جدل الأصول والواقع .. التمهيد للحداثة على أنقاض أصول الفقه
محمد أبو الخير السيد
"جدل الأصول والواقع" أطروحة دكتوراة دولة قدَّم فيها الدكتور حمادي ذويب قراءةً لأصول الفقه في التاريخ، ودرَسَ علاقة النظرية الأصولية بالواقع الذي نشأت فيه، وبيَّن مساهمة كلٍّ من العاملين السياسي والمذهبي على وجه الخصوص في صياغة كثير من المفاهيم والمسلّمات الأصولية السائدة. وقد سار الدكتور ذويب في أطروحته هذه على خطى المنهج الاستشراقي الذي وعى جيدًا "المنزلة الأثيرة للواقع"، رافضًا في الوقت نفسه التسليم للمنهج الشائع الذي يدرس تاريخ أصول الفقه منفصلاً عن سياقه وبيئته، وكأنه علم عقلي خالص.
وانطلاقًا من هذه النقطة المنهجية؛ ينقّب الدكتور ذويب في الخلفيات التاريخية للنظرية الأصولية عند أهل السنة وغيرهم، ويرصد حجم الفعل السياسي والمذهبي المؤثر في صياغتها، ليصل إلى تفكيك ما يسمى بالأدلة الأربعة (الكتاب والسنة والإجماع والقياس) من خلال إثبات الخلاف عليها بين الفرق والمذاهب، وردِّ حجيتها إلى عوامل الزمان والمكان والثقافة للأصوليين.
ثم يعرّج على ثلاثة من الأدلة التبعية – هي العرف والاستحسان والمصلحة – ليبين كيف حوّلها الأصوليون من أدوات تشريعية تتكيف مع ضرورات الواقع ومستجداته إلى أدوات سلطوية وظفوها – حسب رأي ذويب – في خدمة مصالح المؤسستين الدينية والسياسية. هذا ويكشف ذويب عن وظيفتين أيديولوجيتين أخريين، اضطلعت بهما النظرية الأصولية – برأيه – هما: وظيفة تبرير الواقع السائد من جهة، ووظيفة الانفصال عن الواقع والقطيعة معه من جهة أخرى. وقد تم كل ذلك بأدوات ومفاهيم صاغتها النظرية الأصولية عبر الزمن.
ولا تقف النتائج (الموجزة) التي خلص إليها الكتاب عند هذا الحد، بل تسعى من وراء ذلك إلى تفكيك الخطاب الإسلامي القائم أساسًا على مسلَّمات أصولية، والذي – حسب رأي ذويب – يسعى اليوم جاهدًا لردم الهوة الحضارية بينه وبين الغرب المتفوق، دون أن يعي شروط الحداثة، أو يتنبه إلى ارتهانه بماضٍ لا يمكنه الإجابة عن أسئلة الحاضر مهما ادعى هذا الخطاب من عصرنة أو تجديد.
وإذ يلاحظ الدكتور ذويب هذه المفارقة التي وقع فيها الخطاب الإسلامي المعاصر؛ فإنه يدعو – في ختام دراسته – إلى التحلي بالجرأة والمسؤولية للقيام بثورة فكرية على جميع المسلَّمات الموروثة دون استثناء أي نص مهما بلغت قداسته، تمهيدًا لدخول الحداثة والمساهمة فيها، وإلا بقينا، على حد قوله، "على هامش التاريخ، محكومين بالتبعية الدائمة للحضارة الغالبة" (ص824).
ويتألف الكتاب من خمسة أبواب رئيسية، ويتوسع فيه مؤلفه عرضًا وتوثيقًا وتحليلاً. ولتجنب الوقوع في تعميمات جزافية أو أحكام جزئية أو مسلّمات موهومة؛ يستقصي الدكتور ذويب المراجع الأصولية المعتمدة للمذاهب الأربعة المعروفة، مضيفًا إليها المصادر الأصولية للمذاهب الأخرى، كالشيعة والمعتزلة والإباضية وغيرهم.
تاريخ تدوين أصول الفقه
في الباب الأول يستعرض الدكتور ذويب تاريخ التدوين في أصول الفقه، ويقف عند الخلاف المشهور حول أول من ألّف في أصول الفقه. ومع تنازع المذاهب في دعوى السبق، يرى الدكتور ذويب أن الشافعي هو الأوفر حظًا في نيل هذه الصفة دون أن يجزم بذلك، وذلك لانعدام المصادر المبكرة في أصول الفقه، والتي لم تقدم لنا أقدم من "الرسالة" (ص42) في ظل ضعف حجج المذاهب الأخرى في دعوى السبق.
ويسلّط الدكتور ذويب الضوء على خلفية كتابة الشافعي لـ"الرسالة"، إذ الأمر لا يتعلق بمجرد إجابة طلب صديقه المحدث عبد الرحمن بن مهدي -كما يبدو في الظاهر- بل لا بد من ملاحظة أن "الرسالة" كُتِبت في أجواء سجالٍ حاد بين أصحاب الحديث وأهل الرأي، وتهديدٍ حادٍّ لعربية القرآن على يد الدخيل الأعجمي، واضطرابٍ في الاجتهاد والفتوى ناجم عن تضارب المدارس التشريعية (ص46). وهو ما استبطنته "الرسالة" في مباحثها محاوِلةً تحديد موقف منهجي منه.
وبعد رسالة الشافعي تأتي مرحلة تمتد نحوًا من قرن لا نعثر فيها على شروحات الرسالة المذكورة في المصادر، كما لم تصلنا المصنفات الأصولية في القرن الثالث. ويفسر الدكتور ذويب هذه الظاهرة بأن دعم "المتوكل" لأصحاب الحديث على حساب المتكلمين قد أضعف حركة التأليف الأصولي، وأن "الشافعي لم يجد في البداية من ينتصر لآرائه، إذ عدَّه أهل الحديث من المعتزلة، وعدَّه أهل الرأي مدافعًا عن أهل الحديث" (ص51).
لكن تفسير الدكتور ذويب لهذه الظاهرة بمجرد العامل السياسي وحده لا يبدو كافيًا، إذ تحتاج المسألة إلى الوقوف على الواقع المذهبي السائد في تلك الفترة؛ فإذا كانت "رسالة" الشافعي إنشاءً أو تأسيسًا لأصول مذهبه، فإن مصنفات أصوليي المذاهب الأخرى تأتي كشفًا عن أصول إمام المذهب وليس إنشاءً لها، وهو أمر يحتاج إلى غير قليل من الجهد والزمن مع تلبسه بحالة رد الفعل التي تتطلب مزيدًا من الوعي بتفاصيل المرحلة ومتطلباتها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يبدو من الصعب موافقة الدكتور ذويب في توصيفه لموقع الشافعي في تلك المرحلة، فالواقع أن الشافعي كان أقرب إلى أصحاب الحديث إن لم يكن منهم، ويشهد له بذلك صلته بالمحدث ابن مهدي الذي سأله تأليف "الرسالة"، وتَلْمَذةُ ابن حنبل عليه مع عظيم الإجلال، حتى بلغت مكانته عند المحدثين أن سمَّوه "ناصر الحديث"، ناهيك عما تزخر به كتبه من رواية، وما تجده في منهجه من استدلال بالآحاد والآثار مقابل تحفظه من علم الكلام وأهله.
وفي حديثه عن المرحلة التالية، يرى الدكتور ذويب أنه مع دخول القرن الرابع يزدهر التأليف الأصولي وتتنوع التصانيف بين كتبٍ شاملةٍ جميعَ المباحث الأصولية، وأخرى أُفردت لتتناول جزئيات منها كالإجماع والقياس. كما يسهم الجميع في هذا العمل، فبالإضافة إلى المذاهب الأربعة؛ نجد مشاركة من الظاهرية والمعتزلة والشيعة والزيدية، والإسماعيلية والخوارج (ص50)، بحيث أثرى هذا التنوع والاختلاف الجدلَ الأصولي، واستمر التدوين حتى بلغ كثافته في القرن الخامس، دون أن يقلل ذلك من قيمة الملخصات والشروح الأصولية اللاحقة التي قد تحتوي مَيْزات وإضافات لا نجدها في كتب الأمهات (ص97،98).
