د. مسعود رضائي(*)
سروش والفهم الخاطئ للمقولات النقدية ــــــ
أثارت كلمات الدكتور سروش حول محتوى الوحي في حواره مع الصحفي الهولندي (مايكل هوبنغ) ردود فعل انتقادية شديدة، ونحن هنا نستعرض بعض فقرات ذلك الحوار، حيث قال الدكتور سروش: «الوحي إلهام»..، و«هو نفس التجربة التي يمارسها الشعراء والعرفاء، إلا أن النبي يخوضها في مستوى أعلى»..، «تذهب الرؤية التقليدية إلى اعتبار النبي مجرد وسيلة وأداة، حيث ينزل إليه النداء بواسطة جبريل، فينقله بدوره إلى الناس، إلا أنني أرى للنبي دوراً محورياً في إبداع القرآن»، «فالنبي يحصل له نفس الإحساس الذي يحصل للشاعر، من سيطرة قوة خارجية على مشاعره، ولكنه في الوقت نفسه يقوم بكل ما يتوفر لديه من الأدوات بتأليف القرآن، فهو الخالق، وهو المنتج»، «إن هذا الإلهام ينبثق من نفس النبي، ونفس كل شخص إلهية، وإن ما يحصل عليه من الله ليس سوى مضمون الوحي، ولكنه لا يتمكن من نقل ذلك المضمون إلى الناس؛ لكونه فوق مستوى فهمهم، بل هو وراء الألفاظ والكلمات، ولذلك تتجلى مهمة النبي في إعطاء صورة لهذا الوحي؛ ليجعله في متناول فهم الناس، وذلك بأن يقوم ــ كما يفعل الشاعر ـ بصياغة هذا الوحي والإلهام باللغة التي يعرفها، وبالأسلوب الخاص له، وبالصور والعلوم التي حصل عليها من بيئته»، «لو قرأتم القرآن ستدركون اختلافاً في حالات النبي، حيث نجده جذلاً وطروباً أحياناً، وفي غاية الانطلاق والفصاحة، في حين يكون في أحيان أخرى ضجراً بشدة؛ فيأتي بكلام اعتيادي، حيث انعكس مزاج النبي على نص القرآن وترك تأثيره عليه، الأمر الذي يعكس الجهة البشرية الكاملة في الوحي».
يكفي ما تقدم ليفهم كل ذي شعور أن الدكتور سروش يذهب إلى عدم اعتبار النص القرآني كلاماً لله تعالى، وإنما هو كلام محمد ‘. وبما أن هذه النظرية خارجة عن العقيدة الإسلامية بالكامل، ولا تمت إليها بصلة، فقد أثارت ردوداً في أوساط المفكرين، ومن ثم عمد الدكتور سروش ضمن حواره مع صحيفة (كارگزاران)، بتاريخ 20/11/1386ش، وكذلك في جوابه الذي أرسله إلى الشيخ السبحاني، إلى توضيح وبيان نظريته.
ولكننا قبل مناقشة نظريته نرى من المناسب ملاحظة ردود فعله تجاه الانتقادات التي تعرض لها، وكما تقدم فإن الدكتور سروش، في حواره مع الصحفي الهولندي بشأن القرآن، صريح في كون القرآن كلام النبي نفسه، وليس كلام الله. وهذا ما فهمه حتى الصحفي الهولندي؛ إذ أشار لعنوان المقابلة بـ«كلام محمد: حوار مع الدكتور سروش بشأن القرآن»، ومع ذلك حين سأله مراسل صحيفة «كارگزاران» قائلاً: ورد مؤخراً في بعض الصحف ومواقع الإنترنت إنكاركم لكون القرآن نازلاً من عند الله، فهل هذه النسبة صحيحة؟ قال: «ربما أرادوا المزاح، أو ربما ــ والعياذ بالله ــ كانت لهم دوافع سياسية أو شخصية». وطبعاً فإن هذه الإجابة تبعث للوهلة الأولى على الارتياح؛ لما فيها من إزاحة للإبهامات والشبهات، ثم يبدأ الإجابة بشكل يؤدي إلى تشكيك السامع بيقينه، ويقتنع ــ بسبب حسن ظنه ــ بأنه أخطأ في فهم ما نُسب إليه، أو كان هناك قصور في نقل الصحفي الهولندي للموضوع، إلا أن هذا الارتياح سرعان ما يتبدد بعد قراءة عدة أسطر أخرى من إجابته، حيث يدرك أن جوهر الإجابة يؤدي إلى نفس ما اعتذر منه. والملفت للانتباه أنه يلجأ إلى ذات الأسلوب في المرحلة الثالثة من الحوار، أي عندما بادر إلى الإجابة عن رسالة الشيخ السبحاني، حيث قال في مستهل جوابه: «قلتم: يمكنني اعتبار سكوته تجاه هذا التقرير ذنباً لا يغتفر، فهل أيقنتم بأنني آثرت السكوت ولم أتكلم في هذا المورد؟ ألم تقرأوا الحوار الذي أجريته مع جريدة (كارگزاران) حول هذا الموضوع؟ أم أن الذنب يعود إلى أولئك الوشاة الذين يعملون على تقطيع الحقائق، فينقلون منها ما يروقهم، ويُعرضون عمّا لا يروقهم؟ وهنا سأنقل ذلك الحوار بعينه، ثم سأتعرض بالتفصيل إلى شطر مما ذكر إجمالاً، وستجدون منه إجابات صريحة وكافية عن الكثير مما ذكرتموه وذكره آخرون غيركم من الانتقادات، وإني لعلى ثقة من أنكم لو سبق أن اطلعتم عليه لكفيتم مشقة الرد، وشملتنا رأفتكم، وكان لنقدكم منحىً آخر».
ولكنه بعد ذلك لا يذكر إلا أموراً تؤكد ما قاله في حواره مع الصحفي الهولندي، وبشكل أكثر تفصيلاً ووضوحاً.
