختلاف، وبالتالي نقطة تفرقة بين المكوِّن للكتلة المسلمة، وحتى ينصرف كل اهتمام الرجل المسلم نحو مقاومة العدو، وحفظ الدين، ووحدة المسلمين([1]).
وهذا التفسير هو الآخر فاقد لأي سند تاريخي. بالإضافة إلى أن هذا التحليل يوحي بأن الله سبحانه وتعالى؛ لكي يحفظ وحدة المسلمين، وحتى تكون كلّ قوتهم الفكرية والمادية منصرفة نحو العدو الحقيقي، بدل الصراعات الهامشية فيما بينهم، أمر بضرب المرأة، مزكِّياً بذلك العقلية والثقافة الظالمة، التي كانت ترى المرأة عنصراً لا يسير إلا بالعنف والضرب، ومسايراً بالتالي للفكر الجاهلي في تعامله مع المرأة بالذات.
كما أن هذا التفسير (التحليل البنيوي) يجعل الأحكام القرآنية منحصرة في زمانها، ولا تتعداها إلى باقي الأزمان. علاوة على أنها موجبة لهجمة الجبهات غير المسلمة في العصر الحاضر على الإسلام، وعدّه مجرَّد ثقافة همجية مؤسَّسة على الظلم والعنف.
التفسير الفقهي لآية الضرب
إن الهدف الأصلي من هذا البحث هو التوصُّل إلى المعنى الحقيقي للآية، بعيداً عن أي هدف إعلاني، أو سعياً في الإجابة عن بعض التساؤلات عن مدى انسجام الوحي والعقل في الأحكام الشرعية والعقائدية.
والبحث في هذه المقالة إنما هو على فرض كون الرجل هو المسيِّر للأسرة، وأن قيادة الأسرة في عهدته، وعلى المرأة إبداء الطاعة والخضوع لكل ما يدخل تحت عنوان حقوق الزوج.
ولعل الفقهاء أكثر وأسبق اهتماماً بهذه الآية من المفسِّرين؛ وذلك لغاية استخراج النقاط الأساسية في الآية، وبالتالي استنباط الأحكام الشرعية المرتبطة بنشوز الزوجة. ومن هنا تصبح كتب الفقه الإمامي المنبع والمرجع الأول والأساسي المعتمد عليه في هذا البحث . وكذلك يكون الرجوع إلى كتب التفاسير وكتب اللغة.
قوله تعالى: {وَاللاتِي تَخَافُونَ}
1ـ الخطاب موجَّهٌ إلى الأزواج؛ بقرينة {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ}؛ لأن الهجران في المضاجع مختصٌّ بالرجال، دون النساء. وعليه يكون الأمر بالموعظة والضرب موجَّهاً إلى الزوج، دون الزوجة. ومن هنا يكون الضرب بيد الزوج، دون غيره من الرجال، فلا أحد يملك الحق الشرعي في ضرب الزوجة الناشز، باستثناء زوجها، مع أن الموعظة وإسداء النصح؛ لدخوله في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليس حكراً على الزوج، بل باستطاعة كلّ مَنْ توفَّرت فيه شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يبذل النصح للزوجة الناشز، ويبين لها سلبيات نشوزها وعدم إطاعة زوجها.
2ـ أشار أبو هلال العسكري إلى أن «الخوف» يختلف عن «الخشية»؛ فالخوف يتعلق بما يُكرَه ولا يُستحسن من الأمور. كما يختلف عن «الحذر» و«الرهبة»، حيث يتنبأ بوقوع شيء غير محمود. والخوف حالة نفسية تتنافى والطمأنينة والهدوء([2]).
لذا فالنشوز لا يتوقف على الإعلان من طرف الزوجة، والإخبار به، بل يكفي أن يقع للزوج إحساس به، سواء وقع فعلاً في الزمن الحاضر أو أن هناك احتمالاً قوياً بحصوله في الزمن المستقبل، ويكون هذا الإحساس قد سبب له الضيق والحرج . والإحساس المبني على ظهور بعض علامات النشوز، أو ما يكون عادة معه من السلوكيات، هو مراد الشارع بـ {تَخَافُونَ}، وليس أي إحساس كاذب.
3ـ قال تعالى: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ…}. من المباحث المهمة في هذه الآية كون الخوف يتلاءم والموعظة والنصح، لكن الهجران في المضاجع والضرب عقوبتان، والعقوبة لا تكون إلاّ بعد أن يتحقَّق الجرم. فلا يكفي في العقوبة مجرد الإحساس، أو مجرد الاحتمال، بل لابد من تحقق الجريمة وحصولها في الواقع، حتى يكون للعقوبة مسوِّغ، وإلا أصبحت عقوبة بدون جرم أو ذنب.
و للفقهاء والمفسِّرين مواقف وآراء في خصوص هذا الإشكال. ومن بين هذه الآراء:
أـ لا يجد البعض المسألة إشكالاً، ويرى أن مجرد الخوف كافٍ في الإتيان بالحلول التي ذكرت في الآية([3]).
ب ـ فسَّر البعض من الفقهاء والمفسِّرين الخوف في الآية بالعلم([4])، أي اللاتي تعلمون نشوزهن. وينسب هذا الرأي إلى ابن الجنيد([5]) الذي استند في تفسيره للخوف في آية الضرب بالعلم على آيات قرآنية أخرى، كقوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، وقوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (البقرة: 182)، وكذا قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً} (النساء: 35).
ج ـ قال جمع آخر بأن الخوف هنا هو مجرَّد الإحساس والاحتمال، ولكن هذا الخوف لا يستوجب سوى الموعظة والنصيحة،أما الهجران في المضاجع والضرب فهناك فعل مقدَّر في الآية، وقال به الشيخ الطوسي، حيث جعل التقدير كالتالي: «واللاتي تخافون نشوزهن، فإن فعلن النشوز فاهجروهنّ في المضاجع واضربوهن»([6]). فالهجران والضرب يكون حين يصدر منها النشوز فعلاً، وليس لمجرد الاحتمال. وهناك من يجعل قبل {وَاهْجُرُوهُنَّ} تقديرات أخرى، تدلّ كلها على الإصرار وتكرار النشوز. قال العلامة الحلي: «فعظوهن إن وجدتم أمارات النشوز، واهجروهن إن امتنعن، واضربوهن إن أصررن»([7])، بمعنى أن تصرُّف الزوج بالأحكام الثلاثة متوقِّف على حالات ثلاث تصدر من الزوجة، بحيث يقوم بالوعظ إن شاهد ما يلوح بالنشوز، ويهجرها إن امتنعت عن الامتثال لحقّ الزوج، ويضربها حين يقع منها تكرار لحالة النشوز.
قوله تعالى: {نُشوزَهُنَّ}
النشوز في اللغة بمعنى الارتفاع والتفوُّق. يقال: نشز الرجل، بمعنى وقف وقام من جلوس. قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا}. قال الشيخ الطبرسي في تفسيره: {انشزوا أي قوموا. والنشز المرتفع من الأرض… ومنه نشوز المرأة على زوجها}([8]).
وقد وردت لفظة «نشوز» مرتين في القرآن: الأولى: في آية الضرب، أي الآية 34 من سورة النساء؛ والثانية: الآية 128 من نفس السورة: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلَا جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}.
