د. السيد علي رضا صدر الحسيني(*)
تمهيد
لم ترِدْ مفردة الغناء في القرآن الكريم البتة. وفي المقابل زخرت بها العديد من الروايات والأحاديث، واعتبرتها تجسيداً بارزاً للهو الحديث وقول الزور([1])، بينما أشارت أخرى غيرها إلى ما يترتّب على الغناء من آثار ومساوئ نفسية([2]). والأمر الجدير بالاهتمام أنّ بعض الفقهاء رفع هذه الروايات إلى مرتبة التواتر([3]).
تعجّ مصادر التاريخ والأدب العربي الإسلامي بمفردة الغناء واشتقاقاتها من قبيل: التغنّي، والمغنية. ولا شك أنّ الوقوف على المعنى الدقيق لهذه المفردة كما وردت في النصوص الدينية وفي عصر الروايات، والإحاطة بتطبيقاتها ضمن الظروف التاريخية التي سادت ذلك العصر، سيتيح فهماً أقرب إلى مقصود الشارع المقدّس. ومن هنا سنتناول في الفصل الأول من هذا المقال مفهوم الغناء في عرف المجتمع الإسلامي في الصدر الأول وما بعده، ثم نحلّل مفهوم هذا اللفظ في عصر المعصومين^. وننتقل بعد ذلك إلى الفصل الثاني لنبحث حكم الغناء في الآيات القرآنية والأحاديث المفسّرة لها.
وسنلمس في هذا البحث وضوح الرؤية القرآنية من موضوع الغناء، والدور التشريحي الذي اضطلع به المعصومون لبيان أمثلة الغناء المحرّم وفقاً للمعايير القرآنية.
1ـ مفهوم الغناء في عرف المجتمع الإسلامي
تعريف الغناء
الغَناء (بفتح الغين) هي الثروة والقدرة، أمّا الغِناء (بكسر الغين) فهو من السماع([4]). والغُناء (بضمّ الغين) أيضاً بمعنى التغنّي، وهي حالة من التغنّي بالشعر يصاحبها التصفيق.
إنّ للغناء في اللغة معنىً عاماً، وهو الصوت الذي يؤدّى بإيقاع وتطريب. ولهذا النوع من الأصوات الذي يخرج بإيقاع خاص وتصاحبه مضامين معيّنة آثار نفسية وروحية متباينة على الإنسان؛ فترى بعضها يبعث على الخفة والسرور؛ وبعضها الآخر يثير الشجن والحزن؛ منها ما يزرع السكينة والطمأنينة؛ ومنها ما يحرّك النفس ويهيجها؛ وهنالك الأصوات التي توقد روح الحماسة والملاحم في الإنسان؛ وأخرى تثير الغريزة والشهوة الجنسية أو العواطف والمشاعر الإنسانية أو المعنوية.
نقل عن ابن سيده قوله: «الألحان أصوات متباينة؛ منها ما يبكي؛ ومنها ما يطرب؛ ومنها ما يسكن الخاطر؛ ومنها ما يسرّ الإنسان ويسعده؛ وهناك الصوت الذي يلهب النفس ويشحنها بروح الشجاعة والإقدام. ولكل لحن شعره الذي ينسجم معه. فالصوت المُطرب ينسجم مع الأشعار التي تتناول وصف الخمر ومجالس الغلمان والجواري، والصوت المسكن هو الذي يتناغم مع وصف جمال الرياض والزهور والبلابل، وتنسجم أشعار المديح والثناء مع الرابع». ويختم مقالته قائلاً: «هذي هي ضروب الغناء وأنواعه».
رادفت بعض معاجم اللغة العربية بين الغناء والسماع([5]).
يقول الزبيدي في تاج العروس في شرحه لكلمة السماع بأنّه: «ما التذّته الآذان من الصوت الحسن»([6]). في حين يضيف ابن منظور في لسان العرب صفة التطريب على الغناء، قائلاً: «الغناء من الصوت ما طُرب به»([7]). وهذا القول أقرب إلى رأي الفقهاء، حيث إنّ صفة الطرب تطلق على الصوت الحسن الجميل المقترن بتحريك الملذات الغرائزية والنفسانية، وتبعث شحنة من السرور والانبساط في الإنسان. ومثال بارز على هذا النوع من الطرب هي الإثارة الجنسية. ولكن ـ كما سنوضّح ـ هناك حالة غنائية واحدة فقط هي التي تؤدّي إلى هذا النمط من الإثارة.
للغناء معنى لغوي جنسي واحد، لكنّه ينطوي على أنواع مختلفة. وهذا المعنى الجنسي هو الصوت الحسن واللحن الجميل الذي يطرب السامع، ويثير فيه المشاعر والأحاسيس.
فصوت الإمام السجاد زين العابدين× في تلاوة القرآن والمناجاة، حيث كان أحسن الناس صوتاً وأعذبهم لحناً، حتى أنّ المارّة كانوا يقفون على بابه ليستمتعوا بعذب تلاوته وشجيّ مناجاته؛ وكذلك ألحان المتصوفة في مجالس السماع؛ أو حداء ركبان الأعراب وتغنّيهم بأشعار الشعراء في سوقهم الإبل؛ وكذلك ألحان اللهو والشهوات، كلّ هذه تدخل في المفهوم العام للفظ الغناء في اللسان العربي. بيد أنّه يجب القول بأنّ اتّساع دائرة المعنى اللغوي لهذه اللفظة لتشمل جميع أنواع الصوت الجميل لا يعني بالضرورة أنّ الغناء كان بهذا الاتّساع في مختلف الأعصار والأمصار والمجتمعات، فمن المعلوم أنّ المعنى المتداول للفظ معيّن يتباين اتّساعاً وضيقاً عبر المراحل الزمنية؛ بفعل تأثيرات العوامل الاجتماعية؛ فأحياناً يشيع أحد مصاديق هذا اللفظ في مجتمع ما، فيؤدّي ذلك بالتبع إلى شيوع الاستعمال العرفي له في ذلك المجتمع. ولفظ الغناء أبرز مثال على هذه الألفاظ. وهو ما سنبسط البحث فيه في السطور القادمة.
طبيعة الغناء
يقول ابن خلدون عن الغناء: «صناعة الغناء هي تلحين الأشعار الموزونة بتقطيع الأصوات على نسب منتظمة معروفة، يوقع كل صوت منها توقيعاً عند قطعه، فيكون نغمة، ثم تؤلف تلك النغم بعضها إلى بعض على نسب متعارفة، فيلذّ سماعها لأجل ذلك التناسب وما يحدث عنه من الكيفية في تلك الأصوات».
ويضيف قائلاً: «إنّ الأصوات تتناسب واختلاف هذه النسب عند تأديتها إلى السمع بخروجها من البساطة إلى التركيب. وليس كل تركيب منها ملذوذاً عند السماع، بل للملذوذ تراكيب خاصة. إنّ وفور الأنغام والألحان الصوتية يؤدّي إلى تنوّع الطرب ولذّته، ويتفاوت مقداره (الطرب) بين حدوده الدنيا والقصوى. فعندما يسمع الإنسان الأنغام والأصوات والألحان يخالجه شعور بالفرح والطرب، ومع تناسق ألحان الأصوات وتناغمها، وبروز الغناء، يزداد هذا الشعور ويتنامى([8]).
إذاً، فالغناء عبارة عن عملية إدخال اللمحات الجمالية على صوت الإنسان، عبر التقطيع الماهر للأصوات بنسب متناسبة ومعروفة. أمّا صفة التطريب والنشاط للغناء فترجع إلى خصوصيات الألحان والأنغام التي تؤدّيها الأصوات.
أنواع الغناء
نقلنا عن ابن سيده أنّ الأنغام المختلفة وأنماط الغناء المتنوعة تولّد إحساساً متنوعاً ومتبايناً في المستمع. فغناء الطرب والفرح يحرّك في الإنسان غرائزه النفسية، وبخاصة الرغبات الشهوانية؛ وغناء الحماسة وأناشيد الملاحم تثير في المحاربين النخوة والشجاعة في ميادين المعركة؛ ونوع ثالث يداعب الروح وخلجاتها، فيترك فيها أثراً طيباً، من النوع الذي يحلّق معه المتصوفة في مجالس السماع؛ وأما النوع الرابع فيشمل الأنغام التي تحرّك النشوة واللذة في النفس وتحفّزها على النشاط، دون أن تثير الغرائز النفسانية والشهوانية، وهو من النوع الذي يتغنّى المرء به في خلواته.
