إطلالة على أزمته المدوّية وعلاقاته بإيران والمرجعيات الدينية
د. حسام الدين آشنا(*)
د. الشيخ محمد رضا زائري(**)
أ. محمد مهدي شريعتمدار(***)
«كان لهذا العالم الجليل العامل دور بارز وبصمة واضحة على صعيد الدين والسياسة».
هذا هو جانب من رسالة التعزية من قبل السيد القائد الخامنئي بمناسبة رحيل العلاّمة السيد محمد حسين فضل الله. ومهما حاولت لم أتمكن من إقناع نفسي بأسباب غياب شخصية عالم كبير له مكانته على المستوى الدولي عن الوسط الشيعي الإيراني؛ إذ تقتصر معرفة عامة الناس لهذا الرجل في حدود الشهرة العلمية داخل المجتمع اللبناني، وكونه داعماً لحزب الله والثورة الإسلامية، أما ما يدور من مواقف مخالفة ومؤيدة له فقد باتت أخبارها منقطعة عن المجتمع الإيراني.
وقد قبل كلٌّ من الدكتور حسام الدين آشنا والدكتور محمد رضا زائري ومحمد مهدي شريعتمدار دعوتـنا للجلوس على طاولة مستديرة للتحاور، ومناقشة هذا السؤال المحوري:
لماذا يجهل المجتمعُ الإيراني العلامة فضل الله؟
من هو العلاّمة فضل الله؟ ولماذا لا يعرفه المجتمع الإيراني جيداً؟
شريعتمدار: لعله يمكن أن نقول بأن أصداء شخصية العلاّمة فضل الله كانت مقتصرة ـ قبل الثورة الإسلامية ـ على الوسط اللبناني المسلم. وقد صدرت أهم كتبه في العام 1978م، أي قبل الثورة بسنة أو سنة ونصف، وهي التي عرّفته للناس خارج لبنان. وعقب انتشار الثورة الإسلامية دخل العلاّمة المعترك السياسي بقوة، مؤيِّداً للثورة من خلال خطبه في الجمعة والجماعة، بل كانت له مشاركات في مجريات الثورة، من قبيل: الحضور في الاجتماعات والمؤتمرات.
في تلك الحقبة، وقبيل الثورة، غُيّب الإمام موسى الصدر عن الأنظار، ثم جاءت حادثة استشهاد السيد محمد باقر الصدر في العراق ـ عقب الثورة ـ. هنا وجد حزب الدعوة الإسلامية ـ المنتشر في بعض دول المنطقة ـ نفسه مضطراً للجوء إلى سماحة العلاّمة، فاختاره فقيهاً للحزب. بعد ذلك أخذ اسم العلاّمة يبرز أكثر في وسائل الإعلام في أعقاب أحداث لبنان، واحتلال أراضيه من قبل الكيان الصهيوني، وولادة المقاومة الإسلامية.
ولعل هذا هو السبب في تعرف النخبة الإيرانية ـ سواء في الحوزة أو الإعلام أو السياسة أو الجامعات ـ على العلاّمة فضل الله؛ إذ لم يعرف عنه سابقاً دخوله في نشاطات سياسة، إلا عندما كان متواجداً في النجف، وانخراطه في تنظيمات حزب الدعوة الإسلامية.
كان العلاّمة مواظباً حتى نهايات العقد السابع من القرن الماضي على الخطابة ومحاضرات التفسير، ومجالس ليالي الجمعة، ودعاء كميل، بالتعاون مع بعض المؤسسات الحوزوية والثقافية. وأقصى ما يمكن ذكره في نشاط التجمعات هو تأسيس الاتحاد الإسلامي لطلبة الجامعات في لبنان، وهو في الواقع فرع لحزب الدعوة في لبنان. علماً أن العديد من الشباب الذين التحقوا بصفوف المقاومة والمعترك السياسي اللبناني كانوا من تلامذته وقرّاء كتبه، حتى باتوا يعرفون في الوسط الجهادي برجال فضل الله.
بعد أن تأسَّس حزب الله، وبعد الإعلان الرسمي للتأسيس عبر رسالة مفتوحة لجميع المستضعفين في العالم، عُرِف العلاّمة كأب روحي للحزب، وذلك عقب سنتين من الإعلان الرسمي للتأسيس، ولاسيما في الصحف والقنوات الغربية، التي وصفته بالشخصية البارزة، والأب الروحي للمقاومة اللبنانية. وقد استمر هذا اللقب يطلق عليه فيما بعد، على الرغم من رفضه ذلك في إحدى المناسبات، لكن الموضوع لم يكذَّب بصورة علنية مباشرة أبداً.
لقد شهدت المنطقة في نهاية السبعينات تحوّلات واسعة، ولا سيما في إيران، بانتصار ثورتها الإسلامية، الأمر الذي كان مدعاة لحضور العلاّمة أكثر من ذي قبل في الساحة السياسية. وزاد في ذلك حرصه على الظهور أمام وسائل الإعلام، حتى بات من أهم العلماء في العالم الإسلامي.
