مقاصد الشريعة وأسبابها، حكمتها، تعليلاتها وفلسفتها:
إن المباحث المتعلقة بـ "ملاك" الحكم الشرعي و"مناطه" و"حكمته" و"مقصده" و"هدفه"، كانت دائما تحظى بالأهمية المعرفية، على الرغم من وفرة الآفات والطفرات فيها وخروجها عن حد الاعتدال، بسبب ظهور الكثير من الخلل في تاريخ العلم الديني، وبتأثير الظروف السياسية المختلطة بالمباحث المعرفية.
ليس المقصود هنا إيراد طرح مفصل لهذا المبحث، ولا ضرورة أيضاً لذلك، لكن من المناسب القول، أن لهذا المبحث أهمية حياتية، فهو ذخر "تبصر" الفقيه في إنتاج المعارف الدينية، ومعرفته الواسعة به وإطلاعه عليه، يمنعانه من مد يده والبحث في الظلمة، ويمكنانه من الإطلاع على أسرار الأحكام الإلهية ورموزها، فيفسر الحكم الشرعي على أساس "البيّنة"، مع هذا فقد أصاب هذا المبحث الأفول، بتأثير بعض الحوادث والاضطرابات، ودخل الساحة عملياً، "الفقه الأشعري النمط".
إن هذا البحث الذي هو نوع من بحوث الفلسفالأصعدة، مهم جداً وحياتي في هداية العلم الديني لعبور الزمان ليصبح موضوعياً وجديراً بالعالمية، فالدين الذي لا نعرف لما أتى، والشريعة التي نجهل أسباب وضعها، والحكم الذي لا نعرف السر من وراء قوننته وتشريعه، كيف يمكننا أن نعبر بها وسط هذا التلاطم والتحول المتلاحق لحظة إثر لحظة في حياة الإنسان ووجوده وفي المجتمع والطبيعة؟ حتماً هذا الموضوع جدير بالدرس على جميع الأصعدة، على صعيد الوجود والدين والشريعة والأحكام، ولو أن موضوع الكلام يدور حول "المعرفة الدينية"، لكان من الواجب الكلام على مقاصد الدين والشريعة والأحكام، والقضايا والأسئلة المتعلقة بها.
لا مجال في هذه المقالة لجلاء الجذور التاريخية لهذا المبحث، وسنعرّف في مكان آخر من هذه المقالة ببعض المصادر للمطالعة والتعمق المعرفي، لكن لا يجب أن يغيب عن بالنا، أن مراجعة التاريخ دون تعصّب أو تحيز أو تقليد علمي – آلي كانت أضخم آفات توليد العلم والمعرفة الدينيين – ستتيح لنا الإطلاع على بدهيّة الوجود القوي للمقاصد ولملاكات الأحكام ، وبخاصة في أصول الفقه والشريعة – أعم من أصول العبادات وغيرها.
وبحسب قول "الجابري": "إن مقاصد الشريعة تعبر عبوراً حكيماً مبنياً على مرجعية القرآن من الإشكاليات الأشعرية والاعتزالية في بحث علل الشريعة ومفاسد القياس" ، ينصبّ الجهد الأساسي في هذه المقالة على الضرورات والفلسفة الكلية لبحث "المقاصد" والمنوطات الكلية للدين وللشريعة وللأحكام من ناحية ومرجعية القرآن في معرفة علل وأسباب التشريع هذه من ناحية أخرى، وسيدور الهدف الأصلي باستمرار حول هذا المحور، أي أنه بدون القرآن الكريم سيضيع الثقل الأصلي للمعارف المقاصدية والمنوطات، وستتعرى المعارف الدينية، وتفقد لياقتها وحركيتها، ضمناً ليس هناك من إصرار على تسمية هذا المحور "بالمقاصد" التي استخدمها العلماء المتأخرون، ويمكن لعبارات مثل "علل الشرائع" و"غايات الشرائع" و"أسرار الشريعة" و"باطن الشريعة" و"أسباب الشريعة" ، وعشرات الألفاظ الأخرى، أن تفي بالغرض وتعبّر عن المراد الأصلي لهذه المقالة، أي الفلسفات الأصلية والجوهرية لتشريع الدين ولأحكامه الكلية والجزئية.
