مشاكل الاعتماد على العقل الشعري والصوفي
السيّد مصطفى حسيني الطباطبائي(*)
إشكالية قراءة القرآن بعقل القرون الوسطى الإسلاميّة!! ــــــ
أقام الدكتور عبد الكريم سروش مؤخراً حواراً مع مايكل هوبنغ مراسل إذاعة هولندا، حلل فيه الوحي الإسلامي، فذهب فيه إلى اعتبار الوحي النبوي بمنزلة تجربة الشعراء والعرفاء، وعرّف النبي الأكرم ‘ على أنه (خالق الوحي)، وعرّف الآيات القرآنية الشريفة على أنها (مرآة ذهن النبي)، قال: «كما يرى العرفاء في غالبيتهم أن تجاربهم من نوع تجارب الأنبياء»، بل وذهب إلى أبعد من ذلك، حيث قال: «القرآن نتاج بشري، وعليه فهو في معرض الخطأ بالقوّة».
إن الدكتور سروش معروف في أوساطنا، وخاصة في الوسط الثقافي، وكلنا على علم بتطوراته الفكرية والمذهبية في السنوات الأخيرة، يتمتع الدكتور سروش ببيان جذاب وقلم أنيق، ولديه منطق تحليلي مثير للتفكير، ويتوفر على ذاكرة قوّية وذهن وقّاد. وعليه يجب أولاً: التزام الأدب في نقد كلامه، وثانياً: لا بد من مواجهته بمنطق رصين، دون إثارة الضجيج والعصبية.
إن مشكلة الدكتور سروش في باب نبوّة النبي الأكرم ‘ تكمن في محاولته قراءة الوحي النازل على النبي ‘ من خلال الأفكار التي سادت العصور الوسيطة للإسلام، وخاصة عصر المولوي، كما اعترف هو بنفسه، حيث قال في حواره الأخير: «إن الكثير من آرائي تعود في جذورها إلى العصور الوسيطة من الإسلام»، في حين أن الأجدر في التعرّف على النبي ‘ العودة إلى القرن الأول، أي لا بد من التدبّر في طبيعة ما كان يجري في صدر الإسلام؛ فإن عصر المولوي وأسلافه وأخلافه هو العصر الذي تغلغلت فيه الثقافة اللاإسلامية من الأفلاطونية الجديدة والرؤى الصوفية، فتشبَّعت بها ذهنية جلال الدين محمد المولوي، كما تشبَّعت بها ذهنية من سبقه، مثل: شمس التبريزي، وابن عربي، وصدر الدين القونوي، وأمثالهم. وعليه لا يمكن لهذا العصر أن يكون أداة صالحة لمعرفة الإسلام الأصيل، ومعرفة النبي معرفة صحيحة. ولو أمكننا معرفة الإسلام في ضوء سيرة وآراء الصوفيين في تلك البرهة فيمكن من خلال التمسك ببضعة أبيات من متشابهات قصائد المولوي الحكم عليه بأنه يحمل أفكار شبيهة بأفكار سروش في الوحي القرآني، وأنه كان للنبي (دور محوري في إنتاج القرآن)، مع أن المولوي نفسه قد بين رأيه الصريح في مقالات (فيه ما فيه)، وكذلك ضمن أشعاره الواضحة في (المثنوي)، وهو مخالف تماماً لرأي سروش، حيث جاء في بعض أشعاره ما معناه: «إن القرآن، وإن جرى على لسان محمد، إلا أن الذي ينسبه إلى غير الله فهو كافر»، ثم بين مراده من ذلك من خلال التمثيل التالي، حيث قال: «تقام في بعض المنازل فسقية يتوسطها تمثال يتدفق الماء من فمه، وجميع العقلاء يدركون أن مصدر ذلك الماء في موضع آخر»([1])، فهل يتوقع من صاحب هذا البيان، والذي فسّر قوله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 3 ـ 4)، أن يذهب إلى أن النبي الأكرم ‘ كان خالقاً للوحي، كما نلاحظ ذلك من خلال حواره! لقد أتيت في هذه الرسالة القصيرة على معظم حوار الدكتور سروش([2])، وعمدت إلى نقده منصفاً، وأرجو أن لا يسوؤه ذلك، وأسأل الله أن يجعل في نقدنا هذا خدمة لثقافتنا الدينية. والله الموفق للصواب وإليه المآب.
1ـ الوحي والشعر، تواصل أم تقاطع؟ ــــــ
في مستهل الحوار سأل مراسل إذاعة هولندا إلى الدكتور سروش قائلاً: «كيف يمكن النظر إلى شيء مثل الوحي كحقيقة ذات معنى في عصر متطور يدعو إلى التحرر من الوهم والخرافة؟».
وكان جواب الدكتور سروش عن هذا السؤال على النحو التالي: «إن الوحي إلهام، وهو التجربة التي يخوضها الشعراء والعرفاء، وإن كان النبي يخوضها بدرجة أرفع وأسمى. في العصر المتطور يمكننا فهم الوحي من خلال الاستعارة الشعرية، كما قال أحد الفلاسفة المسلمين: الوحي أسمى درجات الشعر. إن الشعر أداة معرفية تختلف في وظيفتها عن العلم والفلسفة، فالشاعر يتصور أن مصدراً خارجياً يلهمه، وإن الشاعرية استعداد وقريحة مثل الوحي تماماً، فيمكن للشاعر أن يفتح آفاقاً جديدة أمام الناس، وأن يريهم العالم من زاوية أخرى».
إن قياس الوحي على الشعر هو قياس مع الفارق؛ وذلك لأن للشعر منطلقاً داخلياً ينبثق من ذوق الشاعر الشخصي، وعلى حدّ تعبير الدكتور سروش نفسه: «وليد قريحة بشرية»، وأما وحي الأنبياء ـ في العرف الديني، وعند جميع أرباب المذاهب ـ فينطلق من مصادر خارجية بعيدة عن الذوق والقريحة البشرية. من هنا فإن الشاعر يبيح لنفسه أن يتصرف في شعره، فيغيّره وفق رغبته، غير أن مشاعر النبي خاضعة للوحي، فلا يمكنه أن يجيز أو يسمح لنفسه بأدنى تصرّف أو تغيير في الوحي. وقد كان هناك من المخالفين من يشترط على النبي تبديل بعض الآيات كمقدمة لإسلامه، فكان الجواب يظهر في القرآن، حيث يقول: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (يونس: 15).