والمراد بالنشوز في الآيتين معاً رفض الزوجة والزوج القيام بوظائفهما وواجباتهما تجاه الطرف الثاني. وقد عبّر عن الرفض بالنشوز؛ لأن رفض كلّ واحد منهما القيام بواجبه تجاه الآخر هو في حقيقته ترفُّع عن الأوامر الإلهية وخروج عنها. وقال البعض: إن علة التعبير عن الرفض في هذا الموقع بالنشوز ليس لكونه ترفعاً عن الأحكام الإلهية وعدم الخضوع لها، بل لأنه ترفع وإحساس بعلو الشأن على الطرف الثاني. لذا فلو حصل الاستعلاء من كلا الطرفين على بعضهما البعض فإن الشارع لم يعبِّر عنه بالعلو والترفُّع، وإنما وصفه بـ «الشقاق»([9]). وقد وافق صاحب الجواهر العلامة الحلي في التفسير الأول للنشوز بأنه العلو والترفع، وخالفه في الثاني، ورأى أن نشوز الطرفين معاً لا يعبَّر عنه بـ «الشقاق»([10]).
قوله تعالى: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ}
السؤال الوارد في هذه الآية: هل يثبت للمكلَّف الخيار في انتخاب واحدٍ من هذه الأمور الثلاثة التي ذكرتها الآية: الموعظة والهجران والضرب، أو أن الأمر يستدعي الجمع بين الثلاثة أو أن الأمر يستدعي الجمع، مع مراعاة الترتيب؟
وبعبارة أخرى: إذا حصل للزوج مجرد الخوف من النشوز، أو وقع النشوز فعلاً من طرف الزوجة، فهل يكون الزوج مخيَّراً في الإتيان بأحد الأحكام الثلاثة، أو أنه يعمل بالثلاثة معاً في وقت واحد، أو أنه يقوم بالوعظ أولاً، ثم يتوقف، ويعمل بالهجران ثانياً، ويتوقف، ثم يعمل بالضرب أخيراً؟
تختلف آراء الفقهاء بحسب تفسيرهم لكلمة الخوف، وما قدَّروه في الآية أو لم يقدِّروه قبل «الهجر»، وهي:
الأول: يرى ابن الجنيد أن حرف الواو بين الثلاثة يقتضي الجمع بينها. ولأنه رأى أن الخوف بمعنى العلم يصبح معنى الآية: متى نشزت الزوجة فإن على الزوج أن يعظها، أو أن يهجرها في المضجع، أو أن يضربها، ويستطيع اختيار اثنين منهما، أو القيام بها جميعاً، من غير أن يكون هناك ضرورة للترتيب بينها([11]).
الثاني: وهو رأي المحقّق الحلي في «المختصر النافع»، حيث حمل الخوف على معناه الأصلي (الإحساس والاحتمال)، بينما رأى ضرورة الترتيب بين الأحكام الثلاثة، وأنه لا تقدير قبل الهجران والضرب، فيصبح معنى الآية: متى ما شعر الزوج بنشوز الزوجة، سواء حصل منها فعلاً أو لم يحصل، فله أن يعظها، فإن وجد للوعظ أثراً، وإلا فله أن يهجرها، فإن لم يكن للهجران أثرٌ فله أن يضربها([12]).
الثالث: وقد قال به كلٌّ من الشيخ المفيد، والعلامة الحلي في «إرشاد الأذهان»، حيث فسَّرا الخوف بنفس تفسير ابن الجنيد، أي العلم، ولكنهما خالفاه في قولهما بضرورة الترتيب بين الأحكام الثلاثة، ليصبح معنى الآية: إن الزوج بعد أن يحصل له العلم واليقين بنشوز الزوجة فإن عليه أولاً القيام بوعظها ونصحها، وإذا تبين له أن الوعظ لم يلقَ عندها أي اعتبار فعليه أن يهجرها في المضجع، فإن تراجعت عن ذلك السلوك الشاذّ، وإلا فإن له أن يلجأ إلى الضرب([13]).
الرابع: وقد قال به المحقق الحلي في «الشرائع»، والعلامة الحلي في «القواعد»، حيث قالا بالمعنى الأصلي للخوف (الإحساس والاحتمال)، ولكن وضعا تقديراً قبل {فاهجرُوهُنَّ}، وقبل {فاضرِبُوهُنَّ}. كما أن التعامل مع النشوز ـ بحسب مبناهما ـ لا يقتضي الترتيب بين الأحكام الثلاثة، ليصبح معنى الآية: متى صدر من الزوجة ما يجعل الزوج يتخوَّف من نشوز فله أن يعظها، وإذا لم تتأثَّر فله أن يهجرها، وإلا فله أن يضربها([14]).
الخامس: وقد قال به العلامة في «تحرير الأحكام»، حيث أخذ الخوف بمعناه الأصلي، ولكنّه قدَّر كلمتين قبل الهجر وقبل الضرب، ليصبح معنى الآية: إذا أحس منها بما يشير إلى النشوز فله أن يعظها، وإذا لم تتَّعظ ونشزت فله أن يهجرها في الفراش، وإذا أصرّت على النشوز فله أن يضربها([15]).
وقد اتفق العديد من العلماء المعاصرين مع هذا القول، ولكنّهم ربطوا الوعظ بتحقُّق النشوز فعلاً.
السادس: وقد قال به الشيخ الطوسي في «المبسوط». فالخوف عنده في هذا الكتاب بمعناه الأصلي، والهجر والضرب منوط بالتحقق الفعلي للنشوز، ولكنه لا يرى ضرورة الترتيب بين الهجر والضرب، فحين يتحقق النشوز فللزوج الخيار في أن يهجر أو يضرب([16]).
السابع: ويرى أصحاب هذا الرأي أن الخوف بمعناه الأصلي، ولكن الأحكام الثلاثة يقوم بها الزوج جميعها. فحين يخاف من زوجته نشوزاً فعليه أن يعظها ويهجرها ويضربها، من دون أن يكون هناك فاصل زماني أو فاصل حالي؛ لأن الواو بين الأحكام الثلاثة تقتضي الجمع.
الآراء الفقهية في ضرب المرأة قرآنياً، تعليق ونقد
1ـ لا يُحمل اللفظ على غير معناه الحقيقي إلا إذا وجدت قرينة معتبرة، أو كانت الضرورة تقتضي المعنى غير الحقيقي. لكن في هذه الآية يبقى الخوف على معناه الحقيقي قدر الإمكان، ولا يحمل على معاني العلم أو ما شابهه.
استشهد الاتجاه الذي حمل معنى الخوف على العلم بالآيات الأخرى التي ورد فيها لفظ الخوف، وادعى أن الخوف في تلك الآيات بمعنى العلم. في حين أن العلماء قد اختلفوا في معنى الخوف في تلك الآيات؛ وهناك مَنْ حمل الخوف فيها على معناه الحقيقي، ممّا يعني أنه لا يوجد اتفاق بين العلماء على أن الخوف في الآيات المستشهد بها بمعنى العلم([17]). ولذا فهذا الدليل يبقى ضعيفاً وغير متيقَّن، ولا نستطيع من خلاله تجاوز المعنى الحقيقي إلى غيره.
2ـ إن أول الأحكام الصادرة في النشوز هو الوعظ. والوعظ من غير العلم بالنشوز يتناسب مع مجرد الخوف. لذا فلا توجد ضرورة تقتضي حمل اللفظ على معناه المجازي. كما أن الإبقاء على المعنى الحقيقي يتناسب مع السياق الداخلي للآيات التي سبقت آية الضرب من نفس السورة، بينما لا يتناسب معها لو حمل المعنى على العلم.
