نقد كلام الشيخ محسن كديور
أ. محمد صدر زاده(*)
مقدّمة ــــــ
إن من بين أهم مقومات الفهم الصحيح للمعارف الدينية إدراك العبارات والمفاهيم المستعملة في ذلك الدين بشكلها الصحيح، بمعنى أن يدرك الفرد المعاني الصحيحة التي تعبر عن أصول ذلك الدين، من قبيل: التوحيد، النبوة، والخاتمية، والإمامة، والخلافة، والوصية، ونحو ذلك، مما يستتبع هداية الفرد إلى الحقيقة والواقعية التي أنزل الله تعالى الكتب من أجلها.
وبعكس ذلك لو لم تفهم تلك العبارات بشكلها الصحيح، فلن تكون نتيجتها غير الضلالة والضياع.
إن عدم الإدراك الصحيح لمفهوم الإمامة أدى بالشيخ كديور إلى عدم فهم أصول وأركان التشيع، والمتمثِّلة في الإمامة والولاية، الأمر الذي دعاه إلى إثارتها في محاضرة ألقاها في المحرَّم من عام 1427هـ، في حسينية الإرشاد، تحت عنوان: (الإمامة في ضوء الثورة الحسينية)، ونسب فيها الشيعة إلى الغلو.
وقد وجدتُ فهمه للمسائل التي ينتقدها عارية عن الحقيقة. ومن هنا وجدت من الواجب عليَّ أن أدافع عن مكانة أهل البيت، وتكذيب أقوال الشيخ محسن كديور في المسائل التي تمّ بحثها، وتنبيه العالم الشيعي إلى الأخطاء التي وقع فيها، وإثبات خلافها.
كيف يمكن مساواة علي بسائر العلماء؟! ــــــ
وفي ما يأتي أنقل عبارة للشيخ كديور، ثم أجيب عنها. يقول: «إن علياً× عرّف نفسه بوصفه عالماً، ويمكن للآخرين أن يكونوا علماء أيضاً، إلا أن علياً قد صحب النبي أكثر من غيره، وقد حظي بتهذيب نفسي أكثر من غيره، فكان لزاماً أن يعلم أكثر من غيره، فليس البحث في نفي أو إثبات مراتب علي وآل علي، وإنما البحث في أنه هل يشترط في الإمام أن يعلم الغيب أو لا يشترط ذلك؟».
والجواب: كانت رسالة النبي‘ تكمن في إيصال النداء الإلهي إلى الناس، وتعليمهم، من خلال الكتاب الذي أرسل إليهم، قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: 52). إن فهم كل كتاب علمي يحتاج إلى معلم مختص به، عارف برموزه ومصطلحاته، وإنّ أية محاولة لفهمه دون الاستعانة بذلك المعلم لا ينتج منها إلا مضيعة الوقت والإخفاق والضلال. وقد اختار الله سبحانه وتعالى شخص النبي‘ بوصفه معلِّماً لذلك الكتاب العلمي الذي أنزله من عنده، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44). وعليه لابد لفهم المسائل العلمية الواردة في هذا الكتاب السماوي من التمسك بمعلِّمه الخاص، ألا وهو رسول الله‘، وتعلم ما يقوله في بيان ذلك الكتاب.
ثم نقول: هل يمكن تعلم المسائل العلمية في مرحلة واحدة، أم لا بد من مراحل متعددة وتخصيص فترة زمنية لكل مرحلة؟
فالذي يروم تعلم الطب هل يمكنه تعلم كافة العلوم الطبية في مرحلة واحدة فقط، يحضر فيها درس أستاذ في الطب، بحيث لا يكون بحاجة إلى أستاذ آخر في فرع طبّي آخر؟
من البديهي أنه لا بد له من قطع مقدمات تمهيدية تؤهِّله لفهم المسائل الطبية التي يحاول الأستاذ تبيينها له، وبعد تأهله لذلك فإن من أسباب النجاح أن يحضر قاعة الدروس بشكل متواصل، وأن يستمع لما يقوله الأستاذ بدقة، وأن يحفظ المعلومات التي يشرحها الأستاذ، وإلا كان إخفاقه قطعياً.
هل كان النبي‘ في تعليم القرآن الكريم وإبلاغ رسالة الله إلى الناس في حياته وحيداً، أو كان هناك من اختاره الله تعالى ليكون عوناً وردءاً له في هذا الأمر الخطير؟
من خلال التدبر في حديث المنزلة، المتَّفق عليه من قبل الفريقين، والذي يقول فيه رسول الله: «يا علي، أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي»([1])، وبعد التدبر في شأن ومقام هارون من موسى، لا يبقى هناك من غبار على مشاركة الإمام علي× للنبي‘ في مهمة الرسالة، الموضَّحة في قوله تعالى: {يُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ}.