الأدلة الأربعة بين التفكيك والتشكيك
يضطلع الباب الثاني بمهمة تفكيك ما يعتبره الدكتور ذويب "مسلّمات" أصولية لدى المسلم المعاصر، فالأدلة الأربعة (القرآن والسنة والإجماع والقياس) التي عملت المدوَّنةُ الأصولية – حسب رأي ذويب – على تغليفها بالمقدس إنما تأسست حجيتها باجتهادات بشرية محكومة بضغوط الانتماء المذهبي والسياسي للأصوليين، وبحدود الثقافة السائدة، ومقتضيات الزمان والمكان الخاصة بكل أصولي (ص315).
ويقوم منهج الدكتور ذويب في نقد حجية الأدلة الأربعة على آليتين أساسيتين؛ الأولى: إبراز الخلاف في كل ما ادُّعي فيه الاتفاق عليه من تلك الأدلة، والثانية: إسناد الجهد الأصولي المؤسِّس لحجية الأدلة الأربعة إلى موقف رد الفعل المذهبي، أو الاستجابة لإملاءات الواقع السياسي، وربما التحالف معه في بعض الأحيان. الأمر الذي يعني ارتهان الحجية بالظروف التاريخية التي بزوالها يزول كل ما ارتهن إليها.
وفي منحى أخص مما سبق، يعتمد الدكتور ذويب آلية ثالثة – مع حجية كل من الإجماع والقياس – هي تضعيف الاحتجاج بالنص لظنية دلالته، ويمكننا سرد تفاصيل دراسته صعودًا من القياس إلى القرآن.
أ- الإجماع والقياس
تفعيلاً لمنهجه المذكور آنفًا؛ يقرر الدكتور ذويب أن أدلة حجية الإجماع والقياس من القرآن والسنة ظنية الدلالة، وبعضها – من السنة – ظني الثبوت، بل وموضوع (ص251)، وأنه لا اتفاق على حجية الإجماع والقياس بين الأصوليين، فالإجماع مختلَفٌ في ماهيته لا بين السُنيين فقط، بل إن لكلٍّ من الشيعة والإباضية مفاهيمهم الخاصة حول الإجماع المعتبر، بل ثمة من ينكر حجية الإجماع أساسًا، وأقدمُ من أنكره هو إبراهيم النظَّام، أحد أكبر أئمة المعتزلة. ويرى الدكتور ذويب أن موقف النظَّام من الإجماع لم يكن معرفيًا خالصًا، بل جاء مشوبًا برد الفعل على أصحاب الحديث، الذين صاغوا نظرية للإجماع تكرس عصمةً خاصة لعلماء أهل السنة (ص276).
ثم القياس مختلَفٌ فيه أيضًا، وأبرز نُفاتِه الظاهرية والشيعة، وبناءً على هذا فإن ما نجده في المدونات الأصولية من تأصيل لحجية الإجماع والقياس ما هو – حسب رأي ذويب – إلا إجراء دفاعي، جاء ردًا على المنكرين مع تأثره بالعامل المذهبي، كما أن المؤسسة الدينية قامت بتوظيف مفهومَي الإجماع والقياس كأداة لتكريس المرتبة الاجتماعية وإقصاء المخالف، من خلال جعل القياس شرطًا لممارسة الاجتهاد، ومنْعِ إدخال منكريه في الإجماع الذي يقتصر بدوره على فئة محددة، لها الحق في دخول الإجماع دون سائر فئات المجتمع.
والواقع أن الدكتور ذويب لا يأتي بجديد حين يقرر ظنية الدليل المؤسس لحجية كلٍّ من الإجماع والقياس، فالعديد من الأصوليين قرروا مبكرًا أن دليلَي الإجماع والقياس ومدلولَيهما قابعان في خانة غالب الظن لا اليقين، وأجازوا – بواقعيةٍ – التعبد بغالب الظن. لكن الإشكال الذي يثيره الدكتور ذويب هو أنه يتخذ من الاختلاف حول دليلٍ ما ذريعة لنقضه وإبطاله، والحال أن إثبات الخلاف حول دليلٍ ما لا يعني سوى نفي الاتفاق عليه دون أن يستلزم بطلانه، وإلا لزم بطلان كل رأيٍ مختلَفٍ فيه. أما تأطير الجهد الأصولي – لإثبات حجية دليلٍ ما – بإطار رد الفعل الدفاعي؛ فلا يَعيب الأصوليين أو يَحُطُّ من استدلالهم ما دام جهدهم هذا يأتي استجابةً واعيةً منهم لمتطلباتٍ راهنةٍ لم تكن عند سابقيهم، وحِراكًا فكريًا لا يضرُّه أن يكون رد فعلٍ بقدر ما ينبغي أن يضرُّه التعصب المذهبي والتبعية للسياسي.
ب- السنة
وبالانتقال إلى الحديث عن حجية السنة يختار الدكتور ذويب مناقشتها من خلال تقسيمها إلى نوعين شائعين عند الأصوليين، هما المتواتر والآحاد. ويرى أن التنظير لحجية المتواتر جاء نتيجة سياق تاريخي وُجِد فيه من ينكر حجيته ويبطله، سواء من داخل المذاهب الإسلامية كالخوارج وبعض المعتزلة والشيعة، أو من خارجها كالفلاسفة (ص209-211). كما وقعت محاولة التنظير هذه في عدد من الإشكالات، أشهرها الخلاف في عدد الرواة الذي به يتحقق التواتر، وهو خلافٌ لم يصل إلى حلٍّ أكثر من اللجوء إلى بدائل عن العدد، كالقرائن أو علو رتبة الرواة (ص180). وقد غدا المتواتر "أداة للصراع المذهبي" (ص181) مثلما جرى بين السنة والشيعة في قضية الإمامة والاستخلاف، كما أصبح لبعض المحدّثين مكانة تجعل لرواية أحدهم وإسناده من المنزلة ما يضاهي منزلة المتواتر (ص182)، كما هي حال الصحيحين.
ثم إن الحرج في العثور على المتواتر اللفظي في المدونة الحديثية قد دفع الأصوليين -حسب رأي ذويب – "للسعي إلى تجاوز ظاهرة ندرة الحديث المتواتر، وذلك بتوسيع مفهومه وحدوده ليشمل أكبر عدد ممكن من الأحاديث" (ص189،190)، فابتدعوا مفهوم "التواتر المعنوي" تعويضًا عن قلة التواتر اللفظي، وردًَّا على المخالفين في قضايا الفروع أو الأصول، كما ابتدعوا فكرة "المشهور" التي وإن أسسها الأحناف فإن الآخرين ضارعوهم بفكرة "المستفيض"، ثم أُضيف إليها فكرة "التلقي بالقبول" مما أدى إلى "تمييع مفهوم التواتر حتى أضحى قائمًا على معايير ذاتية، وخاضعًا لأهواء الفقهاء، ومؤشرًا على مواقفهم المتعصبة لمذاهبهم" (ص197).
أما تنظير الأصوليين لحجية خبر الآحاد فجاء – في رأي ذويب – نتيجة تأثرهم بقضايا ملحّة، أُولاها: الحاجة الفقهية لاحتواء النوازل المستجدة بعد الإقرار بمحدودية أحكام القرآن، وثانيتها: المواجهة الحادة مع أصحاب الرأي، وأصحاب المذاهب الأخرى غير السنية [1] (ص216،217). وفضلاً عن كون الأصوليين قد اعتمدوا لحجية خبر الآحاد أدلة ظنية الدلالة من القرآن، وأدلة من السنة والإجماع أوقعتهم في مزلة "الدور" المنطقي [2] (ص221)؛ فإنهم وقعوا أيضًا في تناقض جوهري، إذ جعلوا خبر الآحاد مفيدًا للظن نظريًا ثم ألزموا به عمليًا، حتى ضاهى الأصلَ القطعي (القرآن) نسخًا وتخصيصًا وبيانًا (ص227)، هذا مع تجاهلهم حجج نُفاة الآحاد – وأكثرهم من المعتزلة – التي تقوم على الملاحظة الموضوعية لتاريخ الحديث النبوي وما أصابه من وضع وتسييس وتوظيف. ويرى الدكتور ذويب أنها حجج تكرس دور العقل في تمحيص الأحاديث، وكان لها تأثير في الفكر الإسلامي أول الأمر، لكنها مع الزمن أصيبت بالتهميش والضمور على يد الفكر السُني، المسيطر على المؤسستين السياسية والدينية (ص239).