ولعل استعمال القرآن لكلمة الخوف في ما يخصّ مشاكل الأسرة بداعي الحرص على العلاج، قبل أن تصبح المشكلة أمراً واقعاً. فالقرآن يرى أن الخوف والإحساس بالاضطراب مهمّ في المحيط الأسري، وفي العلاقة الزوجية؛ لأنه يوقف الأزمة في المهد، ولا يترك لها مجالاً لكي تتراكم وتنمو. فبمجرَّد أن يشعر الزوج أو الزوجة بأن هناك حالة غير طبيعية من الطرف الثاني في ما يخصّ علاقتهما الزوجية ينبغي أن يبادر بالوعظ والنصح، وهو أسلوب في فتح الحوار بين الطرفين. وبالتالي قد يكون أسلوباً فريداً في الحفاظ على علاقة المودة بينهما، التي هي الأساس في العلاقة الزوجية.
3ـ يرى ابن هشام أن الواو ـ علاوة على أنها تعني مطلق الجمع ـ تعني الترتيب. وقد استدل على قوله بأقوال العديد من النحويين([18]). لذا فحمل الواو على الترتيب لا يخرج عن نطاق الصناعة الأدبية، ولعل الاستحسان والترجيح مساعدٌ على هذا المنحى.
إنّ الوعظ والهجران والضرب أمور وقائية وعلاجية للنشوز. وبهذا اللحاظ السيكولوجي يكون العلاج تراتبيّاً بين الضعف والشدة. وهذا الانتقال من الأضعف إلى الأشد قرينة قوية على اعتبار الواو ترتيبية([19]). وهذا الفهم العرفي للآية يتفق وفهم العديد من الفقهاء، الذين قالوا بالتراتبية بين الأحكام الثلاثة. فمجرد إحساس الزوج بأن هناك حالة غير سوية من طرف الزوجة في ما يخص علاقتهما الزوجية يبادر بالنصح والوعظ، فإنْ لم يَرَ لهذا الوعظ أثراً في سلوك الزوجة انتقل إلى الطريقة الثانية من العلاج، فيهجرها في الفراش، فإنْ لم ينفع هذا العلاج انتقل الزوج إلى المرحلة الثالثة، فاستعمل الضرب.
4ـ إن السبب الذي دفع بالعديد من الفقهاء والمفسِّرين إلى حمل الخوف على العلم، والقول بتقدير كلمتين قبل الهجر والضرب، وجود القاعدة العقلية «قبح العقاب قبل وقوع الذنب». فما لم يقع المكلَّف في الجرم ويرتكبه بكل طواعية منه لا يستحق القصاص. وقد صرحوا ضمن آرائهم وأقوالهم بهذه القاعدة العقلية([20])، حيث إن مجرد الخوف لا يُعَدُّ مسوِّغاً للهجر والضرب، اللذين هما في الحقيقة عقاب.
5ـ قال الشيخ الطوسي: إن إجماع الفقهاء على أن العقاب بالهجر والضرب لا يكون لمجرد الخوف من النشوز، بل لابد من حصول النشوز، حتى يصبح هناك مبرِّرٌ عقليٌّ للعقاب والقصاص. ولذا فقد رأى أن هناك تقديراً في الآية قبل أحكام العقاب([21]).
وبالاستناد إلى إجماع الفقهاء، والقرينة العقلية، لا يمكن حمل الآية على الظاهر، بل إما أن تحمل الخوف على غير معناه الحقيقي، فيكون في هذه الآية بمعنى العلم؛ وإما أن نقدِّر كلمتين قبل الهجر والضرب. والترجيح للثاني؛ لأن الرغبة في الوقاية وحماية الأسرة من النشوز ترجح بقاء الخوف على معناه الحقيقي، ويكون المعنى الترتيبي للواو في الآية قرينة على تفاوت العمل بالهجر والضرب، مما يعني وجود تقدير في الآية، وأن مجرد الخوف ليس شرطاً كافياً في الإقدام على الهجر والضرب، بل الشرط الضروري تحقق النشوز في ظرف الواقع([22]). ولأن الهجر والضرب من جنس العقوبة والقصاص فإن القاعدة العقلية والعرفية تجعل الضرورة لوقوع الجرم ابتداء. ومن هنا أصبح الشرط في استعمال العقوبة مقدَّراً في الكلام الإلهي في هذه الآية. وللعرف كامل الصلاحية في اختيار هذا التقدير حسب فهمه.
وهذا يرجِّح ما ذهب إليه العلامة الحلي (الرأي الخامس) في «تحرير الأحكام» عن باقي الآراء، ويكمل بآراء وأقوال بعض الفقهاء والمفسِّرين. فالفهم العرفي من التراتبية بين الأحكام الثلاثة يرى أنه إذا كان الوعظ كافياً في إرجاع سلوك الزوجة إلى طبيعته التي تقتضيها العلاقة الزوجية فلن يكون أيُّ مبرِّر للهجر أو الضرب بمقتضى الحال.
قوله تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ}
لقد وقع الاختلاف في معنى الهجر في المضاجع. ووجدتُ لتفسيره عدة أقوال:
1ـ يرى البعض أنه؛ بسبب وجود حرف «في» في الآية، يكون المعنى أن يحوِّل إليها ظهره في الفراش([23]). وهو المعنى الذي نقله الشيخ الطوسي ضمن روايات مرسلة عن الإمام الباقر×.
2ـ ورأى البعض الآخر الهجر بمعنى عزل فراشه عن فراشها([24]).
3ـ وجمع البعض الآخر بين المعنيين الأول والثاني، بأن يعزل فراشه عن فراشها وأن يحوِّل ظهره إليها([25]). وهو ما ذهب إليه صاحب الجواهر، وقال: كلا المعنيين مراد الآية. ويجب احترام الترتيب في العمل بهما، بمعنى أنه إذا كان تحويل ظهره إليها كافياً استغنى عن الثاني، وإلا انتقل إلى عزل فراشه عن فراشها([26]).
4ـ قال علي بن إبراهيم: الهجر بمعنى السبّ والغلظة في القول. وهو أحد معاني الهجر([27]).
5ـ قال الشهيد الثاني بعد أن نقل بعض الأقوال في هذا الشأن: لفهم معنى الهجر لابد من الرجوع إلى العرف. فالمرأة هي التي بمقدورها أن تحدِّد السلوك الذي تعتبره هجراً بالنظر إلى طبيعة علاقتها مع زوجها([28]).
6ـ يرى البعض أن الهجر بمعنى ترك الاستمتاع([29]).
وتجدر الإشارة إلى أن لازم تحويل ظهره إليها في الأقوال الثلاثة الأولى ترك الاستمتاع.
قوله تعالى: {وَاضربُوهُنَّ}
بعد أن لم يلقَ الوعظ والهجر ردة فعل إيجابية لدى الزوجة الناشز، واستمرت في امتناعها عن تمكين الزوج منها، حسب مقتضيات العلاقة الزوجية، جعلت الآية الضرب آخر الطرق العلاجية. لكن الفقهاء اختلفوا حول الكيفية والمقدار الذي يتم به الضرب. ولهم في المسألة أقوال:
الأول: إن الضرب يجب أن يكون ليّناً، وتضرب بعود المسواك([30]). وقد نقل هذا القول عن الرواية المرسلة عن الإمام الباقر×، الذي قيد الضرب بالمسواك([31]). ولكن؛ لكونها مرسلة، لا تُعَدُّ حجة معتبرة.
الثاني: يجب أن يكون الضرب ليِّناً، وبعود المسواك أو ما يشبهه. واختاره ابن عباس([32]).
الثالث: إن الضرب يجب أن يكون ليِّناً، ويمكن أن يكون بالمسواك أو بغيره([33]).