ولا ريب في أن الدكتور سروش يدرك أكثر من غيره أن ما يفهمه القارئ من الحوار الذي أجراه معه الصحفي الهولندي هو تماماً ما رمى إليه من وراء هذا الحوار، فالسؤال هو: لماذا يستهل اعتذاره بما يوحي أن القارئ قد أخطأ الفهم؟ والجواب: إن أسلوب الدكتور سروش يقوم قبل كل شيء على اتهام المخاطب ـ تلويحاً وتلميحاً ـ بعدم فهم آرائه ونظرياته.
ولإيضاح هذه الحقيقة لا بأس بإلقاء نظرة إلى ما حدث قبل مدة، إثر محاضرته في جامعة السوربون حول (العلاقة بين الإسلام والديمقراطية)، وبعد ذلك تم نشر نص هذه المحاضرة مكتوباً على أنه من إعداد بعض الجامعيين، ثم بادر السيد الدكتور محمد سعيد بهمن پور بالإجابة عن المواضيع الواردة في هذه المحاضرة طبقاً لذلك النصّ المنشور، وبعد ذلك افتتح الدكتور سروش نقده للدكتور بهمن پور قائلاً: «ألم يكن من الأجدر بكم قبل النقد أن تسمعوا محاضرتي التي ألقيتها في جامعة السوربون بباريس، والتي استغرقت تسعين دقيقة، وعدم الاكتفاء بتلك الخلاصة الناقصة التي أعدها الجامعيون، ليغدو نقدكم أكثر نفعاً وقوة، وأقل احتمالاً للخطأ؟»، ثم أخذ بتوضيح آرائه.
ومن الواضح أن أفضل الطرق التي يمكن للدكتور بهمن پور الوصول من خلالها إلى النص الكامل لمحاضرة الدكتور سروش هو موقعه الخاص على شبكة الإنترنت، وهذا ما قام به الدكتور بهمن پور، ولكنه لم يجد هناك سوى النص الذي أعدّه الجامعيون، مما يثبت أن الدكتور سروش معترف بصحة الأفكار الواردة فيه، ويقرّ بنسبتها إليه، وإلا فهل يعني إدراجها على موقعه الشخصي غير ذلك؟!
ولكن الأهم من ذلك أنه حينما أخذ بتوضيح مراده، وبيان ما أشكل فهمه على الدكتور بهمن پور، لم يذكر إلا تلك المطالب التي وردت في تلك الخلاصة الناقصة التي أعدّها الجامعيون، مما يثبت أن النص الذي أعده الجامعيون لم يكن ناقصاً، بل كان أميناً ودقيقاً.
والذي يستعرض جميع أجوبته في مواجهة منتقديه طوال العقدين المنصرمين يُدرك أنه في غالبية هذه الأجوبة يستهل كلامه بما يوحي أن الناقدين لم يتوصلوا إلى كنه مراده؛ إما بسبب عدم قراءة النصّ بدقة؛ أو بسبب ضحالة معلوماته؛ أو لأسباب أُخرى، ثم يدخل الدكتور سروش في توضيح آرائه، ولكنه لا يأتي بشيء جديد غير ما أدركه ناقدوه وكتبوا انتقاداتهم على أساسه، ثم يأمل هذه المرّة أن يكون الناقدون قد نجحوا في فهم كلامه!
ولذلك نلفت انتباه الذين يتابعون أفكار الدكتور سروش إلى هذه الإستراتيجية التي ينتهجها، فإنها؛ لكثرة ما يستعملها، قد تأصَّلت فيه، وتحولت إلى طبيعة وسجيّة.
نظرية سروش وكلام مشركي قريش!! ــــــ
بعد هذه المقدمة، وبغض النظر عن التهم التي يكيلها الدكتور سروش ضد منتقديه، فإن لبّ وعصارة كلامه في هذا البحث هو أن الكتاب الموجود بين أيدينا ونعرفه باسم القرآن ما هو إلا مجموعة من الألفاظ والعبارات التي صدرت عن النبي ‘، وليست نازلة من عند الله بتوسط جبريل الأمين على قلب النبي. وبعبارة أكثر صراحة: «إن القرآن ليس كلام الله، وإنما هو كلام محمد»، وإن القرآن ليس كتاباً سماوياً، وإنما هو كتاب أرضي.
وليس هذا الكلام جديداً، بل هو قديم قدم الرسالة نفسها، فمنذ أن نزل الوحي على رسول الله، وبدأ بتلاوة القرآن، وإبلاغه للناس، واجهه الكفار والمعادون بإنكار كلام الله، ونسبته إلى شخص النبي محمد ‘، معتبرين أنها أشعارٌ صادرة عن مجنون؛ ليحرفهم ويصرفهم عما كان يعبد آباؤهم وأجدادهم الأقدمون. ولم يقتصر الأمر على كفار قريش، فمنذ أربعة عشر قرناً وإلى اليوم تنقسم المجتمعات البشرية إلى مؤمن ومنكر لكون القرآن كتاباً سماوياً، وإلا لآمن جميع الناس بنبوّة محمد. وبعبارة أخرى: إن الذي يميز المسلمين ـ منذ عصر الصحابة إلى يومنا هذا ـ عن غير المسلمين هو أن المسلمين يعتبرون القرآن كلام الله الذي جرى على لسان محمد ‘، في حين يذهب غيرهم إلى اعتبار القرآن كتاباً صادراً عن نفس محمد. وفي الحقيقة لا يمكن العثور على من ينكر أصل وجود كتاب باسم القرآن، كما لا يشك أحد في أنه جرى على لسان النبي محمد ‘، إنما الاختلاف بين المنكر والمؤمن، وبين أبي لهب وعلي ×، يكمن في أن أبا لهب كان يذهب إلى أن ما جاء به محمد من الآيات، ونسبها إلى الله، ليست سوى كلماته، في حين آمن علي× بأن جميع ما جاء به النبي من القرآن إنما نزل عليه من عند الله تبارك وتعالى.
