مطالعة في القضايا الفكرية المعاصرة
أ. نبيل علي صالح(*)
(a) تمهيد
رحل عن عالمنا الفاني منذ حوالي السنة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، بعد سنوات وعقود طويلة من العمل والنشاط الفكري والجهادي والمرجعي والحركي، قضاها سماحته دفاعاً عن رسالة الإسلام، في محاولةً منه ـ مثل كثير من علماء هذه الأمة ـ إبراز صورة هذه الرسالة السمحة والنقية، بعد أن اعترتها شوائب كثيرة في كثير من حقول ومجالات الفكر والمعرفة الإسلامية على المستوى الفقهي والتاريخي والكلامي والسياسي.
ولعلنا لا نغالي كثيراً إذا ما أقررنا منذ البداية بأن العلامة السيد محمد حسين فضل الله هو من أبرز مراجع الفكر الإسلامي المعاصر. وهو لا يزال يشكل ـ منذ بداية صعوده المرجعي الإسلامي في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي ـ ظاهرةً مهمة وحيوية لها جديتها وأصالتها وموقعيتها المميزة والفريدة في داخل منظومة التفكير الديني الإسلامي، من حيث ألمعيته الفكرية، وسعة اطلاعه، وانفتاحه الديني، وحضوره الاجتماعي البارز والمؤثِّر، ومقدرته العلمية والعملية على الجمع بين الرؤية النظرية والممارسة العملية، بين الفكر والمنهج النظري الديني الذي يعتقده ويؤمن به والعمل المؤسساتي التطبيقي، الذي يبرز واضحاً في مؤسساته الاجتماعية المتعدِّدة، وخدماته الكبيرة المتنوعة التي يقدمها لأبناء مجتمعه من مختلف التوجهات والانتماءات والمستويات. وقد أوصله ذلك التماهي بين الفعل والقول إلى مستوى رفيع ومرموق على صعيد بناء دور مرجعي إسلامي وإنساني كبير في أوساط العرب وغير العرب، من المسلمين وغير المسلمين، وخصوصاً في الوسط الإسلامي الشيعي.
وقد حمل السيد فضل الله& الهمّ الفكري والثقافي الإسلامي والإنساني لهذه الأمة منذ بدايات تفتُّحه الأولى، ثم انطلق ليدرس ويجتهد ويكتب ويحاور ويخاطب الشرق والغرب في دعوة سامية للحوار والتعارف. وقد كان من العلماء السباقين في هذه الأمة إلى نبذ العنف والإرهاب، وتكريس مفهوم الحوار واللقاء والتسامح الفكري والروحي، وكان من الذين ناصروا المستضعفين أنّى وجدوا، وقد حمل لواء رسالة الإسلام الحضارية الإنسانية في عناوين الحريات والأخلاقيات والوحدة الاسلامية ودور المرأة ومكانة العلم والفنون، ليكون بحقٍّ عالماً لا تختصره الكلمات، ولا تسمو إليه الرتب والألقاب.
وقد تمكَّن الراحل الكبير السيد فضل الله من الوصول إلى هذه الدرجة المتقدمة والمكانة السامقة والعالية من العمل الرسالي الحركي الإسلامي من خلال ما تميَّز به من روح إنسانية كبيرة وثّابة، ومنطلقة إلى الآفاق العليا من رحاب الحياة والوجود، وما امتلكه من علم جادّ، وبحث دؤوب وصادق، وجهد كبير متواصل ومستمر رغم تقدم السنّ المادي. وقد أوصلته كل تلك المعطيات والخبرات والتجارب إلى مستوى العطاء المتدفِّق، الذي يمكِّن صاحبه من تقديم نماذج عملية متميزة عن قدرة الفكر والمعرفة الدينية الإسلامية على مواكبة تغيرات الحياة وتطورات الوجود الإنساني، من خلال ما تحتويه من طروحات فكرية ومفاهيم نظرية ومبادئ إنسانية ونظم معرفية عملية. أي إن الإسلام والإيمان بقيمومة هذا الدين الإنساني هو القوة المحرِّكة التي أعطت السيد فضل الله كل هذا الدفع والانطلاقة العملانية الهائلة للبحث والمعرفة والخبرة والبناء المرجعي المؤسسي. وعن هذه المرحلة الإيمانية الأساسية في حياته يتحدث السيد فضل الله فيقول: «إن هذه الحركة تطورت، بحيث إني اكتشفت إسلاميتي في وقت مبكر؛ ولذلك لم أشعر بنفسي في أية مرحلة من مراحل حياتي بما هي المرحلة الحائرة بين الطفولة والشباب، لم أشعر أني شيء آخر غير الإسلام.. لذلك كنت أتحسس الإسلام في وجداني بحسب ما كنت أتمثله من ثقافة آنذاك.. كنت أتحسس الإسلام كشيء يعيش في وجداني في اللاشعور، ويتحرك في حياتي في مواقع الدراسة. ولهذا فقد عملت في وقتٍ مبكرٍ، وذلك في سنة 1947م، وقد كنتُ في الثانية عشرة من عمري، عملت مع بعض أصدقائي على إصدار مجلة خطية كنّا نوزّعها على حسب عدد المشتركين، ونكتبها تحت اسم «الأدب»، وأذكر أن العدد الأول كان خاصّاً بالإمام الحسين×، ما يوحي بأن المسؤولية الثقافية الإسلامية كانت مبكرة في وجداني»([1]).
وهذا الإيمان اليقيني المنغرس في ذات السيد فضل الله، والمعبر عن رؤيته وفهمه للإسلام كدين إنساني وكحالة حضارية في الفكر والممارسة، ليس وليد هذه اللحظات التي عاشها فقط في عمق تجربته الحياتية كداعية ومرجع ديني درس الفقه والتاريخ والمنطق والأصول وغيرها فقط، وإنما هو نابع من طبيعة تكوينه الذاتي في انفتاحه على الحياة والزمن في أن لا يكون الزمن مجرد لحظات تمرد، ولكنه كان يحاول دائماً أن يملأ الزمن بكل معاني إنسانيته، حتى يتحوَّل الزمن إلى عنصرٍ من العناصر التي تمنح الإنسان معنى من حياة. وربما يتصوّر الإنسان الحياة منحصرة في هذه الحياة الجسدية التي تحرِّك كل أجهزته وأعضائه، «ولكنّي أتصور ـ والقول هنا للسيد فضل الله ـ أن هذا يمثِّل آلية الحياة، وليس الحياة. إن إنسانية الإنسان عندما يقول: «أنا»، أو عندما تقول: «أنت»، ليست هي هذا الجسد، وإنما الإحساس بكل عنصر داخلي يتحرك في إطار هذا الجسد… ولذلك كنتُ منذ البداية أشعر بالزمن وهو يتحرك في وجودي، وكنت لا شعورياً في البداية أحاول أن أُغني هذه الحياة التي تضجُّ في هذا الوجود المادي… كنت أحاول أن أغنيها بفكرٍ، أيّ فكر، ولذلك كانت الحياة الفكرية عندي تشبه الفوضى، لم أخطّط لها، ولكني كنتُ ألتقطها، وكنت أحاول ـ مهما صدَمَتْني المحاولة ـ أن يكون ما أتمثّله من هذا الفكر الذي يغني الحياة جديداً. لذلك عشت الجِدَّة منذ بداية عمري، ربما لم أكن أختزنها في العمق… ربما كانت تطفو على السطح… ربما كانت تترك تأثيرها على كلماتي وأسلوبي، ولكنها كانت تشعرني بأني أحيا في العصر الذي أعيش فيه… إنني أفهم الحياة بأنّها هذه الحيوية العقلية والروحيّة والحركية التي تمثل الوجود الإنساني الذي يبحث عن فكرٍ ينغرس فيه، وعن مستقبل يصنعه، وعن روح يسمو معها ويصفو»([2]).
والسيد محمد حسين فضل الله، الإنسان والمفكر والداعية والمرجع والفقيه والعالم الديني، من أشد أنصار الحوار الحضاري بين الإسلام والغرب، وبين الإسلام والمسيحية، وبين المسلمين السنّة والشيعة، وهو يعلن بكل وضوح حماسته لهذا الحوار حتى مع أشد الناس عداوة وتطرُّفاً وتعصُّباً، وهو يعتبر أن «لا مقدسات في الحوار»، وأن الله تعالى قد حاور إبليس، كما هو وارد في نص القرآن الكريم. وإذا كان الأمر كذلك فلماذا لا نحاور بعضنا بعضاً، ونفتح قلوبنا على المحبة والتسامح والأخوة والتعاون…
وتزداد أهمية موقع وحجم ودور السيد فضل الله في واقعنا المعاصر الذي أُدخلنا فيه، وأصبحنا نعايشه بكل تعقيداته وتحدياته وضغوطاته، حيث يحتدم الجدل، وتثار الأسئلة والإشكاليات حول مدى قدرة الحضارات والثقافات والأديان عموماً على الصمود والثبات والتنافس أمام التحديات والمخاطر التي تظهر في عالمنا الراهن بين الفينة والأخرى بحكم قاعدة التطور والتغير والتبدل من حال إلى آخر، والتي قد تضع عدداً كبيراً منها ـ من تلك الحضارات والثقافات العالمية والأديان الكونية ـ على مفترق طرق ومنعطفات شديد الحساسية والخطورة.
من هنا ينبغي على المسلمين ـ وبصورة مستمرة ـ أن يظهروا دينهم ومشروعهم الفكري الحضاري، واستراتيجياتهم العملية، ويبرزوا قدرة هذا المشروع على الصمود والمنافسة، والتأثير المتبادل بين مختلف الثقافات.