ينقل ابن الأثير في النهاية عن ابن الأعرابي قوله: «كان العرب قبل الإسلام يتغنّون في كل حال كانوا عليه، في الأسفار الطويلة، وهم على ظهور الإبل يجوبون الصحاري، أو في أوقات استراحتهم في منازلهم، وكانوا يسمّون هذا الغناء بـ «الركباني». وروي أنّه عندما نزل القرآن الكريم أحبّ الرسول الأعظم‘ أن يستبدل المسلمون غناء الركبان بالتغنّي بتلاوة القرآن»([9]). وقد أجاز الخليفة عمر حداء الأعراب، وهو الإنشاد الذي تساق به الإبل. والخلاصة أنّه يوجد نوع من الغناء للترفيه والتطريب، يختلف عن النوع الأول الذي يحرّك الغرائز والشهوات.
وكذلك ينقل ابن الأثير عن عائشة زوج النبي الكريم‘ أنّها قالت: كانت عندي جاريتان تغنيان البغاث، وبعد أن ينتهي من نقل كلام عائشة، يقول: مرادها أنّ المغنية لم تكن من أهل اللهو واللعب.
تاريخ الغناء في العصر الإسلامي
لعلّ إطلالة سريعة على المسيرة التاريخية لانتشار الغناء في المجتمع الإسلامي في القرون الثلاثة الأولى ستعطينا فكرة عما إذا كان مفهوم الغناء في عرف المعصومين^ هو نفسه المفهوم الجنسي والعام اللغوي، أو أن شيوع تداوله أو ما يصطلح عليه بـ «الاستعمال الغالب» بدأ في تلك الحقبة؟
جرت سنّة التاريخ على أن يشيع نمط غنائي معيّن، ويسود على بقية الأنماط في حقبة معيّنة من تاريخ بلد ما أو حضارة معيّنة أو منطقة بعينها أو نحلة أو فئة خاصة في أمّة ما. وهو ما يجعل إطلاق كلمة الغناء تندرج في دائرة الاصطلاح المذكور «الاستعمال الغالب». فعلى سبيل المثال: عندما يذكر لفظ الغناء في تلك الحقبة أو الحضارة أو المنطقة أو النحلة دون قرينة تحدّد مقصود اللفظ فإنّ المقصود بطبيعة الحال سيكون ذلك النمط الغالب للغناء. فإذا استوعبنا هذه المسألة سنستنتج أنّه من الحريّ بنا عند تعريفنا لفظ الغناء عدم التمحور حول المعنى اللغوي، بل يتعيّن الأخذ بنظر الاعتبار التطبيقات والاستعمالات الأخرى لهذا اللفظ عبر مراحل التاريخ المختلفة، وحتى المناطق الجغرافية المختلفة.
ينقل المسعودي، المؤرخ الشهير في القرن الرابع الهجري، سرد رئيس المغنين تاريخ الغناء عند العرب للخليفة العباسي المعتمد بالله، المتوفى عام 279هـ، قائلاً: «إن الحداء في العرب كان قبل الغناء، حيث كانوا يحدون به الإبل، وإنّ أول السماع والترجيع فيهم، ثمَّ ما لبث أن اشتق منه الغناء، وانتشر بين العرب، حيث كان لهم به ولع شديد. بالنسبة لقريش لم تكن في بادئ الأمر تعرف غير (غناء النصب)، ثم ظهر فيها عزف العود المصاحب للغناء، وأقبلوا على غناء الجواري». ويضيف قائلاً: «كان الخليفة الأموي الوليد بن يزيد بن عبد الملك (المتوفى عام 126هـ) مولعاً بمجالس الشراب واللهو والطرب، شغوفاً بالسماع والغناء، وكان يجالس الملهين، ويظهر الشرب والملاهي والعزف. وغلبت شهوة الغناء في أيامه على الخاص والعام. وكان أول من حمل المغنين والمغنيات من الأقاليم الإسلامية الأخرى إلى عاصمته، فاشتهر العديد من هؤلاء المغنين، من أمثال: ابن سريج، ومعبد، وغريض، وابن عائشة، وابن محرز، وطويس، ورحمان. كما أنّ قصص المجون والخلاعة التي اشتهر بها والده الخليفة يزيد بن عبد الملك مع اثنتين من مغنيات البلاط الأموي، وهما حبّابة وسلاّمة، كانت قد انتشرت على كل لسان».
من ناحية ثانية أورد المؤرخ الإسلامي الطبري في تاريخه([10]) أنّ ولع عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بالغناء بلغ درجة جعلت معاوية يكيل له اللوم. ينقل الطبري نفسه قولاً لعبد الله بن الزبير في الإمام الحسين× بعد استشهاده وتعرّضه ليزيد، قائلاً: أقسم بالله ما كان الحسين ممَّنْ يبيعون القرآن بالغناء، والصوم بالشراب، ومجالس ذكر الله بالصيد.
وفي دفاعه عن معاوية يقول ابن خلدون: كان معاوية في حياته ينهى يزيد عن سماع الغناء([11]).
وضمن تحليل تاريخي لمسيرة تطور الغناء وانتشاره في المجتمع المسلم يقول ابن خلدون: «قبل الفتوحات الإسلامية كان الحداء في صورته البسيطة البدائية هو الشائع عند العرب. وبعد انطلاق تلك الفتوحات تقاطرت جموع الرجال والنساء والجواري، ممّن تمرّسوا على فنون الغناء المختلفة والعزف على آلات الموسيقى واللهو، من مختلف البلدان على مراكز العالم الإسلامي والحجاز والعراق، فتعرّف المسلمون على الغناء الشائع في البلدان غير الإسلامية. وفي تلك الحقبة كانت تصبّ على العرب المسلمين الثروات والأموال من بقية أقطار الدولة الإسلامية، وكانوا غارقين في الملذات والشهوات والجواري ومجالس اللهو والمجون»([12]).
وذكر المسعودي أنّ بداية ظهور مجالس اللهو واللعب كان في النصف الثاني من القرن الأول في الشام مركز الخلافة الأموية؛ وذلك لمجاورتها الإمبراطورية الرومانية، ثم انتشرت في باقي أنحاء الدولة الإسلامية، كالعراق والحجاز، فشاع بذلك مناخ المجون والفسق على المجالس العامة والخاصة في المجتمع الإسلامي، وبالتحديد بعد انطفاء وهج الفتوحات، أي في القرنين الثاني والثالث الهجريين، فكان الخلفاء بعد معاوية، وخاصة العباسيون منهم، منغمسين في هذه الأجواء الملبّدة بالفسق والفساد، ما خلا استثناءات قليلة. وقد تركوا قصصاً كثيرة تسجّل حكايات تلك الحقب ولياليها الحمراء، ومن جملتها ألف ليلة وليلة في بغداد.