الدكتور آشنا: إن المسألة الأبرز في ما يتعلق بالعلامة فضل الله هي السياسات الإعلامية في إيران، ودورها في تقديم هذه الشخصية للمجتمع. فقد اقترنت تلك السياسات بتقلُّبات ومدّ وجزر واسع. ففي إحدى المراحل لم يكن الإعلام يجحد اسم فضل الله كثيراً عندما كان يشارك ويحضر الاجتماعات والمؤتمرات المتعلِّقة بالثورة الإسلامية. لكنه في مرحلة لاحقة تعرَّض للمجافاة، وقد تسبَّبت الملاحظات المثارة حوله في التزام الحيطة والحذر تجاه آرائه ومواقفه. وعليه كان الافتقار لمجموعة من طلابه، ووجود جهة غير حكومية تمثل العلاّمة داخل إيران من جهة، ومجافاة الحكومة له أحياناً من جهة أخرى، هو العامل المؤثِّر في تغيُّبه عن مجتمعنا هنا والساحة الإيرانية.
القضية الأهم في هذا السياق هي: هل كان العلاّمة فضل الله متواجداً في الوسط الحوزوي ـ وهو الأهمّ ـ لتصل أفكاره التجديدية إلى مسامع الطلاب والباحثين أم لا؟ وما مدى اهتمام طلاب الحوزة بنتاج هذا العالم؟ فقد تكون مخالفاً له أو موافقاً لكنك في جميع الأحوال لابد أن تكون على دراية واطلاع وعلم بنتاجاته وكتبه، حتى تتَّخذ قرار المخالفة أو الموافقة.
الدكتور زائري: كنت قد أجريت بحثاً في السابق درست فيه المشتركات والفوارق بين رجال الدين في لبنان ورجال الدين في إيران. فكان ما لفتني في الموضوع هو نقاط الاختلاف حتى بالنسبة للطلاب اللبنانيين الوافدين والمقيمين في مدينة قم. ولعل عنصر المعرفة والاتصال بالخارج كان ذا أهمية قصوى على هذا الصعيد في رصد أبعاد رؤى المخاطب العام. وقد نقل العلاّمة الأميني أنه قال: لو كانت أموال الحوزة بيدي لبعثت بها الطلاب إلى الخارج؛ ليزوروا بلدان العالم، وليطلعوا على أحوال الناس، وليتجردوا من تقوقعهم هذا. فنحن اليوم نرفع شعار تصدير رسالتنا من قم إلى العالم، لكننا لم نسلِّح أنفسنا بما يلزم، وما زلنا نجهل متطلَّباته.
أما ما أشار إليه الدكتور «آشنا» من ضرورة اطلاع المخالف أو الموافق على آراء ومؤلفات الآخر قبل اتخاذ القرار فهي معضلتنا القائمة حتى اليوم؛ إذ من المؤسف أن مواقفنا وأحكامنا الصادرة ليست عن وعي معمّق وإلمام بالتفاصيل. فإذا استثنينا بعض الحالات النادرة فإن الحالة الغالبة في الأجواء الدينية والتقليدية في حوزاتنا هي افتقاد التواصل مع العالم الخارجي والمعرفة بحقائقه، فالطلاب لا يقرأون عنه، ولا يواكبون مجريات العصر. وبالتالي لا نزال نعاني حتى في ردودنا وكتاباتنا النقدية. وقد تراجعنا حتى عن المستوى السابق، حيث قلة سبل الاتصال والتواصل، وباتت مواقفنا تفتقد الدقة اللازمة.
أيضاً هناك قضية أخرى ملحّة في ما يتعلق بالمواقف المتخذة داخل أجوائنا الخاصة. وكان من جملة الإشكاليات الملاحظة في خصوص العلاّمة فضل الله هي أننا لم ننظر إليه من موقعه، بل نظرنا من موقعنا نحن، وصرنا نحكم ونقيِّم الأمور؛ بمعنى أن جميع المخالفين لآرائه ـ سواء على حق أم على باطل ـ كانوا ينطلقون من محيطهم، وليس من محيط العلاّمة نفسه. وهذه المعضلة حاضرة في العديد من المجالات الأخرى، ومعها يفتقد الفهم الصحيح للمواضيع المرتبطة بالحيثيات الدولية ومقتضيات العصر.
وبعبارة أخرى: لسنا هنا في صدد مناقشة الخلافات العلمية أو الفقهية أو التاريخية الحاصلة بين العلماء، أو نظرة العلاّمة المختلفة عن غيره من العلماء الآخرين، بل أريد الإشارة هنا إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، أو دور الزعيم الشيعي في مجتمع اليوم، أي ما نصطلح عليه بالرؤية الشيعية. فأنا أشعر أننا ابتعدنا كثيراً عن هذا المبدأ؛ إذا باتت مواقفنا ونتاجاتنا المعرفيّة مؤطّرة بأجوائنا الحاكمة. والحال أننا ندَّعي مخاطبة العالم أجمع، وعلينا أن نذعن لحقيقة مفادها: إن المخاطب الخارجي واسع المديات ـ كمّاً وكيفاً ـ، وهو ينتظر وصول رسالتنا إليه.
فضل الله وإعلان المرجعية
شريعتمدار: أود الإشارة إلى بعض نظريات وآراء السيد العلاّمة التي أثارت جدلاً واسعاً، حتى بلغ الأمر إلى إصدار بعض الفتاوى في حقه، وتجميع أكبر عدد ممكن من استفتاءات المراجع. وهذه المسألة ـ بلا شك ـ لها دافعها الخاص. وعلى أية حال فإن هذه الظاهرة ولدت عقب الإعلان عن مرجعيته. وكانت هذه الحقبة قد شهدت رحيل جملة من كبار مراجع التشيع، وولادة جيل جديد من المراجع أيضاً، من قبيل: رحيل الإمام الخميني، والسيد الخوئي، والشيخ الأراكي، والسيد الكلبايكاني، والسيد عبد الأعلى السبزواري. كل ذلك حصل في مدد زمنية متقاربة، ممّا ساعد على ظهور جيل جديد آخر، من قبيل: ظهور مرجعية السيد العلاّمة، وإنْ كان الحديث عنها في الأوساط الخاصة سابقاً لذلك.