وفي هذا الإطار يأتي النتاج الفكري والمعرفي الغني والحيوي للعلامة المجدد السيد محمد حسين فضل الله& ليساهم في توضيح وتحليل كل تلك الأمور، وإظهار موقف الدين الإسلامي منها، ووضع حلول لتلك الأسئلة المثارة، ومواجهة ما تفرضه تلك التحديات. وهو يسعى ـ ضمن صيغة عمله المرجعي المؤسساتي ـ إلى دراسة الإشكالات المطروحة بقوة على الإسلام كدين خاتم، سواء في المسائل والطروحات الفكرية المستجدة أو في القضايا العملية السياسية والاجتماعية والاقتصادية..، وفي مجمل ما تحفل به حياتنا المعاصرة بالكثير من التحولات والمتغيرات الكونية، التي باتت هي الثابت الوحيد في كل ما نراه ونعايشه من أحداث متسارعة على أكثر من صعيد. ومن الطبيعي جدّاً أن تتأثر بلداننا ومجتمعاتنا العربية والإسلامية بتلك التحولات، وخاصة أن منطقتنا هي المركز الأساسي والساحة الرئيسية التي تختصر كل حركية الصراع السياسي والعسكري والاقتصادي بين مختلف الأمم والحضارات منذ زمن طويل؛ لأسباب عديدة لم تعد خافيةً على أحد، وهي وجود ثروات وموارد هائلة طبيعية وبشرية، وتوفر الموقع الجغرافي الممتاز الذي يتوسط كل قارات العالم، ووجود إسرائيل كموقع متقدِّم للغرب في المنطقة، يُراد على الدوام الحفاظ على تفوقه النوعي على باقي دول المنطقة، الأمر الذي يؤدي باستمرار إلى استيلاد أزمات متوالية جديدة من هذه الأزمة والقضية الأم، قضية اغتصاب فلسطين، وعدم إيجاد حل عادل وشامل للصراع العربي الإسرائيلي، الذي سيؤسِّس لمزيد من الصراعات وأعمال العنف الدموية في المنطقة.
وقد تمكّن السيد محمد حسين فضل الله من أن يكون حاضراً بقوة ـ من موقعه كمفكِّر إنساني ومرجع إسلامي ـ في صلب معادلات الصراع الحضاري القائم حالياً. وكيف لا وهو أحد أبرز المؤسِّسين والمنظرين والعاملين بقوة على تأصيل خط المواجهة والممانعة، وتطوير وسائل وأدوات هذا الصراع، في وجه كل المشاريع التفتيتية التي تعرضت وتتعرض لها المنطقة منذ عهود الاستقلال الشكلي عن الاستعمار الغربي في أربعينيات القرن الماضي، من خلال ما كان يقوم به من جهود عملية وحركية فكرية، ورعاية أبوية لكثير من مواقع وتيارات ورموز المواجهة والتحرر والصمود في هذه الأمة.
وعبر هذا الموقع المرجعي الكبير([3]) لا يمكن للمرء إلا أن يجد للسيد فضل الله رأياً أو موقفاً تجاه ما يحدث في المنطقة والعالم، في كل محاضراته وندواته ولقاءاته؛ إذ إننا نجد أن السيد فضل الله يحاول ـ على الدوام ـ إعطاء الموقف والقناعة والرأي الإسلامي الصريح والواضح في خصوص كل ما يتحرك في الواقع من تحولات ومستجدات سياسية أو فكرية أو اقتصادية أو اجتماعية. وعندما يعطي السيد فضل الله رأيه ورؤيته للأحداث الجارية فإنه لا يلزم أحداً بها، ولا يعتبرها فتوى دينية، بل هو تحليل فكري نقدي، يمكن أن يكون صائباً أو مخطئاً فيه. ولكن الأحداث التي مرت على هذه الأمة أثبتت صحة وصوابية كثير من آراء وأفكار السيد فضل الله التي قدَّمها وطرحها في مختلف المواقع، منذ أن انطلق محاولاً ربط الإسلام بالعصر والحياة؛ لتقديم هذا الدين باعتباره قاعدةً للفكر والعاطفة والحياة.
وعندما يحلِّل السيد فضل الله& قضايا الواقع المعاصرة، ويطالب المسلمين المنفتحين على الواقع، السائرين على خط الرسالة، أن يتابعوا المتغيرات السياسية من حولهم في تأثيراتها السلبية والإيجابية على الساحة الإسلامية العامة في أكثر من صعيد فإن ذلك ينبع من خلال أن تلك المتغيرات ليست مفصولةً عن الساحات الأخرى في العالم، حيث السياسة الاستكبارية العالمية التي تتحرك في مواقع المستضعفين في الأرض، ومنهم المسلمون، لا تزال تفرض نفسها على الواقع كله، في عملية ارتباط وثيق بين المواقع، تماماً كما هو الحال في الارتباط العضوي بين الأشياء، لا سيما إذا لاحظنا أن العالم الإسلامي، في أكثر شعوبه وحكامه، لا يزال يعيش الخضوع للقوى الكبرى في ثقافته وسياسته واقتصاده وحربه وسلمه، بحيث إنه يعيش ردات الفعل للأحداث العالمية في الدوائر الكبرى والصغرى المنطلقة في الواقع الدولي. ولعلَّ هذه المتابعة للأحداث المتنوعة، لا سيما إذا كانت قضايا ذات حجم سياسي كبير، قد توحي للمسلمين بالكثير من الإيحاءات الإيجابية في حركة النمو الصاعدة في قضاياهم الحيوية، وبالكثير من الخلفيات السلبية في حركة التراجع الهابطة في مواقعهم المهمة، فتفتح لهم آفاقاً جديدة للتفكير، وأبعاداً واسعة للحركة، وتعيد لهم الثقة بالواقعية الحركية للتحرك العملي الذي يستهدفون من خلاله تحقيق الأهداف الكبرى في وصول الإسلام إلى موقع التكامل في وجوده الثقافي والحضاري القوي على صعيد المستقبل، وتبعدهم بالتالي عن الاستغراق في الزوايا المغلقة، والآفاق الضيقة التي تحبسهم في دائرة الأفكار القاتمة، والخيالات المتشائمة، والاهتزازات الروحية التي تمنعهم من الثبات في المواقع الصلبة في ساحة الصراع، عندما تحاصرهم الضغوط، وتطبق عليهم المشاكل، وتهاجمهم التحديات، فيخيل إليهم أنهم يتحركون في داخل المأزق الذي لن يجدوا سبيلاً للخروج منه، بفعل الحيرة بين الأهداف الكبرى والإمكانات المحدودة المتواضعة، ما يجعل من الحركة في هذا الجوّ أمراً بعيداً عن الواقعية، وقريباً إلى المثالية الغارقة في أحلام الخيال، فيتحوّل الهدف الكبير في الوعي العملي إلى حلم غير قابل التحقق، ما يؤدي إلى وقوع المسألة في دائرة الإحباط الفكري والعملي([4])… ولذلك فإن الانفتاح على الواقع الإنساني المتحرك في أكثر من دائرة، والمنطلق مع أكثر من حركةٍ للتغيير، قد يوحي للعاملين الإسلاميين بأن الفرص الواقعية للوصول إلى الأهداف موجودة، وليست محدودةً بحدود الزمان والمكان التي تحكم حركة الواقع من حولهم، مقارنة بحركة الواقع المضادّ في مواجهته؛ لأنهم قد يكتشفون في متغيرات الواقع لدى الآخرين أن الثغرات الموجودة في الجدار المنتصب أمامهم كحاجز كبير ليست قليلة، وأن الاهتزازات الحادثة في تلك الساحات ليست محدودة، ما يفسح المجال لهم في النفاذ من تلك الثغرات، وفي التأثير على تلك الاهتزازات؛ للوصول إلى إضعاف القوى المضادة، وإسقاط التحديات الضاغطة، وتحطيم الكثير من تلك الحواجز، لأن القوّة المطلقة لا معنى لها في عالم المحدود، كما أن الضعف لا معنى له في واقع القوة المتنوعة المتناثرة في كل موقع من مواقع الضعف الذي يختزن القوة في بعض مجالاته، وهذا هو ما نستوحيه من الآيات الكريمة التي تطرح مسألة التغيير المتحرك في كل الساحات، كحقيقةٍ كونية في مستوى السنن الطبيعية الإلهية التي أخضع لها عالم الإنسان في الحياة، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾، وقوله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
من هنا كان للسيد فضل الله حضور فكري لافت على مستوى النقد والمواجهة، واهتمام نوعي كبير بكل التحديات والقضايا المثارة محلياً ودولياً حول واقع الإسلام والمسلمين، وما يتفرع عنها من أحداث وتحولات.
وفي رأيي فإن السبب الكامن وراء هذا الاهتمام الملحوظ للسيد فضل الله بقضايا الحياة المعاصرة المتعددة والمختلفة يعود ـ في جانب أساسي منه ـ إلى خطورة ما يمكن أن تفضي إليه محاولة مطلقيها وأصحابها ـ من الداخل والخارج ـ تحريف وتزييف الفكر الإسلام الأصيل، وعدم إظهار الإسلام على حقيقته، وعملهم الدائم على إسقاطه ـ عن حسن أو سوء نية ـ في عقول وأفئدة أهله وأتباعه وعشاقه. ولذلك كان لا بدّ من مواجهة تلك الأفكار وتفكيكها، وإيضاح الرأي العقلي والعلمي والشرعي في شأنها، ولابدّ أيضاً من خطّة تربط المسلمين بالهدف الكبير، ولاسيما أنَّ الخطر الكبير يتناول وجودهم. ومن الواضح أنَّ عظمة الهدف وخطورته تربط الإنسان بالآفاق الرحبة، التي تتجاوز الحواجز النفسية في عملية انفتاح على الواقع المتحرّك أبداً في اتّجاه الله، وليس معنى ذلك أن نتنكّر للتحديات والحواجز، بل كلّ ما هناك أن نتعامل معها بطريقة واقعية، من خلال الاعتراف بالعوامل الفكرية والعملية التي ساهمت في وجودها وامتدادها، ما يدفعنا إلى تجميدها في الحالات التي يفرض علينا الواقع عملية التجميد، أو تحريكها في المجالات التي يمكن أن نتحرّك فيها بوعي ومرونة وإخلاص، أو تهديمها في ما نملك من وسائل واقعية تجمع بين عملية الهدم من جهة والبناء من جهة أخرى، لتكون السلبية خطوة في طريق الإيجابية، وذلك من أجل المواجهة المخلصة لعوامل الخطر الموجودة في الساحة([5])… فهذه هي الروح التي نلمسها في كلمات الإمام عليّ× وهو يحدّثنا عن تجربته الذاتية في ما واجهه من عملية التنكّر لحقّه في الخلافة، وفي ما انطلق فيه من خطوات عملية بعيداً عن المسألة الذاتية، التي قد تعتبر السلبية موقفاً طبيعياً يمنعها من المشاركة في الحلول، أو التحرّك إيجابياً في الجانب المضادّ الذي يثير المشكلة في الواقع المرتبك الخطر، بل تحرك في مسارات إيجابية انطلاقاً من الإيمان بالهدف الكبير الذي يحدّد القضية من موقع المسؤولية الإسلامية الكبرى. يقول×: «فما راعني إلاّ انثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت يدي، حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمد’، فخشيت إنْ لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم، التي إنما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السراب، أو كما يتقشَّع السحاب؛ فنهضت في تلك الأحداث، حتى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين وتَنَهْنَه..».