الغناء في العرف
يمكننا في ضوء الشرح الذي قدّمناه عن مواصفات الغناء الذي شاع في القرنين الثاني والثالث الهجريين ـ أي في عهد الإمام الخامس× والأئمة من بعده ـ أنّ نتبيّن أنّ ملامح اللون الغنائي الذي كان سائداً آنذاك هو ذلك الذي روّجت له الحكومات الأموية والعباسية من خلال فتح أبواب مركز الخلافة لسيل المحترفين من المغنيات والمغنين، الوافدين من بلاد فارس وبلاد الروم، وازدهار سوق المجون والفسق واللهو والطرب في محافل المسلمين العامة والخاصة، فيكون من الطبيعي والحال هذه أن لا يكون المفهوم الجنسي الخليع للغناء، وهو النموذج الذي كان شائعاً في تلك الفترة ـ دون الالتفات إلى الأنواع الرائجة الأخرى ـ، هو مراد المعصومين^. ومن البديهي أيضاً أن يكون مراد السائل الذي سأل المعصوم عن حكم الغناء هو نفس هذا النموذج الشائع آنذاك. وإذا أردنا أن نوضّح الموضوع من خلال علم الأصول نقول: إنّه نظراً لشيوع استعمال مصطلح الغناء للتعبير عن ذلك النمط فقد صدق على اللفظ مفهوم الاستعمال الغالب، ومن ثمّ انصرف اللفظ من معناه العام الشامل إلى هذا المعنى الخاص المحدّد. وأغلب الظنّ أنّ غلبة استعمال لفظ الغناء في تلك الفترة بهذا المعنى اللهوي الماجن لم يترك مجالاً لاستعماله في المعاني الأخرى التي تشير إلى النوع الصحيح غير الفاسد، مثل: التغنّي بالقرآن بلحن شجيّ له وقع في النفس، على الرغم من رحابة المعنى الذي يكتنف اللفظ. وما يعزّز هذا الاحتمال أنّه لم يرِدْ عن المعصومين^ لفظ <التغنّي بالقرآن> أبداً. فعدم ورود لفظة الغناء واشتقاقاتها في روايات المعصومين في القرنين الثاني والثالث للدلالة على هذا الأنواع من الأصوات العذبة دليلٌ آخر على غلبة المفهوم اللهوي للغناء في الاستعمال العام لدى المجتمع الإسلامي.
استنتاج
يقودنا هذا البحث إلى استنتاج منطقي هو أنّ المعنى اللغوي للغناء هو الصوت العذب المطرب، الذي ينتج عن تطبيق صناعة خاصة على اللحن. ويلتقي هذا التعريف مع ما ذكره مشهور الفقهاء عن الغناء، وهو صوت له ترجيع مطرب. بيد أنّ للصوت مصاديق عديدة بالنظر إلى مضمون اللحن ونوعه والتقسيمات المستخدمة. ولذلك فإنّ تأثيراته ـ بطبيعة الحال ـ تكون متنوعة ومختلفة؛ بعضها يؤدّي إلى الإثارة الجنسية؛ وبعضها الآخر إلى إلهاب روح الحماسة والتوثُّب؛ وثمّة نوع آخر يشعر معه المرء بالالتذاذ والسكينة. في العصر الجاهلي كانت هذه الصناعة بدائية وبسيطة، ولكن انطلاق الفتوحات الإسلامية، وتوافد الجواري والمغنيات من فارس وبلاد الروم، وكذلك الإقبال الشديد للخلفاء الأمويين والعباسيين على هذه الصناعة، جعل منها صناعة رائجة لدى العرب المسلمين. وكانت الجواري الفارسيات والروميات يحيين مجالس الطرب والغناء في بيوت أسيادهنّ، التي كانت تقام في كلّ حي وزقاق. وفي ظلّ هذه الظروف سعى المعصومون^ إلى درء الخطر عن المفاهيم الأخلاقية والمعنوية التي تنتظم المجتمع الشيعي وصيانتها، من خلال إصدار الأحكام والتعاليم التي تحصّنه ضدّ هذه الظاهرة. لذلك كان المقصود بالغناء في كلام الأئمة، ابتداءً من الإمامين الرابع والخامس، هو هذا الغناء الذي جاء نتيجة إرهاصات وتحوّلات اجتماعية وسياسية عصفت بالمسلمين، ولا يمكن حمله بأيّ شكل من الأشكال على المعنى اللغوي للغناء.
2ـ الحكم الفقهي للغناء
إن حرمة الغناء في الفقه الشيعي مؤكدة، ولا خلاف في ذلك بين فقهاء الشيعة في الجملة([13]). وتنقيح القول في هذه المسألة يستدعي البحث في مسائل منها: التغنّي، والاستماع، والتعليم، التعلّم، وأخذ الأجرة، وإقامة مجالس الغناء، ودعوة المغنيات، والبيع والشراء ودفع الأجر.
ولعلّ الخطوة التمهيدية الأولى لولوج هذا البحث هي مسألة تحديد الغناء المحرّم ودائرته.
لقد قسّم أئمة أهل السنّة الأربعة الغناء إلى قسمين: حلال؛ وحرام. واعتبروا ما كان مناسباً آلات اللهو والفسق، وفيه مجلبة للفساد أو الفتنة، حراماً، وكل ما عدا ذلك حلال([14]). في حين لا يوجد مثل هذا التقسيم لدى فقهاء الشيعة؛ إذ إنّهم يحرّمونه مطلقاً، ما خلا مستثنيات تخرج الغناء عن دائرة الحرمة، وفي المقابل هناك فقهاء لم يقبلوا بهذه المستثنيات([15]). وكما يقول العاملي في مفتاح الكرامة فإنّ جميع الذين لم يذكروا هذه المستثنيات ـ مثل الشيخ المفيد وسلار ـ ينضوون تحت هذا الفريق([16]). ولا يوجد اتفاق حول عدد هذه المستثنيات؛ فيرى البعض جواز الاستماع إلى الغناء في مجالس الأعراس؛ ويوسّع بعضهم دائرته لتشمل الأعياد؛ وأضاف فريق ثالث الحداء الذي تساق به الإبل([17]).
يقول النراقي بجواز التغنّي بالقرآن وأي ذكر أو دعاء أو مناجاة([18]). ويضيف المحقق السبزواري إليها مراثي الإمام الحسين×([19]).
وهنا تبرز مسألة أخرى مثيرة للجدل، وهي هل أنّ الغناء محرّم لذاته أو أنّ حرمته لاشتماله على محرّم من خارج، أي إذا اقترن بإحدى المحرمات الأخرى؟ للرأي الثاني تاريخ طويل عند أهل السنّة. وهو الرأي المعتمد عندهم([20]). ومن الفقهاء الشيعة كان الفقيه والمحدّث الشهير الفيض الكاشاني أول من أخذ بهذا الرأي([21]). وقد جوبه حينها بمعارضة شديدة من قبل الفقهاء الذين جاؤوا بعده، باستثناء السبزواري، صاحب كفاية الأحكام؛ فقد كان الفقيه الوحيد الذي رأى هذا الرأي، ما جعل العاملي يصفه بالتبعية للغزالي وبقية علماء أهل السنة الذين يقولون بحرمة الغناء فيما لو اقترن بعمل خارجي منكر فقط([22]).
وفي خضمّ هذه الآراء سنحاول تحليل وتمحيص الأدلة التي استدلّ بها القائلون بحرمة الغناء مطلقاً، في أية صورة كان من الفرح والطرب والالتذاذ، ثم بعد ذلك نبسط الحديث في ما نراه صحيحاً من الآراء.
أدلة الحرمة المطلقة
أـ الإجماع
تمسّك الشيخ الطوسي في كتابه «الخلاف» بإجماع فقهاء المذهب على حرمة الغناء([23]). ولم يشذّ عن ذلك الشيخ الأنصاري([24])، الذي قال باتّفاق فقهاء الشيعة على الحرمة. وزاد على ذلك صاحب الجواهر بأن قال بتحقُّق الإجماعين: المحصّل؛ والمنقول، على حرمة الغناء، معتبراً أنّ ذلك من ضروريات الفقه الشيعي([25]). ولا شك في أنّ زعم الإجماع، الذي طرحه الشيخ الطوسي، يدلّ على أنّه استنبط حكم الحرمة من المصادر والأصول الفقهية الشيعية المعتبرة التي كانت في متناوله. ومع ذلك فإنّ هذا الاستنباط مطروح للمناقشة؛ لجهة أنّ الشيخ الطوسي غالباً ما لجأ في كتابه «الخلاف» إلى ما يسمّيه بـ (إجماع الفرقة)؛ للانتصار لرأيه، حتى في أكثر المسائل خلافاً بين الفقهاء، وقد رصد الشهيد الثاني أربعين حالة من حالات الإجماع المزعومة للشيخ الطوسي، وأفتى هو نفسه بخلافها في كتاب آخر([26]). وهذا ما جعل الفقهاء من بعده يتردّدون في اعتماد إجماعات كتاب الخلاف. فضلاً عن أنّ الاستدلال بإجماع السلف هو استدلال ناقص غير تامّ؛ لأنّه، بالإضافة إلى بروز مشكلة الأسانيد، لم يثبت مثل هذا الإجماع عن السلف.