كان حزب الدعوة آنذاك يعتمد في تنظيمه على عنصر الفقاهة ـ وإن قلّ دوره اليوم ـ، وجرت العادة على اختيار فقيه يمثِّل الحزب، ويرجع إليه في بعض المسائل. وبعد استشهاد السيد محمد باقر الصدر شغل هذا المنصب الشيخ الآصفي لمدة وجيزة، ثم جاء دور السيد كاظم الحائري ـ وهو من مجتهدي قم حالياً، ولديه رسالة عملية ـ. وقد تخلّى جميع هؤلاء عن المنصب؛ لأسباب لا مجال لذكرها هنا، مما جعل الحزب يشعر بفراغ تنظيميّ، فتوجه إلى العلاّمة فضل الله.
في تلك الأجواء، وعقب انتهاء الحرب المفروضة على إيران من قبل العراق، كانت المقاومة اللبنانية تعيش مرحلة النضج والتكامل وبلورة عناصرها الأساسية. الأمر الذي أسهم في اتساع قوة النقد في الأوساط الحوزوية والعلمية. وكانت الدوافع السياسية حاضرة أيضاً. ولو أننا رجعنا إلى شرارة تلك الحملة وجدنا العراقيين ـ من عوام ورجال دين ـ هم السمة الأبرز فيها. وقد امتدت الحملة إلى حوزة قم أيضاً، فأصدر اثنان من مراجع قم استفتاءً ضدّ السيد العلاّمة آنذاك. بعد ذلك اتسعت رقة السجالات بين الجانبين في قم وبيروت ودمشق، بحوزاتها وشبابها، لتشكل جبهتين: إحداهما مؤيِّدة للعلاّمة؛ والأخرى معارضة.
وفي نفس الوقت راح اثنان من الكتّاب المعروفين إلى صبّ الجهد في نقد جميع آراء وكتابات السيد فضل الله. وقد شهدت بعض النقود مجافاة الإنصاف والحقيقة، بل كان بعضها مسيئاً لمكانة التشيع وكيانه. وكان الكلام في معظمها يدور حول الجوانب الاعتقادية والفتاوى الفقهية والنظريات التاريخية عند السيد العلاّمة.
لا شكّ في أن السيد كان عالماً مجدِّداً، لكن هذا التجديد لم يرُقْ للبعض، فأثار موجة من الانتقادات، ورفض آراءه. وقد شهدت حركة التجديد هذه صدور بعض الفتاوى المخالفة للمشهور بين علماء الشيعة، من قبيل: آراء العلاّمة في المرأة، والموسيقى، والحجاب، وطهارة أهل الكتاب، أو عدم الالتزام بالرؤية العينية للهلال والاكتفاء بثبوته عملياً، و…. وكان من دواعي شنّ الحملة ضد السيّد فضل الله أيضاً رأيه في قضية تعرُّض الزهراء÷ للإساءة، حيث نفى وجود دليل تاريخي موثَّق على ذلك، وأكدّ تعارض الحادثة مع السياق التاريخي وظروفها، وهو ما دعاه إلى التشكيك في أصل الحادثة.
يُضاف إلى ذلك جملة من الآراء العقائدية والكلامية، من قبيل: رأيه في عصمة النبي والأئمة^، وكذلك ما ورد في التفسير والوحي. الأمر الذي أدى إلى تبنّي البعض مهمة نقد مؤلَّفات السيد العلاّمة. إلا أن المسألة أخذت بعداً متشدِّداً، قاد البعض إلى إنكار علميته، في حين ادعى البعض أن السيد لم يقطع المراحل المتعارف عليها في الحوزة لنيل درجة الاجتهاد والمرجعية. فهو ـ مثلاً ـ كان قد درس المقدمات والسطوح على يد والده فقط، ولم يكن له أستاذ غيره. كما أنه درس الكفاية في مدة وجيزة عند الشيخ مجتبى اللنكراني، ولم يكملها ـ حسب ما يقال ـ.
ثم حضر بعد ذلك مباشرة بحوث الخارج لدى خمسة من العلماء في النجف، كالخوئي والحكيم وحسين الحلّي والشاهرودي. وقيل أيضاً: إنه لا يمتلك حاشية على العروة. وكان المعهود أن يكتب الطلاب تقارير أساتذتهم في الفقه والأصول، وينشرونها، لكن السيد العلاّمة لم ينشر شيئاً في هذا الصدد. كما أن تدريسه في الخارج في الفقه والأصول لم يخرّج عالماً يذكر.
الدكتور زائري: يمكن أن يصدق جانب من هذا الكلام على الآخرين أيضاً. فإنْ قيل بأن السيد العلاّمة لا حاشية له على العروة ـ مثلاً ـ فهذا صادقٌ في حقّ مراجع آخرين، وهكذا في الجوانب الأخرى المذكورة.