وبالنظر إلى ما تقدم، وإلى موقعية السيد فضل الله المتميزة على الساحة العربية والإسلامية التي كوَّنها وبناها وراكمها لبنة لبنة بجهده وكدحه العلمي وانفتاحه على الحياة والفكر والتيارات الأخرى من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، وإلى ما يقوم به من أدوار حركية فكرية وعملية نوعية وحيوية على صعيد الدعوة والتبليغ والبناء النفسي والتربوي لأجيال الأمة، وما تمارسه مؤسَّساته الكثيرة المتعددة والمتنوعة أيضاً، وبالنظر إلى امتداد مرجعيته الدينية، وأهمية طروحاته وآرائه العقلية، التي تتمحور حول تأكيده الدائم على امتلاك الإسلام الإمكانات والقدرات النظرية والعملية للانفتاح والتطور والازدهار، سنحاول تحليل أسلوب ومنهجية البحث الفكري لدى السيد فضل الله من خلال الغوص في بعض مواقفه ورؤاه التي أطلقها هنا وهناك حول بعض مسائل وقضايا الحياة المعاصرة، والتي ستكون على الشكل التالي:
(b) 1ـ موقفه من العقل والعلم
إن التربية الفكرية الإسلامية المنفتحة التي تربى عليها السيد فضل الله& تقدم لنا صورة حقيقية متكاملة عن هذه الشخصية الرسالية والإنسانية المتعدِّدة الأبعاد والمواهب، التي عاشت في كنف القرآن والإسلام، ونشأت على قيم وأفكار ومبادئ الرسول وأهل البيت^. ولذلك كان من الطبيعي جداً أن يعتبر السيد فضل الله ـ طالما أن روحه ونبعه إسلامي الهوى والعقل والفؤاد ـ العقل هبة من الله تعالى للإنسان، وأنه ينبغي على الإنسان أن يكون وفياً ومؤتمناً على هذه الهبة العظيمة، بأن يقوم بتطويرها وتنميتها، ومن ثم تحريكها واستثمارها بشكل منتج في كل مواقع وساحات حياته؛ لكي يكون له وجود حي وفاعل.
ويؤسِّس السيد فضل الله نظرته العقلية بناءً على القرآن الكريم، الذي هو تبيان لكل شيء؛ حيث إنه عندما ندرس حركة المستقبل في نشاطات الأمة بشكلٍ عام، وفي تطلعات الإسلام، فإننا نستوحي من القرآن الكريم، في مفاهيمه التي تعبر عنها آياته، أنه يخطط لصنع العقل الإنساني الذي ينفتح في أول انطلاقاته على آفاق معرفة الله تعالى، خالق السموات والأرض والإنسان، ومبدع النظام الكوني بكل أسراره الإبداعية التي تمثّل عمق العناصر التي يرتكز عليها الكون كله، على أساس أن الله تعالى جعل لكل شيء قدراً ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ (القمر: 49). فليس هناك في الكون أيّة صدفة، حتى ما يعتبره الناس في حياتهم الخاصة وفي أوضاعهم العامة صدفةً فإننا عندما نتعمّق فيه نجد أنه خاضع لنظام معيّن، يتمثّل بالظروف الخفية أو البارزة التي تحيط بالإنسان وبالواقع.
ويعتقد السيد فضل الله جازماً أن القرآن الكريم إنّما يستهدف صنع العقل الإنساني، حتى يرتفع هذا العقل إلى مستوى الانفتاح على الله في ما يمكن أن يعرفه منه؛ لأن العقل الإنساني لا يستطيع أن يقتحم ذات الله، فهي ليست تحت الحسّ أو تحت التجربة حتى يعمل الإنسان على أساس اكتشافها، ولكننا نعرف الله من خلال ما تحدّث به عن نفسه، ومن خلال خلقه وآياته في الكون. ولذلك جاء في كثير من الآيات القرآنية استخدام مصطلحات التفكير العقلي الأساسية، من قبيل: ﴿يعقلون﴾ ﴿يتفكرون﴾، ﴿يتدبرون﴾…إلخ.
ويجد السيد فضل الله& في القرآن الكريم المخطط للمنهج الإسلامي بهدف صنع العقل وتنميته وتطويره ومنحه الحرية؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يمنح الحرية المطلقة لأعضاء الإنسان، بل جعل لكل عضو حدوداً لا يجوز له أن يتجاوزها، سواء في العينين في ما ينظر إليه، أو في الأذنين في ما يسمع بهما، أو في يديه ورجليه وكل أجهزة جسمه، حيث جعل الله لكل واحدٍ من هذه الأعضاء حدوداً، ولم يطلق الحرية المطلقة إلا للعقل، فالإسلام أعطى للعقل حريته في أن يفكر في كلّ شيء، ولم يجعل له آفاقاً ضيّقة يحشر في داخلها، بل إننا عندما نقرأ القرآن الكريم وندرس الآيات التي تذكر العقل نجد أنه يقحم العقل في كل أوضاع الكون الإنساني؛ في تطلعات الإنسان في نفسه، وفي الكون من حوله.
فالله تعالى قال للعقل: كُن حرّاً، فكِّرْ في ما تريد، ليست هناك حدود لتفكيرك، فكِّرْ في الله، فكِّرْ في كل ما يقوله الآخرون وما لا يقولونه، ولكن تحمّل مسؤولية فكرك، بحيث تجعله ينطلق في الخطوط التي يمكن لها أن تنتج النتائج الإيجابية، وأن تصل إلى الحقّ؛ لأنّ كل إنسان سيقف غداً بين يدي الله تعالى ليقدِّم حساب عقله قبل أن يقدِّم حساب جسده، لأنّ أيدينا وأرجلنا وجلودنا وألسنتنا ستشهد علينا يوم القيامة، أما العقل فعلينا أن نقدّم شهادتنا عنه أمام الله، كيف فكَّر؟ وعلى أي أساس؟ وما هو منهجه؟ وكيف وصل إلى هذه النتيجة الإيجابية أو تلك النتيجة السلبية؟!!…
والله تعالى خلق الإنسان قبضةً من طين ونفخةً من روحه، وهذا الروح الإلهي الذي دخل في تكوين الإنسان كان عقلاً، عقلاً يتحرك ليجعل الإنسان خليفته في الأرض، وليحرّك العقل ليعقلنها في كلّ عناصر الحياة، في عملية نموّ وإبداع وحركة. أن تكون الحياة عقلاً ينفذ إلى العمق، إلى كل ما في الحياة من عمق؛ من أجل أن يكتشف أسرارها بالعلم.. وقد قال الله سبحانه وتعالى للعقل: أقبل إليّ، انفتح عليّ، اصعد إلى سماواتي، انفتح على آفاقي، لأعطيك كل ما في مواقع القدرة عندي ومواقع الرحمة لديّ، أقبل إليَّ لأعطيك الطهر والنقاء والصفاء، حتى تتجه إلى الأعماق لتكتشف الحقيقة. وتوجه العقل إلى ربِّه فأقبل، ليستوحي من ربِّه كلَّ ما يغني عناصره في اكتشاف الكون، ليعرف كيف يدير الكون ويعقلنه.. والله يقول: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ (فصلت: 53). وهكذا أقبل العقل إلى ربِّه ليتعرَّف أولاً ربَّه، ليتعرف سر الوجود عندما يتعرف سرَّ الربوبية والألوهية. وهكذا ينطلق العقل من المعرفة بالله تعالى، لتمتدَّ إلى معرفة كل ما خلقه الله تعالى، وكل ما أبدعه، «ثم قال له: أدبِرْ فأدبر»، امشِ أمامي وتحرَّك، لأعرف كيف تتوازن خطواتك في خط مسؤوليتك. ثم قال له، وقد أعطى الله تعالى معنى العقل للعقل: «ما خلقت خلقاً أعزَّ عليّ منك»، فالعقل هو سر كل عظمة الخلق، هو القيمة التي تعطي للإنسان قيمته، فالإنسان عقل قبل أن يكون جسداً، بل إن هذا النوع من التواصل بين العقل والجسد استطاع أن يعقلن الجسد، حتى الأنبياء والأولياء، عظمتهم أن عقولهم قد أخذت أساليب الكمال، فكان الرسول عقلاً، وقيمته هي عقلانيته.