ولو أننا تجاوزنا أبا لهب وأمثاله ممن كان ينطلق في آرائه من خلفية عدائية حاقدة لوجدنا على طول التاريخ من كان يرى في النبي محمد شخصاً زاهداً عابداً تقياً وواجداً للكثير من الملكات والسجايا الأخلاقية، ولكن هل يكفي هذا الاعتقاد في اعتبار الشخص مسلماً؟ كلا، فلا هؤلاء المعتقدون بنزاهة محمد على المستوى الأخلاقي يدَّعون ذلك لأنفسهم، ولا المسلمون يعتبرونهم من المسلمين، وما ذلك إلا لأنهم لا يعترفون للقرآن بكونه كلام لله.
وبذلك يتضح أن الحد الفاصل بين الإسلام وعدمه هو الاعتقاد بكون القرآن كلام الله أو كلام محمد؛ ولذلك فإن الكلام الذي يقوله الدكتور سروش يعد من المسائل الأساسية والمحورية في الدين الإسلامي، بحيث لو أننا؛ لأي سبب أو مبرِّر، اعتبرنا القرآن كلام محمد فإننا نقوِّض المائز بين الإسلام وعدمه، وبعبارة أخرى: إنّ ذلك سيؤدي إلى انهيار البناء الإسلامي، وتحوله من دين إلى مذهب أخلاقي بشري، كما هو حال الكثير من المسالك الأخرى.
فهل يعي الدكتور سروش تبعات أقواله وآرائه والحكم الذي أصدره بحق الوحي والقرآن؟
من خلال تتبع الماضي الفكري للدكتور سروش نقطع بأنه مدرك تماماً لتبعات أقواله، وهذا ما سنتكلم عنه لاحقاً، أما هنا فعلينا قبل كل شيء مناقشة محتوى آرائه حول الوحي والقرآن.
كي يثبت الدكتور سروش أن الوحي منبثق من وجود النبي محمد، وأنه ليس سوى كلامه، يدخل من خلال بوابتين: الأولى: العرفان؛ والثانية: التوحيد بالمعنى الأعم، وخاصة التوحيد الأفعالي.
أما حصيلة كلامه في البعد العرفاني فهي أن شخصية النبي محمد ‘ قد بلغت من المراحل والمراتب والكمالات العرفانية درجة استحق معها الفناء والاتحاد في ذات الله تبارك وتعالى([1])، ولكي لا يُساء فهمه قال: «وأرجو عدم إساءة فهم كلامي هذا، فإن هذا الاتحاد المعنوي مع الله لا يعني صيرورة النبي إلهاً، فهذا الاتحاد اتحاد محدود بحدود النبي ومحتواه البشري، وليس بما لله من سعة مطلقة في الأبعاد»، وبذلك يستنتج «أن أولياء الله من القرب إلى الله والفناء فيه في درجة يغدو معها كلامهم عين كلام الله، وأمرهم ونهيهم وحبهم وبغضهم عين أمر الله ونهيه وحبّه وبغضه»([2])، وقال أيضاً: «ومع ذلك فإن هذا البشر قد اصطبغ بصبغة الله، وتحلى بأوصافه، حتى ارتفعت الوسائط ـ حتى جبريل ـ بينه وبين الله، وأضحى كل ما يقوله كلاماً له، وفي الوقت نفسه فهو وحي، وهو كلام الله، وبذلك يرفض الدكتور سروش الرواية التقليدية التي ترى «النبي مجرد وسيلة، تنقل النداء الذي يصلها من خلال جبريل»، ثم يقول: «أما أنا فأرى للنبي دوراً محورياً في إبداع القرآن»، وفي ما يتعلق بالوحي «فإن شخص النبي هو كل شيء، فهو المبدع، وهو المنتج»([3]).
وفي ما يتعلق بماهية الوحي من طريق التوحيد الأفعالي فإن لب كلامه أنه لا يرتاب أي موحّد في «أن كل ما يحدث في العالم إنما يقع بعلم الله وإذنه وإرادته»([4])، وكما أن التفاح لا يثمر إلا على شجرة التفاح، ويكون ذلك بإذن الله وإرادته، يمكن القول أيضاً: إن الوحي ينبثق من نفس النبي محمد ‘، ولا يكون ذلك إلا بإذن الله وإرادته.
ولدى مناقشة هذه النظريات نذعن بها للوهلة الأولى، ثم نواصل البحث لنرى هل سيثبت عليها في النهاية أو لا؟! لا يخفى أنه ليس هناك من يجاري الدكتور سروش في فن الإبهام وإلقاء الكلام الذي يحتمل عدة أوجه، بحيث إنه يقول الشيء ولا يقوله، كما أنه أثناء كلامه وكتاباته يزرع لنفسه عدة مخارج، فعلى الذين يتابعون آراءه، ويسعون إلى معرفة الحقيقة، أن يدققوا في المسألة؛ كي لا ينهزموا أمام تعدد المحامل التي يشحن بها كلامه.
الإيهام والإبهام في كلام سروش حول خطأ القرآن ــــــ
والمسألة التي نريد التعرض لها هنا هي (إمكان تطرق الخطأ إلى القرآن)، وهو ما يلوح من كلامه، حيث سأله الصحفي الهولندي قائلاً: «إذن في القرآن جنبة بشرية، مما يعني إمكان الخطأ في القرآن». وقد كان بإمكان سروش أن يقدم جواباً صريحاً وواضحاً عن هذا السؤال، إلا أنه بدلاً من إبداء نظريته عمد إلى إلقاء الكرة في ملعب المفسِّرين، حيث قال: «في الرؤية التقليدية لا يمكن للخطأ أن يتطرق إلى القرآن، وأما حالياً فهناك الكثير من المفسِّرين ممن يذهب إلى عصمة القرآن في المسائل الدينية البحتة فقط، من قبيل: صفات الله، والحياة بعد الموت، وأسس العبادة، خلافاً للمسائل المتعلقة بهذا العالم والمجتمع الإنساني»، ثم يختم كلامه بالقول: «لا أعتقد أن النبي كان يتحدث بلغة عصره في حين كان له علم ومعرفة أخرى، بل إنه كان مؤمناً بما يقوله حقاً، فقد كانت تلك هي لغته، وكان ذلك هو علمه، ولا أتصوَّر أن علمه كان أكثر من علم أهل عصره حول الأرض والكون والجينات الوراثية، فلم يكن يعرف العلوم التي نعرفها نحن حالياً، وهذا لا يضرّ برسالته؛ لأنه كان نبياً، ولم يكن مفكِّراً أو مؤرِّخاً»([5]).