ومن ناحية ثانية فإنّ كلام صاحب الجواهر غير مقبول؛ لجهة أنّ الإجماع معناه الحصول على فتاوى جميع فقهاء الشيعة، والحال أنّ الكثير منها غير مسجّل في المصادر الحالية. كما أنّ الإجماع المنقول بالخبر الواحد لا قيمة له عند الأصوليين([27]). وهناك معضلة أخرى تعترض هذا الإجماع، وهي أنّ وجود الدليل المقطوع السند، أو محتمل السند، يضعِّف من قوة هذا الإجماع في نظر الفقهاء، أو يفقده اعتباره([28])؛ لأنّه في ظلّ الروايات العديدة يبدو أنّ استناد المتّفقين على حرمة الغناء بأنواعه إلى وجود دليل قاطع آخر خارج عن متناولنا قال به المعصوم× بعيدٌ للغاية.
ربما يتمّ الاستناد إلى <الحكم المستقلّ للعقل العملي>، فيقال: إنّ العقل العملي يحكم بفساد الغناء، وإنّ فاعله يستحقّ الذمّ. ولكن لا يخفى بطلان مثل هذا الزعم؛ وذلك لأنّ الحكم المستقلّ للعقل العملي على فساد الغناء يكون في حالة واحدة فقط، وهي تسبّبه في فساد اجتماعي أكبر، أو تعطيله للشؤون الحياتية للناس، أو إحداث خلل في النظام الاجتماعي، أو ثبوت استحقاقه للعذاب الإلهي، ومن المعلوم عدم ثبوت ترتّب جميع هذه النتائج على أقسام الغناء. أمّا الحكم غير المستقل للعقل، الذي يأخذ عن الشرع كبرى القياس، ويقوم بإثبات صغرى القياس والمصاديق الأخرى، فهو الآخر غير تامّ؛ وذلك لعدم وجود الكبرى الكلية للشرع التي تثبت حرمة جميع مصاديق الغناء.
ب ـ الكتاب الكريم
لم يرد ذكر الغناء في القرآن مطلقاً، ولا حتى في آية واحدة. بينما احتجّت روايات عديدة بآيات من القرآن. وهذه الآيات هي:
1ـ ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ (المؤمنون: 3).
2ـ ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ﴾ (القصص: 55).
3ـ ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ (لقمان: 6).
4ـ ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاء للهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴾ (الحج: 30 ـ 31).
5ـ ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً.. وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً… وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً﴾ (الفرقان: 72).
6ـ ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾ (الأنبياء: 17 ـ 19).
وفي البداية نطرح دلالات هذه الآيات للتحليل والتمحيص، لنبحث بعدها مسألة الاستدلال بها بالاستعانة بالروايات المتّصلة بها.
الآيات التي تذمّ اللغو
ورد ذمّ اللغو في آيات من سور المؤمنون والقصص والفرقان. وقد تم تطبيقها على الغناء من باب الجري والتطبيق على المصاديق والأفراد. و<اللغو> في اللغة هو السَّقَطُ وما لا يعتدّ به، من كلام وغيره، ولا يُحصل منه على فائدة ولا نفع([29]).
ولكن ـ كما نرى ـ لا يستفاد من هذه الآيات حرمة الغناء بالجملة؛ لأنّه أولاً: إذا أردنا شمولها لجميع أنواع الغناء فيجب أولاً إثبات اللغو العقلائي والشرعي لهذه الأنواع كلّها. وهذا لم يحصل. فبعض أنواع الغناء لها فوائد عقلية، وهي ليست لغواً من الناحية العقلائية. كما أنّه لا يوجد دليل على اللغوية الشرعية لفوائد الغناء العقلية، ولم يثبت أنّ جميع أنواعه لا فائدة منها من الناحية التعبدية.
وثانياً: لا دلالة لهذه الآيات على صدور حكم تحريمي. فلو كانت لها دلالة تامّة على التحريم لوجب أن تكون المواصفات المذكورة للمؤمنين في هذه الآيات هي مواصفات واجبة شاملة لكل المؤمنين. وهذه نقطة موضع تأمّل وبحث؛ إذ إنّ الآيات الثلاث هي في حقّ المؤمنين المتّقين والمميّزين. والدليل على ذلك ذكر الآية لمواصفات من قبيل: إحياء الليالي بالعبادة والتهجّد، والخضوع والخشوع في الصلاة، وهي مواصفات لا يوجبها الفقهاء.
تحليل الروايات
بالنسبة إلى الروايات التي تربط الآية 72 من سورة الفرقان بموضوع الغناء؛ ليمكن الاستدلال بها في استنباط حكم الغناء، فهي:
1ـ عن محمد بن أبي عبّاد، وكان مستهتراً بالسّماع، ويشرب النبيذ، قال: سألت الرضا× عن السماع؟ فقال: لأهل الحجاز فيه رأي، وهو في حيّز الباطل واللهو، أما سمعت الله عزّ وجلّ يقول: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً﴾([30]).
في هذه الرواية ينبّه الإمام الرضا× السائل، وهو من عشّاق السماع والغناء، بأنّه لغو ولهو، ويقع في دائرة الباطل. ولعلّ القرائن الموجودة في هذه الرواية تشير إلى أنّ الإمام× لم يكن في صدد بيان حرمة الغناء، بل أراد تبيان عدم صلاح هذا العمل وعبثيّته التي تقرن بالكراهة.
القرينة الأولى هي أنّ الإمام× لم ينهَ السائل المتيّم بالسماع، والذي كان هو المبادر للاستفسار عن حكم المسألة، لم ينهه عن هذا العمل، حتى أنّه لم يصرّح بحرمة هذا العمل، بل اكتفى بوصفه من أعمال الباطل.
القرينة الثانية هي أنّ عدول الإمام× من الإشارة إلى آيات العذاب إلى الآيات التي تصف المتّقين منافٍ لإرادة النهي التحريمي، وهو إلى النهي التنزيهي أقرب.
أمّا القرينة الثالثة فهي أنّ الإمام× كان في صدد بيان رأي أهل الحجاز في الإباحة التامة (بالمعنى الأخص)، وبدون منقصة، لذلك فإنّ ردّ هذا الرأي لا يثبت سوى وجود المنقصة في السماع، ولا شيء أكثر. وبعبارة أخرى: إنّ دلالة الرواية على حرمة الغناء غير تامّة، ولا تؤكد إلاّ على كراهة ومنقصة هذا العمل.
2ـ عن أبي أيّوب الخزاز قال: نزلنا بالمدينة، فأتينا أبا عبد الله×، فقال لنا: أين نزلتم؟ فقلنا: على فلان صاحب القيان، فقال: كونوا كراماً…، فقلنا: لا ندري ما أردت بقولك: كونوا كراماً؟ فقال: أما سمعتم الله عزّ وجلّ يقول: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً﴾ ([31]).
وسند الرواية معتبر. وسعيد بن جناح الأزدي إمامي ثقة، وسهل بن زياد وسائر رجال السند أيضاً ثقات. ووجه الاستدلال هو أنّ الإمام× بتذكيرهم بالآية الكريمة: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً﴾ أراد نهي أبي أيّوب وأصحابه عن الاقتراب من مجالس الغناء واللهو واللعب التي اعتاد على إقامتها صاحب هذا المنزل، وبدلاً من نهيهم صراحة لجأ إلى طريق غير مباشر، ثم عرج على هذا الأمر في نهاية المطاف.
بيد أنّ هذا الاستدلال على حرمة الغناء مطلقاً غير تامّ؛ وذلك أولاً: من غير الواضح بالضبط ماهيّة العمل المنكر الذي نبّه عليه الإمام×، فهل كان النهي عن حضور مجالس اللهو والقيان والفساد التي كان يقيمها صاحب المنزل، أم أنّ مراد الإمام× هو ارتيابه من القيان، أو الاستماع إلى أيّ غناء في ذلك المنزل؟ وفي الافتراض الأخير لا يُعلم نوع الغناء الذي كان في المنزل والذي نهى عنه الإمام، فهل كان غناءً منكراً أم عادياً؟ ولا ريب أنّ الافتراض الأخير هو الذي يمكن أن يحمل دلالة على الحرمة المطلقة للغناء. وفي ظلّ هذا الغموض فإنّ دلالة الرواية على المقصود غير تامّة. ويبقى الشيء الأكيد هو دلالة الرواية على فساد حضور مجالس اللهو واللعب والقيان. وبعبارة أخرى: إنّه نظراً إلى أنّ حيثيات الواقعة التي تتناولها الرواية غير واضحة المعالم بالنسبة لنا فلا يمكن تعميمها وإطلاق حكمها.