وقد ورد في المأثور أنّ «الرسول عقلٌ من خارج، والعقل رسولٌ من داخل». هذا النوع من التزاوج بين العقل والرسول يجعل الرسالة عقلاً. ولذلك فإن الرسالة لا يمكن أن تلتقي بالخرافة، ولا يمكن أن تلتقي بالتخلّف، أو تلتقي بالجهل، بل إنّ الرسالة تحتضن العقل وتختزنه؛ من أجل أن تغيِّر العالم على صورتها.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ (الأنفال: 24)، وقالها الله: «إياك آمر، وإياك أنهى، وبك أُثيب، وبك أُعاقب». عندما يقوم الناس لربِّ العالمين يقف العقل، وتتحرك كل العقول أمام الله تعالى لتقدم حساباتها بين يديه تعالى، بأنه هل استطاع العقل أن يعقلن مسيرته أم أنَّه أعطى مسيرته خطاً لا يلتقي بحسابات الفكر، على طريقة ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا﴾؟!
ويعتبر السيد فضل الله أن سلوك طريق التفكير العقلي ـ أي تحريك قيمة العقل في كل فاعليات الحياة ـ لابد أن ينتج العلم، سواء كان العقل التأملي أو التجريبي؛ لأن التجربة وإن كانت تتحرك بالحسّ، إلا أنّ الحسّ لا يمكن أن يعطي الفكرة إلا من خلال العقل الذي يمدّ هذه التجربة المحدودة إلى كل ما يماثلها، كما ورد في الفكرة أو القاعدة الفلسفية: إن حكم الأمثال في ما يجوز وفي ما لا يجوز واحد.
والنصيحة التي يقدمها السيد فضل الله لعموم الناس هنا هي ضرورة انفتاحهم الدائم على العقل، بأن يمتلكوا أسس التفكير العقلي، الذي يطلق إمكاناتهم وقدراتهم المنظورة وغير المنظورة على طريق إنتاج العلم والفكر، ويحرك تأملاتهم في الآفاق، ويطلق تجربتهم في الواقع الذي يعيشه الإنسان.
ويستمر السيد فضل الله في قراءاته لموضوع وقيمة العقل ليركز على أهمية دور القراءة في الكون..؛ لأن الله أراد لنا أن نقرأ في كتاب الكون الذي يتمثّل بالظواهر الكونية؛ لنتعرف من خلاله النظام الكوني، حتى نتمكّن من فهمه وإيضاح معالمه، ولنفهم ما يختزنه من أسرار، من أجل أن نمنح الإنسان من خلال هذا التدقيق في أسرار الكون شيئاً جديداً يتصل بكل جوانب حياتنا، سواء في ما يتعلق بالمرض والعافية، أو في ما يتعلق بحركة الإنسان في تطوير المادة أو في ما يتعلّق بكلّ أوضاع الحياة…
وهذه القراءة ـ يتابع السيد فضل الله ـ يمكن أن تعطينا وعي ما أنتجه الآخرون، من خلال ما أطلقوه من تأملات وما قاموا به من تجارب، ومن الطبيعي أن تكون هذه القراءة قراءةً واعيةً مفكِّرةً علميةً لا تحدّق في الكتاب تحديقة ساذجة، بل تحاول أن تدرس ما في الكتاب، لتنقد ما ينبغي نقده، ولتقبل ما يمكن قبوله؛ لأن الآخرين قد يخطئون في تأملاتهم عندما يتأملون، وقد ينحرفون في تجاربهم أو في استنتاج التجربة عندما يجربون.
ويؤكد السيد ـ في هذا السياق ـ على ضرورة أن نعطي الغريزة، وما يمكن أن ينتج عنها من انفعالات وعواطف، جرعةً من العقل، لنوظِّفها في طبيعة حاجة الحياة إلى الغريزة في استمراريتها وحيويتها، ولكن مع التوازن في حركتها وواقعها. كذلك لا بدّ من أن نعطي العاطفة جرعة من العقل، لتتوازن وتتأصَّل؛ لأنّ الإنسان قد يجمح في عاطفته، فيحب من دون حساب، ويبغض من دون حساب.
ولذلك يأتي العقل ـ كما يرى السيد فضل الله ـ ليخاطب في الإنسان أساس العاطفة، ما هي العناصر التي تجعله يحب الآخر أو يحب الشيء؟ ما هي العناصر المادية؟ ما هي العناصر الروحية؟ ما هي الأسس التي يرتكز عليها حبُّه؟ لأنّ الحبَّ لا بد من أن يكون مفتوح العينين، ولا يجوز أن يكون أعمى؛ لأنّ العمى في الحبّ يجعل الإنسان يتخبَّط ويسقط في كل المهاوي، ويجعل حبه حباً فوضوياً غير متوازن. وهكذا عندما يبغض لا بد من أن يعرف العناصر التي تبرّر له هذا البغض، حتى لا يكون الحب حالة انفعال، والبغض حالة انفعال، بل ليكون الحبّ ـ أيّ حبّ ـ منطلقاً من حبه لله تعالى، ومن حبه لرسل الله، ومن خلال هذا الحبّ ينطلق حبه للناس من حوله، وحبه للحياة ولما يلتذ به ويحلو له، حتى يكون حبه منطلقاً من دراسة، بحيث يقترب من معادلة 1+1=2، لا الحب كيفما كان، ولا الحب من خلال نظرة طارئة أو من خلال لذة آنيّة؛ لأنّ اللذة تزول، والنظرة تختفي([6]).
ويعتقد السيد فضل الله أننا في حاجة ماسة ودائمة إلى أن نعقلن كل شيء عندنا؛ أن نعقلن الفكر حتى لا ينطلق من السطح، بل من العمق، وحتى لا يختلط بالخرافة، كما أدخلها البعض في الفكر والدين، وحسبوها فكراً وديناً، فعاش العالم المتخلّف هذا الخلط، وقدّس الخرافة باسم الدين.. وحتى الدين علينا أن نعقلن وعينا وفهمنا له، وتصوّرنا له، من خلال الفهم العقلاني الثقافي المتوازن، الذي يجعلنا نفهم الدين بجذوره العقلية والفكرية. والسيد فضل الله لا يعتبر الإيمان فوق العقل، كما يعتبره بعض أتباع الديانات، بل إن العقل هو الذي ينتج الإيمان، ولا عمق لإيمان لا يرتكز على العقل. نحن نؤمن بالله تعالى لأن العقل قادنا إلى وجوده، وقادنا إلى توحيده…، فنحن وحَّدناه لأنّ عقلنا اكتشف توحيده، ونحن عبدناه لأن عقلنا اكتشف عبوديتنا له وطاعتنا له.
واستخدام العقل ـ من منظور السيد فضل الله ـ يجب أن لا يقتصر على الجوانب السابقة، بل لا بدّ لنا من أن نعقلن مجمل الحياة الاجتماعية التي نعيشها، ونمارس فيها التزاماتنا الفكرية والعملية الذاتية والموضوعية تجاه أنفسنا وتجاه الآخرين ممَّنْ نقاسمهم الهواء والماء والطعام والشراب، حتى لا نسقط في خطّ العصبية العمياء، بل لنتحرّك على أساس نظم وخطوط وقواعد تجعل من المجتمع جسماً واحداً، ينطلق كلُّ أفراده لتحقيق الأهداف الكبرى للمعنى الاجتماعي في المجتمع الذي يؤكِّد قضاياه الكبرى، كما يؤكِّد للأفراد قضاياهم الحيوية.. ولا بدّ أيضاً من أن نعقلن السياسة، حتّى لا تكون انفعالاً وحالةً طارئة وعاطفة، بل لتكون خطة تدرس كل حاجات الإنسان وأهدافه ووسائله بطريقة عقلانية تحسب حساب القوة والضعف، والربح والخسارة، والبداية والنهاية.
ولذلك فإنّ عقلنة السياسة تفرض أن لا يستقلّ بالسياسة أفراد ينطلقون من خلال ذاتية فكرهم، ليتبعهم الناس تصفيقاً وتهليلاً وتكبيراً واتّباعاً أعمى. إنَّ عقلنة السياسة تعني أن يكون لكل شخص ممَّن تتصل حياته بالسياسة فكرٌ سياسيّ وخطّ سياسيّ، وأن يتعرَّف مواقع السياسة عندما يرتبط الداخل بالخارج، وعندما تندمج القضايا الإقليمية بالقضايا الدولية، وعندما تتحرك مصالح المستضعفين في مواقع مصالح المستكبرين. أن لا تكون السياسة تقليداً، بل تكون إنتاجاً وإبداعاً. أن لا نتحرك لأنّ الآخرين يريدون لنا أن نتحرك، بل لأننا نحن نريد ذلك، ولأنّ الآخرين الذين ربما يملكون موقعاً في مركز القيادة لا بدّ لهم من أن يتكاملوا معنا.
وعندما يسير الإنسان على هدى العقل المستنير فإن ذلك يمكن أن يهيّىء له مستقبلاً كبيراً في مستوى القوّة وفي مستوى العنفوان. وقد ورد عندنا حول مسألة التفكير، الذي هو نتيجة العقل: «تفكُّر ساعة خيرٌ من عبادة سنة»؛ لأن هذه الساعة تضيء للإنسان معنى عبادته ومعنى إيمانه ومعنى حياته، كما يؤكد السيد.. ولذلك كان الواجب يقتضي من كل الناس ـ وبخاصة مَنْ هم في مواقع الدعوة والتربية والقيادة والتخطيط ـ أن ينمّوا عقولهم بالفكر والتأمّل والتجربة المستمرة والممارسة العقلية النقدية الواعية، وأن يدرسوا كلَّ خطوة ليتعرفوا إيجابيّاتها وسلبيّاتها، وأن يبتعدوا عن التقليد والتبعية والتلقين.