يمثل ما سبق بعضًا من الإشكالات المتعلقة بالسنة، تناولها الدكتور ذويب في بحثه هذا، ومهما كانت زاوية التعاطي معها فإن الحل المعتزلي الرادَّ للآحاد بإطلاق قد خرج على نفسه في مواطن كثيرة، ما يعني أن إشكالية خبر الآحاد تحتاج حلاً منهجيًا أكثر تماسكًا، وفي دائرة أخرى أوسع لا يمكن التعامل مع المنظومة الأصولية وكأنها تملك نظرية موحدة في علم الرواية، أو منهجًا واحدًا في التعامل مع الأخبار، في ظل اختلاف كبير بهذا الخصوص، ليس بين المذاهب الأصولية فقط، بل وبين الأصوليين والمحدِّثين وغيرهم.
ج- القرآن
ربما يكون حديث الدكتور ذويب عن حجية القرآن واحدًا من أكثر محاور كتابه إثارة للجدل، فبعد بحثه فيها يقرر أنها مسألةٌ تاريخية، إذ لم يكن موضوع الحجية مطروحًا لدى قدامى الأصوليين كالشافعي، بل توفَّرَ الأصوليون على البرهنة لحجية القرآن بعد تزايد الطعون فيه، وأسسوا حجية القرآن على ركنين اثنين هما "الإعجاز" و"التواتر" [3] (ص105)، لكن هذين الركنين – في رأيه – ليسا من القوة والتماسك كما يدعي القائلون بهما.
أولا: إعجاز القرآن، تشكلت فكرة الإعجاز في محيطٍ تتلاطم فيه التيارات والأديان والكتب المقدسة التي يدعي كل منها أنه هو المعجز (ص118)، فجاء المتكلمون ثم الأصوليون بهذه الفكرة الدفاعية متأثرين بواقعهم. ورغم أن مسألة الإعجاز لم يقُل بها ويدافع عنها السنيون فقط، بل عاضدهم المعتزلة وبعض الشيعة (ص118)؛ إلا أنهم بعد ذلك وقعوا في اختلافٍ غير يسير في مضمونها، فمكمن الإعجاز عند المعتزلة في نظم الألفاظ، أما الأشاعرة فيرونه في نظم المعاني، ويجعله الأحناف فيهما معًا، بينما تناول آخرون الفكرة بعيدًا عن البراهين العقلية واستنادًا إلى دليل النقل حتى وقعوا في الدَّور، كما اختلف هؤلاء جميعًا في تحديد المقدار المعجز من القرآن. ويضاف إلى هذا التخبط الدفاعي ما وُجِّه إلى نظم القرآن ومضمونه من نقدٍ حاد على يد من حفظ لنا التاريخ بعضًا منهم كابن الراوندي وابن المقفع وأبي بكرٍ الرازي الذين "دفعهم انتصارهم للعقل والمنطق إلى رد ما بدا لهم تناقضًا في القرآن أو قصصًا لا يصدقها العقل" (ص136)، وفضلاً عن ذلك كله يُعتبر وجود المتشابه في القرآن طعنًا آخر في حجيته، إذ وجوده ينافي وظيفة القرآن في الهداية ويوجب التعارض بين أجزائه. ولم تثمر محاولات حل التشابه سوى منع تأويله والاكتفاء بالإيمان به، وتفويض علمه إلى الله (ص164).
ثانياً: التواتر. إذا كان مستند الإعجاز على هذا القدر من الاضطراب والاختلاف – عند ذويب – فإن نظيره "التواتر" ليس أحسن حالاً منه كذلك، فبالعودة إلى اللحظات المبكرة لعملية جمع القرآن وتدوينه بعد وفاة الرسول – صلى الله عليه وسلم – تطلعنا المصادر على "خطبٍ كبير" قد نال تلك المرحلة، منه إقصاء بعض كبار الصحابة عن عملية الجمع والتدوين كعلي وابن مسعود، ومنه تأثر عملية الجمع بالعامل السياسي بشدة؛ فعندما أمر عثمان اللجنة ذات الغالبية القرشية بكتابة المصحف على حرف واحد كان بعمله هذا ينم – كما يرى ذويب – عن "انحيازه للقرشية التي استعادت روحها منذ اجتماع السقيفة" (ص155)، وعندما وحَّد – بقرارٍ فردي – المصاحف في جميع الأمصار على مصحفه، وأحرق ما عداه من المصاحف؛ كان يهدف إلى "اختبار مدى طاعة الأمصار الإسلامية لسلطة الخليفة المركزية، وإلى القضاء على السلطة السياسية التي كان يتمتع بها بعض قراء الأمصار، فقد كان عثمان يفتقد شيئًا من مصداقيته بسبب سياسة المحاباة لأقربائه الأمويين" (ص156). وجاء بعده بزمنٍ مروانُ بن الحكم فطلب صحف أبي بكر من حفصة فأبت، ثم لما توفيت أخذها من أخيها عبد الله بن عمر بالعزيمة وأتلفها على الفور، وهو ما يدل على أشياء تحرج المروانيين والسفيانيين بقيت في صحف أبي بكر ولم تنقل إلى مصحف عثمان، فأراد مروان طمسها إلى الأبد بإتلافه تلك الصحف (ص159).
كما تحكي لنا الروايات إنكار بعض الصحابة لسور مثبتة في القرآن وإثباتهم في مصاحفهم سورًا لا توجد في القرآن الحالي (ص161)، وإنكار بعض الخوارج أن تكون سورة يوسف من القرآن، ومواقف لبعض الشيعة الذين جوزوا نظريًا وقوع النقص والزيادة والتحريف في القرآن وأثبتوه عمليًا (ص139،140).
وليس النسخ – في رأي ذويب – سوى نوع من أنواع الطعن في نقل آيات النص القرآني أو حجيتها، فبمقتضاه سقط الكثير من الأحكام الفقهية والآيات، بل والسور القرآنية، ولم يكن النسخ حكرًا على السنيين وإن اشتهروا به، بل قال به أيضًا فريق من الشيعة والمعتزلة والإباضية (ص146).
هكذا يذهب ذويب إلى أن فكرة تواتر القرآن لم تكن بريئة الدوافع أو المقاصد، وقد ظهرت لمواجهة مطاعن القائلين بوقوع التحريف والتبديل في القرآن، ولتوفير غطاء شرعي لنقل القرآن بعد غياب جيل الصحابة الذي تلقاه سماعًا من الرسول (ص119)، ولإضفاء المشروعية على مصحف عثمان الذي فُرِض بدعم السلطة السياسية، وانتشر على حساب بقية المصاحف.
ولا تنفع فكرة تواتر القراءات السبع في إزالة اللبس، بل على العكس تؤكد ما كانت عليه الحال قبل تقنينها – بتعاضد السلطة السياسية والعلمية – من تعدد للقراءات وتخيُّرٍ فيها (ص129)، مع غياب التواتر الكامل في القرآن ووقوع نقل بعضه آحاديًا (ص160). ويفرق الدكتور ذويب في بحثه بين "القرآن" المنزل و"المصحف" المدون، ويرى أن "المصحف الذي وصلنا ما هو إلا نتاج عملية تاريخية معقدة ومليئة بالثغرات والمتناقضات، وأنه اكتسب قداسة لا تضاهى مع مرور الوقت، فلم يصبح النص الوحيد المقبول لدى المسلمين إلا بأمر سياسي، وبعد أن أقصى بالقوة عددًا كبيرًا من المصاحف الأخرى، الأمر الذي يستدعي مواصلة جهود مراجعة تاريخ القرآن جمعًا وتفسيرًا" (ص170،170).
بعد كل هذه الإشكالات التي يثيرها الدكتور ذويب حول حجية القرآن يميل أخيرًا إلى ترجيح الحل الذي اجترحه أستاذه الدكتور عبد المجيد الشرفي، وهو أن "الذكر الذي وعد الله بحفظه هو المحتوى وليس الظرف، وهو مضمون الدعوة بما انطوت عليه من تبشير وإنذار وتوجيه وإرشاد، وليس الألفاظ والتعابير التي صيغت فيها تلك الدعوة" (ص170).