كما يستمد الشعر قوته من (الخيال)، وكلما كانت الصور الخيالية في الشعر أقوى كان الشعر أقرب إلى الأصالة؛ وبعكس ذلك لو أننا جردنا الشعر من الخيال فإن الشعر سينحدر نحو الهاوية، وينتهي إلى السقوط، ولن يعدو كونه كلاماً موزوناً إذا كان محافظاً على وزنه، في حين أن الوحي لا ينشأ من قوّة الخيال، وإنما هو بيان لحقائق العالم، والقرآن الكريم يتحدث عن معرفة الله، ونفي الشرك، وعن نظام السماء والأرض والكائنات، والنعم الإلهية، والأحكام الشرعية، والحياة الآخرة، وقصص الأنبياء، والأمم السالفة، وما شاكل ذلك، وهو مما لا يحتاج في بيانه إلى الخيال.
مضافاً إلى أن (المبالغة) تلعب دوراً كبيراً في الشعر، حتى قيل: «إن أعذب الشعر أكذبه»، كما نجد ذلك في هذا البيت لسعدي الشيرازي حيث يقول:
لولا الدموع وفيضهنّ لأحرقت أرضَ الوداعِ حرارةُ الأكباد
أما وحي الأنبياء ووحي القرآن فهو أجنبي عن هذه المبالغات، التي هي نوع من الكذب، فلا يتطرق الوحي إلا لحقائق العالم والأمور الواقعية.
وأساساً لا يمكن التعاطي مع الشعر بجدية، ومن هنا فقد ذهب علماء الإسلام إلى عدم حدّ الشاعر إذا أقر على نفسه في أبياته الشعرية، ومما يروى في ذلك قصّة الفرزدق مع سليمان بن عبد الملك، حيث ذكر في بعض أبياته معانقته للكواعب الحسان، فقال له سليمان: قد وجب عليك الحد، فأجابة الفرزدق: لقد درأ الله عني الحدّ بقوله: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ}؛ في حين أن الوحي بعكس الشعر بعيد عن الهزل، وفي ذلك قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالهَزْلِ} (الطارق: 13 ـ 14).
وإذا تجاوزنا ذلك فإن قول الدكتور سروش: «إن الشعر مثل الوحي، فهو استعداد وقريحة» إنما هو اجتهاد في مقابل النص، حيث قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ} (يس: 69)، كما أكد النبي هذه الحقيقة مراراً بقوله: «ما أنا بشاعر»([3])، كما أن شعراء العرب من العارفين بصناعة الشعر والمعاصرين للنبي ‘ حينما كانوا يستمعون إلى القرآن كانوا يذعنون بعدم كونه شعراً، فقد جاء في سيرة ابن هشام أن النبي قرأ على عتبة بن ربيعة بعض آيات سورة فصلت، فاهتز لها، وذهب إلى قريش يقول: إني قد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة([4])!
هذا وقد عاش النبي الأكرم ‘ أربعين سنة قبل البعثة بين قومه في مكة، وفي بيئة تمجّد الشعراء، وتعلِّق روائع قصائدهم على جدار الكعبة، فلو كان النبي يتمتع بقريحة شعرية لأدلى بدلوه في هذا المجال الذي تكثر فيه المغريات، ولأصبح واحداً من الشعراء البارزين، ولكن لم ينقل لنا رواة الأشعار والمؤرِّخون بيتاً واحداً عن النبي ‘ نظمه في الجاهلية، مع أن الدواعي إلى نقل هذا الشعر كانت كثيرة، ولكن لم ينقل عنه ذلك، بل لم تنقل عنه خطبة أو كلمة قصيرة في الحكمة وأمر الدين والدنيا قبل البعثة، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم، حيث يعدّ بحق من أعلام النبوّة: {قُل لَّوْ شَاء اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (يونس: 16).
ولسنا ندري ما هو جواب الدكتور سروش، رغم ما يتمتع به من علم وفراسة، ولماذا يسلك طريقاً مخالفاً؟!
2ـ الوحي والمكاشفة العرفانية، هل الكشف مصونٌ عن الخطأ ــــــ
من خلال أجوبة الدكتور سروش عن السؤال الأول لاحظنا إضافته (العرفاء) إلى جانب الشعراء، فقال: «يذهب العرفاء في غالبيتهم إلى أنّ تجربتهم من نوع تجارب الأنبياء»؛ ولذلك نجد من المناسب التعريج إلى هذه الناحية، لنرى ما هي النتائج التي يمكننا الوصول إليها من خلال البحث.
علينا ــ باختصار ــ أن ندرك أن المكاشفة العرفانية حالة روحية باطنية تحصل للسالك بعد رياضات متواصلة ومستمرة، وفي هذا المقام يسعى السالك إلى مخالفة (رغباته النفسية)، والسيطرة عليها بشكل كامل، أي إنه يسلك طريق (مجاهدة النفس)، وبعد سلوك هذا الطريق يبدأ السالك بـ (المراقبة)، ويجرد ذهنه من جميع التعلُّقات، كي يشاهد (الخواطر القلبية) أو الوجود الباطني بنحو (عين اليقين)، وهو ما يسمى بـ (مقام الشهود). ويذهب العرفاء إلى أن هذا الطريق هو الطريق الوحيد ــ وليست الطرق العلمية والتأملات الفلسفية ــ الذي يؤدي إلى إزاحة الحجب عن وجه الحقيقة الناصع، والكشف عن أسرار الوجود، حيث يقول العرفاء: «الكشف طور وراء طور العقل». ومن هنا فإنهم يزرون بالقوى العقلية والأدلة البرهانية، وهذا ما نشاهده في رسالة ابن عربي العارف الشهير التي بعث بها إلى المتكلم والمفسر الأشعري فخر الدين الرازي، حيث جاء فيها: «ومن المحال على الواقف بمرتبة العقل والفكر أن يسكن أو يستريح، ولا سيما في معرفة الله تعالى، فما لك يا أخي تبقى في هذه الورطة، ولا تدخل طريق الرياضات والمكاشفات والمجاهدات والخلوات؟!»([5]).