ونلاحظ أن السيد فضل الله يركِّز دائماً ـ في كل أفكاره وحركته المرجعية الدعوتية ـ على أهمية استخدام العقل والمنهج العقلي في كل ما يتعلَّق بشؤون الإنسان الخاصة والعامة. وهو يضرب المثال النبوي التالي، الوارد في القرآن؛ لإظهار الفرق بين استخدام المنهج العقلي الهادئ وبين اتباع أساليب الانفعال والتوتر النفسي والعملي.. فقد تحدث الله سبحانه وتعالى في بيانه للنبي محمد’، عندما كان قومه في مكّة يثيرون الغوغاء حوله، فينطلق أحدهم في مكّة ليقول عنه: إنه مجنون، فتنطلق بذلك الهتافات، فالله سبحانه وتعالى علّم النبي محمد’ الأسلوب العقلائي الذي يحاول به إثارة التفكير بعقل هادئ.. فهناك قضيّة واحدة تُمثِّل المنهج في فهم الأشياء، المنهج الذي يستطيعون من خلاله أن يفكِّروا باستقلالية وموضوعية وبطريقة علمية، فقال لهم ـ على لسان القرآن ـ: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يديْ عذاب شديد﴾ (سبأ: 46)، فأراد لهم أن ينفصلوا ويتفرَّقوا، فرداً فرداً واثنين اثنين، عن ذلك التجمّع المحموم الذي ينطلق بوحي العصبية العمياء، والذي يتحرّك فيه الأفراد من خلال الحُمّى التي تسود كل مشاعر المجتمع وأحاسيسه، ليتفكّروا ما بصاحبهم من جُنّة، ولكنّه النبيّ الذي يريد لهم الهداية إلى طريق الخير في الدنيا والآخرة.
من هنا يريد السيد فضل الله من جماهير الأمة أخذ درس عملي من هذا التوجيه العقلاني الرباني ـ إذا صح التعبير ـ في كلِّ واقعها السياسي والاجتماعي والاقتصادي؛ إذ هناك ما يسمى في علم النفس بمصطلح (العقل الجمعي)، ويقولون: إن الفرد عندما يكون ضمن الجماعة فإنّه يتحرّك بشكل يختلف عمّا لو كان فرداً، بحيث يتأثر الفرد بالجماعة؛ لأن الجماعة عندما تسيطر على الساحة فإنها تجعل الإنسان ينجذب غريزياً إلى ما تطرحه، فيفقد بذلك استقلاله الفكري، ويصبح جزءاً من الحمى الجماهيرية..
ويشير السيد فضل الله هنا ـ في معرض شرحه للآية السابقة ـ إلى أن الله سبحانه وتعالى علّم رسوله أن يقول لهم: إنكم لا تستطيعون التفكير باستقلال، سواء قلتم: إني مجنون أو عاقل، ما دمتم تعيشون الحُمّى العصبية والعدوانية التي تسيطر عليكم من خلال بعض الأشخاص، فتنطقون كما ينطقون، وتهتفون كما يهتفون، فارجعوا إلى عقولكم.. ﴿أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ﴾ يعني أن تنفتحوا على الحقيقة أمام الله سبحانه وتعالى، بعيداً عن أية مؤثرات عاطفية أو انفعالية وما إلى ذلك، ﴿مَثْنَى﴾ اثنين اثنين، ﴿وَفُرَادَى﴾ واحداً واحداً، ﴿ثمّ تتفكّروا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾؛ لأن الفرق بين العاقل والمجنون هو أن العاقل يتكلم بطريقة عقلانية منطلقة من قاعدة فكرية وخط دقيق متوازن، ويتحدّث بحسب دراسة الظروف المحيطة والقضايا التي تثار في المجتمع، فيختار ما ينفع المجتمع.. والنبيّ’ يقول ـ بحسب القرآن ـ: ادرسوا كلماتي وطريقتي في التعامل والدعوة دراسةً موضوعيةً هادئة، لتعرفوا أنّ ﴿مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾، فكل ما فعلته هو أنّي أنذرتُكم في شرككم وكفركم وفي تمرّدكم على اللّه وفي عبادتكم للأصنام: ﴿إِنْ هُوَ إِلاّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾([7]).
ويتحدث السيد فضل الله في إحدى مواعظه عن حالة الاستقلال الروحي والفكري للإنسان، وأهمية بناء قناعة وإيمان ذاتي حقيقي حرّ وغير تابع لهذه الجهة أو تلك، أي إنه يدعو إلى رفض التقليد والتبعية كحالة مضادّة للعقل والتفكير العقلي، وذلك من خلال هذا الحوار القرآني الذي يعرض الله تعالى لنا فيه ماهية الحوار الذي يدور بين الجيل الأول والجيل الآخر يوم القيامة، عندما يكون الجيل الأول جيلاً ضالاً فيفرض ضلاله على الجيل الآخر؛ لأن الجيل الآخر يتبعه ويسير في مسيرته ويقلّده في كلّ شيء، كما درج عليه الكثيرون من الناس في أنهم يقلِّدون آباءهم في عاداتهم وتقاليدهم وأفكارهم، من دون أن يناقشوها، ومن دون أن يتأمّلوا فيها، كما لو كان آباؤهم معصومين.. ويرصد السيد فضل الله هنا ـ من خلال متابعته الدقيقة لحركة المجتمع ـ كيف أنه لا يزال فريق من الناس في عالمنا هذا عندما تحدِّثهم عن عاداتهم التي ساروا عليها، وأنها عادات ضارّة ومتخلِّفة، يقولون: هذه عادات آبائنا وأجدادنا، وأنهم غير مستعدين للدخول في مناقشة. هذا هو الذي يجعل الأجيال الجديدة تدخل في الضلال، بلحاظ الأجيال القديمة.
ويؤكد السيد فضل الله ـ في هذا المجال ـ على أن القرآن الكريم واجه وحارب هذه المسألة، وطالب الناس بعدم الخضوع لها، وتحدث عن هؤلاء الذين إذا سُئِلوا عن ما هم فيه من الكفر والضلال قالوا: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ﴾ (الزخرف: 23)، أي نحن اتبعنا آباءنا، وقد ربّانا آباؤنا على هذه العادات والأفكار والتقاليد.
وينقل لنا الله سبحانه وتعالى عن الأنبياء عندما كانوا يقفون ضد هذه الفكرة: ﴿قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ﴾، كان آباؤكم يفكرون بهذه الطريقة، فما رأيكم أن آتيكم بطريقة أخرى أكثر وعياً وهدايةً وصواباً وصحةً مما درج عليه الآباء؟ ﴿قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ﴾ (الزخرف: 24)، لن نناقش. وفي آية أخرى يقول الله تعالى: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ﴾ (المائدة: 104)، يعني حتى لو كانوا جاهلين وكنتم مثقّفين، هم لم يتعلَّموا وأنتم تعلّمتم، مثلما قال إبراهيم لأبيه: ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ العِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي﴾ (مريم: 43)، هذا العلم الذي عندي ليس موجوداً عندك. والجاهل يجب أن يتّبع العالِم، وليس على الصغير أن يتّبع الكبير، فقد يكون الصغير أكثر علماً من الكبير.
وفي تفسيره وتحليله القرآني لهذه الظاهرة يتحدث السيد فضل الله عن أن الله يعطينا صورة عمّا عليه هؤلاء الناس، عندما تلتقي هذه الأجيال الكافرة أو الضالة في النار، وكيف يسير الحوار بينهم، يعني كما يحصل حوار بين أهل الجنة وأهل النار يحصل حوار بين أهل النار أنفسهم، وقد حدّثنا الله عن هؤلاء كيف كانوا منحرفين عن خط الهدى بقوله: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً﴾، أي نسب إلى الله شيئاً لم يقُلْه ولم يشرّعه، ﴿أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ﴾ (يونس: 17)، أو أنه عندما جاءه الرسل وتلوا عليه آيات الله كذّب بها ولم يصدّقها ورفضها، ﴿أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الكِتَابِ﴾، يعني نصيبهم من المسؤولية.. ﴿حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ﴾، أين هؤلاء الناس الذين كنتم تعبدونهم من دون الله، والذين كنتم تتبعونهم وتطيعونهم في معصية الله؟ دعوهم يخلّصوكم، نحن نريد أن نقبض أرواحكم الآن، فليخلّصوكم إذا كانوا هم شركاء لله تعالى، ﴿قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا﴾، ليسوا موجودين، ﴿وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ﴾، عندما وجدوا أنه لا يوجد أحد من كل هؤلاء الذين عبدوهم وأطاعوهم في معصية الله، فلم يجدوهم عند الحاجة وعند الحسرة، ﴿قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ﴾، يعني أن هناك ممَّنْ كان قبلكم من الإنس والجن مَنْ ساروا على خط مسيرتكم في أنهم عبدوا أشخاصاً من دون الله، وأطاعوهم وعصوا الله، ادخلوا معهم في النار، ﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا﴾، يعني كل جيل يدخل إلى النار يستقبله هذا الجيل باللعن، ﴿حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً﴾، يعني اجتمعوا فيها والتقى كل جيل مع الجيل الآخر، ﴿قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ﴾، قال الجيل الجديد للجيل القديم، عندما أرادوا أن يتخلصوا من المسؤولية بأية طريقة، وأرادوا أن يحمّلوا المسؤولية لهؤلاء الذين سبقوهم بالضلال، وتركوا تأثيراتهم الفكرية والعملية عليهم، قالوا: ﴿رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا﴾، هؤلاء السبب في ضلالنا، لولا ضغوطهم ووسوستهم واستغلالهم للظروف الصعبة التي كنا نعيشها، ولولا استكبارهم واستضعافنا، لكنّا سرنا على الخط الصحيح، ﴿هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ﴾، آتهم عذاباً لأنهم ضالّون، وعذاباً آخر لأنهم أضلّونا، فهم قاموا بجريمتين، فماذا كان الجواب؟ ﴿قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ﴾، كل فريق أضلّ الفريق الذي بعده، ﴿وَلَكِن لا تَعْلَمُونَ﴾؛ لأن الله خلق لكم عقلاً كما خلق لأولئك عقلاً. فلنفرض أنك ورثت بعض الأفكار، ولكن الله أعطاك عقلاً، فلو أنك ما زلت صغيراً لكنت غير مكلّف ولا تستطيع أن تفكِّر، لكن عندما يكتمل عقلك وتنفتح ثقافتك تصبح قادراً على مناقشة الأمور، فمثلما تناقشون بعضكم بعضاً تستطيعون أيضاً أن تناقشوا الأجيال التي سبقتكم، فلماذا لم تفكروا؟ إن الله أعطاكم عقلاً فلماذا لم تستخدموه ولم تعقلوا به الأشياء؟ والله أعطاكم سمعاً فلماذا لم تستمعوا إلى آيات الله؟ والله أعطاكم بصراً فلماذا لم تبصروا آيات الله في الكون ولم تقرأوا القرآن والوحي؟ ﴿وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأُخْرَاهُمْ﴾، أجابوهم: ﴿فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ﴾، نحن لسنا مسؤولين عنكم، فهناك فرق بيننا وبينكم، فالله أعطانا عقلاً لم نستعمله أو استعملناه في الشر، وأنتم أعطاكم الله عقلاً واستعملتموه في الشر أيضاً، فلماذا اتبعتمونا؟! نحن نستطيع أن نضغط على أجسادكم، وأن نضغط عليكم في حاجاتكم، ولكننا لا نستطيع أن نضغط على عقولكم، ﴿فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ (الأعراف: 37 ـ 39)، فكل جيل يتحمّل مسؤوليته.