ولعل ما يستحق التوقف عنده من عموم دراسة الدكتور ذويب في هذا المحور هو المنهج وليس النتائج، وهي بالمناسبة تتقاطع في كثير منها مع نتائج مستشرقين سبقوه إليها، وكرر هو بعضها لاعتماده منهجهم البحثي نفسه كما صرح في مقدمة الكتاب. ويمكن إيجاز أهم الملاحظات على المنهج في عدة نقاطٍ:
أولاً: إقحامه حجية القرآن في البحث على أنها مسألة أصولية، رغم كونها من اختصاص المتكلمين لا الأصوليين، أما الزج بها في البحث الأصولي فهو من قبيل إدخال الأصل على الفرع، ودخولها في كتب الأصول – متأخرةً كما يقرّ هو – عائد إلى اشتغال كثير من الأصوليين بعلم الكلام. وأصوليًا لا نجد خلافًا بين الأصوليين حول حجية النص القرآني ذاته، وإنما اختلافهم قائمٌ في الاستدلال، وتتجلى مظاهره في منهجية وأدوات التعامل مع النص، ومنها النسخ والتشابه، اللذان أوردهما الدكتور ذويب للخدش في فكرة إعجاز القرآن. لكن إذا كان التأويل أو النسخ يعكسان قصورًا في منهج التعامل مع النص القرآني – بحكم منشئهما البشري الظرفي[4] – فهل يلزم من قصور المنهجية أو الأدوات الأصولية قصور النص أو سقوط حجيته؟
ثانياً: يبدو أن الدكتور ذويب في نقده لفكرة تواتر القرآن قد اعتمد نظرية أوهَى منها – إن صح اعتبار نظرية التواتر واهية – إذ جَمَع ما تحصل له من طعون مختلفة المشارب والمذاهب ثم ناظر بها فكرة التواتر. والواقع أن فكرة تواتر القرآن نفسها قاصرة عن وصف كيفية نقل القرآن بالشكل الدقيق، وإن أقرها الأصوليون أو المتكلمون وتناوبوا على إيرادها في مصنفاتهم تقليدًا في كثير من الأحيان. والقول بها ينم عن تأثرٍ بمصطلحات المحدِّثين واحتكامٍ لمعاييرهم رغم اختلاف موضوع البحث، فوصف القرآن بالتواتر – بالمعنى الاصطلاحي الشائع عند المحدثين – هو نزولٌ بالقرآن عن مرتبته وإلحاقٌ له بالأخبار والروايات، وهو من قبيل القياس مع الفارق، فالمتواتر خبرٌ ينقله رواة، أما القرآن فنصٌّ -وليس خبرًا – تتناقله أمةٌ على سبيل التقديس والتعبد مع التوثيق المبكر، وشتان بينهما. والمسألة تستدعي التعامل مع القرآن كظاهرة، وليس كرواية كما فعلت نظرية الأصوليين، ولا كخبرٍ على هامش روايةٍ كما فعل الدكتور ذويب.
ثالثاً: استعان الدكتور ذويب في نقده لحجية القرآن بأخبارٍ هي من قبيل الآحاد، سواء في دعوى وقوع التحريف أو النسخ أو غير ذلك من دعاوى المشككين، وهو في الوقت نفسه يطعن في حجية الآحاد عند حديثه عن حجية السنة، الأمر الذي يضعه في تناقض منهجي ينعكس سلبًا على استنتاجاته، ويقدِّمه في صورة المتحيز لفرضية مسبقة يبحث عن سندٍ لها، فحيثما عثر على شيء منه جَدَلَه في حبلٍ ملفَّقٍ من مذاهب هي فيما بينها متنافية غير متوافقة، حتى تحصَّل له من مجموع ذلك مذهبٌ في المسألة لا تصح نسبته لأحدٍ سواه، وإنما هو مذهب هجين لا يوافق النظرية ولا يطابق الواقع.
الأدلة المختلَف فيها . . من سلطة الوحي إلى سلطة العقل
يدرس الدكتور ذويب في الباب الثالث ثلاثة من الأدلة الفرعية، هي العرف والاستحسان والمصلحة، ويرى أنها نشأت تاريخيًا قبل الأصول الأساسية وكانت "قاعدةََ الاجتهاد"، و يرى أنها "عبرت عن الجانب العقلي من التشريع إزاء الواقع"، كما أنها المعول عليها بشكل رئيس في كتب الفقه، ما يستدعي إعادة النظر في تسميتها فرعية.
ووفقًا لما يقول ذويب فإن الواقع والضرورة هما اللذان أسسا مشروعية هذه الأصول، وليس النص كما يزعم القائلون بها والذين حاولوا – في مسعى متأخر – إسباغ المشروعية عليها بحجج نقلية، لكنها بقيت ظنية الدلالة مختلَفًا فيها. وقد لجؤوا إلى شرعنتها ردًا على الحملة الشديدة التي قامت ضدها مبكرًا على يد الشافعي في "الرسالة" إذ حمل على الاستحسان بشدة مبتغيًا "تأسيس نظام فقهي يبنى على الوحي"، واستشعر مَن جاء بعده خطر أن يفلت المجال الدنيوي من سلطة الشرع إلى سلطة العقل، ويتحول الإنسان إلى مشرع بعد أن كان التشريع لله وحده، لكنهم رغم ذلك – وبعد زمن – رضخوا لها عمليًا واعترفوا بها في الفقه والفتوى (ص319،320،484).
وسواء اعتُرِف بهذه الأصول مبكرًا أو بعد حين فإن "مسعاها إلى التكيف مع الواقع كان نخبويًا، لأن مبتغاه كان خدمة الأصوليين والمؤسسة الدينية". وبناءً على هذا يذهب الدكتور ذويب إلى أن دليل العرف وُظِّفَ سياسيًا، لتكريس استبداد الخلفاء والأمراء وتبرير التفاوت والتمايز الاجتماعي. ومن جهة أخرى فإن الواقع العملي كان يخالف النظرية الأصولية للعرف، فمن الأحكام التي بناها الفقهاء على العرف عدم مباشرة المرأة عقد الزواج بنفسها، وإعفاء المرأة الشريفة من واجب الإرضاع، والتمييز بين السادة والعبيد في مسائل كثيرة، وهي أحكام تصادم نصوص الشرع وقواعده القائمة على المساواة بين المسلمين، ويرى الدكتور ذويب في هذه المفارقة محاولةً من المؤسسة الدينية للحفاظ على استقرارها من خلال شرعنة أعراف المجتمع التابعة لامتيازات الرجل ومصالح الطبقة الثرية (ص355).
أما الاستحسان فبرغم الاختلاف في تعريفه وظنية أدلة حجيته إلا أنه اعتُرِف به وبدوره الحيوي في عملية التشريع بسبب "ضيق الفقيه بالقواعد والنصوص الشرعية" من جهة، و"استجابةً لما يحدث في الواقع من تطور" (ص478) من جهة أخرى، لكنه "أُفرغ من مضمونه عبر التاريخ بسبب إدماجه ضمن مصادر التشريع المعترف بها وحرمانه من وضع الأصل التشريعي المستقل فغدا أداة للتأويل والترجيح أكثر منه مصدرًا للتشريع" (ص479)، كما وُظَّف في المجال السياسي كأداة لشرعنة أحداث لم تعهدها المجتمعات الإسلامية الأولى، أو شرعنة تغلُّب الحكام غير الأكفاء، حتى صار غطاءً لشرعية البحث عن الأحكام خارج إطار القرآن والسنة (ص480).
أما المصلحة فقد أدرك الأصوليين أهميتها كمقصد شرعي لكن اختلفوا فيها كأصل تشريعي، لكن حجيتها لا تقوم على نصوص صريحة أو قطعية من القرآن والسنة، بل "لا نجد سوى حديث (لا ضرر ولا ضرار) ينفرد الطوفي بالاحتجاج به رغم ضعف دلالته"، ويحترز الدكتور ذويب من دليل إجماع الصحابة "لأنه إجماع نشأ خوفًا من سلطة السيف، وهكذا لم تبق إلا البرهنة العقلية أساسًا لبناء حجية المصلحة" (ص425،426).