وهنا يرد سؤال هام: هب أننا تخلينا عن العقل؛ مخافة الوقوع في الخطأ، واعتبرنا لغة الاستدلال خشبية، وسلكنا طريق المكاشفات، ولكن ألا يمكن احتمال الخطأ في المكاشفات أيضاً؟ لقد أقرّ العرفاء أنفسهم بأن هناك الكثير من الأخطاء التي تقع في المكاشفات. ومن جهة أخرى، بما أن المكاشفة أمر خاص وشخصي فإن كلّ شخص يتصور أن مشاهدته صحيحة، ومشاهدة غيره خاطئة، وبذلك يحتدم الخلاف، وتتفاقم المشكلة، وهذا ما ذكره المؤرخ وعالم الاجتماع الشهير عبد الرحمن بن خلدون في كتابه (شفاء السائل لتهذيب المسائل)، حيث قال في هذا الشأن: «إن قوماً من المتصوّفة المتأخرين عنوا بعلوم المكاشفة، وعكفوا على الكلام فيها، وصيّروها من قبيل العلوم والاصطلاحات، وسلكوا فيها تعليماً خاصاً، ورتبوا الموجودات على ما انكشف لهم ترتيباً خاصّاً، يدّعون فيها الوجدان والمشاهدة، وربما زعم بعضهم في ذلك غير ما زعمه الآخرون؛ فتعدّدت المذاهب، واختلفت النحل والأهواء، وتباينت الطرق والمسالك»([6]).
وعليه فإن طريق العرفاء؛ لتناقض أفكارهم، عرضة للخطأ، بل هناك نزاعات حادّة فيما بينهم حول أصول الإلهيات، فها هو علاء الدولة السمناني (أحد عرفاء القرن السابع والثامن) يهاجم ابن عربي بشدة حول (وحدة الوجود)، ويتهمه بالهذيان، وكتب لعبد الرزاق الكاشاني، الذي كان مناصراً لابن عربي، قائلاً: «كنتُ في بعض الأوقات السعيدة أكتب هامشاً على كتاب (الفتوحات المكية)، حتى بلغت التسبيح القائل: «سبحان من أظهر الأشياء، وهو عينها»، فكتبت: إن الله لا يستحيي من الحق. أيها الشيخ، لو سمعت من أحد يقول: فضلة الشيخ عين وجود الشيخ لا تسامحه عليه، بل تغضب منه، فكيف يسوغ لعاقل أن ينسب إلى الله هذا الهذيان؟!»([7]).
وقد خالف بعض العرفاء ما قاله ابن عربي في (الفصّ الموسوي) من كتابه (فصوص الحكم)؛ إذ وصف فرعون بالطاهر والمطهَّر، حيث قال: «فقبضه إليه طاهراً مطهَّراً»([8])؛ وما قاله في (الفصّ الشعيبي) من أن قلب العارف أوسع من رحمة الله، حيث قال: «قلب العارف بالله من رحمة الله، وهو أوسع منها»([9])، الأمر الذي أثار نور الدين عبد الرحمن الأسفرائيني العارف الشهير، فعمد إلى كتاب الفصوص فمزَّقه. وهكذا الدفاع والمديح والثناء الذي قام به بعض العرفاء لإبليس، مثل: سهل التستري، وأبو الحسين النوري، والحسين بن منصور الحلاّج، وقد خالف الجنيد البغدادي الحلاّج بشدة، وهؤلاء جميعاً ممن يدعي الكشف والشهود، الأمر الذي يدل على أن مكاشفات العرفاء قابلة للخطأ والتناقض، ولا يمكن الاعتماد عليها، ولا ينبغي قياس الوحي الإلهي عليها، واعتبار الكشف الصوفي والوحي الإلهي من جذور واحدة.
ويضاف إلى ذلك تصريحُ العرفاء أنفسهم بأن أهل الشهود والكشف إذا خرجوا من (الخلوة)، وأقبلوا على الأمور السياسية والاجتماعية، وعاشروا الناس، فإن آثار الخلوة ستزول عنهم بالتدريج، وتتوقف مكاشفاتهم؛ في حين أن الوحي القرآني امتد لثلاث وعشرين سنة، وكان النبي طوال هذه المدة مشغولاً بإدارة أمور الخلق، ومقارعة المخالفين، والقيام بشؤون أسرته. وعليه فهناك بون شاسع بين حالات النبيّ ‘ وبين الصوفيين الذين يؤثرون العزلة. وعليه لا ينبغي قياس الوحي الإلهي على المكاشفة العرفانية.
وسرّ الاختلاف بينهما يكمن في أن المكاشفة تجربة بشرية، يذهب فيها الإنسان إلى الله ليكتشف الحقائق الإلهية، والإنسان بطبيعته عرضة للخطأ، وقد قيل: «الإنسان محل السهو والنسيان»؛ أما في الوحي الإلهي فإن الله هو الذي يأتي إلى الإنسان، ويفتح عليه باب معرفته.
من هنا فقد قال أرباب المعرفة: لا اعتبار للكشف ما لم يعرض على كتاب الله، ليثبت صحته. قال العارف الشهير الحارث المحاسبي: «كل أمرٍ لاح لك ضوؤه بمنهاج الحق فاعرضه على الكتاب والسنة»([10]).
وما ذلك إلا لعصمة الوحي، وانطلاقه من مصدر فوق التجربة البشرية، وهذا ما سنتحدث عنه في الصفحات التالية إن شاء الله تعالى.
3ـ الوحي ودور النبي الأكرم ‘ فيه ــــــ
ثم سأله الصحفي الهولندي فقال: «إنك تذهب إلى ضرورة اعتبار القرآن نتاج عصره، فهل يتضمن ذلك أن يكون للنبي دور فعال وحاسم في إبداع هذا النص؟».
فقال الدكتور سروش في جوابه: «طبقاً للرواية التقليدية لم يكن النبي سوى وسيلة، حيث يؤدي إلى الناس ما يأتيه به جبريل، ولكنني أرى أن النبي كان له دور محوري في خلق القرآن».
وعليه ندرك أن الصحفي منذ البداية كان يعرف أن الدكتور سروش يذهب إلى اعتبار القرآن نتاج الأيام الخالية، ومن هنا فقد أقام سؤاله حول دور النبي في إنتاج الوحي، وقد سار الدكتور سروش في ذات الاتجاه، وأكد تدخل النبي في ظاهرة الوحي، ومن هنا فإننا نواجه مسألتين: الأولى: وجوب تقييم زمانية القرآن من وجه نظر الدكتور سروش. والثانية: دور النبي في مسألة الوحي، ثم نعمل على نقده في هذا السياق.
كل من يقرأ كتاب «بسط التجربة النبوية» لسروش بإمعان يدرك أن سروش يذهب إلى اعتبار القرآن نتاج الأزمنة الخالية، فإنه يشير في هذا الكتاب إلى وقائع وأحداث العصر النبوي التي ظهرت في القرآن، فقد جاء في مواطن من هذا الكتاب قوله: «كان هناك من يدخل على النبي ويطرح عليه سؤالاً، أو يوجه شخص تهمة لإحدى نسائه، ويعمل ثالث على إثارة الفتن، أو يقوم اليهود بأعمال عدائية، ويقوم النصارى بنشاط آخر، ويتهم النبي بالجنون، وتثار الأقاويل في زواج النبي من زينب ابنة جحش بعد طلاقها من زيد، وما إلى ذلك، فنجد ذلك منعكساً في القرآن وأقوال النبي، ولو طال العمر بالنبي أكثر، وواجه أحداثاً إضافية، لكانت هناك آيات أخرى بإزائها، وهذا يعني أن حجم القرآن سيغدو أكبر مما هو عليه الآن»([11]).