شريعتمدار: نعم، هذا صحيح، لكن مرجعية السيد حين ظهرت للعيان لم تحظَ بتأييد أبرز المراجع الكبار. وهذه قضايا مطروحة فعلاً حول السيد فضل الله، وهي كفيلة ـ للأسف ـ بإنشاء جبهة ضده تجمع الآراء والفتاوى المناهضة. وهذه الجبهة هي السبب في شحن الأجواء، مما أدى إلى انقطاع السيد عن زيارة إيران لمدّة عشرين عاماً. على الرغم من كونه عضواً في الهيئة العليا لمجمع التقريب بين المذاهب، وعضواً في الهيئة العليا لمجمع أهل البيت^ العالمي. وكان من المفترض أن يتواجد في الاجتماعات، لكنه كان يرسل نائباً عنه. حتى حصل ذات مرة أنه كان مدعوّاً لحضور مؤتمر تكريم السيد مصطفى الخميني في قم، لكن الدعوة أُلغيت بفعل الضغوطات والتهديد بإغلاق الحوزات من قبل رجال الدين والطلاب آنذاك. هذا ما جعل السيد فضل الله في السنوات الأخيرة يغتنم كل فرصة مؤاتية لتوجيه عتابه وإظهار وانزعاجه من رجال الدين، الذين تسبَّبوا في ظهور هذه الجبهة.
الدكتور زائري: أودّ الإشارة هنا إلى قضية أخرى، وهي أنني كنت أشعر في موقف السيد فضل الله ـ رغم هذه الضغوط ـ أنه كان يحرص دائماً على تجنُّب الكلام في هذا الموضوع. ولا أزال أتذكَّر موقفه حين تطرقت إلى الموضوع أمامه في أكثر من مرة، وكنت أتوقع ردّة فعل أو انفعال منه، لكنه لم يفعل، إلا ما مضمونه: هذا كلّه سوء الفهم، وأرجو أن يصحَّح يوماً ما، آمل أن يكون هناك المثقَّف المتفهِّم.
القضية الأخرى هي أن التاريخ يروي ما هو أسوأ من ذلك في حق أساطين العلماء الشيعة، بدءاً بالشيخ المفيد والطوسي، وإلى يومنا هذا. فموضوع الشحّ في البحوث قائم في حق فطاحل علمائنا، بل قد تكون الملاحظات أكبر من هذا أيضاً. هذا كلّه إذا سلّمنا بصحة ما ينقل في هذا الباب؛ إذ إن أغلب ما ذكر حول السيد فضل الله كان عارياً عن الصحة تماماً؛ لأن الأجواء إذا شحنت كانت مسرحاً للكثير من الأقاويل والأكاذيب. وعلى فرض القول بصحة هذه المواضيع المثارة، ولا سيما في بعض جوانبها، من قبيل: إحراق الباب وغيرها، فإن لفقهاء وكبار علماء الشيعة آراء أكثر جرأة من ذلك. لكن أصل المشكلة يكمن في طريقة التعامل مع هذه الحقائق، وكيف نواجهها؟ فما هي مساحة تحملنا وسعة صدرنا نحن الحوزويين ورجال الدين في تقبل هذه المواضيع ودراستها؟ فمنها ما لا أثر خارجي له، ومنها ما لا مجال لإنكاره أصلاً، أو لا يمسّ ثوابت الدين إطلاقاً.
ولو فرضنا وجود هذه الإشكاليات فهل يصح تجاهل مثل هذه الشخصية صاحبة الإمكانات العديدة والحضور القوي على مستوى زعامة دينية اجتماعية وسياسية في مجتمع كشيعة لبنان لمجرد بعض الاختلافات الفكرية والفقهية؟ وهذه هي الحلقة المفقودة في الموضوع. وهذا يعود لما ذكرته بأننا ننظر إلى الأمور من حيث نحن متواجدون، ونسينا أن هذا العالم جاء إلى مجتمع يعاني من الفراغ ما يعاني؛ ليسد الفراغ ويزيل الجمود، جاء ليتزعَّم ويقود شعباً؛ حفاظاً عليه من الضياع في الدوامات.
وأحسب أن الوافد من الخارج هو أكثر دركاً لهذا البعد في القضية. فمثلاً: حين يجيء شخص من أمريكا يعمل في مؤسسة (نشنل جيوگرافيك)، ويكتب كتابه (nameingods) حول زعماء المذاهب الدينيين، ويصل إلى موضوع الشيعة، سيدرك ما ينبغي أن يقوله عن شخصية بوزن العلاّمة فضل الله، وسيتفهَّم جيداً دوره المحوري في المجتمع؛ لأنه ينظر من موقع مختلف عن موقعنا نحن، ولهذا نصاب بهذا الجفاء.
في الحقيقة أنا أذعن بصحّة العديد من الملاحظات والمؤاخذات، سواء في الفقه أم التاريخ، وحتى الجانب الفكري، أي إنني كنت أشعر بموقف الرجل الحوزوي تجاه هذه الآراء، وصعوبة تقبُّله لها من حيث كونه حوزوياً، لكنني كنت أفترض أن هذا هو رأيه، وأنا لا أسلِّم به، لكن يبقى عليّ أن أرى وألاحظ أيضاً دوره ومكانته وعطاءه أيضاً. فأنا أقول: إن هذين موضوعان مختلفان.
شريعتمدار: تناولتم في حديثكم القضايا الفكرية والسياسية والاجتماعية والدولية.