وبذلك يكون سروش قد تمكن ـ دون أن يصرح بإمكان تطرق الخطأ إلى القرآن ـ من صبّ معتقده في قالب عبارات وجمل تحتمل عدة وجوه، وإلقائها في ذهن المخاطب. ويكمن الدهاء في هذا الأسلوب أنه سوف يمكّنه من الخروج من خلال الفجوات التي تركها في كلامه!
وفي جوابه للشيخ السبحاني حول (تطرق الخطأ إلى القرآن وعلم النبي) يسير الدكتور سروش على ذات النهج، فيقول في البداية: «المراد من الخطأ هي تلك الأمور التي تعد خطأ من وجهة النظر البشرية، أي عدم الانسجام مع المعطيات العلمية لدى البشر»، ثم قدم بعض التوضيحات في ذيل عنوان (تطرق الخطأ إلى القرآن وعلم النبي)، ولكن لم يتضح من خلال ذلك ما إذا كان هناك خطأ في النص القرآني بشكل حقيقي أم لا، وإن كان قد ألمح إليه! وفي الختام، وتحت عنوان (عدم انسجام ظواهر القرآن مع العلوم البشرية)، يستعرض الدكتور سروش آراء مختلف الشخصيات، ثم يقول: «لا مفر لنا من الاعتراف بوجود عدم الانسجام ـ الشديد أحياناً ـ بين الظواهر القرآنية والعلم»، وهو يعد الآيات المشمولة لمثل هذا الحكم من (جنس العرضيات)، التي لا تدخل ضمن نطاق (رسالة النبي ونداء الدين الأصيل)، ثم يعلن بمنتهى النبل قائلاً: «يمكن غضّ الطرف عنها وتجاوزها».
وعليه يمكن تلخيص كلامه في هذا المجال بما يلي:
ما دام للنبي دور محوري في صياغة الوحي، وبما أن النبي بشر تسيطر عليه العواطف والأحاسيس والظروف المكانية والزمانية المختلفة، وبما أن علمه لا يتجاوز مستوى علوم عصره، لذلك لا يمكن إنكار تأثير عواطف النبي وأحاسيسه، وكذلك مستواه العلمي، على القرآن، ونتيجة لذلك يمكن العثور على بعض الآيات المخالفة للواقع، ولكن ينبغي التسامح بشأنها وتجاوزها وعدم التركيز عليها والوقوف عندها.
نقد سروش في توظيف العرفان في بشرية القرآن وخطئه ــــــ
وفي ما يلي نذكر جملة من الأسئلة التي يتعيّن على الدكتور سروش الإجابة عنها بصراحة ووضوح:
1ـ إذا كان النبي حائزاً على ما ذكره الدكتور سروش من المراتب العرفانية العالية التي جعلته «فانياً في ذات الله»، حتى أصبح كلامه «كلام الله»، وإن كل ما يقوله هو «كلامه الإنساني وكلام الله والوحي»، فكيف يمكن لهذا الكلام أن يكون عرضة للسهو والخطأ ومخالفة العلم وأمثال ذلك؟ فإننا إذا آمنا بأن كلام النبي هو عين كلام الله لم يعد هناك إمكان لورود الخطأ فيه؛ وإذا قلنا بإمكان تطرق الخطأ إلى كلام النبي لم يكن هناك من معنىً لاعتباره كلاماً لله، فهناك تناسب عكسي بين الإيمان بأحدهما وإنكار الآخر، وإن الإيمان بهما يؤدي إلى الجمع بين النقيضين، وهو محال عند العقلاء والمناطقة، إلا إذا كان للدكتور سروش رأي آخر في هذا المجال.
ومن جهة أخرى فإن الآيات المشتملة على المسائل العلمية أو التاريخية أو الاجتماعية قد تكون ـ طبقاً لنظرية سروش ـ عرضة للخطأ أو لمشاعر النبي والظروف المكانية والزمانية المحيطة بالنبي، وأما الآيات المرتبطة بالمسائل الدينية البحتة، مثل: صفات الله، والحياة بعد الموت، وأسس العبادة، فليست كذلك، وهذا الكلام يفهم منه أن بعض كلام النبي هو عين كلام الله، دون بعضه الآخر، وبذلك يتبدل حكمه السابق القاضي بأن كلام النبي بشكل عام هو عين كلام الله، ويتحول إلى أن بعض كلام النبي هو عين كلام الله.