وقد تم إغفال مسألة دقيقة، فكلنا نعلم أنه قد وقعت أحداث كثيرة في عصر النبي الأكرم ‘،غير تلك التي ذكرها سروش، ولم يتعرض القرآن إلى ذكرها بأجمعها؛ وذلك لأن القرآن يتوخى أهدافاً ومقاصد خاصة لم تستوعبها تلك الأحداث، وخصّص أحداثاً أخرى بالذكر؛ لكونها جسراً لبلوغ تلك المقاصد والأهداف القرآنية. مضافاً إلى أن القرآن في ذكره لتلك الحوادث لم يرصدها ككتاب تاريخي، فلم يذكر تفاصيل الوقائع، وأسماء الأعلام والقبائل، وتحديد الفترة الزمنية لوقوعها. وبعبارة أخرى: إنّ القرآن يجرد الأحداث ويعطيها طابعاً عاماً؛ لتصبح جاهزة لحمل المسائل التوحيدية، من هنا نجد القرآن قد تحدث كثيراً عن المؤمنين والكافرين والمنافقين واليهود والنصارى، دون أن يذكر أسماء أشخاص بعينهم، فاكتفى بذكر صفاتهم؛ ليُمكن تطبيقها على أمثالهم وأشباههم في كل زمان ومكان. وهو حيث يذكر (أبا لهب) بشخصه فإنما يفعل ذلك لبيان حقيقة مفادها أن الدين الإسلامي لا ينطلق في تعاملاته من منطلقات عصبية قبلية، وهي الحالة السائدة في العرف العربي آنذاك، فالمسيء يؤخذ بإساءته ولو كان عماً للنبي وقريباً منه، فالتقرب إلى الله إنما يكون بالعمل والتقوى، وليس بالقرابة والعشيرة، ولذا كان مصير أبي لهب مثل مصير ابن نوح. وفي المقابل لم نجد أي ذكر لأبي سفيان، رغم قيادته أغلب الحروب التي خاضها المشركون ضد الإسلام، وهكذا الأمر بالنسبة إلى أبي جهل، وهكذا لم يذكر القرآن اسم عائشة زوج النبي، وهنا نتساءل: لماذا أعطى حادثة الإفك صبغة عامة، حيث قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ الغَافِلاتِ المُؤْمِنَاتِ} (الطور: 23)، ثم ينطلق منها إلى بيان حدّ الزنا، ووجوب الاستئذان، والتعفف لكل من النساء والرجال؟ ولماذا ينسب القرآن زواج النبي من زوجة زيد بعد تطليقه إياها إلى عموم المسلمين، حيث قال: {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} (الأحزاب: 37)؟؛ إلى غير ذلك من الاستفهامات التي تثبت عدم خضوع القرآن لحدود الزمان والمكان، ولا يخاطب خصوص المعاصرين للنبي، بل إنه يحمل نداء ورسالة شمولية، قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} (ص: 87)، وقال أيضاً: {قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا القُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} (الأنعام: 19).
إذاً ليس القرآن وليد الأحداث الماضية، بل هو حاكم عليها. ومضافاً إلى ذلك عندما يبلغ الدين مرحلة الكمال وإبلاغ رسالته لا تضيف الأحداث الجديدة إليه شيئاً؛ وذلك لأن القرآن لم يأخذ تلك الأحداث على نحو الموضوعية، بل أخذها على نحو الطريقية، كما قال علماء الإسلام في شأن نزول الآيات القرآنية: «إن المورد لا يخصِّص الوارد»، فالعبرة بعموم اللفظ والوارد، لا بخصوص السبب والموارد.
من هنا علينا مناقشة كلام الدكتور سروش الذي تصوّر فيه أن للنبي دوراً محورياً في إنتاج القرآن، حيث قال في توضيح هذا الرأي: «إن الاستعارة الشعرية تساعد على توضيح هذه الحقيقة، فالنبي يحسّ مثل الشاعر تماماً أن قوة خارجية تستحوذ عليه، ولكنه في الواقع وفي جميع الأحوال يقوم بكل شيء. وفي الحقيقة كون هذا الإلهام نابعاً من الداخل أو من الخارج لا موضوعية له هنا؛ إذ لا تمايز بين مستويات الوحي على الصعيد الداخلي أو الخارجي. إن هذا الإلهام ينبثق من (نفس) النبي، و(نفس) كل شخص إلهية، إلا أن النبي يختلف عن سائر الأشخاص، ذلك أنه أدرك إلهية هذه النفس، ويخرج ما بالقوة إلى ما بالفعل، وقد اتحدت نفسه مع الله. وأرجو عدم إساءة فهم كلامي هذا؛ فإن هذا الاتحاد المعنوي مع الله لا يعني صيرورة النبي إلهاً، فهذا الاتحاد اتحاد محدود بحدود النبي ومحتواه البشري، وليس بما لله من سعة مطلقة في الأبعاد، وقد بين جلال الدين المولوي الشاعر العارف هذا المعنى الموهم للتناقض بأبيات شعرية مفادها: «إن اتحاد النبي مع الله مثل صبّ مياه المحيط في الدورق».
ويلاحظ على هذا الكلام أولاً: تقدم أن قلنا: إن قياس الوحي على الشعر بعيد عن الصواب؛ إذ لو كان الشاعر مثل النبي يحسّ بهيمنة قوّة خارجية عليه تقهره، كما يدعي الدكتور سروش، لما أباح لنفسه التدخل والتصرّف في شعره.
هذا مضافاً إلى أن النبي كان أحياناً ينتظر الوحي لمدة طويلة، وليس كالشاعر الذي يقول الشعر متى ما طُلب منه ذلك، حيث يجلس برهة مطرقاً مفكراً، ثم ينظم كلاماً مسجّعاً وموزوناً.