استند الفقهاء في قولهم: إن الضرب يجب أن يكون ليِّناً غير مبرِّح على الحديث النبوي ـ الذي ذكره الفريقين في مصادرهم الحديثية([34]). جاء في تحف العقول أن النبي الأكرم‘ قال في خطبة الوداع: «أيها الناس، إن لنسائكم عليكم حقّاً، ولكم عليهنّ حقّاً، حقُّكم عليهنّ أن لا يوطئن أحداً فراشكم، ولا يدخلن أحداً تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم، وأن لا يأتين بفاحشة، فإن فعلنَ فإنّ الله قد أذن لكم أن تعظوهنّ وتهجروهنّ وتضربوهنّ ضرباً غير مبرِّح»([35]).
ونقل مسلم في «صحيحه» عن النبي الأكرم‘ نه قال: «فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فراشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرِّح»([36]). واستناداً إلى هاتين الروايتين، وغيرهما من الروايات المرتبطة بالتأديب وبالنهي عن المنكر، قيَّد الفقهاء الضرب بعدة أمور، واتفقوا جميعاً على أن يكون الضرب ليِّناً غير موجب للأذى، ولا مسبِّباً للضرر([37]).
وقيَّده بعضهم بأن لا يؤدي إلى خروج الدم، ولا يكون مسبِّباً لعاهة، أو مخلِّفاً لأثر([38]). وأضاف آخرون أن لا يصيب جلدها ولحمها بالأذى([39]).
وقال قسم آخر من المتشرعة: لا يجوز أن يكون الضرب موجَّهاً إلى الوجه، أو الخاصرة، أو البطن، أي المناطق الحسّاسة في بدن المرأة، والتي تتأثَّر وتتضرَّر بسرعة. كما لا يجوز أن يكون بشكل مستمر على موضع واحد([40]). وأضافوا أن لا يؤدي إلى خروج الدم أو إحداث نقص في البدن أو احمرار في الجلد([41]).
ويرى صاحب الحدائق أن الضرب المقصود في آية الضرب من نوع ضرب الطفل حين تأديبه، بحيث يجلب لها بعض الأذى، ولكن لا يكون سبباً في إلحاق الضرر بها([42]).
وفي خصوص القول بكفاية الضرب بالمسواك هناك إلى جانب الآراء السابقة أراء أخرى؛ فالشهيد الثاني يقول: لعلّ السرّ في القول بالضرب بالمسواك أن المرأة حينها سترى في هذا الضرب نوعاً من المداعبة والملاعبة، وإلا فإن الضرب بالمسواك لا يُرى فيه أي نوع من التأديب وإصلاح الحال([43]). ولقد استحسن بعض العلماء والباحثون قول الشهيد الثاني، واعتبروه منطقياً([44]).
إن مقصود الشهيد الثاني من الروايات التي تتحدث عن الضرب بالمسواك أن هذه الروايات لم ترَ الضرب لغاية التأديب والإصلاح، وإنما أرادت أن يعمل الزوج على أن لا تصطبغ العلاقة الزوجية بالروتينية، بل يسعى إلى إضفاء نوع من التجديد، ويعيد النفس إلى العلاقة الزوجية التي قد أصيبت بالفتور من جانب الزوجة؛ بسبب الروتين، أو لسبب آخر.
وقد رأى صاحب الجواهر أن الروايات التي تتحدث عن الضرب بالمسواك لا تعني الضرب بشكل عام، وإنما هو الضرب في المرحلة الأولى، حيث لم يعلم أيكون من الزوجة الانصياع أو التمرد، أما إذا لم تصلح حالها فإن الضرب ينتقل إلى درجة أعلى، وبوسائل أخرى، الغاية فيها هو التأديب وإصلاح الحال . وهذا ما أشارت إليه الروايات، حيث جعلت الضرب في المرحلة الأولى بالمسواك، ولم تحصر الضرب كلّياً في المسواك([45]).
ورأى ابن إدريس أن الضرب بالمسواك في حدود المستحب، وليس بالواجب([46]).
إنّ المسألة التي تعرض لها الفقهاء بالدرس، والتي ترتبط بالضرب، هي أنه إذا أدى الضرب للزوجة الناشز إلى إحداث ضرر بدني، كأن سبَّب لها نقصاً في جسمها، أو سبَّب لها عاهةً أو ضرراً مادياً،فهل يكون الزوج حينها معنياً بالتعويض والجبر، أو ليس عليه شيء مادام قد أُمِر من لدن الشارع بالضرب؟
وفي الرد على هذا السؤال أقوال عدّة، منها:
1ـ وهو قول قريب من الإجماع بين الفقهاء، وهو أنّه إذا تسبَّب الزوج في ضربه لزوجه الناشز في إتلافٍ أو ضررٍ فإن عليه الدية والتعويض([47]). وليس كضرب الولد؛ فإن الوالدين يريدان تأديب ابنهما بما فيه صلاحه وجلب المنفعة إليه، وإنما يضربانه من موقع إحسانهما إليه {وَمَا عَلَى المُحْسِنينَ مِنْ سَبِيلٍ} (التوبة: 91)؛ أما ضرب الزوجة فهو يخدم الزوج، ويجلب المصلحة والخير له، وليس لها فيه حظّ([48]).
2ـ قولٌ يرى عدم الدية مطلقاً.
3ـ قولُ صاحب الحدائق، وهو أنه إذا عمد الزوج إلى ضربٍ من شأنه أن يحدث التلف والضرر فإن الزوج مطالب بالدية، أما إذا لم يكن من شأن الضرب أن يسبِّب تلفاً أو ضرراً، وإنما وقع بالصدفة، فإن الزوج غير معني بالدية([49]).
نظرة عقلانية إلى خطاب الآية الشريفة
إن هذه الآية الشريفة نزلت في سياق عقلي يروم علاج حالة النشوز أو الخوف من النشوز، مما يعني أنه لابد وأن يتناسب خطابها والعقل. ولإثبات هذا لابد من الانطلاق من النقاط التالية:
1ـ إن عقد الزوجية ـ شأنه شأن جميع العقود ـ يكون موجباً لتشريع حقوق وواجبات بين طرفي العقد. فعقد الزواج يوجب واجبات وحقوق على الزوج والزوجة. وإذا حدث أن تهاون أحد طرفي العقد في واجباته فإنه يُعدُّ خارجاً عن العقد، وبالتالي يصبح جانياً. إلا أن القرآن الكريم قد خصَّ هذا النوع من الجناية باصطلاح خاصّ به، حيث عبَّر عنها بالنشوز. وانطلاقاً مما سبق فإن الخروج عن مقتضيات العقد سلوك لا يقبله العقل؛ لأن العقل يقول باحترام كلا الطرفين لما اتفقا عليه في العقد مسبقاً، وكلُّ تمرد أو إخلال بالواجبات يُعَدُّ انحرافاً وجنايةً، فيصبح النشوز في حقيقته جناية.
ورغم اختلاف الفقهاء في واجبات الزوجة تجاه زوجها فإنهم متفقون على حصر حقوق الزوج في التمكين، وعدم الخروج من بيت الزوجية إلا بإذن من الزوج([50])، ليصبح معنى النشوز عدم الخضوع لهذين البندين: التمكين؛ وعدم الخروج بدون إذن.
والقرآن في إصلاحه لحالة نشوز الزوجة أو الخوف من نشوزها المتوقع يريد؛ بمقتضى العقد، إصلاح حالة الجناية أو الخوف من الجناية. وقد عمد في هذا المحور إلى تشريع ثلاثة طرق، وجعل الضرب آخرها. والجدير بالإشارة هنا أن الضرب في هذه الآية قد رُبط بحالة الجناية، أي حالة النشوز، ولا يتجاوزها إلى غيرها من الحالات الأخرى المحتمل تواجدها في العلاقة الزوجية. ثم إن ما يحاول البعض الاحتجاج به في مقام رفضهم للضرب أنه غير مستحسن هو قولٌ مخالفٌ ـ في حقيقته ـ لسيرة العقلاء، التي ترى أنه في مقابل أية جناية لابد وأن يكون عقابٌ يتناسب ونوع الجريمة والجناية. وإلا فما هي الجدوى من المسطرات القانونية؟!