لكنني أودّ التطرق إلى ما هو أبعد من ذلك أيضاً. فحتى الحوزة الفقهية كانت مجحفة بحق السيد العلاّمة. فبغضّ النظر عن استحقاق المرجعية وعدمه كانت فتاواه الصادرة على شاكلة العديد من فتاوى العلماء الآخرين الذين لم يمتلكوا الشجاعة الكافية في الإعلان عنها، مع وافر احترامي لجميع المراجع والعلماء، لكنكم تعلمون بحال بعض العلماء الذين يطرحون نظريتهم في كتبهم الاستدلالية بطريقة مختلفه عمّا يطرحونه في رسائلهم العملية. لكن السيد فضل الله كان جريئاً حين قال ـ مثلاً ـ بطهارة أهل الكتاب علانية دون تردُّد.
وكان من جملة فتاواه أيضاً جواز تقليد غير الأعلم. وقد علَّل معارضوه هذا الرأي بكون السيد ليس الأعلم. إذاً فالمجافاة مستمرّة حتى تجاه فتاواه الفقهية، حتى في حالة رفضنا موضوع مرجعيته.
العلامة فضل الله ومرجعيّة التواصل مع الناس
الدكتور زائري: لكن لعل مستوى علاقة السيد فضل الله بالناس وقربه منهم لم يتحقَّق لأيّ مرجع سواه؛ بمعنى تحقُّق التواصل المباشر مع المخاطب والمتلقّي. وأودّ التذكير هنا بأن العديد من آرائه الفقهية لم تكن تنقل بشكل سليم. ولهذا كان من جملة نشاطات مسجد الحسنين الثابتة هو إصدار كرّاس شهري يتضمَّن جديد الاستفتاءات وغيرها من المواضيع الأخرى غير الفقهية أيضاً. وكنت كلما حصلت على العدد الجديد من هذا الكراس قرأته بتمعُّن، فلاحظت بعض الفتاوى الفقهية، وهي غاية في الالتزام بالتقاليد والأصول، أي في عداد الفقه التراثي الملتزم بالثوابت. وهذا خلاف الرؤية السائدة، وخلاف توقُّعاتي الشخصية حين كنت أسمع عن آراء السيد العلاّمة ومنهجه التجديدي. ففي الوقت الذي كنت أتوقَّع قراءة آراء غاية في الغرابة والخروج عن النص وجدته ـ وبالرغم من حرصه على تجنُّب الاحتياط ـ ملتزماً تماماً في بعض الموارد بالأسس والثوابت والاحتياطات. في حين كان يعرَّف أنه فقيه غير مكترث بالأصول والثوابت. وهذا مصداقٌ آخر لما تعرض له السيد فضل الله من إجحاف وظلم.
تنوّع أدوار السيد فضل الله
الدكتور آشنا: بإمكان مفهوم «الزعيم الديني» أن يختزل أبعاد دور وشخصية العلاّمة الراحل في لبنان والعالم الشيعي. فكان المسجد مقرّه وقاعدته كزعيم ديني، وهو مسجد الحسنين‘، الذي دأب على إقامة صلاة الجماعة فيه دون تخلُّف؛ أي بوصفه إمام جماعة ثابت ودائم في المسجد. هذا بالإضافة إلى إمامة صلاة الجمعة الأسبوعية. أما واجبه الثاني كزعيم ديني فهو الخطابة؛ لما يتمتع به من حسٍّ أدبي رائع، وصنعة في البلاغة والفصاحة، جعلت منه خطيباً مفوَّهاً، ذا قدرة على التأثير في المخاطب.
كما كان السيِّد فضل الله مؤلِّفاً بارعاً. وقد نشرت كتاباته وأحاديثه الخاصّة بالشأن الإسلامي، فكانت طريقاً للكثيرين في التعرُّف على شخصيته.
وأيضاً كان العلاّمة مناظراً من الطراز الأول. فكان يجري لقاءات غاية في الجدلية والتحدّي، ولطالما خرج منها منتصراً على المقابل، بمعنى أنه كان جاهزاً للمجادلة والإفحام.
كما كان يشرف ـ بوصفه رجل دين ـ على مجموعة من المؤسَّسات الخيرية في شتى المجالات. وإذا أردنا إضافة نشاطاته الأخيرة لقلنا: إنه إعلامي نشيط وجادّ على صعيد وسائل الإعلام الحديث، فلن أكون مبالغاً إنْ قلت: إن موقع السيد الإلكتروني على شبكة الإنترنت (www.bayyanat.org.ib) هو من أوائل المواقع المنسوبة إلى مرجع شيعي، وهو من أكثر المواقع ارتياداً ومستخدمين؛ إذ يحدّث الموقع يومياً، فيواجه زخماً كبيراً من قبل المستخدمين، وهو نافع للغاية.
وكان آخر ما تسنّى للسيد فضل الله القيام به هو مرجعية المؤسسات؛ أي تنظيم عمل المرجع وفق نظام معين، فكان للمرجعية هذه المرة تنظيمات ودوائر فعّالة. وقد شكَّلت تجربته الحزبية والتنظيمات المتبلورة حوله ـ رغم جميع تلك الإرهاصات التي أشار إليها الزملاء ـ عنصراً مضاعفاً في نجاحاته كمرجع في دول الخليج ولبنان، باستثناء تحفُّظات حزب الله.
بقي أن نشير إلى مسألة أخرى، وهي تعدُّد ألوان الطيف اللبناني. وهنا يكون الوضع مختلفاً بالنسبة لمن يعتزم ممارسة نشاط تبليغي يدافع فيه عن التشيع والإسلام قياساً برجل الدين المعزّز والمكرّم في مدينة قم، التي يصطلح عليها بعرين الشيعة. فلم يكن السيد فضل الله يمتلك سلطاتٍ في ردع المخاطب، من قبيل: الحكم بالارتداد، والتكفير، وتبعيد المعاندين. ثم إنه كان يتواجد من حيث موقع الدفاع والمناورة، وليس من موقع الهجوم والمبادرة. فكان يتعين عليه إقناع الآخرين بتناغم أفكاره مع العقل والمنطق السائد.