إن هذا القياس غير المستدل لا يتناسب وشأن مفكر مثل عبد الكريم سروش. ولست أدري كيف وقع في هذا التخبّط، فأين الشعر من النبوّة؟! فقد حدثتنا كتب السيرة أن النبي الأكرم ‘ قبل البعثة كان مبغضاً بعناية من الله لشيئين: أحدهما: عبادة الأصنام؛ والآخر: قول الشعر، فقد روي عنه ‘ قوله: «لما نشأت بُغِّضت إليّ الأوثان؛ وبُغِّض إليّ الشعر»([12]). وكان هذا برعاية من الله؛ كي لا يخوض النبي في أودية الشعر، فلا يدعي أحدٌ بعد نزول الوحي بأن شاعر الأمس قد تحوّل إلى نبي، ووظَّف طاقته الشعرية كأداة لترسيخ دعوى النبوّة، بل حتى بعد البعثة حينما كان النبي يستشهد ببيت من الشعر كان يقرأه غير موزون، كما حصل ذلك في ذكره لبيت طرفة بن العبد القائل:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تزوِّد
فقرأه النبي: «ويأتيك من لم تزود بالأخبار»، فاعترض عليه أبو بكر مصحِّحاً إياه، فقال النبيّ: «لستُ بشاعرٍ، ولا ينبغي لي»([13]).
وعليه أليس من الجفاء في حقّ النبي الأكرم اعتبار الوحي القدسي النازل عليه منطلقاً من نفس الجذور والمصادر الشعرية، في حين يقول تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ} (الحاقة: 41).
وثانياً: إن هذه التنظيرات القائمة على أن النبي هو الخالق والموجد للوحي، وأن الوحي عبارة عن إلهامات منبثقة من نفسه، أو اتحاد نفس النبي مع الله، ليست منعدمة الدليل فحسب، بل ومخالفة لأقوال النبي الأكرم نفسه. وإن الذي ينظر إلى القرآن بتجرّد يجد عشرات الآيات المخالفة لهذه الادعاءات، من قبيل: قوله تعالى: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ}؛ وقوله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى}؛ وقوله تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاّ البَلاغُ}؛ وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ}؛ وغير ذلك من الآيات، فإذا قبل الدكتور سروش بظواهر هذه الآيات فبها ونعمت، وإذا أراد سلوك طريق التأويل تجاه هذه المحكمات فنقول له ما قاله المولوي، من أن عليه هو أن يؤوّل نفسه، لا أن يؤوّل الذكر الحكيم.
فساد قراءة النبوّة بعيون صوفية ــــــ
إن مشكلة الدكتور سروش وأمثاله هي ما ذكرناه في مقدمة هذه الرسالة، من أن هؤلاء الفضلاء يحاولون قراءة النبوّة بعدسات الصوفية، لا بمنظار أنبياء الله ^، وقد ذهب الصوفيون ــ ولا يزالون ــ إلى الوحدة في الوجود، وإنهم من خلال تأملاتهم يتوصلون إلى إلهامات خطيرة، ومن هنا فإنهم يعتبرون كلام مشايخهم كلاماً إلهياً. قال نجم الدين الكبري في (رسالة الهائم الخائف من لومة اللائم): «سمعت هاتفاً غيبياً يقول لي: ومن يسمع الأخبار من غير واسط حرامٌ عليه سمعها بوسائط».
فالصوفيون هم الذين تحدثوا عن الاتحاد مع الله، وكانوا ــ مثل الحلاّج ــ يرددون مقالة «أنا الحق».
أما منطق الأنبياء ^ فيختلف عن منطق هؤلاء الأدعياء بشكل كامل، فلم يتجاوز الأنبياء كونهم عباد الله المرسلين من قبله، ولم يقولوا: «ليس في جبّتي إلا الله».
ومن جملة الأدلة على اختلاف (الوحي النبوي) عن الأمور النفسية والتجارب البشرية إخبارُ الأنبياء بالغيب، وهي تختلف في نوعها عن مغيَّبات العرفاء، فمثلاً: ها هو المولوي، الذي يصفه الدكتور سروش بـ (عنقاء جبل المعرفة)، و(سلطان العزة)، و(مثال الشمس)([14])، الذي كان يعيش في عصر الدولة العباسية، قد تنبأ لخلافة العباسيين بالبقاء والدوام إلى يوم القيامة، حيث قال في الدفتر الأول من المثنوي: «رغم أن العباس عم النبي ‘ قد اشترك في معركة بدر؛ لدحر النبي والقضاء على الدين، ولكن كان التقدير على أن يغدو داعماً للإسلام، وأن يتولى أبناؤه أمر الخلافة إلى يوم القيامة»([15]).
وقد أدرك المولوي خطأ هذه المكاشفة في حياته، حيث شهد انهيار خلافة (المستعصم العباسي)، وانقراض الخلافة العباسية على يد المغول؛ إذ كان زوال الدولة العباسية في سنة 656هـ، وكانت وفاة المولوي في سنة 672هـ.
ثم بإمكاننا مقارنة إخفاق تكهن المولوي بحديث النبي الغيبي الذي ذكره البخاري في صحيحه بشأن هجوم الأتراك المغول على البلاد الإسلامية تحت عنوان (باب قتال الترك) قبل حوالي 650 سنة من وقوعه، ولا يخفى أن البخاري كان يعيش في القرن الهجري الثالث، وقد ذكر هذا الحديث قبل 400 سنة من هجوم المغول([16]).
وقد أقرّ الصوفيون صدق هذه النبوءة، فقد جاء في كتاب (مرصاد العباد)، لنجم الدين الرازي، الصوفي الشهير في القرن السابع، وقد عاصر هجوم المغول: «استولى جيش الكفار المخذول على بعض البلاد الإسلامية سنة 617هـ، وأحدث فتنة وقتلاً وفساداً وأسراً ودماراً وحرقاً لم يسبق له مثيل في بلاد الإسلام والكفر، ولم يذكر التاريخ، إلا ما كان من الخواجة ×، حيث أخبر عن فتن آخر الزمان: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك، وهم قوم صغار الأعين، حمر الوجوه، ذلف الأنوف، كأن وجوههم المجان المطرقة، ويكثر الهرج، قيل: يا رسول الله، وما الهرج؟ قال: القتل، القتل». هذا ما رآه الخواجة × قبل ما يزيد على ستمائة سنة بنور النبوّة، وهل يمكن تصوّر أكثر من هذا القتل؟ حيث امتد من حدود تركستان إلى حدود الشام والروم، حتى أحصي من القتل في الري وحدها ــ وهي مسقط رأسي ــ قرابة سبعمائة ألف قتيل»([17]).