2ـ إن الأسرة ـ كغيرها من التجمعات البشرية ـ تحتاج إلى مَنْ يديرها، ويحفظ التوازن والنظام داخلها، وهو أمر اتفق عليه العقلاء. وكما أن غياب المدير والمسيِّر للتجمعات البشرية يؤدي إلى تشتت هذا التجمع وانحلاله كذلك هو الحال في الأسرة، فغياب الوالي والمسيِّر يجعلها في معرض الفرقة والتشتت. وقد كان الرجل في جميع الأسر عبر التاريخ، وفي مختلف الثقافات، هو المدير في أسرته، وهو الذي يملك زمام إدارتها وتسييرها. ولم يخرج القرآن عن هذه السنة. فقد جعل القوامة للرجل. قال تعالى، في أول آية الضرب من سورة النساء: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء}. فمديريته وقواميته هي في محيط أسرته، مما يعني أن موقعية الزوج وموقعية الزوجة داخل أسرتهما ليستا في عرض بعضهما، حتى لا يكون هناك تصادم في الوظائف والمهام. فالزوج هو الوالي على الزوجة، بمعنى أنها تخضع لإدارته وتكون تحت رئاسته. والزوج؛ انطلاقاً من موقعه الشرعي والعقلي، يصبح له بعض الصلاحيات التي تضمن له حسن التسيير لدفة الأسرة، وبالتالي فإن حفظ هذه الصلاحيات تخوِّله استعمال بعض الآليات المشروعة انطلاقاً من موقعه في ما يخص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل محيطه الأسري. لذا يصبح القول: إن الآية حين أعطت للزوج حق الوعظ، والهجر، ثم الضرب، إنما كان ذلك باعتباره مديراً ووليّاً في أسرته. كما يستشفّ من مسؤولية الزوج كون الآية القرآنية أرادت حفظ الاختلافات الأسرية، وخصوصاً في ما يخص العلاقة الزوجية بين الزوجين، وعدم تمييعها بخروجها خارج الأسرة، مادام الزوج يستطيع حل تلك الخلافات بنفسه.
3ـ يُلاحظ أن الفرق بين حكم الزوجة الناشز والزوج الناشز بسيط جداً، وأنه في كليهما يحمل نوعاً من العقاب البدني. وغاية الأمر أنه في شأن الزوجة جعل العقاب في عهدة الزوج، بينما جعل عقاب الزوج الناشز في يد مَنْ هو أقوى سلطة منه، وهو القاضي، بحيث إذا تمرَّد الزوج على بنود عقد الزوجية، كأن يمتنع عن النفقة، التي هي أحد حقوق الزوجة على الزوج، يصبح للزوجة الحق في رفع أمرها إلى القاضي، الذي يلزمه بالنفقة، وإذا رفض فإن الفقهاء يتحدثون عن عقوبةٍ الحدُّ الأدنى فيها الجلد([51]).
وقد يشكل على هذه الازدواجية في مسألة ممارسة العقوبة على الزوجين، ففي حين أعطي الزوج الحق في تعزير زوجته الناشز لم تُعطَ المرأة هذا الحق بالنسبة لزوجها الناشز.
إلا أنه يجب أن ينظر إلى المسألة من لحاظات مختلفة، من بينها: ضعف المرأة الفسيولوجي، بالمقارنة مع الرجل. وبسبب كون الزوج هو القيِّم على الزوجة، وقد جُعل له حق حفظ النظام والتوازن داخل الأسرة، كان من الطبيعي أن تعطى له صلاحية ممارسة التعزير على الزوجة، التي هي تحت كفالته وولايته، بينما لا تستطيع المرأة؛ للاعتبارات نفسها، أن تعاقب الزوج، فكان أن جُعل ذلك في يد مَنْ يملك نفس خصوصيات الزوج، ولكن بشكل أوسع وأكبر، وهو القاضي الشرعي. بل لابد من التذكير بأنه إذا لم يستطع الزوج القيام بمعاقبة زوجته بنفسه؛ إما لعدم قدرته البدنية؛ أو لخوفه من أن يتجاوز الحدّ الشرعي المسموح به في العقوبة؛ أو لاعتبارات أخرى، فإن له أن يرفع أمره إلى القاضي. بل يتحدث بعض الفقهاء عن كون الزوج مخيَّراً بين معاقبة زوجته الناشز بنفسه، أو إيكال الأمر إلى القاضي، من غير أن يكون هناك أيُّ داعٍ.
4ـ لا يوجد أي دليل على أن عقاب المجرم والجاني منافٍ للأخلاق. والذين يعترضون على العقاب البدني غالباً ما يعمدون إلى بناء اعتراضهم على الجانب الإنساني، محاولين تحريك العواطف ضد هذا النوع من العقوبة، على الرغم من أن عقوبة الإعدام، وهي الأقوى والأشد، لازال يُعمل بها في الكثير من الدول، ولا أحد يعترض عليها، أو يقف ضدّها. وكذلك فإن الاعتراضات لم تطَلْ العقوبات المالية، والحبس لمدة طويلة، أو عقوبة التبعيد والنفي، بينما صُبَّت الاعتراضات على العقوبات البدنية. وكأن الحبس عشرين سنة أو أقل أو أكثر، وانقطاع المسجون عن وسطه الاجتماعي، وحرمانه من مداومة الحياة بشكلها الطبيعي، أهون من الجلد مائة جلدة سرعان ما تذهب أثارها المادية.
ولو تمّ الاتفاق على كون العقوبات البدنية، ومن بينها الجلد، مخالفة للاتجاه الاجتماعي، وغير مناسبة لخصوصيات العالم المتقدم، فإن ضرب الزوجة الناشز ـ إذا روعيت فيه جميع الشروط ـ لا يُعَدُّ سلوكاً غير إنساني.
فعقوبة الجاني، الذي رفض الانصياع لما اتفق عليه مع الطرف الثاني بكل طواعية منه، وبكل رغبة منه، لا تُعَدُّ مخالفة للموازين العقلية، ولا سيما أن العقوبة ليس من شأنها أن تترك أثراً، أو تتسبَّب في تلف أو نقص، بل إن الشارع لم يُعْطِ للزوج الحق في العقوبة البدنية إلا بعد أن استنفدت كل طرق الإصلاح، من وعظٍ وهجرٍ.
1ـ إن هدف القرآن من العقوبة هو إرجاع الزوجة إلى إطاعة زوجها في ما اتفقا عليه في العقد. فبمجرد أن ترجع لن يكون للعقوبة أي مجوِّز. وهذا ما تشير إليه الآية: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً}. فالأحكام الثلاثة التي كُلِّف الزوج استعمالها في مقابل نشوز زوجته إنما هي حيث تمّ المساس بحق الزوج في ما يخص التمكين والخروج بغير إذن ـ باعتباره يمس بحق الزوج في الاستمتاع ويحرمه منه ـ، بينما لا تعتبر الزوجة في غير هذا الحق ناشزاً إذا ما رفضت الانصياع والاستسلام. وهذه الأحكام الثلاثة تصبح لغواً في غير حالة النشوز. كما تصبح خروجاً عن الشرع بمجرَّد أن تمكِّن زوجها منها؛ لأنها تكون قد خرجت من حالة النشوز، وتلك الأحكام الثلاثة إنما هي وقف على حالة النشوز، وليست مطلقة في جميع الحالات.