وبرأي الدكتور ذويب فإن الأخذ بالمصلحة عمليًا موجود لدى كل المذاهب في الفقه والفتوى وإن أنكره بعضهم نظريًا في التأصيل، واللافت للنظر أن الاعتراف الصريح بالمصلحة جاء في أزمنة متأخرة نسبيًا استجابة لقضايا مستجدة لا عهد للمشرع بها، وهو مؤشر على إدراك فعل الواقع التاريخي في التشريع بما لا يدع من حل أمام الفقيه سوى التكيف مع هذا الواقع حتى لا ينسحب منه، لكن الأغلبية من الأصوليين – برأي ذويب- اختارت الانسحاب فتشبثت بحلول الماضي وفكره المحافظ، كما أصّلت – بدعوى المصلحة – أحكامًا فقهية "تكرس المرتبية الاجتماعية والمواقف التمييزية إزاء المرأة والعبيد"، وهكذا لم يكن أخذهم بالمصلحة لصالح الفئات المهمشة والمحرومة، بل على العكس فإن "قولهم بالمصلحة كان أحد العوامل التي أسهمت في تكريس الفوارق بين الفئات وتثبيتها، لأنه ليس من مصلحة العلماء ممثلي المؤسسة الدينية تغيير النظام الاجتماعي الذي يمنحهم امتيازات وسلطات أدبية ومادية" (ص427،428).
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هو: إذا كانت ضرورات الواقع ومستجداته قد فرضت نفسها على الفقيه المجتهد فاجترح لها الحل في الأدلة التبعية، أو كانت هذه الأدلة التبعية تمثل خروجًا عن سلطة الوحي أو الشرع إلى سلطة العقل كما يَذكر، فلماذا لا يُعَدُّ الإجماع كذلك مع أنه ليس وحيًا ولا نصًا؟ ونظيره القياس أيضًا، فهو بدوره استجابةٌ لمستجدات الواقع وتحكيمٌ للعقل في قضايا الشرع، فلماذا لم يصنَّف كدليل تبعي أيضًا؟ ولماذا اتفقت عليه المذاهب الأربعة واختلفت على ما بعده؟ ربما يساعد على الإجابة أن تُقرَأ الأدلة الأصولية (الأصلية والتبعية) قراءةً منظوميةً داخليةً -بدلاً من القراءة التفكيكية الخارجية التي يقدمها الدكتور ذويب- بحيث تظهر العوامل المؤثرة من الداخل بدلاً من توسمها في الخارج، وعندها تتضح حقيقة أن الأدلة التبعية في النظرية الأصولية ليست أدلة منشِئة للحكم كالأدلة الأربعة، بل دورها تفسيري أو ترجيحي متمم إما للنص أو للقياس، وأن تسميتها أدلةً هو من قبيل التجويز والمشاكلة.
أصول الفقه كأداة لتبرير الواقع
في الباب الرابع يقارب الدكتور ذويب النظرية الأصولية من حيث دورها وصلتها بالواقع تأثرًا وتأثيرًا، مستعينًا بتقنيات البحث الحديثة ومنفتحًا على مصادر غير أصولية، فيرصد ما يسميه "عملاً تبريريًا" قام به الأصوليون إزاء واقعهم فثبتوا – مستخدمين التأويل كأداة (ص489)- كلاً من المنظومة الاجتماعية والتشريعية والسياسية القائمة بدلاً من تغييرها أو الثورة عليها، ويفصّل القول في خمسة مجالات تجلى فيه هذا "التبرير" هي العوام والرقيق والمرأة: تهميشًا، وسلطة السلف الفكرية وسلطة الحاكم السياسية: تكريسًا (ص683).
أ- العوام
تحت دعوى الجهل وقلة الدين والمروءة نالت فئة العوام تهميشًا وإقصاءً على يد الأصوليين في أكثر من موطن، منها استبعادهم من الإجماع، ومنها التشديد على روايتهم وشهادتهم وتلقيها بالتحفظ وسوء الظن أحيانًا فيما يعد استعلاءً من العلماء وتمركزًا في أبراجهم العاجية بمنأى عن دنس الواقع المادي (ص500)، وأشد من ذلك إقصاؤهم من الاجتهاد وإلزامهم بالتقليد، ورغم قيام مواقف أصولية مناهضة لهذا التنظير المتحيز ضد العوام فإنها ظلت مهمشة في المدونة الأصولية فيما تغلَّبَ التمييز الاجتماعي على المعيار القرآني القائم على التفاضل بالتقوى، الأمر الذي يعبر عن عودة العصبيات التي أطلت برأسها من جديد بعد أن كانت مكبوتة زمن الوحي (ص528).
ب- العبيد
لعل "النظر في المدونتين الفقهية والأصولية يبرز أن استنقاص العبد هو موقف أغلبية العلماء" (ص559)، إذ أثبتوا عجزه ونقصان أهليته، وعدوه من المتاع وشبهوه بالحيوانات في مسائل كثيرة، وجعلوا الرق من موانع تولي الخلافة والإمارة والقضاء (ص536)، وقَبِل أكثرهم روايته لكن ردوا شهادته، وأبعدُ من ذلك أن بعض الأصوليين أخرج العبد من الخطاب الشرعي وقدّم حق السيد على حق الله خدمةً لطبقة الأسياد ومحافَظةً على امتيازاتها، منحرفين بذلك عن أوامر الشريعة ونصوصها (ص554)، وبنحو ذلك منعوه من الميراث استنادا إلى حيلة تأويلية هي تخصيص العموم، مع أن المخصصات التي ادعَوها ظنيةٌ متكلَّفة (ص559).
ج- المرأة
تعد وضعية المرأة أسوأ من العوام والعبيد فهي مهمشة في مدونات الأصوليين، وفقههم الذكوري لم ينشغل بغير حقوق الرجل، أما حقوقها فمهملة، وصورتها سلبية جدًا، إذ هي في وضع المستعبَدة، وسلطة الرجل عليها غير محدودة تشمل حريتها ومالها وجسدها (ص585)، وهذه المنزلة المتدنية للمرأة تستند إلى جملة مسلَّمات أهمها مسلَّمة نقص الأنثى، ويدعمها الحديث المشهور الذي يصفها بأنها "ناقصة عقل ودين" الذي رواه أبو هريرة، لكن أبا هريرة "أول راويةٍ اتُّهم في الإسلام" أما مضمون الحديث فـ"العلم الحديث لا يرى أن المرأة أنقص عقلاً من الرجل . . بل التنشئة الاجتماعية هي التي تصنع الفوارق بين الجنسين، وأما نقص المرأة دينًا فخارجٌ عن إرادتها ولا يمكن محاسبتها عليه، بل ينبغي محاسبة كثير من أحكام المنظومة الفقهية التي همشت المرأة في المجال الديني وغيره" (ص568).
ولئن قبِل الأصوليون رواية المرأة رضوخًا لضغط الواقع وسلطة السلف (ص575،576)، فإنهم بالمقابل عدوا شهادتها ناقصة، أما دخولها في الإجماع وقدرتها على الاجتهاد فمغيَّبٌ عن المباحث الأصولية لم يَرِد إلا نادرًا، ولم يُقبَلا منها إلا عند قلةٍ من الأصوليين المخالفين لرأي الجمهور، ويُعزى ذلك إلى "كون المرأة عند أغلب الأصوليين معدودةً من العامة الجاهلة التي هي مطالَبة بالتقليد لا بالاجتهاد" (ص577)؛ كما أنها عندهم أيضًا مقصاة من تولي المناصب السياسية والدينية لأنها غير أهل لها.
ويرى الدكتور ذويب أن هذه المواقف الأصولية من المرأة هي في كثيرٍ منها "من وضع الفقهاء وليست من أصل قرآني" لكنها رغم ذلك تغلبت على مواقف أكثر إنسانية وواقعية تجاه المرأة كآراء الجاحظ وابن حزم، فأخرجت المرأة من الزمن وعطلت نصف المجتمع كما حدث في أوربا في العصور الوسطى، ولذا فالفكر الإسلامي – برأيه- مدعو إلى إحداث القطيعة المعرفية مع الماضي ومواقفه الغريبة عن الواقع الجديد، كما على المفكرين المحدثين مواكبة المستجدات في هذا الشأن (ص587).
وإذا كانت النظرية الأصولية قد بررت واقع هذه الفئات الثلاثة فأبقتها مهمشةً فإنها بالمقابل بررت السلطة السياسية للحاكم المتغلب والسلطة التشريعية للسلف فكرستهما بأدوات أصولية.