خصائص في منهجه الفقهي
كانت الفرصة قد سنحت لي، بصحبة ستة من الزملاء، سنة 1999م، بالحضور تحت منبر السيد فضل الله لمدة شهر كامل، تخللته (18) محاضرة، كدورة دراسية اصطلح عليها هو نفسه بفقه الخارج في موضوع التخاطب. وقد سجَّلتُ جميع المحاضرات أيضاً. وقد حملت المواضيع نوعاً من التحدّي والجدلية، وهي في الواقع عبارة عن أبحاث علمية كانت قد نشرت في السابق على أكثر من صعيد، ثم بلورها السيد العلاّمة على شكل حلقات درسية في ما يخص المطالب الفقهية؛ إذ كان لابد له من الاستدلال والدفاع عن متبنَّياته الفقهية.
وإن أردتُ وصف محاضرات العلاّمة وأبحاثه بإيجاز قلتُ: إن بحوثه الفقهية ترتكز في قوامها على قاعدتين في ما يتعلق بالجوانب المستحدثة:
الأولى: إنه كان يصبّ جهده الفقهي على حلّ وتوضيح المسائل المستحدثة؛ بمعنى أنه كان يحرص دائماً على وضع السائل على جادّة الطريق وتحديد واجبه الشرعي بدقة، دون أيّ غموض وإبهام، وخصوصاً أن مواضيع الأسئلة لم تكن فردية دائماً؛ إذ يتعلق بعضها بالبعد الاجتماعي الذي تنحصر قراراته بيد المنظَّمات والمؤسسات الحكومية.
لاشك في أن الفقه الشيعي غنيٌّ جداً على صعيد الأحكام الفردية، وهو الفقه المرتبط بعمل المكلَّف. لكن هناك مسألة جديدة طرحت قبل وبعد عصر الجمهورية الإسلامية، وهي مسألة الفقه الحكومي، أو ما يسمى بفقه الدولة، وهو الفقه المرتبط بشؤون الدولة، أي ذلك الفقه يرسم للدولة واجباتها. وهو ذو أسس وقواعد خاصة به. أما في ما يتعلق بالمساحة الموجودة بين الفرد والدولة فهي موضوع الفقه الاجتماعي وفقه المؤسسات والمنظمات، من قبيل: ما هي شروط المؤسَّسة المتدينة؟ فقد يكون السؤال بسيطاً وبدائياً جدّاً لكن جوابه ليس بهذه البساطة أبداً؛ أو من قبيل: هل يجب الخمس على الشركات أو لا؟ وهكذا دواليك من الأسئلة التي كانت تواجه السيد العلاّمة.
أما القاعدة الثانية فتقول: من الممكن أن يكون السائل شيعياً، لكن العالم أيضاً سيسمع ويقرأ الإجابة أيضاً. وهذه المعضلة الكبرى التي كان يواجهها هذا العالم، فكان يفتي بوصفه مبلِّغاً وداعية أيضاً. كان يطمح إلى تقديم صورة عن التشيع بحيث لو سمع بها المسيحي الملتزم رحّب بها، وقال: هذا منطق مقبول. وهنا يكمن البعد العقلاني. ولم يكن الآخرون يعانون من معضلة كهذه. وعليه كانوا يتحدَّثون بطلاقة تامة. وبعبارة أخرى: كانت أحاديثهم أكثر انسيابية وتقوقعاً، في حين كان العلاّمة مضطراً للحديث بما يقنع المسلمين والمسيحيين، بل من لا دين لهم أيضاً.
كان العلاّمة يعقد جلسة حوارية مباشرة ليل كل ثلاثاء، في الطابق السفلي من مسجد الحسنين، ولكلٍّ الحرية التامة في طرح سؤاله لسماع الإجابة منه مباشرة. وكان ذلك يتم بالمشافهة أو المكاتبة أحياناً، إلا أن الجلسة حضورية ومباشرة في جميع الأحوال. وصادف ذات مرة أن سألته امرأة من الحضور فقالت: لماذا يسمح الإسلام للرجل بالزوجة الثانية، وكذلك بالزوجة المؤقتة؟ وحين نظرت إلى السائلة المتواجدة داخل المسجد وجدتها غير محجبة أصلاً. وكان على السيد أن يجيب في هكذا نوع من التجمُّع، فقال: هل تسألين من جهة النظر إلى حقوق المرأة أم حقوق الرجل؟ فأجابت المرأة: أنا أسأل ـ بالطبع ـ عن حقوق المرأة، وليس عن حقوق الرجل. فقال السيد: وهل قصدت حقوق الزوجة الأولى أم الثانية؟ فلم تردّ السائلة. واسترسل السيد في كلامه قائلاً: فإذا كانت الثانية هي امرأة أيضاً ماذا نفعل؟ ألا ينبغي مراعاة حقوق النساء اللواتي صرنَ زوجة ثانية؟ فهل تقصدون تجاهل وإهمال الحالة الاجتماعية لمَنْ فقدت زوجها أو المطلَّقة أو العانس؟ وبهذه الصراحة راح يقول: فهذه الطبقة لها الحقّ في امتلاك زوج، ولو أنه ليس كاملاً بالمعنى المطلوب، لكنه يبقى رجلاً تحتاجه هذه المرأة في حمايتها. وعلى أية حال لا أعرف كيف أصف لكم أجواء تلك الجلسة. كان هناك فقيهٌ تقليديٌّ ملتزمٌ بالنص تماماً. فهو يخاطب مجتمعاً، ويجاري الظاهرة والسؤال بلغة يمكن للمقابل القبول بها؛ لأنه ذو هدف رسالي واسع المضامين.