وهذا ما يستخلص من أقوال الفقهاء. فقد صرَّح الشيخ المفيد قائلاً: «لتعود إلى واجبه عليها من طاعته»، بمعنى أن الهدف من الأحكام الثلاثة في آية الضرب إنما هو أن تعود لإطاعة زوجها بأداء واجباتها([52]).
وقال المحقق الحلي: «ويقتصر على ما يؤمل معه رجوعها»، أي يكتفي من الضرب بالمقدار الذي يجعلها ترجع إلى طاعة زوجها، ولا يتعداه إلى غيره([53]).
وقال العلامة الحلي في هذا الخصوص: «والضرب ما يرجى به عودها إلى طاعته»([54]).
أما الفاضل الهندي فقد قال: «لأنه إنما شُرِّع للرجوع والامتناع عن المنكر، فلابد من الاقتصار على ما يتأدى به([55]).
وكذا كان للفقهاء الآخرين نفسُ الآراء أو قريبٌ منها([56]).
إذاً فالأحكام الثلاثة ليست مسألة تعبدية، وإنما هي مسألة عقلية بمسلك تشريعي، بمعنى أن مراعاة الترتيب بين الأحكام الثلاثة ليست مسألة تعبدية لابد من الإتيان بها على ترتيبها مهما اختلفت الشروط والأوضاع، بل إن الزوج مكلَّف باختيار ما يراه إصلاحاً لحالها، انطلاقاً من معاشرته لزوجته، واطّلاعه على ما يصلحها. وإذا رأى أن استعمال هذه الطرق الثلاثة، أو أيٍّ منها، لن يأتي بنتيجة فإن الإتيان بها حينها يُعَّدُ ضرباً من اللغو والعبث؛ لأن الغرض الأصلي هو أن ترجع الزوجة إلى طاعة الزوج في ما اتفقا عليه.
وبعبارة أخرى: إنّ ذكر الطرق الثلاثة في الآية ليس له موضوعية، وإنما هو طريقة في بيان نموذج التعامل مع الزوجة الناشز، وكيف يجب أن يخضع إلى التدرج، شأنه شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بمعنى أن الخطاب في الآية موجَّه في حقيقته إلى الزوج الذي خاف من نشوز زوجته، أو قد نشزت زوجته فعلاً، وكيف له أن يصلح حالها، بأن يبتدئ بالأخفّ، حتى إذا لم يتغيَّر حالها انتقل إلى الأشد، ثم الأكثر شدّة. وقد بينت الآية الطرق التي كانت سائدة في عصر النزول، والتي لم ينعتها أحدٌ آنذاك بالطرق غير الإنسانية، أو المخالفة للأخلاق.
ومن هنا فإذا كان الضرب في الزمن الحاضر، ونظراً لنوعية التربية والثقافة السائدة، لن يؤدي إلى إصلاح حال الزوجة الناشز، بل على العكس سيكون له انعكاسات سلبية على الجانب النفسي والروحي للزوجة، أو تكون له عواقب أكثر وأشدّ ضرراً من حالة النشوز، فإن الضرب في هذه الحالة يصبح غير جائز، وعلى الزوج أن يتَّخذ طرقاً يراها أكثر نفعاً وتناسباً مع تربية وثقافة الزوجة. ولكن إذا كان الضرب في هذا العصر مقيَّداً بالشروط الشرعية التي ذكرها الفقهاء، وكان يرى أنه ستكون له نتائج إيجابية، بأن يصلح حالها، ولن تكون له أية عواقب سلبية، فإن هذا النوع من الضرب كذلك لا يُعَدُّ منافياً للأخلاق ولا غير إنساني، مادام في حريم العقاب البدني الخفيف، الذي يتناسب حتى مع تربية الطفل.
إذاً من خلال هذا التحليل العقلي والهادف للآية نستطيع الخلوص إلى أن الزوج إذا رأى أن إدخال بعض الأفراد من خارج الأسرة، والذين يكون لهم وضع تحترمه الزوجة، وتقرّ به، سيكون ناجحاً في إرجاع الزوجة إلى الطاعة، وظنَّ أن هذا التدخل بواسطة هؤلاء الأفراد أكثر نفعاً من الطرق الثلاثة التي ذكرتها الآية، فإن للزوج أن يرجِّحها ويستعملها، بدلاً عمّا ذكرته الآية.
واستناداً إلى ما سبق فإننا نستطيع القول: إنه في نفس الوقت الذي نرى فيه أن الآية غير مختصّة بعصر النزول، وأنه يمكن استعمال الطرق الثلاثة في إصلاح وتربية الزوجة الناشز، طبق الشروط والقيود التي استنبطها الفقهاء، كذلك فإن الفهم العقلاني، وعدم اعتبار ما جاء في الآية ضمن التعبُّدي، يفسح المجال إلى الطرق التي تتناسب وروح العصر، وكذا نوعية التربية والثقافة السائدة في المجتمع المدني في الزمن الحاضر.
وبالعودة إلى البحث في أقوال الفقهاء يتَّضح لنا أنه إلى جانب الاستنباط الفقهي هناك فهمٌ عقليٌّ للآية. وهو في نفس الوقت فهمٌ إيجابيٌّ وهادفٌ يتجلى في النقاط التالية:
أـ اتفق العديد من الفقهاء على أن ضرب المرأة هو من جنس ضرب الطفل، أي إن له بعداً تأديبياً([57])، بمعنى أن العقوبة البدنية الصادرة في حق الزوجة الناشز إنما هي لغرض التأديب. وإذا انتفى هذا البعد، وكان الهدف شيئاً آخر، كالاستعلاء، والتسلُّط، والقهر، فإن الضرب حينها يصبح غير جائز. ولن يصبح الضرب غير ذي فائدة فحسب، بل سيصبح نوعاً من إلحاق الأذى بالزوجة. وإيذاء المؤمن حرامٌ مطلقاً([58]).
ب ـ أكد الفقهاء أن المراحل الثلاثة الواردة في آية الضرب هي أحد مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وبذلك فهي تقتضي التدريج. وهذا التدريج له موضوعية، حيث لا ينتقل من مرحلة إلى مرحلة إلا بعد القطع بعدم تأثيرها([59]). ويقوّي هذا القول ما ذكره الشهيد الثاني من أنه «متى احتمل انزجارها بالوعظ لا ينتقل إلى الهجر، وإن لم تنزجر جاز الهجر، ولا يجوز الضرب إلا مع العلم أنها لا تنزجر بهما، ومعه يجوز الضرب ولو في الابتداء، كمراتب النهي»([60]).
ج ـ بيَّن الفقهاء أن الزوج يجب أن يتحقَّق من الرغبة التي ينطلق منها، أهي إصلاح حال زوجته وإرجاعها إلى المعاشرة التي اقتضاها عقد الزوجية، أم هي الانتقام والتشفّي وممارسة العنف تحت غطاء الشرعية؟ فإذا غاب عنده حسُّ ونية الإصلاح حرم عليه ضربها، مما يعني ضرورة إحراز النية الصادقة علمياً وعملياً في الإصلاح والتأديب، حتى يصبح الضرب، وفق الشروط الشرعية التي بيَّنها الفقهاء بشكل مفصَّل، جائزاً([61]).
لذا نستطيع القول: إن الضرب والمراحل الأخرى التي جاءت في الآية ليست من جنس العقاب والعقوبة، وإنما هي سلوك يُراد به التربية والإصلاح، ولا يحمل أي قصد في التشفي والانتقام. وليس هذا وقفاً على المرأة الناشز وحدها، بل لابد منه في جميع أنواع المجازاة والقصاص التي وردت في القرآن. فالشارع حرَّم بأيّ وجه كان حالة التشفي والانتقام، وجعل القصاص والمجازاة بغرض إصلاح الفرد والمجتمع، وإعادة تأهيل الفرد المقتصّ منه أو المجازى وتربيته.