وثانياً: إنّ دلالة كلام الإمام× لم تكن في الأصل على الحرمة التامة؛ لأنّه بالنظر إلى كون السائل من أبرز أصحاب الإمام× أراد أن ينهاه عن ارتكاب فعل منكر فيه منقصة، وهذا العمل المنهي عنه كان عملاً منكراً.
آية اللعب
من الواضح عدم وجود أيّة علائم على الغناء والتغنّي في الآية الكريمة: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾ (الأنبياء: 17 ـ 19). وإنّما كان الاستدلال بها استناداً إلى رواية عبد الأعلى، نقلاً عن الإمام الصادق×، التي يحمل فيها بشدّة على أولئك الذين ينسبون تجويز التغنّي بالأغاني والأشعار الجاهلية إلى الرسول الكريم‘. ونصّ الرواية هو: عن عبد الأعلى قال: سألت أبا عبد الله× عن الغناء؟ وقلتُ: إنّهم يزعمون أنّ رسول الله‘ رخّص في أن يقال: جئناكم جئناكم، حيّونا حيّونا نحيّيكم، فقال: كذبوا، إنّ الله عزّ وجلّ يقول: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾، ثمّ قال: ويلٌ لفلان ممّا يصف، رجل لم يحضر المجلس([32]).
وسند هذه الرواية معتبر. والحسن بن علي بن فضال من أسرة قال عنها الإمام×: <خذوا ما رووا، وذروا ما رأوا>([33]). ويونس بن يعقوب البجلي ثقة. وعبد الأعلى بن أعين مولى آل سام أيضاً شخص ثقة.
ولكنْ ثمّة لبس وغموض يحيطان بالرواية، وهو: ما الذي جعل الإمام× يردّ وبقوة على ما نسب إلى الرسول الكريم من ترخيصه لتلك الأشعار، في حين أنّها لا تتضمّن ما يعيب، بل كانت تحية يتبادلها المسلمون بينهم. كما لا يوجد أي دليل على أنّه كان يُتغنّى بها؟ ولا سبيل إلى رفع هذا اللبس سوى القول بأنّ هذا الردّ العنيف من قبل الإمام× مردّه إلى أنّ بعض فقهاء العامة أرادوا بإسنادهم هذا الترخيص إلى الرسول الكريم‘ أن يعطوا غطاءً شرعياً لمجالس الفسق والفجور الموبوءة بالمعاصي والغناء اللهوي الشهواني، التي ازدهرت سوقها في تلك الأيام، بتشجيع من الحكام الأمويين والعباسيين، فكان ذلك الردّ القاطع؛ ليفنّد كل الاحتمالات، ويسدّ الباب في وجه جميع البدع التي تبيح مثل هذه المفاسد.
وهنالك احتمال آخر، وهو أن يكون مراد السائل القول بأنّهم ـ أي فقهاء العامة ـ يرون بأنّ الرسول الكريم‘ كان يشجّع على هذه الأشعار اللهوية، ويستحسن إنشادها. وقد أراد الإمام× بردّه القاطع أن ينفي عن النبي العظيم‘ حضّه وتشجيعه على الأعمال اللهوية، بما فيها المجازة. وبالتالي فإنّه لا علاقة للأمر برمّته بالغناء وحكمه.
وتعليقاً على هذه الرواية نجد من الضروري الإشارة إلى أنّ الإمام×، من خلال احتجاجه بالآية 17 من سورة الأنبياء، كأنّه أراد القول: كما أنّ نظام الخلق الإلهي يخلو من اللهو واللعب كذلك هو نظام التشريع. والترخيص والحضّ على الغناء اللهوي هو بمثابة لهو ولعب بالتشريع وأصوله. وبما أنّ هذه الشريعة هي الأكمل فهي منزّهة عن كلّ ذلك. كما نلاحظ أنّ لهجة التهديد والوعيد، التي تتضمّنها العبارة الأخيرة من الرواية بقوله: <ويل لفلان>، هي في الحقيقة تقريع شديد؛ بسبب نسبة الكذب إلى الرسول الأعظم‘، ولا علاقة لها بمضمون هذه النسبة. ومن هذا كلّه لا يمكن حمل الرواية؛ بالاستناد إلى كلتا الفرضيتين، على حرمة الغناء مطلقاً.
آيات الزور
يأمرنا الله تعالى في الآية 30 من سورة الحج باجتناب قول الزور، حيث يقول عزّ من قائل: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاء للهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴾. ونفس الأمر بالنسبة للآية 72 من سورة الفرقان، التي تثني على تجنّب شهادة الزور؛ باعتبارها من خصال المؤمنين. ونصّ الآية الكريمة هو: ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً * … * وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً﴾.
<الزور> في اللغة بمعنى مال وانحرف. و<الزَّوَر: هو ميل في وسط الصدر>([34]). ومن ذلك فإنّ <قول الزور> هو كل قول فيه ميل وانحراف عن الحق والصواب. و<شهود الزور> كناية عن الحضور في مجلس الزور. وقد يكون الغناء من مصاديق قول الزور، ويكون فعل الغناء والاستماع إليه وحضور مجالسه يندرج تحت نهي القرآن عن هذا العمل.
إنّ دلالة الآية الكريمة من سورة الفرقان هي موضع بحث وتأمل؛ لأنّه على الرغم من ذكر بعض الصفات الملزمة بالنسبة لكل مؤمن في هذه الآية، مثل: النهي عن قتل النفس المحرّمة، إلاّ أنّها مع ذلك تشير أيضاً إلى بعض الخصال والأعمال الصالحة، من قبيل: إحياء الليل بالعبادة، فهي غير واجبة بالتأكيد. لذلك فالزعم بأنّ عدم حضور مجلس استماع الزور أمر ملزم غير ثابت.
فسّرت بعض الروايات عبارة قول الزور الواردة في الآية 30 من سورة الحجّ بالقول الكذب([35])، أو البهتان([36]). وهو بمثابة تأكيد لدلالة الآية الكريمة التامّة على حرمة جميع مصاديق قول الزور. لكن شمولها لجميع أنواع الغناء يبقى موضع تأمّل ونظر؛ إذ من أجل إثبات هذه المسألة يجب أن نثبت أولاً أنّ الغناء في ذاته مصداق للزور والصدّ عن الحقّ.
وسنبيِّن خلال بحثنا في الآية الكريمة في سورة لقمان كيف أنّ بعض أنواع الغناء من الزاوية العقلائية لا يعتبر مصداقاً للباطل وقول الزور بأية حال. وبالنتيجة فإنّ الحكم على جميع أنواع الغناء بالبطلان والفساد يكون صحيحاً من خلال إعمال التعبّد فقط؛ باعتباره حكماً منزلاً، بيد أنّه لم يثبت لدينا مثل هذا التعبُّد أبداً.
الروايات المرتبطة بالآيتين
هناك سبيل آخر لإثبات دلالة هاتين الآيتين، وهو الرجوع إلى الروايات التي ترى في الغناء تجسيداً لقول الزور، وأنّه مشمول بنهي الآية. وهذه الروايات هي:
1ـ عن محمد بن مسلم وأبي الصبّاح الكناني، عن أبي عبد الله×، في قول الله عزّو جلّ: ﴿وَالذينَ لا يشْهَدُونَ الزُّورَ﴾، قال: الغناء([37]).