"مقاصد الشريعة" و"روح الشريعة" و"أهداف الدين والشريعة وغاياتهما" و"فلسفة الأحكام" وتعليل الشريعة هي بعض عناوين وجهة النظر الكلية والرأي الشمولي في تحليل الدين والشريعة والمبنية على الاعتقاد بأن الدين وتشريعاته المختلفة، قد ارتكز بنيانها على أساس تحقق الأهداف الأساسية والمقاصد والأسباب الواضحة التي يفهمها الجميع ، نقطة الثقل في هذا التيار لا تكون في الحقول العبادية المحضة، البعيدة عن إدراك البشر الكامل، وإنما عمدة توجه أصحابه إلى الحقول الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والواقعية، وبحسب قول البعض "المعاملاتية"، هذه الحوزة تتضمن جزءاً من المباحث الدينية التي تدخل تقليدياً ضمن العبادات، لكن دورها الاجتماعي والواقعي بارزٌ ومهم ومرتبط أيضاً بنسيج المجتمع وبنيته الإدارية كالخمس والزكاة والحج وغيرها.
حتماً، وعلى وجه الإجمال، إن المقاصد والأهداف الأساسية لتشريع مثل "الصلاة" التي هي أكثر قضايا العبادات تعبدية معروفة، لكن المباحث المقاصدية تتمركز حول أبعادها الاجتماعية والواقعية، وللفهم المقاصدي للدين آثار تمتد لتغطي قضايا معرفية مرتبطة بالواقع الاجتماعي، وتحتاج إلى لوازم ومقتضيات واسعة أيضاً لتتحقق ويُعمل بها عملياً ضمن منهجية المعالجة للحكم الدين أو الشرعي، ليبتعد الاجتهاد المبني عليها عن الآفات التي كان عرضة لها تاريخياً ويتخلص منها.
إن وجهة النظر المقاصدية المحور في حركة العلم الديني – بصرف النظر عن باثولوجية هذا التيار – هي التي تفسح في المجال للتفاعل والترابط والتبادل بين فروع العلم الديني.
وفي وجهة النظر هذه، وإن كان بالإمكان تقسيم النتائج والمحصلات العلمية الدينية المنتجة إلى عقائدية وأخلاقية وفقهية وتاريخية وغير ذلك، لكن في مرحلة صياغة منهجية العقائدية …. لا يمكن إنتاج فروع علمية متخصصة، في فضاءات مغلقة ومنقطعة عن بعضها، بدون الأخذ في الاعتبار القوانين الكليّة والمقاصد الأصلية للإسلام، وقبل التأكد من هيمنة هذه القوانين وسيادتها، وإن صوّرها أحد، فسيحظى بتصوير غير دقيق لكل حوزة من الحوزات.
إن أدينة المجتمع البشري (الذي يتحرك الإنسان في كنفه) كعنوان واحد موحد، لا يترك مجالاً لانفصال أصول الفقه عن أصول العقيدة والكلام وأصول الأخلاق.
في هذا السياق يؤكد، الوحي الذي هو المصدر الأساسي للمعرفة الدينية على تطابق المعرفة الدينية الكامل مع جوهر الوجود والطبيعة والإنسان، ويقود مسيرتها هذه، رأي اختلاف أو تباين بينها، لابد ناجم عن عقم الوسائل سواء في آليات فهم المعارف الوحيانية وتأويلاتها، أو في مستلزمات معرفة الوجود والطبيعة والإنسان".
أولى مستلزمات موضعة مضمون الدين والشريعة، وجود درجة معينة أو مستوى معين من النظرية المقاصدية المحور، والمبنية على إدراك وفهم الروح الكلية والأهداف الاستراتيجية لتشريع الدين وأصول الشريعة.
إن تغلغل الإسرائيليات، والأحاديث الموضوعة المناقضة لروح الدين والشريعة، وصدور الفتاوى والأحكام المتعارضة مع أصول الدين والعقيدة والقرآن، واختلال الكثير من أبواب علم الشريعة، هي بعض الآثار السيئة الناجمة عن تضخم العلوم المنسوبة إلى الدين، غير المبنية على ارتباط هذه الأجزاء بالقوانين الكلية والهندسية للشريعة.
يمكننا أن ندرك، بقليل من الدقة، أن هذه الإشكالية الكبيرة ينتج عنها تهديد كبير للمعرفة الدينية، أي أنها تمهّد لها وتعبّد أرضية غير مبررة وغير عقلانية، وغير قابلة للتفسير، وهندسة معرفية آحادية النظام والآلية المعرفية، هذه المنطقة المسكوت عنها (المغلقة) في المعرفة الدينية، التي يجب أن تكون محصورة في المباحث الكثيرة الأسرار والرموز، كأسباب تشريع بعض التفاصيل الشكلية، وبعض العبادات الرمزية، إذا انفتحت على كامل جسد المعرفة الدينية، يصبح جعلها ملائمة للقوننة، وجعلها فطرية وطبيعية واجتماعية إضافة إلى لياقتها الموضوعية في ساحة الوجود الواقعي، عملاً شاقاً يفوق الطاقة، أو مستحيلاً.