دـ ومن النتائج التي نستخلصها ممّا سبق كلّه أن الأوامر الثلاثة التي وردت في الآية هي أوامر إرشادية، وليست مولوية، بمعنى أن مدلولها حكمٌ عقليٌّ أو حكمٌ شرعيٌّ وضعيٌّ، فيصبح دور تلك الأوامر الثلاثة دور المنبِّه والمرشد؛ لأن مدرك متعلَّق الأوامر فيها مدركٌ عقليٌّ. فالزوج يستطيع بإدراكه العقلي تحديد المرحلة التي تنفع في تربية وتأديب زوجته،والمرحلة المضرّة بها. كما يستطيع الذهاب إلى أمر آخر لم يَرِدْ ذكره في الآية. ولا يعني عدم إتيانه بتلك الأوامر الثلاثة، التي شأنها شأن جميع الأوامر الإرشادية، أنه ارتكب معصية، أو أنه يستحق العقاب، بل هو حلٌّ من كلّ ذلك، وإنما يفوِّت على نفسه مصلحة عقلية وعقلائية. فالعقل حين يدرك ملاكات الأحكام يصدر الأحكام، والتي تكون دائرةً مدار وجود الموضوع وملاك الحكم.
فملاك الحكم العقلي في هذه الآية هو إصلاح حال الزوجة الناشز، وإرجاعها عن حال النشوز. وعليه فحكم العقل يدور مدار هذا الملاك، يعني أن العقل يدعو الأزواج إلى إصلاح وتربية أزواجهم. وقد كشف لهم عن الطرق الثلاثة. وهذه الطرق، ونظراً لشروط التحقق وخصوصيات طرفي القضية، قد تعطي نتائج متفاوتة. إن الالتزام بأحكام العقل أو عدم الالتزام بها ناظرٌ إلى تلك الشروط والخصائص، التي تأخذ بعين الاعتبار النتيجة، وهي إصلاح الزوجة الناشز. ولذا قد تكون له كذلك نتائج متفاوتة. على سبيل المثال: إن الزوجة الناشز التي تعاني من مشاكل عضوية أو نفسية، وهذه المشاكل قد تسبِّب لها، أو قد سبَّبت لها، برودة في المزاج، الذي يكون بدوره علّة في امتناعها عن التمكين، لن يكون هجر الزوج لها في المضجع مدعاة لتعذيبها، بل ستكون سعيدة بهذا البعد. لذا يصبح عمل الزوج بالأمر الثاني، أي الهجر غير لازم، بل يصبح ممنوعاً من وجهة نظر العقل، وليس من العقل في شيء أن يقوم به الزوج رغبةً منه في الامتثال لما ورد في الآية، وخصوصاً أنه يعلم أن العمل بالأمر الثاني لن يأتي بالفائدة المطلوبة، بل سيكون داعياً إلى تشجيع الزوجة على التمادي في نشوزها واستعصامها.
وكذلك هي النظرة العقلية للضرب. فالغرض من الضرب ـ بحسب تصريح الآية ـ هو عودة المرأة إلى طاعة زوجها. فإذا كان نشوز الزوجة ناشئاً عن خصوصيات الزوجة العضوية أو النفسية أو الثقافة السائدة في المحيط الأسري أو الاجتماعي، أو لسبب من الأسباب، فإن الضرب لن يكون سبباً في إصلاح الزوجة، بل إنه سيكون سبباً في تطرُّفها في النشوز، وامتناعها أكثر عن تمكين زوجها منها، مما يجعل حكم الضرب ملغى. ولأن الضرب هنا سيجلب الضرر فإن حكمه الأوّلي، والذي هو الحرمة، سيكون هنا موجَّهاً بشكل صريح. وهذه هي نفس النظرة العقلية التي فهمها الفقهاء من الآية. فها هو المحقِّق الأردبيلي يقول: «فالأمر هنا للإباحة، لا الوجوب والاستحباب، بل يمكن أن يكون مرجوحاً؛ فإن العفو حسن، إلا أن يعلم الفساد في الترك، فيمكن الاستحباب، بل قد يجب، فيجري فيه الأحكام الخمسة»([62]).
بل ذهب الفاضل الهندي إلى أنه من الأفضل أن لا يستعمل الزوج الضرب لاسترجاع حقّه مطلقاً؛ لأن حق الضرب إنما شُرِّع في الحقيقة لحفظ مصلحة ومنفعة خاصة بالزوج، وهو خلاف الضرب المستعمل في تأديب الطفل، والذي تعود المنفعة فيه إلى الطفل، وليس إلى الوالي([63]). وهو نفسه الرأي الذي بات واضحاً أن صاحب الجواهر يميل إليه، دون غيره([64]).
نتيجة البحث
إن خطاب المشرِّع في الآية 34 من سورة النساء قد أجاز للزوج، دون غيره، ضمن شروط موضوعية، ضرب زوجته الناشز. وهذه الشروط تتلخص في النقاط التالية:
1ـ الزوجة الناشز هي التي تمنع زوجها حق التمكين والاستمتاع.
2ـ إنّ إصلاح حال الزوجة الناشز بواسطة زوجها لا يمكن أن يعطي ثماره فقط من خلال المراحل الأولى التي ذكرتها الآية، والمتمثلة في الوعظ، وهجر فراش الزوجية.
3ـ إنّ إصلاح الزوجة الناشز بواسطة غير الزوج، وباستعمال الطرق السهلة، التي يكون لها تأثير واضح، وتكون في نفس الوقت أقلّ ضرراً من الضرب، غير ممكن.
4ـ إن الأصل في ضرب الزوج زوجته الناشز هو إصلاح حالها، وإرجاعها إلى الحالة الطبيعية التي تحكم العلاقة الزوجية، وليس الانتقام والاستضعاف.
5ـ إن الضرب المسموح به هو بمقدار الحاجة، وبشكل لا يلحق الضرر المادي والمعنوي.
6ـ الضرب مراتب، فحيث كان الضرب الأول والأخف يفي بالغرض لا يجوز الانتقال إلى الضرب الشديد.
7ـ يجب أن يُراعى في الضرب الحالة النفسية والاجتماعية للزوجة، وحتى لا يكون سبباً في تعميق الهوة بين الزوجين، فيكون حينئذٍ أكثر ضرراً من النشوز.
8ـ إذا تسبَّب الزوج حين ضرب زوجه الناشز في نقص عضوي أو ضرر بدني فإن عليه التعويض.
من خلال ما سبق نخلص إلى أن الضرب، إذا روعيت فيه الشروط الموضوعية، التي أشار إليها الفقهاء والعلماء، سيكون سلوكاً عقلائياً وأخلاقياً. وبالتالي لن تكون هناك أية حجة في اعتباره خارج العصر والمرحلة.
الهوامش
(*) باحث في الفقه الإسلامي والدراسات القانونية المعاصرة، ورئيس قسم دراسة المصنَّفات الإمامية في مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي.
([1]) يمكن الحصول على هذه الأجوبة الثلاثة بالرجوع المباشر إلى المحطات المختصة في الشبكة العنكبوتية.
([2]) أبو هلال العسكري، الفروق اللغوية: 217 ـ 226.
([3]) السيد محمد صادق الروحاني، فقه الصادق 22: 248.