أجل، هذا دليل من (الوحي الإلهي) والقدسي الذي ــ على عكس الإلهام النفسي ــ لا يتطرق إليه الخطأ. وعليه فإن ما يدعيه الدكتور سروش من أن جميع النفوس الإنسانية إلهية، وأن اختلاف الأنبياء عن غيرهم يكمن في إدراكهم إلهية أنفسهم، لا يفسّر النبوءات الصادقة التي تصدر عن الأنبياء؛ إذ إن إدراك أن أنفسنا إلهية لا يؤدي إلى بلوغنا مرحلة النبوءات الصادقة والعصمة في الوحي، وأن يحظى كلامنا بالحجية، كما هو الحال بالنسبة إلى كلام الأنبياء، كما أدرك ذلك المولوي، ولكنه أخطأ في الكشف عن مآل دولة العباسيين {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ}.
4 ـ تفنيد القرآن للوحي المعنوي ــــــ
قال الدكتور سروش في الإجابة عن السؤال الثاني الذي طرحه عليه الصحفي الهولندي: «إلا أن النبي خالق للوحي بشكل آخر، فالذي يحصل عليه من الله هو مضمون الوحي، ولكن هذا الوحي لا يمكن بيانه للناس بذلك المضمون؛ لأنه يفوق مستوى فهمهم، بل هو فوق مستوى الكلمات، فهذا الوحي فاقد للصورة، وعلى النبي أن يصوغه في إطار صوري؛ ليجعله في متناول فهم الجميع، فيقوم ـ كما يفعل الشاعر ـ بصياغة هذا الإلهام بأدواته اللغوية وأسلوبه الخاص، وما يتوفر له من علم وثقافة».
وهذا الكلام من الدكتور سروش جديرٌ بالرد، حيث يخالف دعوى النبي، كما يخالف مضمون الوحي، فهو تفسير للوحي بما لا يرضى صاحبه، فقد أكد القرآن على نزول الوحي بلسان عربي فصيح، ومن ذلك قوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: 193 ـ 195)؛ و{هَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً} (الأحقاف: 12)؛ و{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} (يوسف: 2)؛ وواضحٌ أن العربية إنما هي صفة للفظ دون المعنى، وبذلك فإن القرآن إنما نزل على النبي في قالب ألفاظ عربية، وقد عبر عن القرآن بكونه (كلام الله)، و(كلمات الله)، وهذا لا يقتصر على المعاني، وإنما يشمل الألفاظ أيضاً، ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ} (التوبة: 6)؛ و{وَاتْلُ مَا أوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} (الكهف: 27).
بل إن النبوّة منذ بدايتها في غار حراء، حيث نزل الوحي بلفظ {اقرأ}، كانت مقرونةً بالألفاظ؛ لأن القراءة ذات صلة وثيقة بالكلمات، وغير مجرّدة عن الألفاظ، وخاصة إذا كانت القراءة المذكورة باسم الله تعالى، حيث قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}.
وجميع هذه القرائن الواضحة تثبت أن النظرية التي تفصل بين (الوحي) و(الألفاظ) في ما يتعلق بالقرآن الكريم لا نصيب لها من الصحة؛ أما ما قاله الدكتور سروش من أن النبي قد صاغ القرآن بأسلوبه الخاص فهو إنما صدر عن غفلةٍ عجيبة؛ فإن أسلوب القرآن البديع لم يكن مسبوقاً قبل بعثة رسول الله ‘، ولم يسمع أحد بمثيل له، ولم يكن للنبي عهدٌ به، {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}؟!
وقال الدكتور سروش في ذيل هذا البحث: «كما أن لشخصيته دوراً مهماً في صياغة هذا النص، وكذلك سيرته وحياته، بما في ذلك والده ووالدته ومراحل صباه، وحتى حالاته الروحية».
هذا مع أنه لم يرد في القرآن ذكر لوالد النبي، ولا أوصاف أمه، ولا أيام طفولته، وحتى حالاته الروحية. أجل، ذكر القرآن مواضع من أحوال النبي الروحية بعد البعثة؛ لتكون أسوة للآخرين، حيث قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21)، بل وقد صرح القرآن مراراً بأن النبي قد حاز بعد البعثة علوماً لم يكن يعرفها قبل النبوّة، ومن ذلك قوله تعالى: {وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} (النساء: 113).
وعليه لم يكن لشخصية النبي أي دور في تكوين القرآن، بل الأمر على العكس من ذلك تماماً، فقد كان للقرآن كل التأثير في تكوين شخصية النبي ‘.
وقال الدكتور سروش أيضاً: «ولو قرأتم القرآن تشعرون أن النبي أحياناً يكون في قمة الجذل والفصاحة، بينما يكون في أحيان أخرى مفعماً بالملل، وتجده عادياً في كلامه، وجميع ذلك قد ترك تأثيره على النصّ القرآني، وهذه هي الناحية البشرية التامة من الوحي».
هذا في حين قد أذعن بفصاحة القرآن وبلاغته العدوّ قبل الصديق، وقد تحدى القرآن جميع المخالفين بأن يأتوا بكتاب أو سورة مثله، وقد مضى على هذا التحدي أكثر من أربعة عشر قرناً، مما أثبت استحالة تقليد الأسلوب القرآني. ولكن ينبغي الإشارة هنا إلى أن (لكل مقام مقال)؛ فالقرآن يتحدث أحياناً عن خلق العالم أو الإنسان؛ وأحياناً يتحدث عن الأخلاق والحكمة؛ وأحياناً يجيب مخالفيه؛ وأحياناً يتطرّق إلى الأحكام والشرائع الدينية؛ ويتحدث أحياناً عن الجنة ونعيمها أو النار وجحيمها، ومن الطبيعي أن أسلوب الكلام يجب أن يختلف في كل واحد من هذه الموارد، وهذا ليس ضعفاً في القرآن، أو تأثيراً لحالات النبي عليه، بقدر ما هو دليل بلاغته وفصاحته.
5 ـ النبوّة والتفسيرات الخاطئة ــــــ
وقد ختم الدكتور سروش جوابه الثاني بعبارة: «وهذه هي الناحية البشرية التامة من الوحي»، ويبدو أن الصحفي الهولندي لم يتوقع صدور مثل هذا الكلام من داعية مسلم، الأمر الذي شجَّعه أكثر، فتقدم في سؤاله التالي خطوة إلى الأمام، حيث قال: «إذاً للقرآن جنبة إنسانية وبشرية، مما يعني إمكان وقوع الخطأ فيه؟».