وعلينا أن نعرف من خلال ذلك كله حقيقة جوهرية، وهي أن على الإنسان أن يعتبر أن عقله هو حجة الله عليه، فالله خاطب عقلك، وجعل العقل أساساً في أن يثيبك إذا سرت على خط الهدى، أو يعاقبك إذا سرت على خط الضلال، وقد ورد في الحديث عن النبي’: «إن الله لما خلق العقل قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي، ما خلقت خلقاً أعزّ عليّ منك»، يعني أن العقل الذي وهبه الله للإنسان هو أعزّ الخلق عليه، وأحبّ الخلق إليه؛ لأن العقل هو الذي يدرك الحقائق، فبالعقل نعرف ربنا، وبالعقل نعرف نبيَّنا، وبالعقل نعرف الحق من الباطل، ونعرف الحسن من القبيح، فهو الذي يربطنا بالحقيقة، ويبعدنا عن الخرافة وعن الباطل، «إياك آمر، وإياك أنهى»، فهو يخاطب عقلك، حتى يقول لك عقلك: لا بد لك أن تستجيب لهذا الأمر؛ لأن لله عليك حقاً في الطاعة، ولأن المعصية تمثل التمرد على الله، وفي ذلك العقاب الذي تستحقه من الله سبحانه وتعالى، «وبك أثيب»، عندما يتحرك عقلك في خطِّ الحق وفي خط الهدى والصواب، «وبك أعاقب»، عندما ينحرف العقل عن الطريق المستقيم.
وعلى ضوء هذا يؤكِّد السيد فضل الله دائماً أنّ على الإنسان أن ينمي عقله بالتفكير والتأمل والتجربة والقراءة والحوار. فكما ينمي جسده يومياً بالأكل والشرب النافع والمفيد الذي يحتوي الفيتامينات، ويبتعد أيضاً عن الأشياء المضرّة حتى ينمو جسده نمواً طبيعياً، كذلك لا بد لنا من أن نربّي عقلنا بأن نفكِّر في كلِّ شيء يعرض علينا، وأن نستفيد من تجاربنا وتجارب الآخرين.. ويدعو السيد فضل الله كل الناس إلى أن يمتلكوا ويحوزوا العلم النافع، كلٌّ بحسب ظروفه وأوضاعه؛ لأن العلم معرفة بالنفس والحياة والواقع والطبيعة والمحيط السياسي والاقتصادي الذي نعيشه حاضراً، أو يمكن أن نخطِّط لنعيشه في المستقبل القريب أو البعيد.
والعقل ـ في نظر السيد فضل الله ـ هو المعيار الحقيقي للوعي والتخطيط والبناء الحضاري والإنساني المزدهر والمتطور في كل مفرداته ومواقعه. والواجب يقتضي من الجميع ـ وخصوصاً مَنْ هم في مواقع المسؤولية ـ أن يعملوا على تنمية عقولهم، وأن يسألوا عن كل ما يمكن أن يسمعوه من كلام، وأن يناقشوا ما يعرض عليهم من أفكار، حتى يقتنع العقل بها أو يرفضها. لهذا كونوا أحراراً. ومشكلة كثير من الناس أنهم عميان، لا عمى النظر، كما يقول القرآن: ﴿فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ (الحج: 46)([8]).
وحول العلاقة بين العقل ووجود الخالق يتحدث السيد فضل الله مؤكِّداً أنه لا يمكن تصور وجود عقل يحترم نفسه لا يؤمن بالله..؛ لأن مسألة وجود الله تمثّل العنصر الذي يبرّر وجود الكون، لأننا لو درسنا طبيعة هذا الكون المادية فإننا نجد أن كل مفردة من مفرداته لا تحمل في داخلها جذوراً حتمية لوجودها. ولكن المناطقة أو الفلاسفة يقولون: «إن الممكن هو الذي لا يكون وجوده ضرورياً، وعدمه ليس ضرورياً»، يعني لو لم يوجد فلا مشكلة، أي لو فرضنا أن الجبال لم تكن موجودة فهل هناك حتمية تفرض وجودها بحسب طبيعتها، أو كان وجودها ليس حتمياً، وعدمها ليس حتمياً، فهل يمكن أن توجد؟ ولو انطلقنا للبحار وللأنهار وللإنسان وكل هذه الكائنات… هل وجودها حتمي أم ليس حتمياً؟ هل عدمها حتمي أم ليس حتمياً؟… وهكذا، فإذا كانت كل الأشياء تتساوى فيها فرضية الوجود والعدم فمَنْ الذي يرجّح جانبها الآخر؟ فإما أن تكون الأشياء بحسب طبيعتها تحمل في داخلها حتمية الوجود فنقول: إنها حتمية في ذاتيتها؛ أو إن كل الأشياء تتساوى عندما ندرسها في ذاتها من حيث الوجود والعدم، وعند ذلك فإن فرضية الوجود تساوي فرضية العدم، الأمر الذي يتطلب وجود قوة من خارج ذاتها يغلّب جانب الوجود على جانب العدم. إن هذه القوة هي الله تعالى… وهناك من الناس من يسأل عن الله مَنْ أوجده؟ هل أوجد نفسه؟ من الطبيعي أنه لو لم يكن الإله لما كان هناك كون. كون فرضية وجود الإله هي التي تبرّر وجود الكون. وإذا كنا نعرف بأن الكون ممكن؛ لأنه تحت تجربتنا، إلا أننا لا نستطيع أن نقول بأن الله ممكن؛ لأن الله ضروري في تبرير الكون، ولذلك يجب أن يكون الله واجب الوجود، فهو يختزن في داخل ذاته حتمية وجوده؛ لأننا عندما نريد أن نتسلسل، نقول: إن الكون خلقه الله، ولنفرض مثلاً أن هذا الذي نسميه الله خلقه شخص، وهكذا، فلا بد ـ في النهاية ـ من أن نصل إلى شيء ثابت، ولا نظلّ معلَّقين في الهواء… لا بد أن نصل إلى مصدر الخلق، وإلاّ لا نجد شيئاً. فإذاً لا بد أن يكون الله (واجب الوجود)، وكل شيء نتصوره (ممكن الوجود) فهو ليس الله. فالله سبحانه هو الذي نتصوره عندما نسير مع سلسلة الفرضيات إلى آخر السلسلة. فلماذا يشك الناس في هذه المسألة؟! وفي الواقع أنا أحتاج إلى خالق لأن وجودي ليس وجوداً ينطلق من حتمية ذاتية، فلو لم أوجد لما كانت هناك مشكلة، ولو وجدت لما كانت هناك مشكلة، لكن الله لو لم يوجد لما وجد الكون.
فالعقل لا بد أن يميّز من خلال الفطرة السليمة، ومن خلال التجارب؛ لأن هناك عقل التجارب، وعقل الذات، وكلاهما ينطلقان من عند الله سبحانه وتعالى. لكن البعض لا يستسلم لفطرته، ولا يستسلم لدراسة موضوعية للمسألة، فنحن لا نريد أن نقول للعقل: سلِّمْ من دون أساس، بل نقول للعقل: شكِّك في كل شيء؛ لأن الشك طريق العقل، علماً أن الأسلوب القرآني مع الكفّار كان أسلوب الشك: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾ (سبأ: 24). ومعنى ذلك أن الله يعلّم النبي’ أن يكون أسلوبه هو أن يقدِّم نفسه للطرف الآخر شاكّاً، وهو ﴿الَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ﴾ (الزمر: 33)، لكنه أسلوب حوار يشمل شكّاً آخر، فإذا انطلق شخصان يبحثان عن الحقيقة فسيلتقيان باليقين، وفي هذا المجال نحن نقول: إن هناك شكاً سلبياً وشكاً إيجابياً، والشك السلبي هو شك الإنسان الذي يريد أن يشك ولا يريد أن يتحرك، والشك الإيجابي هو الشك الباحث، وهو الشك المتأمل، ولا بد أن يصل إلى نتيجة([9]).