وهكذا – لابد – أو يجب في أن تسلك المعرفة الدينية والنظام المعرفي المبني على الدين، طريق التصوف السلبي، الانزوائي، غير الموضوعي المتمحور الفرد، أو طريق العلمانية، وجهان لعملة واحدة، فالتصوف المحض المنفصل عن الحياة الاجتماعية نوع من العلمانية الصامتة الموصوفة بالتدّين، والعلمانية النظرية هي أيضاً الوجه الناطق والنظري لقصور الأفكار الدينية في إدارة الواقع.
إن طريق الخروج من هذا المأزق هو في تأهيل المعرفة الدينية ككل في عمارة موحدة مفاهيمها ومتمحورة حول القرآن ومقاصده، لقد صرفت الدوائر الفقهية الإسلامية الكثير من الوقت والاهتمام على باب سُمّي "فقه الحيل والمخارج" في حين أن حاكمية روح الدين ومقاصد الشريعة، لا تتيح فرصة كبيرة لمثل هذه النشاطات، أو الاشتغال بأبحاث غير مترابطة وبعيدة من الواقع الفقهي، لو أن روح الدين والشريعة ظلت مسيطرة على مسيرة الفقه والأصول والعقيدة والأخلاق والمباحث الدينية الأخرى، لما ظهر أي تناقض ولا تعددية بين برامج هذه الأبواب، وبين مقاصد الدين والشريعة في القرآن الكريم، فإذا أُخذت مقاصد الشريعة والدين في الاعتبار، وكانت حاضرة في أثناء استنباط الحكم أو الفتوى الشرعية، أو تفسير قضايا الدين الأخرى، لنتج اتجاه موحد ومنسجم بين فروع العلوم الدينية، إن للفقهاء الحق، أن يتشددوا ويحتاطوا في عملهم، وأن يعملوا ما يشاءون وكما يرغبون، لكن في وضع نظام معرفي قرآني للمجتمعات الإنسانية، لا يجب تحت أي عنوان، حرمان العباد من مائدة الرحمة واللطف الإلهيين، بذرائع ذاتية مفتعلة، تربو وتزيد عما أراده الله عز وجل في قرآنه وسنته من شدة على العباد.
المشكلة مردها أن ميزان المعارف الدينية الذي يجب أن يتحكم في الـ"يجب" والـ"لا يجب" التي يقولها علماء الدين ومشترعوه، لا ارتباط بينه وبين محكمات الدين ومقاصده وأسباب تشريع الأحكام الدينية.
إن مراجعة القرآن الكريم وروح الشريعة الكامنة فيه، والدراسة التحقيقية للسنة القطعية الصدور عن المعصوم رحبة إلى حد لا تتيح للعالم بمناقشات فلسفية دقيقة وأحياناً تعسفية، أن يصرّ على تنصيب خبر ضعيف من الآحاد تحت عنوان الاحتياط وأمثاله! "إن المرجعية المعمارية" للقرآن الكريم تضع معطيات وتيارات العلم الدين كلها في مسار سالك وطريق معبّد دون عناء كبير، وتحول وجه المباحث الأصولية كلياً، إن أصول الفقه أو أي علم أو معرفة أخرى تتولى توضيح مبادئ فهم الدين (ومصطلح الفقه جزء منها أو النصوص الدينية لا يصيبها الضمور في ظل القرآن الرحب لكن مباحثها تتحول إلى عناوين أساسية أكثر أهمية وأكثر أصولية.