لقد سأل موسى× ربّه قائلاً: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى * وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} (طه: 29 ـ 37).
لقد أراد موسى× أن يجعل أخاه هارون شريكاً في أمره، وكان هذا الأمر عبارة عن إبلاغ رسالة الله إلى الناس. وبعد أن استجاب الله لرغبة موسى× أصبح هارون شريكاً لموسى في أمر الرسالة، دون أن تؤدي هذه المشاركة إلى الإخلال برسالة موسى×.
إن من لوازم المشاركة في أمر الرسالة وإبلاغها أن يكون شريك النبي عالماً بموضوع الرسالة، وأن يكون علمه بمستوى علم النبي نفسه، وإلا لم تكن هناك من فائدة في مشاركته، فنقول: ما هي مصادر معرفة هذا الشريك؟
لقد شرح ذلك الإمام علي×،حيث قال: «وقد علمتم موضعي من رسول الله‘، بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد، يضمّني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسني جسده، ويشمّني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثمّ يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل، ولقد قرن الله به‘ من لدن كان فطيماً أعظم ملكٍ من ملائكته يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره، ولقد كنت أتبعه اتّباع الفصيل أثر أمّه، يرفع لي كلّ يومٍ من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به. ولقد كان يجاور في كلّ سنةٍ بحراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيتٌ واحدٌ يومئذٍ في الإسلام غير رسول الله‘ وخديجة، وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوّة. ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه‘؛ فقلت: يا رسول الله، ما هذه الرنة؟ فقال: هذا الشيطان قد آيس من عبادته، إنك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، إلا أنك لست بنبي، ولكنك لوزير، وإنك لعلى خير..»([2]).
ووفقاً لقوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلا المُطَهَّرُونَ} يجب في من يتحمل القرآن أن يتمتع بطهارة ذاتية؛ وهي الأمر المشترك بين رسول الله‘ والأئمة المعصومين من أهل بيته^، قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب: 33).
إن اختصاص النبي وأهل بيته بصلاة واحدة لا تتم الصلاة اليومية إلا بها لدليل على مشاركة أهل البيت لرسول الله في أمر الرسالة، والتمتع بالمزايا الضرورية في عملية تزكية وتعليم الأمة وإقامة التشريع الذي تمتع به رسول الله‘.
ولتذكير الناس باختصاص أهل البيت بتعليم القرآن وانحصار تفسيره بهم، وأنهم يتمتعون بخصائص تؤهلهم في تزكية وتعليم الناس وتطبيق الشريعة، وأنهم يتمتعون بخصائص رسول الله كلّها غير النبوة، قال تعالى: {قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى} (الشورى: 234).
ما هو المراد من المودة في القربى؟ دعوة الأمة إلى إطاعتهم، قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} (آل عمران: 31). وهي إطاعة صرّح الله بوجوبها في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59). وقد أكد رسول الله نفسه هذه المشاركة لعلي في أمر الرسالة، ومواصلة التزكية والتعليم، بقوله: «أنا صاحب التنزيل، وأنت صاحب التأويل»، ومواصلة تطبيق الشريعة، حيث قال: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه». إذاً فالولاية الثابتة لعلي× هي عين الولاية الثابتة لرسول الله‘ من قبل الله تبارك وتعالى، حيث قال: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} (الأحزاب: 6). وهذه المشاركة في الولاية والرسالة هي التي أدت إلى إتمام الدين وإكمال النعمة.
لم يكن بالإمكان تطبيق هذا النظام التشريعي الجديد في مرحلة واحدة بشكل كامل. وكان من خصائص هذا النظام الخلود وعدم البطلان: {لا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} (فصّلت: 42)، حتى تبلغ الأمة مرحلة تتمكن معها من تعليم الأمم الأخرى والأجيال القادمة.
ومن جملة تلك الخصائص: العلم، والعصمة، والولاية، التي هي من شروط استمرارية تزكية الأمة وتعليمها. وإن مواصلة تطبيق نظام الشريعة، ووجود مثل هؤلاء الأفراد، من لوازم إكمال الرسالة وإتمام الشريعة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ} (المائدة: 67).
وعليه كان من الضروري لإتمام إبلاغ الرسالة تعريف الأمة بشخص تتوفر فيه خصائص النبيّ‘، ويكون واجب الإطاعة بوصفه خليفة له في الولاية، وانحصار تعليم علوم الوحي به، كجزء من مشروع نظام الشريعة: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه».