فأجابه الدكتور سروش قائلاً: «من جهة النظر التقليدية لا مجال لتطرق الخطأ في الوحي؛ وأما في العصر الحاضر فهناك الكثير من المفسرين يذهبون إلى اقتصار عصمة الوحي على المسائل الدينية البحتة، مثل: صفات الله، والحياة بعد الموت، وأسس العبادة، وأما في ما يتعلق بمسائل هذا العالم والمجتمع الإنساني فيمكن للخطأ أن يتطرق إلى الوحي من وجهة نظر هؤلاء المفسرين، فليس من الضروري أن يكون ما ذكره القرآن من الوقائع التاريخية وسائر الأديان والموضوعات العلمية صحيحاً، ودليل هؤلاء المفسرين أن هذا النوع من الأخطاء في القرآن لا يؤثر سلباً على نبوة النبي؛ لأنه إنما نزل منسجماً مع المستوى الفكري السائد في المجتمع آنذاك، وموافقاً للغته…».
إن ما حكاه الدكتور سروش عن المفسرين المعاصرين في ما يتعلق بالوحي ينتهي في حقيقته إلى إنكار الوحي والنبوّة، لا إلى تفسيرها؛ إذ لو أمكن الخطأ على الأنبياء في ما يتعلق بهذه الحياة الدنيا فكيف يمكننا الوثوق بعدم وقوعهم في الخطأ تجاه حياة أخرى مجهولة تماماً؟ ألا تقوض هذه الرؤية النبوّة من الأساس؟! أيعقل أن ندعي أن القرآن قد أخطأ في بيان الوقائع التاريخية والمذاهب البشرية والشؤون الأرضية، ولكنه أصاب في كافة الأمور الميتافيزيقية والغيبية؟ ومتى تمكن المفسرون المعاصرون من الوصول إلى هذا السرّ الكبير؟! وكيف أمكنهم الاستدلال على هذا الادعاء المتناقض؟
لو قيل: إن الأدلة العقلية والفلسفية تؤيد القرآن في الأمور الغيبية فعندها لا بد من القول: إذاً الحجة هو العقل والفلسفة، ولا حاجة بعد ذلك إلى النبوّة والوحي، وخاصة إذا كان الوحي مفعماً بالخطأ، فهل يمكن الدفاع عن القرآن بهذا التفسير الشنيع؟! وأما الدفاع بالقول: إن الأنبياء كانوا يتحدثون بمستوى معلومات الناس في عصرهم، وقد جاروهم في جهلهم وأوهامهم وخرافاتهم، فهو عذر أقبح من ذنب؛ إذ لو كانت النبوّة تتمتع بالحقيقة، وكان كلام النبي رسالة الله، إذاً فقد بُعث الأنبياء لإرشاد الناس وهدايتهم وإخراجهم من الجهل والظلام، وليس للتغطية على انحرافاتهم وجهلهم. ولو سلمنا أن الناس أحياناً لا يتمكنون من إدراك الحقائق فعلى الأنبياء في مثل هذه الحالات النادرة أن يلزموا جانب الصمت؛ فإنه خيرٌ من المصادقة على أوهام الناس.
وبعد بيان الدكتور سروش للرأي المتقدم أكدّ رأيه على النحو الآتي: «أما أنا فأذهب إلى رأي آخر، حيث لا أتصور أن النبي قد تكلم بلغة قومه مع أنه يتمتع بعلوم ومعارف مختلفة، وإنما كان النبي مؤمناً بما يقول حقيقة، فكانت تلك هي لغته، وكان الفكر فكره، ولا أتصور أن علمه بشأن الأرض والكون وتكوين الإنسان أكثر من المعاصرين له؛ فإن العلوم التي بلغتها الإنسانية حالياً لم يكن للنبي علم بها، وهذا لا يؤثر على النبوّة سلباً؛ لأنه إنما كان نبياً، ولم يكن عالماً أو مؤرِّخاً».
وإذا أقمنا مقارنة بين هذا الرأي للدكتور سروش ورأيه الآخر الذي يقول فيه: «اتّحدت نفسه مع الله» فسوف نصل إلى هذه النتيجة الغريبة، وهي أن النبي رغم اتحاده مع الله لا يتمتع بعلم أكثر من علم معاصريه، وإنه مع ذلك يعتقد ــ والعياذ بالله ــ بنفس الأوهام التي كان يتوهمها عرب الجاهلية. إذاً أيّ كمال جناه النبي من اتحاده مع الله؟ وهل الله جاهل بمخلوقاته؟ قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} (الملك: 14).
أتصور أن الدكتور سروش قد أحلّ النبي الأكرم محل واحد من أولئك الصوفيين، الذين يدعون الألوهية، ومع ذلك لا يبصرون ما هو أبعد من أنوفهم. وقد تقدم أن ذكرنا الفارق الكبير بين الأنبياء والعرفاء أو الصوفية.
وهنا لابد من التذكير بأن هدف الأنبياء لم يكن في كشف أسرار الطبيعة، كما هو الحال في العلوم التجريبية، ولكنهم مع ذلك لم يأتوا بما يتعارض والنتائج التي توصلت إليها العلوم المذكورة، بل قد نجد في القرآن الكريم إشارات داعمة ومؤيدة للعلوم الطبيعية، الأمر الذي أثار دهشة العلماء المعاصرين من المنصفين، ومن بينهم الدكتور (جرالدسي جورينجر) أستاذ علم الأجنة في جامعة جورج تاون، حيث قال: «لقد احتوت آيات من القرآن شرحاً كاملاً لتكوين الإنسان منذ امتزاج الخلايا الجنسية ببعضها إلى انعقاد النطفة، في حين لم يكن هناك مثل هذا التبويب والتصنيف والثبت الدقيق لمراحل تكوين النطفة والجنين الإنساني، ولم يكتفِ القرآن ببيان التكوين الخارجي للإنسان، بل شرح حتى مراحل التحول الداخلي في الجنين منذ خلقه إلى نموّه، وهي منطقية تماماً ومتفقة مع معطيات العلوم الحديثة».
وقال الدكتور (مارشال جونس)، الأستاذ البيولوجي في جامعة (جيفرس): «بوصفي عالماً فإني أتعامل مع الأمور التي أراها وأشاهدها شخصياً، وهكذا أتمكن من فهم علم الأجنة والبايولوجيا، وأستطيع أن أدرك الكلمات القرآنية المترجمة، ولو وضعت نفسي في تلك الفترة الزمنية التي نزل فيها القرآن، مع الأخذ بنظر الاعتبار ما حصلت عليه من العلوم المعاصرة، أجد نفسي عاجزاً عن بيان هذه الحقائق على النحو الذي بيَّنه القرآن، ولا أمتلك أي دليل لمخالفة حقيقة أن محمد لا بد وأن يكون قد حصل على معلوماته من مصدر معين، ولذلك لا أجد هناك ما يعارض التدخل الإلهي في هذا المجال».