وأما على صعيد العلاقة بين العلم والدين فقد حفلت أحاديث وندوات وكتب السيد فضل الله بالكثير الكثير من البحوث والتحليلات والتعليقات والاستشهادت الدالة على أهمية موقع العلم والعلماء، وعلى الدور المميز والحيوي الذي ينبغي أن يقوم به ويلتزمه العلماء في الإسلام، وعلى أفضلية العالم على الجاهل بدرجات كثيرة. والعلم الذي يتحدث عنه السيد فضل الله هنا لا يقتصر على الدين، وإنما يتعدّاه إلى العلم الطبيعي المادي الذي حققت البشرية من خلاله تطورات وقفزات نوعية هائلة في مسيرتها الحياتية. ويلاحظ السيد فضل الله هنا أن المشكلة كانت تتحرك ـ على صعيد التاريخ الإسلامي في مواقف المسلمين أو مواقعهم ـ في خطين: مشكلة عمل بدون علم، ومشكلة علم بدون عمل. فهناك الكثيرون في هذا التأريخ تخشع لتقواهم ولإخلاصهم، ولكنك تكتشف أنها تقوى تفتقد عمق الوعي، أو أنه إخلاص افتقد العلم والمعرفة، وهؤلاء كثر في مجتمعنا الإسلامي. وقد عاش هذا المجتمع ولا يزال الكثير من مشاكل هؤلاء؛ لأنهم قد يحصلون على الثقة الاجتماعية بين المسلمين من خلال عملهم فتفرض هذه الثقة على الواقع الإسلامي جهلهم.
وهناك الأشخاص الذين يملكون العلم كأرحب ما يكون العلم، ولكنهم لا يملكون العمل، ولا يملكون مسؤولية هذا العلم ورساليته إلى المجتمع من خلال ما يفرضونه عليه بالثقة بهم من خلال علمهم، ولكنهم يسيئون إلى مسيرته من خلال انحراف خط العلم عندهم عن خط العمل… ولعلّ الكلمة المشهورة التي لم ندقِّق في سندها عن أمير المؤمنين× «قصم ظهري اثنان: جاهل متنسِّك؛ وعالم متهتِّك» تمثل واقع المسيرة الإسلامية كلّها… وقد عالج رسول الله’ والأئمة من أهل البيت^ ذلك كلّه. ففي الخط الأول، وهو العمل بغير علم، نقرأ في الحديث عن بعض أصحاب الإمام جعفر الصادق× قال: «سمعت أبا عبد الله× يقول: العالم على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق، لا تزيده سرعة السير إلا بعداً». فعندما تبدأ خط السير عليك أن تعرف الطريق الذي تسير فيه، والهدف الذي تسعى إليه؛ لأنك عندما لا تعيش ثقافة المسيرة في بداياتها وخطوطها فقد يخيّل إليك أنك تسير في الطريق الذي يصل بك إلى الهدف، وإذا بك تسير في الطريق الذي يصل بك إلى ما هو ضد الهدف. ولذلك فقد تكتشف وأنت في نهاية الطريق أنّك ابتعدت عن الطريق أكثر لأنك كنت أقرب إليه في البدايات، ولكن عندما انطلقت تلك البدايات في خط الانحراف فإنك ابتعدت عن الطريق كثيراً، ولو وقفت لاستطعت أن تهتدي أكثر.
ويورد السيد فضل الله حديثاً آخر عن بعض أصحاب الإمام الصادق×، وهو (حسين الصيقل)، ليدعم نظرته للعلاقة العملية بين العلم والعمل، قال: سمعت أبا عبد الله× يقول: «لا يقبل الله عملاً إلا بمعرفة». فالله تعالى يريد منا أن نعرف من قبل أن نعمل؛ لأن العمل ليس مطلوباً في ذاتيات العامل في ما ينطلق به، ولكن العمل المطلوب هو الذي يجسّد الفكرة… فالمطلوب ـ كما يؤكِّد السيد فضل الله في شرحه للنص السابق ـ هو أن تتحرك الرسالة في الواقع، فإذا كنت تجهل الرسالة فإن معنى ذلك أن ما يتحرك في الواقع باسم الرسالة ليس هو الرسالة.
(c) منهجية السيد فضل الله في تحليل ودراسة العقل والتفكير العقلي
على ضوء ما تقدم يمكننا أن نحدد هنا بعض المعالم الفكرية للمنهجية التي يعتمدها السيد فضل الله في موقفه العملي من مسألة العقل والعلم والعلاقة بينهما وبين المسألة الدينية:
أـ العقل هو معيار وحجة ورسول باطني داخلي. وهو جوهر روحاني وهبة من الله تعالى للإنسان.
ب ـ العقل مصدر أساسي من مصادر التشريع الإسلامي، وما يحكم به العقل يحكم به الشرع، والعكس صحيح.
ج ـ العقل أساس تطور الإنسان والمجتمعات والحضارات والأمم.
دـ تغذية العقل وتنميته لا تتم إلا من خلال التأمل والتفكير والتدرب واكتساب الخبرات العملية الميدانية في كافة المواقع الحياتية، على المستوى الشخصي أو الاجتماعي.
هـ ـ العقل المؤهَّل والمدرَّب هو القادر على تأويل النصّ الدينيّ المتشابه بعد عرضه على محكم الكتاب.
وـ العقل قادر على التمييز والتفريق بين الحسن والقبيح، بين الحق والخير، إذا ما ترك على فطرته وسليقته الأولى. أي إن للأفعال حسناً أو قبحاً ذاتياً وقبل ورود الشرع، وإنّ بإمكان العقل أن يدرك ذلك، فالعدل ـ مثلاً ـ حسن في ذاته، والظلم قبيح في ذاته، وبمقدور العقل أن يدرك حسن ذاك وقبح هذا.
ز ـ الإدراك العقلي يمكنه القيام بأعمال التجزئة والتحليل والاستنتاج والحكم ومعرفة المفاهيم الكلية والإبداعية العامة؛ لفهم معايير البناء والتكامل، وإدراك الحقائق والقوانين الخاصة والعامة.
ح ـ العلاقة بين النص والعقل علاقة تكاملية منتجة وفاعلة، وليست علاقة تنافرية متضادة. صحيح أن هناك فارقاً (ذاتياً) في جوهر الممارسة العملية تنتج نوعاً من التمايز المنهجي بين مرجعية العقل ومرجعية النص، ولكنّ هذا الحدّ الفاصل أو الفارق التطبيقي العملي لا ينعكس سلباً على دور كلٍّ منهما، بل يجعل منه تمايزاً إيجابيّاً منتجاً كما ذكرنا.
ط ـ يشير السيد فضل الله& على الدوام إلى الأهمية الكبرى لتلك العلاقة التفاعلية التكاملية بين النص والعقل من خلال هذا الحديث ـ (الذي يركز سماحته عليه، ويكرره باستمرار في معظم أحاديثه وندواته؛ نظراً لأهميته في حياتنا) ـ المروي عن الإمام الكاظم×: «إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة؛ وحجة باطنة. فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة^؛ وأمّا الباطنة فالعقول..»([10]). أجل إنّ هذا التمايز لا يصل إلى مستوى القطيعة أو التضاد والتناقض المنطقي بين المنهجين، بل إن افتراض هذا التنافر أو التضاد بين المنهجين ـ كما يبدو من بعض المثقَّفين ـ ليس بريئاً، ولا هو مجرد اشتباه، بل هو متعمَّد، يهدف إلى الإيحاء بأن اتباع النص الديني هو عمل غير عقلائي، ولا يملك مشروعية في نظر العقل. ووجه الخلل أو المغالطة في افتراض التضاد بين المنهجين المشار إليهما، كأنما هما خطان متوازيان لا يلتقيان، واضحٌ لا يكاد يخفى؛ فإن العقل هو الذي يقود إلى الإيمان بالوحي، وهو الذي أرسى أساس حجية النص، فكيف ينافيه أو يضاده؟! وهل ينافي أو ينفي الشيء ذاته؟! وفي المقابل فإن الوحي يلعب دوراً مهماً في مؤازرة العقل وترشيده وإعادته إلى صفائه الفطري عندما تعلوه التراكمات وتغزوه المؤثرات فتشوش رؤيته وتعرقل فاعليته وتمنعه من بلوغ غاياته في اكتشاف الحقائق. وقد كان أمير المؤمنين× واضحاً عندما أكّد على أن واحدة من مهامّ الأنبياء والرسل أنهم ينفضون الغبار ويزيلون الركام عن العقل، قال× في أول خطبة من خطب نهج البلاغة، وهو بصدد بيان مهام الأنبياء ووظائفهم: «ويثيروا لهم ـ أي للناس ـ دفائن العقول». وقد نبهت العديد من الروايات إلى ضرورة التفريق بين العقل والشيطنة، وعدم الخلط بينهما، في إشارة واضحة إلى إمكانية انحراف العقل أو تشابه الأمور بين مقتضيات العقل والوساوس الشيطانية. ففي الحديث عن الإمام الصادق×، وقد سئل عن العقل؟ قال: «ما عبد به الرحمن، واكتسب به الجنان». وهنا سأله الرواي عمّا كان لدى معاوية، وهو المعروف بدهائه، فقال×: «تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل، وليست بالعقل»([11]).
إننا نلاحظ على منهجية السيد فضل الله في تناوله لقضايا الحياة المعاصرة على تنوعها واختلافها وتناقضاتها وتعدد مشاربها واختلاف انتماءات أصحابها أنه يرتكز على العقل المتفاعل ـ (بالدعم والتكامل والمؤازرة) ـ مع النص، فأنت تراه مستخدماً لسلطة العقل على النص لتفسيره وشرح مضامينه والنفاذ العميق إلى جوهره وحقيقته.
والمهمة الأخطر والأهمّ للعقل ـ وللتفكير العقلي الذي يمارسه السيد فضل الله في تفسيره للنص ووعيه لقضايا الحياة استناداً للنص المفسِّر عقلياً ـ أنه يشكّل مصفاة للنص، ومعياراً في قبوله أو رفضه إنْ لم يكن النص ذا مستند قطعي، أو تأويله إنْ كان كذلك. والوجه في هذه المرجعية المعيارية أن العقل عندما تتوفر شروط فعاليته، بأن يكون قطعياً، وبعيداً عن الهوى والمؤثِّرات، فإنه يعتبر وحياً داخلياً، كما جاء في حديث الرسول الكريم: «العقل حجة باطنة»، أي رسول من الداخل، مما يجعل من العقل أساس حجية النص والوحي، ولا يمكن بناء أو تشكيل معرفة دينية إلا على أساس العقل. وأما الوحي (حامل النص) فإن دوره أن يكون موجِّهاً ومرشداً للعقل؛ لأن هناك كثيراً من المعارف الدينية الاعتقادية التي لا عمل ولا دور أساسياً للعقل فيها، كما هو الحال في الحقائق الغيبية المرتبطة بعالم الآخرة، التي يقف العقل إزاءها موقف المحايد، لا ينفي ولا يثبت، تاركاً المجال أمام النص ليخوض في غمرات هذا الميدان… وبشكل عام يمكن أن نقول: إن النص كما هو بحاجة إلى العقل في تأكيد مرجعيته وإثبات حجيته، وفي تقييم نتائجه الاجتهادية فإن العقل بدوره يحتاج إلى النص في تحسين ظروف عمله وترشيده وإزالة العوائق من أمامه([12]).