2ـ إذا آمنا بإمكان تطرق الخطأ إلى بعض أجزاء كلام النبي أو الوحي أو الآيات القرآنية فكيف يمكننا الوثوق بصحة الجزء الآخر؟ فبعد أن ذهب الدكتور سروش في إطار تحليله للوحي وتفسيره لبعض الآيات إلى اعتبارها مخالفة للواقع كيف يمكنه الوثوق بصحة الآيات المتعلقة بعالم ما بعد الموت؟ فهل شاهد تلك العوالم ووجد الآيات التي تتحدث عنها منطبقة عليها تماماً؟ وهكذا الأمر بالنسبة إلى العبادات وصفات الله. وهنا نذكر مثالاً لتوضيح ذلك فنقول: لو أن عالماً في الفيزياء قال: إن بعض الآراء الفيزيائية للعالم الفلاني خاطئة، وأما البعض الآخر منها فهو صحيح تماماً، وطالبناه بالدليل على ثلاثة فليس أمامه إلا أن يقول: بما أنني عالم في الفيزياء مثله فقد درست آراءه، وأخضعتها للتجربة وفقاً لمعطيات علم الفيزياء، فثبت عندي صحة بعضها، وخطأ بعضها الآخر، وتكون هذه الإجابة معقولة ومنطقية، ولو أجاب بغيرها لكان جوابه تعسفياً وكلاماً اعتباطياً وغير مقبول بالمرة. وهكذا الأمر بالنسبة إلى الدكتور سروش، فإنه إذا أراد إثبات صحة بعض آيات القرآن المتعلقة بصفات الله والحياة في العالم الآخر وأمثال ذلك فليس أمامه إلا أن يقول: بما أنني بمستوى النبي محمد في معرفة عالم الملكوت والفناء في ذات الله، وقد مررت بعالم الآخرة، لذلك أُذعن بأن ما قاله محمد في هذا الخصوص مطابقٌ لما رأيته، خلافاً للآيات الأخرى التي وجدتها مغايرة لمعطيات العلم الحديث!
إن ما سيدّعيه الدكتور سروش في المستقبل لا يعلمه إلا الله، ولكنه ما دام إلى اليوم لم يدَّعِ أنه بمستوى النبي فيجدر به أن يوضح أنه قد توصل إلى وجود الخطأ في بعض الآيات المغايرة للعلم، وفقاً لمتبنّياته المعرفية والعلمية، وعليه أيضاً أن يبيّن أدواته التي مكَّنته من إثبات صحة الآيات القرآنية الأخرى.
والحقيقة هي أن الدكتور سروش من خلال قوله بإمكان تطرق الخطأ إلى بعض آيات القرآن قد جعل القرآن ـ من حيث يدري أو لا يدري ـ عرضة للتشكيك، وكما نعلم فقد سعى أعداء الإسلام والقرآن من خلال أُسطورة الغرانيق إلى إثبات تطرق آية واحدة فقط إلى قلب النبي من الشيطان، ورغم أن الأعداء قد أخفقوا في سعيهم هذا إلا أنهم كانوا يعلمون حجم الفتنة التي كانت تثيرها هذه المحاولة لو كتب لها النجاح، فلو ثبت أن الشيطان قد تمكن من إقحام آية من عنده ضمن آيات الله تعالى فإن ذلك سيفتح الباب واسعاً أمام إمكانية نجاح الشيطان في إقحام آية ثانية وثالثة، أو حتى سورة كاملة، بل ولماذا لا يكون كلّ القرآن شيطانياً، ولذلك لا بد في مثل هذه الأبحاث من التدقيق في التبعات المنطقية للحكم الذي نطلقه، ويجب عدم قصر النظر على الناحية الكمية من المسألة، فإننا لو قلنا بإمكان خطأ آية واحدة أو مغايرتها للعلم، وأنكرنا قاعدة عصمة النبي، فإننا سنفتح الباب أمام التشكيك في القرآن كله!
كيف أدرك سروش حقيقة الوحي النازل؟! ــــــ
3ـ لقد تحدث الدكتور سروش، بعد اعتباره النبي هو الموجد للوحي، عن آلية هذا الوحي وكيفيته، فقال: «إلا أن النبي خالق للوحي بشكل آخر، فالذي يحصل عليه من الله هو مضمون الوحي، ولكن هذا الوحي لا يمكن بيانه للناس بذلك المضمون؛ لأنه يفوق مستوى فهمهم، بل هو فوق مستوى الكلمات، فهذا الوحي فاقد للصورة، وعلى النبي أن يصوغه في إطار صوري؛ ليجعله في متناول فهم الجميع، فيقوم كما يفعل الشاعر بصياغة هذا الإلهام بأدواته اللغوية وأسلوبه الخاص»([6]).
وأول ما يتبادر إلى الأذهان هو: كيف تأتى للدكتور سروش أن يكشف عن كيفية وآلية نزول الوحي؟ وبعبارة أوضح: كيف توصل إلى أن ما نزل من الله لم يكن هو عين القرآن وكلماته، وإنما هو (مضمون الوحي)؟ فهل صرح له النبي شخصياً بهذه الآلية مثلاً؟ أو أنه أدرك ذلك من خلال مكاشفة وتجربة مماثلة؟ ومهما كان فإنه يجدر بالدكتور سروش أن يبيّن لنا كيف توصل إلى هذه الحقائق الغيبية والمسائل الباطنية التي لم يكن لغير النبي أن يدركها، حتى لا يضطر المخاطب إلى الإيمان بما يقوله ويدعيه دون مطالبته بدليل!
ومن جهة أخرى كيف عرف الدكتور سروش أن (المضمون) الذي تلقاه ‘ فوق مستوى فهم الناس، بل فوق مستوى الكلمات؟ فهل اطلع على كيفية ومحتوى ذلك المضمون؟ فلو ادعى شخص مثلاً بأن ذلك (المضمون) كان في غاية البساطة والسهولة ومفهوماً للجميع، إلا أن النبي قد حوله إلى نص أكثر تكلفاً وتعقيداً، فما هو جواب الدكتور سروش عن هذه الدعوى؟؛ لأنه إن سأل ذلك المدعي: من أين عرفت ذلك المضمون؟ سيقول له: من حيث عرفته أنت!