وعليه فمن السذاجة التنزل بمستوى معارف النبي الأكرم ‘ إلى مستوى بضعة صوفيين، وحرمان المجتمع من هذه التعاليم السامية، من خلال زرع القنوط والتفوّه بمثل هذه الكلمات.
6 ـ الخطأ في فهم السنة ــــــ
ثم ألقى الصحفي الهولندي سؤاله الرابع على النحو التالي: «تشيرون كثيراً إلى الفلاسفة والعرفاء في القرون الوسيطة، مثل: المولوي، فما هو مدى جذور نظريتكم حول القرآن في التراث الإسلامي؟».
فأجابه الدكتور سروش قائلاً: «إن جذور الكثير من أفكاري تعود إلى القرون الإسلامية الوسيطة. وإن القول بأن النبوة عامة، ويمكن العثور عليها بين مختلف أصناف البشر، موجود في الإسلام الشيعي، وعند العرفاء؛ فالشيخ المفيد، وهو المتكلم الشيعي الكبير، لا يعتبر الأئمة أنبياء، ولكنه يمنحهم جميع خصائص الأنبياء، وكذلك يذهب الكثير من العرفاء إلى أن تجربتهم من نوع تجارب الأنبياء. كما جاء الاعتقاد ببشرية القرآن وأنه في معرض الخطأ بالقوة تلويحاً في كلمات المعتزلة، حيث ذهبوا إلى القول بخلق القرآن».
وللأسف الشديد يحاول الدكتور سروش أن يصوّر أن هناك على الدوام من يفكر مثله، وأن القرآن من صُنْع الإنسان، وهو رأي دون إثباته خرط القتاد، كما يقول المثل. فكيف يمكن للشيخ المفيد أن يجيز لنفسه أن ينسب جميع خصوصيات النبوّة إلى الأئمة ^، والحال أن صريح كلام الإمام علي في تأبين رسول الله ‘ عكس ذلك، حيث يقول: «بأبي أنت وأمي، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوّة والأنباء وأخبار السماء»([18]).
قال الشيخ المفيد في أحد أهم كتبه، وهو «أوائل المقالات في المذاهب والمختارات»: «من يزعم أن أحداً بعد نبينا ‘ يوحى إليه فقد أخطأ وكفر، وحصول العلم بذلك من دين النبي ‘».
وأما خطأ الدكتور سروش في مسألة (خلق القرآن) فهو عجيب جدّاً؛ فقد أفنى شطراً من عمره في دراسة علم الكلام والفلسفة الشرقية، وعليه لا بد أن يعلم أن لا ملازمة بين القول بحدوث أو قدم كلام الله والقول ببشرية القرآن الكريم.
فقد ذهب المعتزلة إلى أن النداء الإلهي الذي نزل به ملك الوحي على قلب النبي ‘ كان حادثاً، ولم يدّع أحد بأن الوحي المذكور كان من قبيل قصائد الشعراء، فهو قريحة النبي وذوقه الخاص. فهذه آثار الجاحظ، والنظّام، والقاضي عبد الجبار، والإسكافي، والزمخشري، وابن أبي الحديد، وغيرهم من كبار علماء المعتزلة، ولا أحد منهم تشدّق بمثل هذا الكلام الواهي، بل ولم يقترب منه بالإشارة.
ولماذا يحاول الدكتور سروش؛ لإثبات نظريته الضعيفة، التمسك بذريعة أضعف وأوهى؟! أيجوز ذلك لمحقق محترم، مثل: عبد الكريم سروش؟!
وذكر الدكتور سروش في ذيل هذا البحث: «ولم يعمد العلماء في العصور الوسيطة إلى بيان هذه الآراء بشكل واضح ومدوّن، وفضلوا الإشارة إليها ضمن طيات كلماتهم وأقوالهم المتفرقة؛ رغبة منهم في عدم إثارة البلبلة في أذهان عامة الناس، الذين لم يكن في وسعهم هضم هذه الأفكار واستيعابها. من باب المثال: نجد المولوي يقول: «القرآن مرآة ذهن النبي»، ومعنى ذلك أن شخصية النبي، وحالاته المتغيرة، وأوقاته السعيدة والعصيبة، منعكسة في القرآن».
والحقّ أن هذا المعنى الذي ينسبه سروش إلى المولوي لا يتنافى والوحي الإلهي، فقد ذكر الله تعالى نبذة من أوصاف النبي وأحواله في كتابه السماوي، حيث قال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}. كما جاء تأنيبه في آيات أخرى، مثل قوله تعالى: {عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ}. وقد أدّبه الله تعالى، حتى قال النبي ‘ في ذلك: «لقد أدّبني ربّي فأحسن تأديـبي». وقد ثبت صدق النبي وأمانته وأحقيته من خلال الآيات المذكورة.
الهوامش
(*) باحث متخصّص في علوم القرآن والحديث، وأحد وجوه نقد الحديث في إيران، له مصنّفات عديدة.
([1]) كتاب (فيه ما فيه)، من تقريرات جلال الدين محمد البلخي (مؤلف المثنوي): 62.
([2]) حصلنا على النصّ الفارسي من الحوار، وقد قابلناه بالنص الإنگليزى للاطمئنان أكثر.
([3]) نقل الطبري هذه العبارة في تفسيره «جامع البيان» 25: 27 على هذا النحو: «والله ما أنا بشاعر، ولا ينبغي لي».
([4]) ابن هشام، السيرة النبوية 1: 294، طبعة مصر، 1375هـ.
([5]) جاء نصّ هذه الرسالة في كشكول البهائي: 354، وغيره من المصادر.
([6]) شفاء السائل لتهذيب المسائل: 57، طبعة إسطنبول، 1957م.
([7]) للوقوف على نصّ الرسالة راجع: كتاب «العروة لأهل الخلوة والجلوة»، لعلاء الدولة السمناني: 42، من مقدمة المصحح.
([8]) فصوص الحكم (شرح القيصري): 451.
([10]) راجع: رسالة المسترشدين، لأبي عبد الله الحارث المحاسبي: 82، ط2.
([11]) راجع: بسط التجربة النبوية: 20.
([12]) راجع: السيرة الحلبية 1: 205، طبعة مصر.
([13]) راجع: تفسير ابن كثير الدمشقي 3: 579.
([14]) هذه الألقاب ساقها الدكتور سروش في تقريظه على «شرح جامع مثنوي معنوي»، لمؤلفه السيد كريم زماني.
([15]) انظر: الدفتر الأول من المثنوي: 128.
([16]) صحيح البخاري 4: 517، طبع مصر.