وإذا ما عدنا قليلاً إلى بدايات نشوء علم الكلام والفلسفة في الإسلام فإننا سنجد أن اعتماد كثير من علماء الإسلام وفلاسفته على العقل والإدراكات العقلية هو الذي أدى إلى تشكيل وصياغة أولى المعارف الكلامية التي كان لها دور كبير في إثبات مجمل العقائد المتعلِّقة بالإسلامي، وذلك بالاستناد إلى البرهان العقلي، كما قلنا، كما هي الحال بالنسبة لإثبات الصانع «واجب الوجود»، أو في مسائل عقدية أخرى، من قبيل: «وجوب النظر والمعرفة»، أو «وجوب إطاعة المولى»، فإن هذه القضايا تعتمد على حكم العقل، ولا دور للشرع فيها، وإلاّ لزم التسلسل. وأمّا سائر العقائد، كالاعتقاد بالمعاد أو الإمامة أو العصمة أو غيرها، من أصول العقائد أو فروعها، فإنها لا تستغني في إثباتها عن العقل، وإن أمكن إثباتها عن طريق الوحي أيضاً.
وبالنتيجة نلاحظ أن السيد فضل الله يحتفظ للعقل بمكانة خاصة، ودور مفصلي ومرجعيّ مهم في تشكيل وصياغة مفاهيم وتصورات المعرفة الدينية، على الرغم من وجود حالة من الرفض الذاتي لدى الكثير من الفرق الإسلامية لأيّ دور عقلي في الميدان التشريعي والاعتقادي، مما ساهم في تعزيز ودعم الاتجاهات الظاهرية اللاعقلية في التاريخ الإسلامي، التي تجمَّدت عند النص ـ قرآناً وسنة ـ، من دون أن تعطي للعقل حقه في التحليل والفهم والوعي. وقد أوقع هذا النزوع اللاعقلي تلك الفرق في شرك القول بالتجسيم أو التشبيه. ولا مجال هنا للتوسع في الحديث عن ذلك.
(d) العلاقة بين العلم والأخلاق في ضوء موقف السيد فضل الله منهما
ينطلق السيد فضل الله في إدراكه للعلاقة القائمة بين الأخلاق والأحكام القيمية الأخلاقية العليا في الحياة من جهة، وبين العلم والأحكام العلمية والعقلية والمعرفية من جهة أخرى، من قاعدة أساسية، هي أن الإنسان موجود أخلاقي. وهذه قاعدة مطلقة. وإنّ القيم الأولية والأساسية الأخلاقية، كالعدل والحرية والسعادة والتكامل، هي قيم مطلقة. وهذا الكائن الأخلاقي يستمد وجوده وقيمه الأخلاقية وأحكامه الأخلاقية العملية ـ في المبدأ والأصل ـ من الإيمان بالله تعالى، باعتباره واجب الوجود ومصدر الواجبات. وإن طاعة أي أمر أخلاقي تستمد مشروعيتها من استلهام وطاعة الواجبات الإلهية.
وبالنظر إلى ذلك فإن الأخلاق والأوامر والقيم الأخلاقية لا يمكن أن تبنى على قاعدة المصالح والمفاسد([13])؛ لأن المقاييس والأحكام الأخلاقية تحدِّد لنا ما هو أخلاقي وما هو غير أخلاقي، بغضّ النظر عما يمكن لنا أن نشاهده ونكتشفه من منافع ومغانم وخسارات ومخاطر في الأفعال. وبالتالي فالأحكام العلمية ليست مرتبطة بالأخلاق، من زاوية أن العلم والمعرفة العلمية لا تنتج مقياساً أخلاقياً، حيث إن التطور التقني لا يحدِّد لنا مقياس العدالة وأسس المساواة وغيرها من القيم الأخلاقية. إن الأخلاق وما ينبغي فعله ليست خاضعة لمتطلبات التكوين والغريزة، باعتبارها مجموعة أوامر قيمية عليا محمودة في ذاتها؛ لكونها تستمد قوتها وأحقّيتها وحقّانيتها من الإلزام الإلهي. وأما مسألة تطبيق القواعد الأخلاقية على مصاديقها الحقيقية فهي ليست شأناً من شؤون العقل العملي (التطبيقي)، وإنما هي نشاط عقلي نظري، ولا يمكن لأحد أن يدّعي أن تطبيق الكبرى الأخلاقية على مصداقها يفضي إلى علاقة استنتاجية بين الأخلاق والعلم.
من هنا أكَّد المتكلمون والعرفاء على أن مجرد الإيمان بأن الله موجود، وإرادته عين ذاته، وأمره عين وجوده، لا يسوّغ طاعة أوامره وامتثال نداء واجباته. بل إن الإيمان بكونه معشوقاً ومطلوباً بالذات، هو بطبيعته لاحقٌ ومؤسَّس على حكمة عملية وعقل عملي مدرك للواجبات الأخلاقية. نعم، رحلة العشق والعرفان الحق لا تتأسَّس بالطفرة والبداهة، إنما هي رحلة مؤسَّسة لاحقة للعقل العملي وتهذيب السلوك والممارسة القائمة على طاعة الواجبات الأخلاقية. إن ما يبرِّر عشق الله هو حكمة عملية، يتحلى بها العاشق، ويجدها أكمل وأعلى في ذات المعشوق([14]).
ـ يتبع ـ
الهوامش
(*) باحث وكاتب في الفكر الإسلامي، من سوريا.
([1]) راجع: «في عمق السكون»، موقع بينات على الإنترنت: http://arabic.bayynat.org.lb
([2]) راجع: «في عمق السكون»، موقع بينات على الإنترنت: http://arabic.bayynat.org.lb.
([3]) يمكن أن نشير هنا إلى أن السيد فضل الله، وعلى الرغم من كونه مرجعاً إسلامياً تحظى مرجعيته بتأييد واسع بين صفوف الناس من مختلف الأعمار والتوجهات، لم يدَّعِ يوماً ما بأنه مسؤول أمام الله فقط، بل اعتبر عملياً أن المرجع لا يكون مرجعاً إلا إذا اكتملت مسؤوليته باحترامه للناس، وتحمله للمسؤولية أمامهم، وأنّه يحقّ للمجتمع أن ينتقده، رافضاً كل أشكالِ التقديس لشخص المرجع. ولذا رأى أن على المرجع أن يجيب المجتمع عن تساؤلاته حتى في قضاياه الشخصية في ما يتصل بموقعه ودوره وعمله وكسبه الخاص والعام؛ لأنّه بموقعه لا يعود يملك نفسه، وعليه أن يقدّم حساباته المختلفة للأمّة، انطلاقاً من قول الإمام علي×: «لا تكلّموني بما تكلَّم به الجبابرة، ولا تتحفظوا بي بما يُتحفّظ به عند أهل البادرة، ولا تظنّوا بي استثقالاً لحق قيل لي، ولا لعدلٍ يعرض عليّ، فإنه من استثقل الحق أن يقال له والعدل أن يُعرض عليه كان العمل بهما عليه أثقل، فلا تكفّوا عن مشورة بحق أو مقالة بصدق فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ، إلا أن يكفي الله منّي ذلك».
([4]) مجلة المنطلق، العدد 63، 1410هـ، منشور على موقع بينات.
([5]) من محاضرة للعلامة السيد فضل الله حول عوامل تمزق المسلمين وإشكالية الوحدة..، 22/جمادى الأولى/1422هـ، الموافق 12/8/2001م.
([6]) جزء من محاضرة تحت عنوان: تربية العقل بين الإيمان وتحديات العصر، ألقاها السيد فضل الله في مؤتمر المبرات السادس عشر، بتاريخ 3/7/1426هـ ـ 7/9/2005م.
([7]) راجع: نشرة فكر وثقافة العدد 314، السنة السابعة، 4/ جمادى الآخرة/1424هـ، 2/ آب/2003م.
([8]) موعظة ليلة الجمعة، بيروت، 8/4/2004م.
([9]) راجع: نشرة فكر وثقافة، موقع السيد فضل الله على شبكة الإنترنت: http://arabic.bayynat.org.lb.
([11]) راجع: العقل والنص، علاقة تكامل لا تقابل، موقع الإنترنت الخاص بالسيد فضل الله.
([12]) راجع: العقل والنص، علاقة تكامل لا تقابل.
([13]) نذكر هنا أن المصالح والمفاسد ـ كما صورها بعض الفلاسفة ـ مدركات بعدية، تتحدد وفق مقاييس الضرر والنفع، وهي مقولات من عالم آخر غير عالم القيم الأخلاقية. أما في واقع الفكر الإسلامي فلا يمكن لتلك المبادئ والأحكام العقلية العملية أن ترتبط بالمصلحة والمفسدة. فالفعل لا يكون أخلاقياً، أي يتصف بالصفة الأخلاقية المحمودة، لمدى استجابته لمنطق النفع والضرر، وحسابات الربح والخسارة، وإنما لمدى تطابقه وتماثله مع الأمر أو القيمة الأخلاقية ذاتها.
([14]) راجع: محاضرة للسيد عمار أبو رغيف حول الموضوع ذاته، موقع السيد فضل الله على الإنترنت.