([4]) تفسير مقاتل بن سليمان 1: 265؛ نصر بن محمد السمرقندي، بحر العلوم 1: 300؛ رشيد الدين الميبدي، كشف الأسرار وعدة الأبرار 2: 493؛ أبو زكريا الفراء، معاني القرآن 1: 265؛ أحمد الأردبيلي، زبدة البيان: 536.
([5]) الشهيد الثاني، مسالك الأفهام 8: 256.
([7])الحلي، تحرير الأحكام 2: 42.
([8]) الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن 9: 379.
([9]) {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً} (النساء: 35).
([10]) النجفي، جواهر الكلام 31: 200.
([12]) جعفر بن محمد الحلي، المختصر النافع: 191.
([13]) علي بن إبراهيم، تفسير القمي: 138؛ المفيد، المقنعة: 518؛ ابن إدريس، السرائر 2: 728؛ الحلي، إرشاد الأذهان 2: 33؛ ابن زهرة، غنية النـزوع: 352؛ يحيى بن سعيد الحلي، الجامع للشرائع: 478؛ زبدة البيان: 536؛ الفاضل الهندي، كشف اللثام 7: 518؛ جواهر الكلام 31: 202؛ أبو القاسم الخوئي، منهاج الصالحين 2: 282؛ الروحاني، منهاج الصالحين 2: 311.
([14]) جعفر بن الحسن الحلي، شرائع الإسلام 2: 506؛ الحلي، قواعد الأحكام 3: 96.
([15]) تحرير الأحكام 2: 42؛ الشهيد الثاني، شرح اللمعة 5: 427؛ محمد أمين العاملي، نهاية المرام 1: 425؛ سلار الديلمي، المراسم العلوية: 161؛ الخميني، تحرير الوسيلة 2: 305.
([16]) المبسوط 4: 337؛ القاضي ابن البراج، المهذَّب 2: 263.
([17]) الطوسي، التبيان 2: 111؛ مجمع البيان 1: 485، 3: 173 و70؛ الطبرسي، جوامع الجامع 1: 291؛ الزمخشري، الكشّاف 1: 571.
([18]) ابن هشام، مغني اللبيب: 463.
([20]) مسالك الأفهام 8: 358؛ كشف اللثام 7: 517؛ رياض المسائل 10: 473؛ السبزواري، كفاية الأحكام: 189؛ جواهر الكلام 31: 200؛ أحمد الخوانساري، جامع المدارك 4: 436.
([21]) المبسوط 4: 337؛ الطوسي، الخلاف 4: 415.
([22]) لا يعتبر بعض الفقهاء الهجر من العقوبات. لذا فهم لا يضعون التقدير إلا قبل الضرب. لكن صاحب الجواهر رأى أن الهجر؛ بلحاظ كونه يضيع حقوق الزوجة، فإنه من هذه الناحية يُعَّدُ ضمن العقوبات (يرجع في هذه النقطة إلى جواهر الكلام 31: 202).
([23]) علي بن بابويه، فقه الرضا: 245؛ الصدوق، المقنع: 350؛ الصدوق، من لا يحضره الفقيه 3: 521؛ المهذَّب 2: 263؛ عبد الأعلى السبزواري، مواهب الرحمن في تفسير القرآن 8: 161.
([24]) المبسوط 4: 337؛ السرائر 2: 728؛ رياض المسائل 10: 473؛ المراسم العلوية: 161.
([25]) المقنعة: 518؛ غنية النـزوع: 352؛ تحرير الأحكام 2 :؟؟؛ الجامع للشرائع: 478؛ شرح اللمعة 5: 427؛ الفيض الكاشاني، مفاتيح الشرائع 2: 302؛ الفيض الكاشاني، الوافي 22: 879؛ رياض المسائل 10: 473؛ جامع المدارك 4: 436؛ تحرير الوسيلة 2: 305؛ هداية العباد 2: 367؛ السيستاني، منهاج الصالحين 3: 135.
([29]) التبيان 3: 189، نقلاً عن سعيد بن جبير. وقد نقل نفس المعنى المحقق الأردبيلي (يرجع إلى زبدة البيان: 536).
([32]) السيوطي، الدر المنثور 2: 155.
([33]) المقنع: 350؛ من لا يحضره الفقيه 3: 521؛ ابن حمزة، الوسيلة: 333.
([34]) تفسير القمي: 137؛ المبسوط 4: 337؛ شرائع الإسلام 2: 560؛ شرح اللمعة 5: 427؛ مسالك الأفهام 8: 356؛ زبدة البيان: 536؛ نهاية المرام 1: 425؛ المختصر النافع: 191؛ قواعد الأحكام 3: 96.
([35]) ابن شعبة الحراني، تحف العقول: 33.
([40]) تحرير الأحكام 2: 42؛ كشف اللثام 7: 517.
([41]) تحرير الوسيلة 2: 305؛ الگلبايكاني، هداية العباد 2: 367؛ السيستاني، منهاج الصالحين 3: 107.
([42]) البحراني، الحدائق الناضرة 24: 617.
([44]) نهاية المرام 1: 425؛ الحدائق الناضرة 24: 615.
([47]) قواعد الأحكام 3: 96؛ تحرير الأحكام 2: 42؛ فخر المحققين، إيضاح الفوائد 3: 256؛ شرح اللمعة 5: 427؛ مسالك الأفهام 8: 361؛ كشف اللثام 7: 517؛ نهاية المرام 1: 425؛ تحرير الوسيلة 2: 305؛ الگلبايكاني، هداية العباد 2: 367؛ كلمة التقوى 7: 135؛ السيستاني، منهاج الصالحين 3: 107.
([48]) كشف اللثام 7: 517؛ جواهر الكلام 31: 207.
([50]) مسالك الأفهام 8: 360؛ جواهر الكلام 31: 205؛ السيستاني، منهاج الصالحين 3: 103؛ الخوئي، منهاج الصالحين 2: 289.
([51]) تحرير الوسيلة 2: 306؛ الخوئي، منهاج الصالحين 2: 289؛ السيستاني، منهاج الصالحين 3: 107.
([53]) شرائع الإسلام 2: 560؛ المختصر النافع: 191.
([54]) تحرير الأحكام 2: 42. ويوجد مثل هذا التعبير في: قواعد الأحكام 3: 96.
([56]) شرح اللمعة 5: 428؛ الحدائق الناضرة 24: 619؛ رياض المسائل 10: 373؛ جواهر الكلام 31: 206؛ تحرير الوسيلة 2: 305؛ الگلبايكاني، هداية العباد: 367. السيستاني، منهاج الصالحين 3: 107.
([57]) المقنعة: 518؛ المبسوط 4: 338؛ المهذَّب 2: 263؛ مسالك الأفهام 8: 356؛ نهاية المرام 1: 427؛ كفاية الأحكام: 189؛ كلمة التقوى 7: 135.
([58]) الكركي، جامع المقاصد 12: 52؛ الروضة البهية 5: 231؛ مسالك الأفهام 7: 417؛ زبدة البيان: 80؛ جواهر الكلام 21: 378؛ تحرير الوسيلة 2: 204 ـ 346.
([59]) مفاتيح الشرائع 2: 30؛ كفاية الأحكام: 189؛ رياض المسائل 10: 473؛ جواهر الكلام 31: 202؛ كلمة التقوى 7: 135.
([61]) المصدر نفسه 8: 361؛ مفاتيح الشرائع 2: 302؛ كفاية الأحكام: 190؛ جواهر الكلام 31: 207؛ جامع المدارك 4: 436؛ تحرير الوسيلة 2: 305؛ الگلبايكاني، هداية العباد 2: 367؛ كلمة التقوى 7: 135؛ السيستاني، منهاج الصالحين 3: 107.