د- السلطة السياسية
يعود تبرير سلطة الحاكم المتغلب إلى أن الأصوليين المشتغلين في كنف السلطة لم يجدوا بدًا من الدفاع عنها وتوظيف النصوص الدينية لخدمة هذا الهدف (ص645)، وأقوى نصٍّ ديني وظفوه هو الآية القرآنية: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} (النساء 59) فحصروا معنى أولي الأمر بالولاة والأئمة دون غيرهم، وصرفوا لفظ (أطيعوا) إلى الوجوب بدلاً من التخيير (ص592،593)، وأعملوا حديث (الأئمة من قريش) لشرعنة حكم العباسيين، ومع كون الحديث آحاديًا إلا أنهم ابتدعوا لتقويته دعوى إجماع الصحابة عليه مع أنه لم يوجَد أصلاً (ص606)، كما أنهم صبغوا مفهوم (سنة الخلفاء) بصبغة سياسية ووظفوها في عدة مجالات أبرزها تحديد العدد الذي تنعقد بهم الإمامة بحيث غيَّبوا مبدأ الشورى والإرادة الجماعية للأمة لصالح الاستبداد وسلطة القهر والغلبة، ومن تلك المجالات أيضًا إهمال مبدأ المساواة في قسمة المال -كما فعل النبي- وإعمال فعل عمر في المفاضلة، ومثلها جمع الناس على صلاة التراويح الذي لم يكن على عهد النبي أو عهد أبي بكر مما يعني أن "سُنة الرسول استبدلت عمليًا بسنة الخلفاء، وتحولت سنة الرسول إلى واجهة تجميلية" (ص606).
وأوجب الأصوليون والفقهاء طاعة الأئمة وإن جاروا أو استولوا على السلطة بالقوة، وحرموا الخروج عليهم درءًا للفتنة فكرسوا مبدأ "من اشتدت وطأته وجبت طاعته" وفضّلوا النظام والاستقرار على إقامة العدل (ص616).
وفيما يبدو تحالفًا بين السلطة السياسية والسلطة الدينية أدخل فريق كبير من الأصوليين الأمراء وأهل الحل والعقد في الإجماع فتماهت السلطتان بما يعني مزيدًا من الإقصاء والتهميش لإرادة العوام الذين لا يدخلون في الإجماع أصلاً، كما يعني عصمة أهل الإجماع (الأمراء والعلماء) بسبب عصمة الإجماع ذاته (ص626)، وفي الوقت نفسه اتخذوا من الإجماع أداةً تبرر الممارسات السياسية الإسلامية بدءًا من خلافة أبي بكر وانتهاءً بالخلافة القائمة ومرورًا بخلافة معاوية ذات الطابع الإشكالي الحاد (ص637).
هـ – سلطة السلف
أما تبرير السلطة التشريعية للسلف فيتجلى بوضوح في الإطار المذهبي، وقد تم استخدام مبدأ "النسخ" كأداة لتبرير الاختيارات التي حصل حولها إجماع، وهي اختيارات في فهم النصوص وتأويلها تبلورت تدريجيًا بعد وفاة الرسول، ورغم ما قيل عن النسخ بوصفه طريقة لحل التعارض بين النصوص أو الأخبار بحيث يتصف بالموضوعية فإن الواقع يبين أن النسخ لا يمكن أن يعتبر مبدأ موضوعيًا، بل كان خاضعًا لأهواء العلماء ومذهبيتهم، وقد تجلى ذلك في اختلافهم الكبير في تحديد الآيات المنسوخة وفي عددها (ص654)، كما أن نظرية النسخ ذاتها وقعت في مفارقةٍ بين النظرية والتطبيق تبدَّت في عدم وجود ضابط يصح اعتماده في تمييز الناسخ من المنسوخ، وكذلك في وقوع النسخ في بعض آية دون سائرها.
أصول الفقه والانفصال عن الواقع التاريخي
يدرس الباب الخامس "قطيعة النظرية الأصولية عن الواقع التاريخي" وافتراقها عنه، ويتوسع في سرد أربع حالات تجلت فيها هذه القطيعة بوضوح، هي الإجماع وعدالة الصحابة والابتداع والاجتهاد، مفترضًا أن الأصولي – لحظة انشغاله بتأصيل الأصول- كان مولِّيًا وجهه نحو السلف منشغلاً بقضايا من الماضي على حساب أسئلة الواقع الملحّة التي بقيت إجاباتها مؤجلة إلى أجل غير مسمى.
أ – الإجماع
يرى الدكتور ذويب في الإجماع -كما قررته النظرية الأصولية- أحد تجليات انفصال النظرية عن الواقع من خلال الانتقائية التي قصرت مفهومه على المجتهدين فتم إقصاء أغلب فئات المجتمع ما يعني إهمال مصالحها ومشاغلها وطموحاتها (ص691).
ثم إذا كانت فكرة الإجماع قد نشأت لتحد من الاضطراب والفوضى الناجمين من اختلاف الفقهاء فإنها لم تفلح في ذلك، بل آلت إلى قطيعة أكبر مع الواقع إذ قررت عصمة الأمة مع أنه لا توجد عبر التاريخ أمة عصمت من الأخطاء، بل تاريخ الجماعة المسلمة شاهد بفتنه وحروبه وتقاتل شعوبه على هذا، ثم يتساءل الدكتور ذويب: ما الذي يعنيه الإجماع ووحدة الأمة بعد منع علماء مسلمين غير سنيين من الدخول في الإجماع؟ (ص692).
ومن وجوه القطيعة في الإجماع اتجاه فريق من الأصوليين إلى إخراج المسائل الدنيوية من مجال الإجماع، واشتراطهم "انقراض العصر" ما يؤدي إلى تعليق قرارات الإجماع لمدة قد تطول إلى حد انتهاء الأسباب التي دفعت إلى ذلك الإجماع ليتحول الإجماع إلى خارج أيدي الأحياء إذ يعبر عن إرادة الأموات واختيارات الماضي (ص694).
ولعل ما يمثل القطيعة مع الواقع بشكل حاد هو قاعدة منع الإجماع بعد ثبوت الخلاف، بحيث لم يعد ممكنًا للمجتهد أن يقارب المسائل الخلافية لدى السلف للبت فيها، وكذلك قاعدة منع نسخ الإجماع السابق بإجماع لاحق ليتحقق تثبيت سلطة الصحابة أو العلماء تثبيتًا دائمًا لا يطرأ عليه تغيُّر (ص699،705)، وهكذا يغدو الإجماع -الذي نشأ بالأصل لمواجهة مستجدات الواقع- منفصلاً عن الواقع ومشدودًا إلى الماضي لدرجة أن يصفه بعض الباحثين بكونه مبدًا أصوليًا "استدباريًا أكثر منه استقباليًا" (ص710).
ب – عدالة الصحابة
تمثل عدالة الصحابة المحطة الثانية للافتراق الأصولي عن الواقع التاريخي، فالنظرية الأصولية السنية قد عملت – بحسب ذويب- على تمجيد الصحابة وتبرئتهم من النقص والتهمة، وغيَّبت في نفس الوقت المواقف الناقدة لعدالة الصحابة من إباضية ومعتزلة وشيعة، وتنطلق هذه المفارقة من المفهوم المثالي للصحبة عند الأصوليين والذي استقوه من المحدثين إذ عدوا صحابيًا كل من رأى الرسول أو سمعه أو جالسه ولو ساعة واحدة، وانتصر هذا المفهوم على المفهوم المدقق الذي يشترط في الصحابي طول المعاشرة وأخذ العلم عن الرسول وعدم النفاق (ص712).
ويسرد الدكتور ذويب أدلة الأصوليين المعتمَدة في عدالة الصحابة كاشفًا عن ظنية دلالتها أو ثبوتها، وبالتوازي مع هذا يورد ما لدى الفريق الناقد لعدالة الصحابة من أدلة كافية في هتك القداسة عنهم تتمحور حول ما جرى بينهم من احتراب وسفك للدماء واقتتال على السلطة وتقصير في واجب القيام على الرعية إضافةً إلى الضعف الذي لا يَعرى منه بشرٌ في الحفظ والتذكر والوقوع في الخطأ والوهم، ليصل بعد ذلك إلى "ضرورة إبعاد مسألة الصحابة وعدالتهم عن الجدل المذهبي.. لأن الدراسة الموضوعية غير المنحازة لموضوع البحث هي وحدها الكفيلة بإنشاء فهمٍ رصينٍ وعميقٍ للمسألة" (ص732).