وسند الرواية صحيح ومعتبر. وينقل الكافي رواية أخرى بنفس المضمون عن محمد بن مسلم، عن أبي الصبّاح. وعلى الأرجح أنّها نفس الرواية السابقة. والمشكلة التي ذكرناها حول دلالة الآية هي نفسها مطروحة هنا بالنسبة للرواية، بمعنى أنّ مراد الإمام× هو أنّ مجلس الغناء مصداقٌ لمجلس قول الزور والباطل، فلذلك إمّا أن يكون في هذه الحالة إعمال تعبّد شرعي، أو أنّه أمر إرشادي محض يحكم به العقل. أما الوجه الأول فهو غير صحيح؛ لأنّ اعتبار جميع أنواع الغناء، ومعها كل صوت مطرب، مصاديق لقول الزور والصدّ عن الحقّ أمر غير مقبول، ولا صحّة له في ميزان العقل؛ لأنّ إعطاء الصبغة التعبدية لهكذا حكم يتطلّب من الشارع بياناً أصرح وأوضح، فلا يمكن إثبات ذلك من خلال إطلاق ضعيف ومضطرب. فالمفروض في حال وجود ضرورة لمثل هذا الإعلان التعبّدي أن يصدر بيان واضح لا يكتنفه أي غموض أو لبس بحرمة جميع أنواع الغناء والأصوات المطربة. وبناءً على هذا الاستنتاج يكون الافتراض الثاني القائل باختصاص هذه الحرمة بأنواع الغناء الفاسد فقط هو الأرجح والأقرب إلى العقل.
2ـ ثمّة روايات متعدّدة تعتبر الغناء مصداقاً لقول الزور. ونكتفي هنا بالإشارة إلى واحدة منها فقط، وهي:
3ـ عن حمّاد بن عثمان، عن أبي عبد الله×، قال: سألته عن قول الزور؟ قال: منه قول الرجل للذي يغنّي أحسنت([38]).
وسند الرواية معتبر. ورواتها على الأعمّ من أعاظم الشيعة. ونلحظ أنّ الإمام الصادق×، في جوابه عن سؤال حمّاد بن عثمان، يعتبر أنّ من مصاديق قول الزور قول: «أحسنت» لمن يغنّي، تشجيعاً له وتشويقاً. وبذلك تنهى الرواية عن هذا القول، وتعتبره عملاً محرّماً. لذا، ومن باب الملازمة العقلية فإنّ للرواية دلالة على النهي عن الغناء وحرمته. وعلّة هذه الملازمة هي أنّه من غير الممكن عقلائياً أن يكون التشجيع على العمل المباح أو المكروه الذي لا يستحقّ فاعله عقوبة حراماً، ويستوجب العقوبة. ولهذا يكون الغناء عملاً محرّماً. والخطوة التالية هي إثبات حرمة الاستماع إلى الغناء عن طريق الملازمة العقلية أيضاً، فنقول: إنّ مفسدة الغناء هي لجهة الأثر السلبي الذي تحمله على المستمع، فإذا لم يكن الاستماع إلى الغناء وآثاره السلبية عملاً محرّماً فمن باب أولى أن لا يكون الغناء وتأثيراته محرّمة أيضاً. وبهذا الاستدلال يمكن زعم الدلالة التامّة لهذه الرواية على حرمة الغناء بالجملة.
لكنّنا مع ذلك نخالف هذا الرأي، ونقول بعدم دلالتها على حرمة جميع أنواع الغناء؛ إذ ـ كما أوضحنا بالنسبة للآية ـ لا شمول في قول الزور لجميع أنواع الغناء من الناحية العقلائية أو التعبّدية الشرعية. ولذلك فنحن مضطرّون في هذه الحالة إلى الانصراف عن الإطلاق، واللجوء إلى التخصيص في أنواع محدّدة.
آية لهو الحديث
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ (لقمان: 6).
هذه الآية هي الأهمّ من حيث استناد الروايات إليها والاستدلال بها؛ إذ يقول الطبرسي بأنّ معظم المفسّرين متّفقون على أنّ المقصود بـ <لهو الحديث> هو الغناء([39]).
وفي شأن نزول الآية الكريمة نقل عن الكلبي ـ في مجمع البيان ـ أنّها نزلت في نضر بن الحرث بن علقمة، الذي كانت له أسفار كثيرة إلى بلاد فارس، وقد حمل معه من تلك الأسفار أساطير كثيرة عن رستم وإسفنديار، كان يسردها على الناس في مساجد المدينة والأماكن العامة، فكان يصرفهم عن القرآن. كما ينقل مجمع البيان عن ابن عباس أنّه نزلت في رجل اشترى جارية كانت تغنّي له ليلاً ونهاراً([40]).
جاء لفظ <الاشتراء> في القرآن الكريم بمعنى الشراء والبيع على حدّ سواء. وهو في هذه الآية يعني الشراء، وهو تعبير عن الترويج والنشر بين الناس. تقدّم الآية الكريمة في كلمات قليلة دستوراً كاملاً ينظّم حياة الإنسان في ما يتعلّق باللهو والاستجمام. تبيّن هذه الآية، كما سنفصّل لاحقاً، أنّ أيّ لهو يحرف الإنسان عن سبيل الله ممنوعٌ، ويترتّب عليه العذاب. وتذمّ الآية الكريمة تحديداً قول اللهو الذي يصدّ الناس عن سبيل الله، لكنّها لم تذكر شيئاً عن الغناء أو الصوت. وبالتالي لم تحمل أية دلالة على حرمتهما. ولكن تصدّت روايات عديدة، بأسانيد صحيحة ومعتبرة، لهذه المهمّة، واعتبرت أنّ الآية معنية بالغناء كأحد مصاديق اللهو المضلّ.
الروايات المتصلة بآية لهو الحديث
وهنا نورد مثالين من هذه الروايات، وهما:
1ـ عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر×، قال: سمعته يقول: الغناء ممّا وعد الله عليه النار، وتلا هذه الآية: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾([41]).
2ـ عن الوشاء قال: سمعت أبا الحسن علي بن موسى الرضا× يُسأل عن الغناء؟ فقال: هو قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ﴾([42]). وفي كلتا الروايتين جعل الإمام الرضا× الغناء مصداقاً للآية.
وسند الروايتين صحيح ومعتبر. ولكن يبقى أن نحدّد نطاق دلالة الآية الكريمة، وذلك من خلال مسائل ثلاث:
الأولى: مشكلة إثبات تطبيق موضوع <لهو الحديث> على الغناء، بمعنى إثبات أن الغناء مصداق للآية الكريمة. قلنا في بداية هذا البحث، في تعريف الغناء: إنّه الصوت المشتمل على الترجيع المطرب واللحن المفرح. ومن البديهي عدم وجود علاقة تربط بين لحن الصوت ومحتوى الحديث أو القول، ومع ذلك فإنّ الآية تعتبر الغناء مصداقاً لـ <لهو الحديث>، والذي يعني الكلام الباطل اللهوي؛ بالاستناد إلى المعنى الظاهري للفظ، وكذلك شأن نزول الآية. ولذا فإنّ تطبيق هذه الآية على الغناء، الذي يستقلّ بمعناه عن مسألة مضمون الكلام، يبدو أمراً مشكلاً. ولكن يمكن حلّ هذه المشكلة بطريقين: الأول: إنّ تطبيق عبارة <لهو الحديث> على الغناء يصبح ممكناً إذا كانت العلاقة التي تربط بين الكلام والصوت علاقة الحال والمحلّ، فيكون الكلام بمثابة المادّة، والصوت الهيئة أو العرض التي تركب على المادّة، فيحصل لدينا خليط من الاثنين. وحينذاك يمكن أن تسري أحكام أحدهما مجازاً على الآخر، فإذا كان الصوت لهوياً، وهو عرض مركب على المادة، أي الكلام، فيتأثر هذا الأخير به، فيكون الكلام لهوياً أيضاً. ونستنتج من هذا أنّ الكلام الذي يؤدّى بلحن لهوي يسمّى لغو الحديث، وإنْ لم يكن كذلك.
الثاني: إذا قمنا بتحليل العناصر الثلاثة للآية الكريمة، وهي: اللهو، والحديث، والضلال، سندرك السرّ الذي يكمن وراء تطبيق الآية على الغناء في هذه الروايات. فبحسب هذه الآية الكريمة يوصم أيُّ كلام لهوي يحمل صفات الإضلال بالحرمة، ويستحقّ مرتكبه العذاب المهين.