ومن هنا فقد صدع الرسول‘ بهذه المسؤولية في حديث متَّفق عليه بين جميع المسلمين، حيث قال: «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله؛ وعترتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبداً»([3]). وفي حديث آخر: «أهل بيتي أمان لأمتي عن ضلالتهم في أديانهم»([4]).
إذاً فالتمسك بالقرآن الكريم والعترة الطاهرة^ أمان للأمة الإسلامية من الضلال والضياع. وهذا التمسك غير محدود بزمنٍ دون زمن.
وبعد أمر الرسول‘، الذي هو أمر الله تبارك وتعالى؛ بحكم قوله: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 3 ـ 4)، هل يكون اتّباعنا ومشايعتنا لأهل البيت بسبب أعلميتهم أم بسبب الخلافة والولاية؟ إن ولاية الإمام أمير المؤمنين علي× وإمامته ووصايته كانت من الأمور الثابتة له في زمن سابق، حيث أُمر النبيُّ بإبلاغها إلى الناس في حياته، إلا أن أيّاً من هذه المناصب المذكورة غير قابلة للتطبيق في حياة الرسول الأكرم‘؛ وذلك لوجود الأصيل في مسرح الحياة. وعليه فإن الشهادة الثالثة حقيقة من أصول الدين؛ لقوله تعالى: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}، ولكنها بالقوة، وغير قابلة لإدراجها في الأذان في عهد رسول الله‘.
حساسية العرب تجاه خلافة علي× وإمامته ــــــ
لقد كان للعرب حساسية عجيبة في ما يتعلق باستخلاف علي×، ولم يكونوا ليقبلوها. ولم يكن من السهل في ظلّ هذا الواقع الإعلان عن ولايته وخلافته من قبل النبي. وهذا ما يمكن إدراكه من سياق قوله تعالى: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}.
وعليه يمكننا أن ندرك التبعات التي كان من الطبيعي أن تظهر بعد الإعلان عن خلافة وإمامة علي×، ولم يدعُ إلى تأخير الإعلان عنها سوى الخوف من هذه التبعات.
ومن هنا فقد ورد في الحديث: «إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تدلّ أمتك من وليهم على مثل ما دللتهم عليه من صلاتهم وزكاتهم وصيامهم وحجّهم. قال: فقال رسول الله‘: أمتي حديثو عهدٍ بجاهلية، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، تفسيرها: أتخشى الناس، والله يعصمك من الناس، فقام رسول الله‘، فأخذ بيد علي بن أبي طالب×، فرفعها، فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه…»([5]).
وفي حديث آخر: «قال الربّ تبارك وتعالى: انزل إلى عبادي، فأخبرهم بكرامتي إياك، وأني لم أبعث نبيّاً إلا جعلت له وزيراً، وأنك رسولي وأن علياً وزيرك؛ فهبط رسول الله‘، فكره أن يحدث الناس بشيء؛ كراهية أن يتهموه؛ لأنهم كانوا حديثي عهدٍ بالجاهلية، حتى مضى لذلك ستة أيام، فأنزل الله تبارك وتعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ}، فاحتمل ذلك رسول الله‘، حتى كان يوم الثامن، فأنزل الله تبارك وتعالى عليه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، فقال رسول الله‘: تهديدٌ بعد وعيد، أمضين أمر الله عز وجل، فإن يتهموني ويكذبوني فهو أهون عليّ من أن يعاقبني العقوبة الموجعة في الدنيا والآخرة. قال: وسلَّم جبرئيل على علي بإمرة المؤمنين، فقال علي: يا رسول الله، أسمع الكلام، ولا أحسّ الرؤية، فقال: يا علي، هذا جبرئيل أتاني من قبل ربي بتصديق ما وعدني»([6]).
وإنما ذكرنا هاتين الروايتين كنموذج يشهد على اقتران الإعلان عن خلافة علي× وولايته بصعوبات جمّة آنذاك. حتى رأينا في ما بعد أن أولئك الذين شهدوا حادثة الإعلان في غدير خم، وسط حشد غفير من المسلمين بلغ مئة ألف نسمة، بل وباركوا لعلي بعبارات من قبيل: «بخ بخ لك يا علي»، قد بادروا في حياة النبي وقبيل وفاته، حينما طلب منهم دواة وكتف ليكتب لهم كتاباً، فقالوا: «إن الرجل ليهجر، وحسبنا كتاب الله»؛ وقاموا في الليلة نفسها التي ارتحل فيها رسول الله‘ بالتآمر سياسياً في سقيفة بني ساعدة، وانقلبوا على الشرعية، فغيَّروا اتجاه الخلافة عن مسارها الذي رسمه رسول الله، وأصبح الإمام علي× جليس بيته، مؤثراً السكوت لربع قرن من الزمن.