ولو سلمنا أن الدكتور سروش يعلم أن ما نزل على النبي محمد ‘ هو المضمون فقط، وأن ذلك الوحي خالٍ من أية صورة، وليس هو عين الكلمات القرآنية، وأن ذلك المضمون فوق فهم الناس، وأنه من خلال المكاشفة توصل إلى ما كان يجول في نفس النبي، حيث بادر إلى صياغة ذلك المضمون وفقاً لمعلوماته الشخصية في إطار الكلمات القرآنية، فهل يمكنه تنوير الأذهان من خلال توضيح مضمون (سورة يوسف) والوحي الخالي من الصورة التي نزل بها؟
كما يتعين على الدكتور سروش ــ ما دام يذهب إلى أن النبي يحصل من الله على وحي غير مصوَّر، فيقوم بصياغته ونظمه ــ أن يجيب على السؤال التالي، وهو كيف نجح النبي في تحويل ذلك المضمون العام في بعض الآيات فأصاب الواقع، بينما أخفق في آيات أخرى) فوقع في الخطأ وخالف الحقائق العلمية؛ بسبب تأثره بمختلف الظروف والأسباب؟! فهل كان المضمون فيها معقداً للغاية بحيث لم يتمكن حتى النبي من فهمه؟ وهنا يرد سؤال آخر: ألم يكن بإمكان الله تعالى ــ وهو يعلم مستوى فهم النبي ــ أن ينزل عليه ذلك المضمون بشكل يتناسب ومستوى مدركات النبي، كي لا يظهر في ما بعد من يصوغ له ذلك المضمون؟!
أو ربما من الأفضل لحل هذه المشكلة أن نتصور أن ذلك القسم من الآيات القرآنية التي يزعم الدكتور سروش خلوها من كل نقص أو خطأ يقوم على المضمون العام النازل من قبل الله، وأما ذلك القسم الذي أصابه الخلل فقد ألفه النبي من عنده، دون أن يتلقى أيّ مضمون من قبل الله، ولذلك تأثَّر بحالاته النفسية وظروفه البيئية!
والأهم من ذلك أنّ على الدكتور سروش أن يبيّن هذه النقطة، وهي أنه بعد أن كان ذلك المضمون العام عرضة للتأثر بمختلف الأسباب في عملية تصوير وصياغة ذلك المضمون فلماذا لم يتولَّ الله تعالى؛ للحيلولة دون الوقوع في هذه المشاكل، إنزال القرآن على نحو ما هو عليه من الكلمات التي كان يريدها من ذلك المضمون، دون ترك هذه المسؤولية على عاتق النبي ‘؟ هل كان الله جاهلاً باللغة العربية فخوّل نبيه القيام بهذه المهمة؛ كي لا يقع في الأخطاء البلاغية المحتملة؟ وهل كان يعجز عن حفظ آياته لو نزلت من قبله على ما هي عليه من الكلمات؟ فعلى كل حال يتعين على الدكتور سروش أن يأتي بأدلة عقلية ومنطقية على تلك الأفكار.
الشعر ونظرية بسط التجربة النبويّة!! ــــــ
والحقيقة أن الدكتور سروش؛ لما كان عاجزاً عن رفع مستوى فهمه وإدراكه لكُنْه الوحي، كما لا يسع غيره أن يفعل ذلك أيضاً، فهو مضطر إلى التشبث بهذه التمثيلات والتشبيهات، التي يُنْزِل النبي من خلالها إلى مستوى الشعراء، حيث يقول: «مرادي هو الاستعانة بظاهرة الشعر الملموسة والإبداع الفني بشكل عام؛ لدرك ظاهرة الوحي الغريبة والتعرف عليها بشكل أفضل»([7]). وهذا بالتحديد ما نهى عنه القرآن بشدة، وأكد على إنكاره صراحة، فنفى أن تكون هناك رابطة أو علقة بين الوحي والشعر، ويمكن فهم إصرار الدكتور سروش في ذهابه إلى خلاف تأكيدات القرآن، فإنه لإثبات نظريته في (بسط التجربة النبوية) مضطر إلى عقد مقارنة بين النبوة والشعر، فما هي أساليبه للوصول إلى هذه الغاية؟
يسعى الدكتور سروش في بداية الأمر إلى التلويح بأن مراده من التمثيل بالشعر هو مجرد تقريب المسألة إلى الذهن، كما نصنع كثيراً، حيث نستعين بالكثير من الأمثلة لتوضيح بعض الأمور، دون أن تكون تلك الاستعارة وذلك التمثيل هو عين موضوع بحثنا. وهكذا يفتح الدكتور سروش الطريق أمامه، إلا أننا بعد التدقيق في جميع مواطن كلامه ندرك أنه بعد تلك الخطوة الأولى يسعى جاداً إلى إثبات العلقة والعينية بين الشعر والوحي، فيقول: «فالنبي يحسّ مثل الشاعر تماماً أن قوة خارجية تستحوذ عليه»، «فيقوم كما يفعل الشاعر بصياغة هذا الإلهام بأدواته اللغوية وأسلوبه الخاص، وما يتوفر له من علم وثقافة»، «إن الوحي إلهام، وهو كالتجربة التي يخوضها الشعراء والعرفاء»، «إن الشعر مثل الوحي، فهو استعداد وقريحة»([8]). ولو أننا دققنا في هذه الكلمات لوجدنا أن الدكتور سروش لا يريد تقريب ظاهرة الوحي إلى الذهن من خلال تشبيهها بالشعر، وإنما يقول: إن النبوة نوع من الشعر، ولكنه يترقى ويبيّن بعض الفوراق بين الوحي والشعر من حيث الرتبة، إلا أنه من خلال أصل كلامه ونظريته يؤكد على أنهما حقيقة واحدة، فالوحي شعر، بل إنه يحتل الصدارة الشعرية، والشعر وحي، ولكنه في أدنى مستويات الوحي، فهما حقيقة واحدة، ولكنها تشكيكية.