نعم، من الممكن أن لا تكون تلك المرأة قد اقتنعت بزواج الرجل مرة ثانية، لكنها لا تستطيع رفض هذا المنطق وهذه اللغة بسهولة. وهنا يذكّرني السيد العلاّمة بالشهيد مطهري في أجواء ما قبل الثورة الإسلامية.
قد يلاحظ في هذا السياق اجتياز السيد فضل الله لبعض الحدود والأطر؛ وذلك بحثاً عن الطريقة المحبَّذة لديه في إقناع الآخرين بالمنطق. وهو على حق في ذلك. ولهذا من الممكن أن تكون بعض فتاواه ليست له شخصيّاً، لكنه كان يقول بأن هذه الفتاوى ليست خارجة عن إطار الفقه الشيعي. نعم، لو خيّرت أنا في هذا الموضوع لم أفتِ بهذه الفتوى أبداً، لكنها تبقى داخل الإطار الفقهي بالنسبة لظروف هذا الشخص. وهذا قريبٌ من نظرية الشهيد محمد باقر الصدر التي تصف حالة التعارض المحتملة حين نعتزم تأسيس نظام ما، فقد نتقبل الأصول والأسس التي من شأنها الإسهام في تأسيس نظامنا، لكن الفتاوى الشخصية لا تسمح لنا بتأسيس النظام؛ وعليه نرجع إلى فتاوى فقهاء آخرين مرضيّين لدينا، وغير خارجين على الفقه الشيعي؛ ليكتمل النظام. وهذا هو معنى المنطق الكلامي في الفقه الذي كان يحرص عليه السيد العلاّمة دائماً وأبداً.
أما في ما يخصّ فقه التخاطب فكان بحثه الفقهي يتبلور في إطار قاعدة التزاحم؛ أي إنه يربط أمهات القضايا الجدلية الصعبة بقاعدة الأَوْلى فالأَوْلى. فإن منح الأولوية لأمرٍ ما في منطقة الكلامي هانت صعابه في الفقه. وعليه كان لدى السيد فضل الله فقه ميسَّر أيضاً. وأذكّر هنا بأن السيد في استدلالاته الفقهية كان يكتفي ببعض الآيات وبعض الروايات، مع قاعدة عقلية وقاعدة أصولية، وأخرى كلامية أو فقهية، ليصدر فتواه في الموضوع. كما كان يتمتع بقدرات لغوية وشعرية وأدب رفيع يمكِّنه من التركيز على البعد اللغوي في النص. ولذا كان يؤكِّد دائماً على ضرورة المكنة في فهم النص العربي. وقد قال في إحدى المناسبات: حين قرأت فتاوى بعض الفقهاء الإيرانيين أدركت عندها الفرق بين فهم الإيراني وفهم العربيّ للنص الدينيّ.
إن جميع هذه النقاط تعود لشخصية السيد العلاّمة بوصفه زعيماً دينياً ومرجعاً للناس، وبوصفه أيضاً ناشطاً على صعيد الفكر والثقافة. وإن أردتَ إلغاء صفة المرجعية عنه قلت فيه: هو قائد الفكر والدين، المزوّد بسلاح الفقه والتفسير والتاريخ والكلام.
بين شمس الدين وفضل الله
شريعتمدار: أودّ هنا المقارنة بين الشيخ شمس الدين والسيد فضل الله. فكلاهما ينتمي إلى مجتمع واحد، وهو نفسه المجتمع المتعدِّد الأطياف والمذاهب. ولعل الشيخ شمس الدين أكثر وشيجة بالمجتمع اللبناني؛ ذلك أن السيد فضل الله ولد في النجف وسط أسرة دينية، لكن يبقى انتماؤهما لمجتمع واحد وحوزة واحدة وعصر واحد أيضاً. بل ثمة تشابه كبير بينهما على صعيد الدراسة الحوزوية والأنشطة الأخرى حين كانا في حوزة النجف. وقد حصل بينهما تعاون في بعض المجالات. فحين أصدرت جماعة علماء النجف مجلة الأضواء ـ التي كانت ظاهرة مفصلية آنذاك ـ كان كلٌّ من الشيخ شمس الدين والسيد فضل الله يكتب في صفحاتها. لكننا إذا عدنا إلى آرائهما وجدنا فرقاً بين الاثنين. نعم، لا شك في أن السيد فضل الله كان عالماً مهتماً بالجانب الاجتماعي، وخطابه موجَّهٌ إلى عامة الناس. وكان الشيخ شمس الدين متمسِّكاً بالنصّ، وخطابه موجَّهٌ في الغالب إلى النخبة. لكن همّ المخاطبين كان واحداً، وهو الحاجة إلى فتاوى فقهية تحل أزماتهم اليومية. ومع هذا بقي الشيخ شمس الدين أكثر تمسُّكاً من السيد فضل الله بالطابع الأصولي التقليدي. وإذا كان التجديد عند السيد فضل الله قد حلّ بعض المشاكل، وفتح سبلاً جديدة، فإنه أيضاً كان سبباً في بروز بعض الإشكاليات الجديرة بالنقد.