في هذا الصدد ظهرت تيارات شديدة الإحكام، وقد ارتكزت هذه الحركات الإسلامية المعاصرة، نوعاً ما على أساس الفهم الاجتماعي والموضوعي والمقاصدي للدين وللشريعة، فالروح المسيطرة على المباحث الدينية للشهيد مطهري والمرحوم آية الله نائيني ، وحضرة الإمام (في مباحثه حول الزمان والمكان ودوره الاجتهادي والأهم تجديده العملي في مباحث وأولويات القضايا الشرعية والفقهية والدينية عموماً في الثورة)، والمرحوم الشهيد الصدر وتيار التجديد الفكري في مصر في عصر السيد جمال الدين ومحمد عبده ورشيد رضا والكواكبي، وكذلك الروح المسيطرة على الحركات الفكرية في المغرب العربي، لابن عاشور، وبشير الإبراهيمي، وعلاّل الفاسي، وإلى حد ما مالك بن نبي ، وحتى بعض المعاصرين من هذه المنطقة كأنه عبد الرحمان، الجابري وأمثالهم، مؤسسة كلها على نظريات المقاصد، ولقد كان كذلك لفكر بعض العلماء والمجتهدين الكبار من أمثال المرحوم شمس الدين والعلامة فضل الله ومحمد الغزالي ويوسف القرضاوي، وعدد من الأساتذة الكبار الآخرين الذين أشير إليهم، في الحواشي الأولى للمقالة، مساهمة مهمة جداً في تفسير وتوضيح وتحكيم المبادئ المرتبطة بالبحث.
في نهاية هذا الفصل يجب التذكير بأن القبول بسلطة قوانين القرآن ومعاييره الكلية، على تيارات العلم الديني كلها، ينتهي أيضاً بتوضيح العلاقات بين العلوم، وهذا أمر شديد الأهمية، لا تسنح الفرصة لتوضيحه، من هذه الناحية، من النقاط الجديرة بالذكر في ما يتعلق بدور القرآن الكريم ومنهاج توليد العلم الديني: سيطرة الجانب العقائدي والإيماني على الجانب العبادي (بحسب مصطلح الفقهاء والفروع الفقهية في الآيات القرآنية.
في المنهاج السائد في العلوم الشرعية، ليس هنالك من ارتباط منهجي ودائم، بين استنباط الأحكام الشرعية وبين القواعد العقيدية، في الأصل، مباني الحكم الشرعي ليست محكمة على الأساس المتين للأصول العقدية الثابتة، فمن بين توقعات الأصوليين الكثيرة من علم الأصول، لا نعثر مطلقاً على مهمة ملاءمة "التفريع" مع الأصول العقائدية الكلية والقطعية، أو بحسب تعبير المرحوم، الشهيد الصدر، "السنن" التي تربط الإنسان بالغيب والإنسان بالإنسان والإنسان بالطبيعة، وبديهي أن حدود علم أصول الفقه، هي مجمل ما يعنيه مصطلح الفقه، والاعتذار بأن علم أصول الفقه محدود بالعبادات الفقهية عذر مردود، لأن علم أصول الفقه، هو المؤهل للفرائض العامة للإنسان.
إن الانسجام الشامل بين العقل والنقل – إن لم نقل وحدتهما الكاملة – ملائم لاشتراكهما معاً في دائرة متحركة – بعبارة أخرى – عن العقل الإنساني في حركة دائمة لا تهدأ، والإنسان بمرور الزمان وتراكم التجارب، ووجود انفتاح عقلي لامتناه كامن فيه بالقوة يستطيع – وهذا حاصل – إن يكون في حراك عقلي، إن العلوم الدينية تفقد معقوليتها ، إن كانت مساحة محدودة من النقل الشرعي – وبخاصة النص القرآني – لا تتميز بسعة الحركة، المرونة والتحرك، وقدرة التكيّف في الظروف التاريخية المتنوعة، جنباً إلى جنب العقل ، في هذه الناحية أيضاً فإن إحدى الآفات الجدية لفقدان سلطة هذا الحيز اللازماني واللامكاني للقرآن الكريم، على حركة توليد المعارف الدينية هي فقدان معقولية هذه العلوم، ومرافقتها للعقل البشري المتجدد وفي حالة التكامل والذي أدى إلى فك الارتباط بين النقلي والعقلي وأيضاً لضمان هذا الترابط بين العقلي والنقلي من الضروري أن تتقدم حركة توليد الفكر الديني الاجتهادية والمتغيرة بصورة دائمة بموازاة الخط الثابت والمقاييس المسيطرة والقواعد الكلية غير المقيدة بزمان ومكان خاصيّن، كي لا يفقد العلم الديني المبني على المتغيرات والنصوص التاريخية، أو المتعلقة بزمان معين وظروف تاريخية خاصة، وغير المبني على
"الثوابت الحية" والشاملة وعلى مرجعية الدين (التي هي عقلية بالضرورة) معقوليته.
نقلاً عن موقع يحيى ميرزائي الإلكتروني