يقول الدكتور سروش من خلال بيان هذه المسألة: إن مراده كشف الرموز وتوضيح سر الكلام في مجال الوحي والنبوّة، إلا أن ما يقوم به في الحقيقة إنما هو تبسيط المسألة، فإنه يقول: إن الرؤية التقليدية التي يقوم فيها جبريل الأمين بمهمة الوساطة في تلقي النداء من الله وتحويله إلى محمد ‘؛ ليقوم بنقله كما هو إلى الناس، وكل هذه الأمور مشحونة بالأسرار والمغيّبات، في حين أن الأمر لم يكن بهذا التعقيد، فالوحي منبثق من نفس النبي، كما ينبثق الشعر من نفسية الشاعر، وتنبثق القصة من نفس الكاتب. وعليه طبقاً لنظرية سروش لا يوجد في البين أي سرّ لنكون بحاجة إلى الوصول إليه واكتشاف كنهه، وإنما هو عملية مألوفة لجميع الناس، وقد تمّ تضخيمها وإضفاء حالة من السرية عليها، فكما أن المولوي وحافظ الشيرازي وغيرهما من الشعراء والكتاب والأدباء يخطر المضمون في أذهانهم أولاً (أو يلهمون)، ومن ثم يعمدون إلى هذا المضمون العام ويعملون على صياغته وتصويره بما يتوفر لديهم من استعداد وذوق وقريحة بالأسلوب الذي يعرفونه والعلم الذي عندهم، فهكذا الأمر بالنسبة إلى النبي، فإنه ينسج على ذات المنوال، وهذا كلّ ما في الأمر! وطبعاً لابد من التدقيق في هذا المجال، وعدم الانخداع بألفاظه المعسولة التي يستخدمها في الثناء على النبي ‘، وبيان مراتبه ودرجاته، فلا شك في أن النبي قد بلغ من المراتب العرفانية درجة لم يبلغها حتى الملائكة، إلا أن الدكتور سروش يقول هذا الكلام الحق ويريد به باطلاً، فلا بد من تجريد كلامه من زخارفه، والإبقاء على جوهر موضوعه وأصله.
إنه من خلال نفي نزول النداء الإلهي بواسطة جبريل على قلب النبي، وقيام النبي بإبلاغه إلى الناس، يؤسس لقاعدة في مسألة النبوّة؛ ليفتح من خلالها نافذة لنظريته في (بسط التجربة النبوية) لجميع أبناء البشر.
وفي هذا السياق يسعى في البداية إلى تعريف (التجربة النبوية)، وكلنا نعلم أن التجربة لا تعني الأكل والنوم والقتال والكلام والكتابة وغيرها من الحالات الروحية المتنوعة؛ كالغضب والحزن والمحبة وما إلى ذلك؛ لأن هذه الأمور يشترك جميع الناس في تجربتها. وإن هذا النوع من التجارب هي التي تحدد الأبعاد البشرية في وجود النبي، وهو ما يستند إليه النبي نفسه في التأكيد على كونه بشراً مثل الآخرين. إذاً ما معنى (التجربة النبوية)؟ لا يمكن لهذه التجربة إلا أن تعني شيئاً خاصاً جداً، بحيث إن النبي إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ‘ حين يتوصلون إلى هذه التجربة يصبحون من (الأنبياء)، وأما غيرهم فما داموا لم يصلوا إلى هذه التجربة لا يمكن عدّهم من الأنبياء مهما كانت مراتبهم العقلية والعرفانية. وإن هذه التجربة الخاصة ليست سوى نزول الوحي على ذلك الشخص، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} (الكهف: 110).
إلا أن الذي يُفهم من كلام الدكتور سروش هو أن الناس كانوا إلى اليوم يتصورون أن الوحي ارتباط خاص مليء بالأسرار، يقوم فيه ملك يدعى جبريل ـ وهو موجود بالفعل ـ بنقل كلمات وعبارات محددة من الله تعالى إلى النبي محمد ‘، ويرى سروش أن هذا ما كان يتصوره النبي نفسه، حيث جاء في بداية مقال (بسط التجربة النبوية): «استند كبار علمائنا إلى التجربة الدينية وتجربة الوحي النبوي، وذهبوا إلى أن النبي شخص يحصل على العلوم من قنوات خاصة ليست في متناول غيره، إذاً فالمقوّم لشخصية ونبوّة الأنبياء، ورصيدهم الوحيد، ليس سوى الوحي، أو ما يصطلح عليه حالياً بـ «التجربة الدينية»، وفي هذه التجربة يرى النبي وكأنّ شخصاً يأتي إليه ويقذف في روعه نداءً، ويأمره بإبلاغه إلى الناس، ويحصل لذلك النبي وثوق ويقين بذلك، ويمتلك من الشجاعة ما يؤهِّله للقيام بالمهمة الملقاة على عاتقه لوحده، مهما كانت الظروف والصعاب ومهما كان الثمن». من خلال هذه العبارات، وخاصة لفظ «كأنّ»، ندرك بوضوح أن ما يريد الدكتور سروش قوله: إنه في الواقع لم يأتِ إلى النبي شخص جبريل، ولم ينقل إليه كلاماً من عالم الملكوت، بل إن هذا ما كان يتصوره النبي، «حيث يرى وكأن شخصاً يأتي إليه ويقذف في روعه نداءً…».
إذا لم يكن هناك من يأتي إلى النبي ليقذف في روعه نداءً فما هي (التجربة النبوّية) إذن؟ حاصل كلام الدكتور سروش في هذا الشأن هو أن هذه التجربة ليست سوى انبعاثة عرفانية يقوم النبي إثرها ببيان كلمات وأمور، وهي التي نعرفها كآيات للقرآن، وبذلك سيتحول الوحي في نظرية الدكتور سروش من كونه حقيقة خارجية إلى إرهاصات داخلية، حيث جاء في كلام الدكتور سروش قوله: «لو أنني قلت بعدم اختلاف الداخل والخارج من وجود النبي، فذلك لأن الموحدين الحقيقيين يرون حضور الله في وجود النبي وخارجه بنفس النسبة، فليس هناك من فرق بين نزول الوحي على النبي من خارجه أو انبعاثه من داخله، فهل الله خارج وجود النبي؟! وهل النبي بعيد عن الله؟! »([9]).