ج – إقصاء المبتدع
يعد إقصاء المبتدع أحد المحطات البارزة لقطيعة الأصول مع الواقع، فعلى مستوى النظرية الأصولية تم تكريس مفهوم البدعة كسلاح يستخدم في وجه المخالف، فيوصَف بـ"أهل البدع" أو "أهل الأهواء" كل من يخالف المذاهب السنية (ص733)، لكن بالرغم من ذلك يبقى الخلاف الأصولي حول الابتداع قائمًا سواء في تحديد المفهوم أو في تحديد مصاديقه على أرض الواقع مع الاتفاق على نظرة معيارية سلبية واضحة تحصره في مجال الدين دون غيره (ص735).
ويَظهر إقصاء المبتدع في مجالات عدة، فخبره لا يعوَّل عليه، وشهادته غير معترف بها، ودخوله في الإجماع غير مقبول، وكذلك اجتهاده ومشاركته في الحكم، ومن شأن هذا الإقصاء – برأي ذويب- أن يجعل المشاغل الأصولية عاجزة عن الإحاطة بالواقع، ويحول المدونة الأصولية إلى مدونة فئوية خاصة بفريق من المسلمين مما يُفقِد أحكامها طابع الشمول (ص800).
وإذا كان الأصوليون قد قبلوا أحيانًا بانضمام المبتدع إلى دائرتهم فإن ذلك – بحسب ذويب- لم يكن موقفًا بريئًا وإن غلفوه بدعوى الانتماء إلى الأمة الواحدة، فهم إنما قبلوا – مضطرين- رواية المبتدع لكن بشروطٍ تجنبًا لسقوط جانبٍ كبير من التراث الإسلامي أو ما سمَّوه: "ابيضاض الكتب" (ص751)، وأدخلوا المبتدع في الإجماع دعمًا للمؤسسة العلمية المحتاجة إلى سلطة مرجعية لبسط نفوذهم على مختلف شرائح المجتمع الإسلامي (ص763)، وقبلوا بوجود المبتدع في الحكم أو الوزارة ما دام متغلبًا أو متسلطًا، وأقصَوه ما دامت الغلبة للسنيين (ص767).
وفي الحصيلة يرى الدكتور ذويب أن إقصاء المبتدع – من أي مجال كان- يمُثل تكريسًا لهيمنة الفكر الواحد المنتصر، وقضاءً على الثراء والتنوع والاختلاف الذي يمثله فكر الآخر غير السني، مع حبس الفكر في الماضي والانقطاع عن الواقع التاريخي، بل هو -فضلاً عن ذلك- معاكس لمبادئ الدين الإسلامي الداعية إلى أخوة المؤمنين وتعاونهم وتوجيه طاقاتهم ضد أعدائهم غير المسلمين؛ وبما أن الموقف من المبتدع كان محكومًا بسياق تاريخي مخصوص فلا مناص – بعد تبدل الحال- من إعادة النظر في مفهوم الابتداع في ضوء الدراسات الحديثة في العلوم الإنسانية التي يرى بعضها في الابتداع علامة على ثراء الدين وكونيته (ص770).
د – الاجتهاد
وبالوقوف عند الاجتهاد كمحطة رابعة لقطيعة الأصول مع الواقع تبرز أولاً شروط الاجتهاد التي تبلغ من الصعوبة حد التعذر، ويورد الدكتور ذويب نصًا للشافعي من "الرسالة" عن هذه الشروط ليشير إلى المساهمة المبكرة للشافعي في "إغلاق باب الاجتهاد" الذي تأكد فيما بعد بحصر الفتوى من المذاهب الأربعة دون غيرها (ص772،775)؛ والملاحظ على بعض شروط الاجتهاد -مثل اشتراط معرفة مقدار معين من نصوص القرآن والسنة- أنها أدت إلى غلبة المنهج الفقهي في التعامل مع النص القرآني وإهمال الجوانب الأخرى فيه، وفيما تغيب "معرفة الواقع" كشرط للاجتهاد نلحظ وجود شروط أخرى تتسم بالنخبوية والإقصاء إذ حصرت المجتهدين في أهل الحديث وأصحاب الرأي دون سائر الفرق، وهكذا أمست شروط الاجتهاد مساهِمة في تكريس التقليد بدلاً من أن تسهم في تخريج مجتهدين أكفاء، ليتحول الاجتهاد من "عملية ذهنية إلى مجرد معارف متراكمة" حتى وصل الأمر إلى تولي عدة قضاة منصب القضاء مع ضعف مستواهم العلمي لدرجة أن بعضهم لا يعرف القراءة إلا بصعوبة (ص781).
والمظهر الآخر للقطيعة مع الواقع في الاجتهاد – برأي ذويب- هو تحديد مجال الاجتهاد وقصره على الفروع، أما القطعيات فلا يطالها الاجتهاد، وهي ثلاثة: كلامية (كقدم العالَم وعدم خلق القرآن)، وأصولية (كحجية القياس والآحاد)، وفقهية (كوجوب الصلوات الخمس وحرمة الزنا والخمر)، ويرى أن هذا الموقف من الاجتهاد محكوم بالعامل المذهبي، و"لم يتكرس تاريخيًا إلا بعد اكتمال تشكل العقيدة السنية وانتصارها تاريخيًا وسياسيًا على بقية العقائد" (ص786).
وفي سياق مشابه منع الأصوليون من الاجتهاد فيما فيه نص، ثم وقعوا في مفارقة كبيرة عندما أقروا بتناهي النصوص وعدم تناهي النوازل ثم ردوا اجتهاداتهم إلى المتناهي (ص789)، ورغم أن الشافعي كان من أوائل من كرس هذا التوجه وقلده من جاء بعده فإن الواقع التاريخي كثيرًا ما تجاوز مبدأ عدم الاجتهاد في مورد النص، وأشهر المواقف في هذا الصدد اجتهاد عمر في نصيب المؤلفة قلوبهم من الزكاة، كما أن الأصوليين والفقهاء كثيرًا ما خرجوا – ضمنيًا- عن هذا المبدأ من خلال مقارباتهم التأويلية للنصوص متأثرين بضغط الواقع الذي تجددت نوازله وأحكامه (ص790).
وإذا كانت مرحلة إغلاق باب الاجتهاد قد بدأت في عصر المتوكل بعد حسمه الجدال في مسألة خلق القرآن لصالح الموقف السني، فإن ذلك القرار – حسب تحليل ذويب- كان في خدمة السلطة الحاكمة والمؤسسة الدينية المتحالفة معها، وهكذا أفضى الأمر بالاجتهاد إلى الابتعاد عن قضايا الحياة والمجتمع والاقتصاد والسياسة، وانزوى لمعالجة مسائل تعبدية وفردية، حتى أصابه قصور عميق عن التكيف مع المستجدات المتسارعة خصوصًا في عصرنا هذا حيث أضحى الارتباط بالمعنى الحرفي للنص لا معنى له في بعض الأحيان، الأمر الذي يحتاج إلى ما يسميه الدكتور ذويب: "جرأة عمرية" في الاجتهاد تضع حرفية النص موضع مراجعة عند الاقتضاء، و تفتح باب الاجتهاد حتى في الأصول التي هي أحوج إلى إعمال العقل فيها في سياق جملة النصوص الأخرى، وبمراعاة الواقع ومصالح الناس المتجددة (ص795،796).
من ركام الأصول إلى أحضان الحداثة
يختم الدكتور ذويب كتابه بتقريره أن محاولات تجديد أصول الفقه رغم جرأتها في نقد الأصول أو نفي حجيتها فإنها وقفت أمام منطقة لم تستطع الاقتراب منها، وهي "حجية القرآن نفسه" (ص819)، ثم يؤكد عدم تجانس أصول الفقه مع المنظومات القانونية الحديثة، فيرفض المصادرة التي يتأسس عليها الفكر الأصولي والقائلة بأن جميع أعمال الإنسان تخضع للدين ولا مشروعية لها إلا منه، ويرى في التشريعات المتأتية من القرآن أو السنة أو الصحابة عائقًا أمام ظهور تشريع وضعي، وبناءً على تاريخية أصول الفقه التي وصل إليها بحثه فإن كل محاولة لزرعه في الواقع الحديث محكوم عليها بالفشل، لأنها تشبه محاولة زرع عضو فاقد للحياة في جسم حي، كما أن "الاكتفاء بتطعيم المنهج الأصولي بما يبدو ملائمًا لروح العصر لم يعد مقبولاً، لأن ذلك المنهج له منطقه الداخلي ولا يتسنى تنقيحه دون تشويهه" (ص823)، وعندئذٍ فإن الوصول إلى تشريع إنساني ينزع المركزية من رجال الدين، ويجعل كرامة الإنسان وحريته غاية مثلى لا يتحقق إلا عن طريق ثورة فكرية لا تقف عند عتبة المسلمات الأصولية والمدونات التي مُنع النظر والاجتهاد فيها، بل تتخطاها وتتجرأ عليها لإعادة فحص كل ما وصلنا من القدامى دون استثناء أي نص مهما بلغت قداسته وأي مجال مهما طغت بداهته وحرمته (ص824).