ومن خلال دراسة فاحصة لهذه العناصر الثلاثة نتبيّن أنّ اجتماع عنصري <اللهو> و<الإضلال> في الحديث يمكن أن ينسحب على اكتمال مستلزمات الوعد بالعذاب، أمّا وجود عنصر الحديث بمفرده فلن يكون مرجّحاً لحكم الحرمة؛ لأنّ العقل لا يقبل بهكذا دور له. وهذا ما فعله الإمام×، حيث نأى بعنصر الحديث بعيداً عن التدخل والتأثير على المعادلة، وأعطى الأصالة للعنصرين الآخرين: <اللهو>؛ و<الإضلال>. وبهذه الوسيلة أسقط حكم الآية على الغناء، مستلهماً حرمته منها. في الطريق الأول تمّ شمول لهو الحديث للغناء بواسطة العقل، ولكن عبر صناعة أدبية، بمعنى إرادة مجازية، بدلاً من المعنى الحقيقي؛ بينما في الطريق الثاني قام بتهيئة الأرضية لتحليل اجتهادي؛ بهدف التوسّع في مضمون الآية.
الثانية: نطرح هنا سؤالاً، وهو: هل أنّ الأنواع الثلاثة للغناء: الغناء غير اللهوي؛ والغناء اللهوي غير المضلّ؛ والغناء اللهوي المضلّ، التي طرحناها في بداية بحثنا، هل أنّها جميعاً مشمولة بحكم هذه الآية والروايات المفسّرة لها؟ الجواب عن هذا السؤال واضحٌ، وهو: إنّ وجود الشرط <ليضلّ عن سبيل الله> في الآية يعني أنّ حكمها لا يشمل اللهو غير المضلّ، فالمشمولون بها هم الساعون إلى الإضلال من وراء هذا العمل. إذاً نستفيد من هذه الآية حرمة أي عمل لهوي يحرف الإنسان عن سبيل الله.
الثالثة: يستفاد من الجملة التعليلية <ليضلّ عن سبيل الله> أنّ مقصود الآية هو بيان مبدأ اجتماعي في الشريعة، وهو أنّ أي عمل لهوي يوجب الإضلال والصدّ عن سبيل الله هو عمل محرّم يستلزم العقاب. وهذا بمثابة حكم ديني عام يشمل جميع أنواع اللهو. ولذا نستنبط من هذه الآية أنّه ليس كل عمل لهوي محرّم، بل يجب أن يتوافر على شرط الانحراف والصدّ عن سبيل الله. وهذه الأعمال اللهوية المضلّة يمكن أن تشمل الاستماع إلى الغناء أو الموسيقى، أو حضور مجالس اللهو واللعب، أو مشاهدة الأفلام، أو قضاء الأوقات في اللعب ومشاهدة المسابقات، أو الاستماع إلى برامج الفيديو، أو قراءة الروايات.
3ـ الرأي المختار
نسعى في هذا القسم من البحث إلى مناقشة دلالات الروايات التي ترى في الغناء مطلقاً مصداقاً للآية الكريمة في سورة لقمان، وسائر الآيات التي تدلّل على حرمة أي صوت غنائي.
إنّ شمول لهو الحديث وقول الزور لجميع أنواع الغناء يعني في الواقع أنّ الشارع، وبخلاف الفهم العقلائي المتداول، يرى أنّ كل غناء ـ بما في ذلك التغنّي بالقرآن، البعيد عن أي أثر مضلّ أو أية مفسدة في ذاته ـ هو بصورة تعبدية وحكمية مصداقاً لقول الزور واللهو المضلّ. وفي هذه الحالة تكون دلالة الآية على حرمة الغناء بجميع أنواعه تامّة وكاملة. في حين نعتقد نحن بأنّ استنباطاً كهذا من الروايات يتعارض بالتأكيد مع الفهم العام، ولا يمكن تبنّيه ما لم توجد دلالة صريحة تستند إلى ظهور إطلاقيّ محض.
وما دامت هذه الروايات لا تفيد وجود حكم تعبّدي كهذا فلا مناص من اعتبارها روايات ذات مضامين إرشادية، تشير إلى أنّ <الغناء اللهوي المضلّ> هو من مصاديق قول الزور والباطل واللهو المضلّ.
أمّا أدلّتنا التي تبرهن على هذا الرأي فهي:
الأول: شرحنا في موضع سابق من هذا البحث ما كان من حال الغناء الذي شاع في عهد الإمام الخامس والأئمة من بعده على يد حكام بني أمية وبني العباس في المدن والأقاليم، والذي كان غناء لهوياً فاسداً مضلاًّ. وإنّ الأشعار والقصائد، وأسلوب التغنّي بها، والألحان المستخدمة، كانت من النوع الماجن الذي يثير الشهوات ويحرّك الغرائز نحو الفساد، وغالباً ما كان مقترناً بارتكاب المعاصي الأخرى، مثل: شرب الخمر، والملاهي الداعرة. وحسبنا الرجوع إلى المصادر التاريخية التي تتحدّث عن موضوع الغناء لنقف على مدى انتشار ورواج هذه الأنواع الماجنة منه بين المسلمين ـ بعد تسلّط بني أميّة وبني العباس على مقدرات الدولة الإسلامية، بدءاً من النصف الثاني من القرن الأول الهجري ـ. وهنا تتجلّى لنا عظمة الدور الإصلاحي للأئمة^ في تلك الفترة، في النأي بشيعتهم عن أمواج الفساد والابتذال التي أغرقت المجتمع آنذاك، حيث نجد أقوالاً وتعاليم كثيرة للأئمة الباقر والصادق والرضا^ تنهى الشيعة عن الاقتراب من الغناء. ومن هذه الأقوال صحيحة أبي أيوب الخراز، التي ينقل فيها تحذير الإمام الصادق× له من حضور مجالس الجواري المغنيات في بيت صديقه، لئلا تدنّسه موبقاتها أو يفسد، ولعلّ هذا ينقل صورة واقعية عن المنهج الإصلاحي للأئمة^([43]).
مثال آخر: رواية محمد بن عمرو بن حزم، الذي قضى ساعة في مجلس للغناء استمع فيه إلى غناء الجواري، فجوبه بخطاب غير مباشر من الإمام الصادق× نهى فيه الحاضرين عن حضور مثل هذه المجالس، فقال الراوي: أدركت من هذا الخطاب أنّه× أراد معاتبتي([44]).
الثاني: إذا كان مراد الإمام× بيان هذا الحكم التعبّدي فقد كان الواجب أن يصرّح بشموله لجميع أنواع الغناء؛ لأنّه بالاستناد إلى مبدأ التفهيم والتفاهم العقلائي الذي يتّبعه الشارع أيضاً إذا كانت ثمّة ضرورة لبيان أمر بعيد عن الفهم والارتكاز العقلائي فلابدّ للشارع من توضيحه بشكل لا لبس فيه، ولا إبهام يكتنفه؛ إذ من غير المعقول بيان حكم تعبّدي بعيد عن الفهم العرفي والعقلائي بقول مجمل وملغز. فلو كان مقصود الإمام× حقّاً بيان هذا الحكم التعبّدي فالمتوقّع أن يشرح ذلك بعبارات أكثر وضوحاً وصراحة. ولا أظنّ أنّ عبارات مجملة وقصيرة، كالتي وردت في الروايات، مثل: <الزور هو الغناء>، أو <هو (الغناء) قول الله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ… ﴾>، يمكن أن تفصح عن حكم تعبّدي خارج عن أذهان العرف العام.
الثالث: جرت العادة عندما يريد الشارع بيان حكم شرعي يتعلّق بموضوع عرفي معيّن أن يُحمل ذلك الحكم على مثال أو أمثلة من أرض الواقع تكون متداولة في المخاطبات العرفية، وليس على أمثلة أو معاني قابعة في معاجم اللغة فقط. فالمعنى العام للغناء المذكور في تلك المعاجم جاء في عبارات من قبيل: <الغناء هو الصوت الحسن>، وهو كـ <سعدانة النبت> يحمل معنى جنسياً عاماً. إذاً ففحوى كلام الإمام× يدور دائماً حول أحكام الموضوعات المطروحة في المجتمع، التي تشكل مدار اهتمام الأفراد، ولا يمكن أن يكون المقصود به المعاني الموجودة في بطون معاجم اللغة.