وإذا آمنا بنظرية الدكتور سروش فإن كل إنسانٍ يمكنه أن يخوض تجربة عرفانية، ويمكنه تدوين هذه التجربة بما يمتلكه من قريحةٍ شعرية أو تبحُّرٍ في الصناعة الأدبية، وعليه يمكن لجميع الناس خوض هذه (التجربة النبوية).
بسط التجربة النبوية أم نفي التجربة النبوية؟! ــــــ
وعليه نصل بذلك إلى نتيجة ما سمّاه الدكتور سروش في نظريته (بسط التجربة النبوية)، فإنها في حقيقتها ليست سوى (نفي التجربة النبوية) وإنكارها، فعندما يغير الدكتور سروش مفهوم الوحي من ارتباط خارجي بين السماء والأرض، كما هي الرؤية التقليدية، التي يتوسط فيها ملك مقرب، مثل: جبريل، ويحولها إلى انبعاثة عرفانية نفسية للنبي، فعندها لا تعود المسألة شيئاً خاصاً ندعوه (النبوة)؛ لنتحدث بعد ذلك عن (التجربة النبويّة)، ويفتح الطريق أمام (النبوّة العامة)، التي سيتمكن الدكتور سروش بعدها من ادعاء النبوّة لنفسه، ويقدم ديوان شعره للناس بوصفه وحياً، دون أن نتمكن من الإنكار عليه، وفقاً لهذه النظرية! وذلك حينما يدعي أنه قد بلغ مرتبة عالية في العرفان، وقد فني معها في ذات الله، واتحد معه، حتى ألهمه الله مضامين عامة، يمكن رؤيتها في أشعاره ومقالاته! بل يمكن لجميع البشر ادعاء ذلك، دون أن يكون هناك أية إمكانية للإنكار عليهم، وفقاً لتحليل الدكتور سروش، وبذلك يمكن أن يكون لدينا حالياً من الأنبياء بعدد سكان الكرة الأرضية، يؤمن كل واحد منهم بأنه نبي، وفقاً لنظرية سروش، ولا بأس إن كفر به الآخرون ما دام هو موقناً وعالماً بنبوته بالعلم الحضوري، وإذا كنت نبياً ينبعث الوحي من داخلي فما هي حاجتي إلى اتّباع وحي موسى وعيسى ومحمد الداخلي أيضاً، فكل واحد يتبع وحيه، فكما أنهم قد خاضوا تجربتهم النبوية، فقد خضتها مثلهم سواء بسواء!
وإذا كانت نتيجة (بسط التجربة النبوية) أن نحصل على أنبياء بعدد أفراد البشرية فمعنى ذلك هو عدم وجود نبيّ أصلاً، وإن الذين ادّعوا النبوة ـ طبقاً للرؤية التقليدية ـ ما هم إلا كغيرهم من البشر، غاية ما هنالك أنهم أكثر روحانية وشاعرية! ولذلك فإن المعنى الحقيقي الكامن وراء نظرية (بسط التجربة النبوية) ليس سوى (نفي التجربة النبوية)، ونسف النبوّة من أساسها.
هذه هي الغاية والهدف الذي كان الدكتور سروش منذ سنوات يتعقبه، وها هو الآن يتعقبها بشكل أكثر وضوحاً وصراحة، ففي عام 1374 هـ ش، كتب مقالاً جاء فيه: «أليست الطرق إلى الله بعدد أنفس الخلائق، وعليه لم يأتِ الدين ليوحّد التجارب الإيمانية لدى الناس؛ لعدم إمكان ذلك أساساً، فلدينا تجارب دينية بعدد أبناء البشر؛ إذ لكل شخص تصوّر عن الله، وبعبارة أكثر عرفانية: إن الله يتجلى لكل شخص بنحو من الأنحاء، فكل هذه التجليات محترمة، وقد أقرّها الدين». ومنذ ذلك الحين أدرك الذين دققوا في هذه الكلمات أنها تعود في جذورها إلى نفي النبوّة، فإذا كان كل تصور عن الله، وكل تجربة دينية محترمة ومقبولة، فهل تبقى هناك من حاجة إلى بعث الرسل؟ وأيّ حقّ خوّل موسى × إحراق عجل السامري بعد أن تجلى الله فيه للسامري وأتباعه؟ وهل هناك من مبرر لتحطيم اللات وهبل والعزى من الآلهة التي حظيت بمكانة مقدسة في التجربة الدينية التي خاضتها قريش، حيث اعتبروها من الطرق الكثيرة الموصلة إلى الله تبارك وتعالى؟ وحتى مع افتراض وصول النبي محمد ‘ في تجربته الدينية إلى بعض النتائج فهل جاء الدين ليوحّد بين التجارب الدينية لدى البشر؟!
ثم ذهب الدكتور سروش إلى أبعد من ذلك، فبعد أن قام في مقال (بسط التجربة النبوية) بنفي هذه القرآنية الواضحة والصريحة، حيث قال تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ المُبِينِ} (التكوير: 23)، وهكذا الآيات الأولى إلى الثامنة عشر من سورة النجم، أضاف قائلاً: «يرى النبي وكأن شخصاً يقترب منه»، وها هو يعوّم مسألة الوحي النبوة، ويهبط بها إلى مستوى الإلهام الشعري، أي نفس تجربة الدكتور سروش الشخصية وتطبيقها على الوحي والنبوّة، حيث تظهر المراحل النهائية لنظريته في نفي أصل النبوة.
كان مشركو قريش يدعون النبي (شاعراً مجنوناً)، وها هو الدكتور سروش يصفه بذات التهمة، ولكن بأسلوبٍ مبطَّن، بالثناء المهذب الذي يصل به إلى رتبة (ملك الشعراء)، ولكننا إذا تجاوزنا الإطار تبقى النتيجة المنطقية واحدة، وهي نفي النبوة في الحالتين، وقد قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ} (التوبة: 32).
الهوامش
(*) من الشخصيات البارزة في حركة نقد التيارات الفكرية الجديدة في إيران.