بهذه الخلاصة يختم الدكتور ذويب دراسته داعيًا إلى الدخول في الحداثة والإسهام فيها، على غفلةٍ ربما من ملاحظة أن الحداثة التي يدعو إليها هي نفسها لها أيضًا منطقها الداخلي التي لا يتسنى لنا الدخول فيها دون تنقيح ما لدينا من مفاهيم ومعتقدات تفارقها في جوانب عدة، فإذا كان اللجوء إلى أصول الفقه الموروث ارتهانًا لماضٍ صنعه السلف فكذلك اللجوء إلى الحداثة ارتهانٌ لحاضرٍ صنعه الآخرون لأنفسهم بالدرجة الأولى، ولا تُحَل مشكلة الحداثة بمجرد مقاربتها من منظورٍ إنساني، فأنسنة الحداثة أو عولمتها ليس بمقدورها تجاوز خصوصية كل ثقافة وعناصرها الموضوعية المكونة لفرادتها.
خاتمة
لعل من أهم ما يمتاز به "جدل الأصول والواقع" كدراسة لأصول الفقه في التاريخ هو انفتاحه على المدونة الأصولية بشتى مذاهبها – السنية وغير السنية- كشرط لتكوين رؤية متكاملة غير مذهبية أو مجتزأة، كما يُحمَد للدكتور ذويب استقصاؤه البالغ وتوثيقه المدقق، ورغم أهمية المنهج البحثي الذي اعتمده في قراءته هذه وضرورة هذا النوع من الدراسات عمومًا إلا أن ثمة ملاحظات لا بد من الوقوف عليها سواء على مستوى الأدوات أو النتائج:
فأول ذلك أن "جدل الأصول" بقراءته التفكيكية لأهم عناصر المنظومة الأصولية – الأدلة الأصلية والتبعية – قد أساء فهم علم أصول الفقه من حيث هو أحد علوم الآلة، وأنه لا يُتصور عمل هذا العلم إلا كمنظومة من العناصر تحكمها علاقات محددة الدور والاتجاه، وعليه فإن كل نقد لهذا العلم يغفل عن ملاحظة هذه العلائقية بين عناصر المنظومة يعد نقدًا قليل الجدوى، ومن هنا لا تصح التسوية بين الأدلة الأربعة الأصلية في المرتبة كما لا تصح التسوية بين الأدلة الثلاثة الفرعية في الآلية كما فعل "جدل الأصول" إذ راح ينقض كل واحد منها على حدة مع أن بعضها متراكب على بعض بحسب بنية المنظومة، ومن طبيعة هذا النوع من التفكيك أن ينسف المنظومة كلما عجز عن استكناه نظامها الداخلي الثاوي فيها، وهو ما فعله ذويب في ختام دراسته إذ دعا إلى ثورة فكرية على كل المقدسات والمسلمات الموروثة، ولو أن هذه الثورة تمت كما يدعو إليها أو يتصورها لما أتت بخيرٍ مما ثارت عليه إذ لم تميز بين أصلٍ وفرعٍ سواءٌ في منظومة الأصول خاصةً أو في مجمل الموروث عامةً.
وثانياً: أن الدكتور ذويب بتركيزه على العوامل الخارجية – من سياسية ومذهبية- قدم قراءة من منظور خارجي لجدل الأصول مع الواقع بحيث غدا أصول الفقه – في حيز كبير منه- صنيعة الإرادة السياسية والنزاعات الإيديولوجية لرجال المؤسسة الدينية!! وقد حجب هذا المنظور الخارجي رؤية الكثير من الجدل الداخلي المعرفي الثاوي في المنظومة الأصولية والذي كان له دورٌ لا ينكَر في وصول علم الأصول إلى ما وصل إليه، خصوصًا وأن المنظومة الأصولية قد صِيغ كثيرٌ من مفاهيمها ومضمونها بعد نشوء المذاهب وإغلاق باب الاجتهاد.
ثالثاً: أن رصده لدور العامل السياسي وأثره في أصول الفقه قد تضخم في بعض الأحيان إلى حد التكلُّف وربما إيجاد ما ليس بموجود [5]، ومن شأن هذا أن يفضي إلى يخل بالنتيجة العامة التي وصلت إليها الدراسة ويوقعها في شيء من التناقض، فإذا كان للسياسي كل هذا الدور الفاعل في صياغة الأصول . . أفلا يعني هذا أن أصول الفقه كان مجرد أداة سياسية – أو حتى مذهبية- تسهم في رسم الواقع، وبالتالي تغدو المسؤولية ملقاة لا على عاتق الأداة بل على عاتق من يستعملها، ويكون من الظلم محاكمة الأداة بدلاً من محاكمة الفاعل؟!
وربما يضطرنا القبول بقراءة الدكتور ذويب هذه والإقرار بما فعله السياسي بأصول الفقه خصوصًا والتراث عمومًا إلى التساؤل البريء عن موجب انعدام رد الفعل المضاد لعمل السياسي أو غيابه حتى بدت العملية أحادية الاتجاه، فالسياسي – بحسب هذه القراءة- يمسك بزمام جميع الأمور ويتصرف بها بدءًا من التصرف بالنص المقدس وفرض نسخةٍ معينةٍ منه على الناس وانتهاءً بتفاصيل بسيطة كدعم المنهج الفقهي الرافض للقياس لتحقيق غرض سياسي ثم لا يتلقى أي رد فعل أو مدافعة بل ولا يخشى عاقبة ما يقوم به!!
إذا كان من خداع الذات أن يُدرَس علم الأصول بعين العصمة فينال من التنزيه ما لا يستحق فلعل من قدح الذات أن يدرَس بعين التهمة فيفقد من التقدير ما يستحق، ولعل بين العصمة والتهمة سبيلاً آخر لحداثة تصنعها الذات المتحررة من ذينك الاستلابين.
الهوامش:
* باحث من سورية.
[1] يستدرك الدكتور ذويب بعد ذلك بإيراد مؤلفات تؤيد حجية خبر الآحاد للظاهرية وبعض الشيعة والمعتزلة، الأمر الذي يخرج المسألة عن كونها مذهبية بحتة إلى ما هو أكبر من ذلك.
[2] ويعرَف الدور بأنه توقف وجود كلٍّ من الشيئين على الآخر، وهو باطل منطقيًا، وفيما يتعلق بموضوع البحث يستدل بعض الأصوليين على حجية السنة أو الآحاد بأحاديث أخرى من السنة نفسها!!
[3] ومعلوم أن خلو "الرسالة" من هذا المبحث لا يستلزم انعدامه وقتها، بل هو أقرب إلى أن يكون من اختصاص المتكلمين لا الأصوليين أو الفقهاء.
[4] النسخ والتأويل أداتان صاغتهما النظرية الأصولية للتعامل مع النص، والقصور فيهما يتبدى إما في نفس المفهوم أو في الممارسة أو فيهما معًا.
[5] تأمل مثلاً رأي الدكتور ذويب في أن ابن حزم رفض القياس وأبطله لغرضٍ سياسي هو إنشاء نظام إيديولوجي جديد للأمويين في مواجهة الدولة العباسية التي تعارضهم في المشرق والتي ناصرت أهل القياس كالأحناف والمعتزلة ص306. ففضلاً عن تجاهله أن موقف ابن حزم من القياس موقف معرفي منهجي إذ أبطل القياس في الشرعيات دون الطبيعيات، وأنه آل إلى هذا بعد تجربته الفكرية الطويلة التي مرت بتقليد المذهبين الشافعي والمالكي قبل أن يتحول إلى المنهج الظاهري، وكان على الدكتور ذويب بناءً على رأيه هذا أن يفسر لنا سبب تبني الأمويين بالأندلس للمذهب المالكي – المعتد بالقياس- واضطهادهم ابن حزم أواخر حياته وإقصاءهم إياه من الوزارة وإحراقهم كتبه رغم احتوائها على إيديولوجيا مضادةٍ لدولة خصومهم العباسيين!!