الرابع: وهو عدم شمول هذه الروايات للغناء غير اللهوي. فقد نقل عن الشيخ الصدوق) أنّ الإمام علي بن الحسين×، في جوابه عن سؤال حول شراء جارية حسنة الصوت، قال: ما عليك لو اشتريتها فذكرتك الجنة، قال: يعني بقراءة القرآن والزهد والفضائل التي ليست بغناء، فأما الغناء فمحظور([45]).
ويشير سياق العبارة إلى أنّ الجملة الأخيرة ليست من أصل الرواية، لكنّها أقحمت فيها من قبل الشيخ الصدوق أو راوٍ آخر؛ توضيحاً منه للرواية. ومهما يكن من أمر فإنّ للرواية تفسيراً واحداً، وهو الذي ورد في ختامها، والذي يقول: لا بأس إذا كانت جاريتك تتغنّى بالأمور الأخروية والمعنوية. وثمّة تفسير آخر هو: ما الضير في أن تذكرك جاريتك بصوتها الحسن بنعم الجنّة وملذّاتها. واستلهاماً من هذا التفسير فليس من الضروري التغنّي بالأشعار التي تذكِّر بالجنّة والآخرة، بل المقصود هو تجويز أيّ غناء مطرب وغير مضلّ.
كما أنّ الروايات التي تذكر أنّ علي بن الحسين’ كان يقرأ القرآن، فربما مرّ به المارّ، فصعق من حسن صوته، وأن الإمام× لو أظهر من ذلك شيئاً لما احتمله الناس من حسنه، كلّها تؤيّد هذا المنحى الذي ذهبنا إليه([46]). علاوة على أنّ رواية رجّع بالقرآن صوتك([47]) تدلّ كذلك على هذا النوع من الغناء، وتقيّد إطلاق تلك الأخبار الواردة في حرمة الغناء.
الخامس: تمثل الروايات التي تجيز غناء الأعراس والأعياد أيضاً أدلة على حليّة الغناء اللهوي غير المضلّ([48]). وسند روايات أبي بصير عن أبي عبد الله× قال: أجر المغنية التي تزف العرائس ليس به بأس، ليست بالتي تدخل عليها الرجال، معتبر([49]). وعلى الرغم من أنّ إطلاق هذه الروايات يشمل الغناء اللهوي المضلّ أيضاً، وأنّها مجازة في المناسبات المذكورة، فإن إطلاقها غير معتبر. لذا يجب ربطها وتقييدها بالغناء اللهوي غير المضلّ.
استنتاج
نستنتج من بحثنا هذا أنّ الغناء ينقسم إلى نوعين، من حيث التأثير الذي يتركه على الإنسان: غناء مضلّ؛ وغناء غير مضلّ. والتحريم الوارد في سورة لقمان يعنى بالغناء المضلّ ولهو الحديث. وبذلك فإنّ نوعه غير المضلّ يقع خارج دائرة هذا الحكم. أمّا بالنسبة للآيات والروايات الواردة في حرمة الغناء فهي بالجملة ترتبط بهذا النوع (المضلّ). وما من دليل على حرمة الغناء غير المضلّ. وهذا النوع بدوره ينقسم إلى نوعين: لهوي؛ وغير لهوي. وتشير الروايات المعتبرة إلى حلية وفوائد الغناء غير المضلّ، من قبيل: غناء الأشعار المفيدة، والتغنّي بالآيات القرآنية.
إنّ الآيات الكريمة وروايات المعصومين^ التي استدلّ بها لإثبات حرمة الغناء تخصّ الغناء اللهوي المضلّ؛ وذلك لجهة مضامينها وأشعارها، أو ألحانها، التي تحمل آثاراً مفسدة، وتوجب حرف الأذهان والسلوك، ودفع الإنسان نحو مزالق المعاصي والآثام، والابتعاد عن سبيل الله.
في حين أنّ الغناء الذي لا يجرّ إلى الفساد واجتراح الذنوب لا يقع ضمن دائرة الغناء المحرّم، سواء أكان غناءً غير لهوي مفيداً، أو ذلك الذي لا طائل من ورائه سوى الالتذاذ الروحي المحض.
إنّ إطلاق بعض الروايات الواردة في ذمّ الغناء أمر مقبول، بيد أنّ دلالتها لا تذهب إلى أبعد من كراهة الغناء اللهوي ومنقصته، ولم يثبت فيها نهي تحريمي مؤكد. كما أنّ في إطلاق الروايات العديدة التي تثني على الصوت الحسن وغناء الأشعار المفيدة دلالة على تجويز <الغناء غير اللهوي>، الذي لا يستخدم الألحان المضلّة والمفسدة.
وبناءً على ما تقدّم من إيضاحات نجد مندوحة في حلّ إشكالية تعارض الروايات على نحو مرضٍ ومقبول. فهذه الروايات تذمّ الغناء، وتنهى عن حضور مجالس اللهو والطرب، وتحذّر من آثارها السيئة، وهي في الجملة تعنى بالغناء اللهوي المضلّ، وبذلك فهي لا تملك صفة الإطلاق في إطار الأدلة المطروحة. وبعض تلك الروايات يحمل نهياً عن التغنّي بالقرآن([50])، وأبعد ما تذهب إليه دلالات هذه الروايات هو إثبات عدم جواز التغنّي بآيات القرآن فحسب، دون غيرها من الموارد.
وفي ختام البحث نجد لزاماً ذكر ملاحظتين:
الأولى: إنّ عدم حرمة أنواع الغناء غير المضلّ لا يعني بالضرورة ترخيص وإباحة هذه الأنواع بالمعنى الخاص؛ لأنّه ورد ذمّ في بعض الروايات للغناء اللهوي غير المضلّ([51]).
الثانية: إنّ من عوامل الإضلال والإفساد في الغناء هو فساد مضامينه وألحانه. وهناك نوع آخر من الغناء المضلّ لا تكمن ضلالته في اللحن أو المضمون، بل في التلهية الدائمة، والإدمان على الغناء غير الفاسد، والتي تعدّ أحياناً مانعاً وصارفاً عن المسؤوليات الأخرى التي عهد بها الله تعالى إلى الإنسان، فتكون بالتالي تجسيداً للصدّ عن سبيل الله. ومن الأمثلة على ذلك: رواية الوشّاء حول شخص ألهته جاريته المغنية كلّياً بالغناء، وأنسته شؤونه الأخرى([52]). لذا فإنّ إطلاق هذه الرواية يشمل الإدمان على أيّ نوع من الغناء.
الهوامش
(*) عضو الهيئة العلمية في جامعة طهران، من إيران.
([1]) انظر: الوسائل 12، الأبواب 15، 16، 99.
([2]) انظر: الوسائل 12، الباب 101.
([3]) العاملي، مفتاح الكرامة، 12: 179.
([4]) ابن منظور، لسان العرب مادة غِنى.
([5]) انظر: الخليل بن أحمد الفراهيدي، كتاب العين؛ الجوهري، الصحاح؛ الفيروزآبادي، تاج العروس.
([8]) تاريخ ابن خلدون، 1: 400.
([9]) ابن الأثير، النهاية 3: 391.
([11]) تاريخ ابن خلدون 1: 231.
([13]) الأردبيلي مجمع الفائدة والبرهان 8: 57.
([14]) الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة 5: 79.
([15]) ابن إدريس السرائر 2: 222؛ فخرالمحققين 1: 405.
([18]) النراقي، مستند الشيعة 14: 150.
([19]) السبزواري، كفاية الأحكام: 86.
([20]) الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة 5: 79.
([21]) الفيض الكاشاني 17: 205.
([22]) العاملي، مفتاح الكرامة 12: 172.
([24]) الأنصاري، المكاسب 1: 110.
([25]) النجفي، جواهر الكلام 22: 44.
([34]) الخليل بن أحمد الفراهيدي، كتاب العين، مادة: زور.
([36]) من لا يحضره الفقيه 1: 503.
([3]) الطبرسي، مجمع البيان 8: 490.
([43]) الكليني، الكافي 6: 432.
([45]) من لا يحضره الفقيه 4: 60.
([48]) المصدر السابق 17: 120 ـ 122.