الدكتور آشنا: لطالما صرح السيد فضل الله بأنه لم يرشِّح نفسه للمرجعية قطّ، أما وقد فرضت عليه، وخصوصاً من قبل الشيعة في الكويت والخليج، الذين قالوا: إما أن تكون مرجعنا أو لا نريد مرجعاً غيرك، وهذا ما أثار المخاوف والقلق لدى السيد فضل الله، فقد تحملها من باب المسؤولية. فهو قبل أن يفكر في مزايا منصب المرجعية كان ينظر إليها كأمانة ثقيلة وخطيرة للغاية. وكنت أقول في نفسي ـ بوصفي حوزوياً وجامعياً حضر تلك المحاضرات، وحاور سماحة السيد ـ: ليته لم يدخل هذا المعترك، وظلّ محافظاً على إنجازاته، ومطوِّراً لها، دون اقتحام منصب المرجعية؛ إذ كان أكثر تأثيراً في المنطقة بوصفه زعيماً دينياً وفكرياً يمضي بالتشيُّع إلى الأمام.
رغم فطنة السيد ونباهته يبدو أن أمراً كان قد فاته في بادئ المشوار، وتنبَّه إليه لاحقاً، حين أحس بأن واقع لبنان الثقافي مختلف عن واقع التشيُّع بشكل عام. وتبعاً لانطباعه عن وضعية لبنان وظروفه صار يقدِّم بعض الطروحات. لكنها كانت تصل أيضاً إلى النجف وقم، في حين قد لا يكون المخاطب آنذاك هو النجف وقم. وحين وصلت آراؤه إلى هناك تغيَّر وجهها بالكامل، وأخذت طابعاً مختلفاً.
أما بالنسبة إلى رأيه في إحراق الدار فحين قيل له: لماذا طرحتم هذه القضية؟ وما هو الداعي إليها؟ أبدى قلقه العميق تجاه الفجوة النفسية الموجودة بين الشيعة والسنة جراء أخبار هذه الحادثة، وقال: لو تمكَّنا من تقليص هذه الفجوة والكراهية، وعثرنا على أدلة تاريخية تطعن في قطعيّة هذا الموضوع، فهل سنرجع إليها؟ فهذا منطلق السيد في القضية. بينما قد تكون هذه الحادثة في مكان آخر ـ كعراق ما بعد صدام ـ عنواناً من عناوين الهوية الشيعية.
فضل الله ومنهج الحوار الإسلامي والعلماني والقومي
شريعتمدار: أشير في الختام إلى عنوان من عناوين الهوية الشيعية، إلى قضية ملحة بحاجة إلى تعمُّق أكثر في دراستها، وهي أن الدول الإسلامية قد خاضت في العقدين أو الثلاثة الأخيرة ثلاث تجارب أو ثلاث أيديولوجيات، هي: الأيديولوجية الإسلامية، أو الأصولية الدينية؛ والأيديولوجية العلمانية؛ والأيديولوجية القومية. وكانت كلّ واحدة منها تصب في نفي الأخرى وإلغائها.
فعلى الأقل كانت هناك طائفة ـ لا يستهان بها ـ من الإسلاميين أو الأصوليين في العالم العربي والإسلامي ترى بأن حضارة الإسلام وزهوها لا يكون إلا بإلغاء الغرب؛ أي إن وجود أحد الطرفين متوقِّف على عدم الآخر. وكان هذا خطأ العلمانيين والليبراليين أيضاً، فهم يقولون: لابد أن نكون غربيين حتّى نحقق النهضة والتنمية بأنفسنا، أما بالنسبة للقوميين فواضح أنهم يسيرون في دائرة أضيق بكثير؛ حيث إنهم يمارسون إلغاء الغير فيما بينهم.
لقد كان العلاّمة فضل الله من جملة الساعين إلى كسر هذه الحواجز. ولا أقول: إنه نجح فعلاً في ذلك، لكنه حقَّق الكثير في خلق الحوار بين الذات والآخر. ويمكن تعريف ثنائية الذات والآخر من خلال مصاديق عديدة في مختلف المجالات، من قبيل: النظرة المذهبية بين الشيعة والسنة، والنظرة الدينية بين المسلمين والمسيحيين، أو من خلال النظرة السياسية بين الفرقاء السياسيين، سواء داخل لبنان أو خارجه. فلو فعّلنا الحوار من خلال هذه الرؤى لنتج لدينا ما هو مغاير لما كانت عليه الأيديولوجيات الثلاث المذكورة؛ أي إلغاء الآخر.
لعل العلاّمة فضل الله هو من الظواهر النادرة بين علمائنا المتأخِّرين الذي طرق هذا الباب. ووجدناه يسير في هذا الطريق حيث سمح له عصره، وأسعفه عزمه، وإن كان ذلك يكلِّفه أثماناً باهظة، وقد دفعها أيضاً. ولا شكّ أننا بحاجة ماسّة إلى هذه الفكرة على جميع المستويات، ولابد من تنميتها.
_______________________________
(*) باحث متخصِّص في العلاقات الدوليّة والثقافة الإسلاميّة.
(**) باحث متخصِّص في الحركات الإسلاميّة والعلاقات الدوليّة.
(***) باحث في الفكر السياسيّ والحركات الإسلاميّة، ناشط في مجال الإعلام الإسلاميّ.