وبعد أن ارتحل النبي الأكرم‘ خرجت ولاية علي× وإمامته من القوة إلى الفعل، دون حاجة إلى إعلان جديد، طبقاً لقول النبي‘: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه»، فكانت الشهادة لعلي بالولاية من أجزاء شهادة الإسلام، وأجزاء الأذان والإقامة، إلا أن الانحراف عن مسير الخلافة، وانتقالها من أهل البيت إلى غيرهم، حال دون ظهور ولاية علي، والشهادة له بذلك، كما استحال تصديه للخلافة.
شاهد من مصادر أهل السنة ــــــ
«كان علي× وبعض بني هاشم مشتغلون بإعداد جهازه وغسله؛ فقال العباس لعلي ــ وهما في الدار ــ: امدد يدك أبايعك، فيقول الناس: عمّ رسول الله بايع ابن عمّ رسول الله، فلا يختلف عليك اثنان، فقال له: أوَيطمع يا عمّ فيها طامعٌ غيري؟! قال: ستعلم. فلم يلبثا أن جاءتهما الأخبار بأن الأنصار أقعدت سعداً لتبايعه، وأن عمر جاء بأبي بكر فبايعه، وسبق الأنصار بالبيعة، فندم علي× من تفريطه في أمر البيعة وتقاعده عنها»([7]).
وقد ورد عن الإمام علي× في بيان هذا الانحراف قوله: «فوالله ما كان يُلقى في روعي ولا يخطر ببالي أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده عن أهل بيته، ولا أنهم يمنعوه عني من بعده»([8]).
وبعد هذه المؤمراة، التي يذعن بها أهل السنة، بات من غير الممكن إقرار الشهادة بالولاية بالقول: «أشهد أن علياً ولي الله»؛ لمخالفتها للسياسة القائمة.
ولم يكتفِ الحكام الغاصبون بمنع إظهار الشهادة الثالثة، بل سعوا إلى طمس معالم الغدير بكل السبل الممكنة، حتى غدا بيان فضائل الإمام علي في عهد هذه الحكومات جُنحة ومخالفة للقانون، بل أصبح سبّ علي× ولعنه على المنابر وفي المواعظ والخطب سُنّة، وجزءاً من خطب الجمعة. وقد جاء في شرح ابن الحديد المعتزلي لنهج البلاغة كلام بهذا الشأن: «وما أقول في رجلٍ أقرّ له أعداؤه بالفضل، ولم يمكنهم جحد مناقبه، ولا كتمان فضله، فقد علمت أنه استولى بنو أمية على سلطان الإسلام في شرق الأرض وغربها، واجتهدوا بكلّ حيلة في إطفاء نوره، والتحريض عليه، ووضع المعايب والمثالب له، ولعنوه على جميع المنابر، وتوعدوا مادحيه، بل حبسوهم وقتلوهم، ومنعوا من رواية حديث يتضمن له فضيلة أو يرفع له ذكراً، حتى حظروا أن يُسمّى أحدٌ باسمه، فما زاده ذلك إلا رفعة وسموّاً؛ وكان كالمسك كلما ستر انتشر عرفه، وكلما كتم تضوّع نشره؛ وكالشمس لا تستر بالراح، وكضوء النهار إن حجبت عنه عين واحدة أدركته عيون كثيرة»([9]).
ولنفترض أن شعباً مجاوراً للحجاز قد آمن بالإسلام في تلك الفترة، وشهد حادثة الغدير، وصادف أن لم يخضع للسلطان الذي هيمن على الحجاز، فأيّ الحالتين كان ملزماً بها: كتمان الشهادة بالولاية لعلي×؛ أم إظهارها والقول بـ «أشهد أن علياً ولي الله»؟
فهل يبقى لنا، حيث نظرنا إلى حديث الغدير بحيادية، وشهدنا انحراف الخلافة عن أصحابها الحقيقيين، ولم نعُد نعيش تلك الفترة من الكبت السياسي، هل يبقى لنا أي مجال للتشكيك بوجوب أداء الشهادة للإمام علي× بالولاية والإمامة؟!
بعد العلم بأن هذا الانحراف السياسي في واقع الحكومة الإسلامية غير قابل للتقويم، وظهور النزاعات في الفترة الزمنية القصيرة التي حكم فيها الإمام علي×، لم يحكم الأئمة^ بوجوب إدخال جملة «أشهد أن علياً ولي الله».
وعليه فإنّ التمسك بأهل البيت^؛ طبقاً لوصية النبي، ليس لأعلميتهم في الأمور، وإنما هو منصب إمامة وولاية من قبل الله، نصّ عليه من قبل رسول الله‘. نعم، الأعلمية من لوازم الولاية والإمامة، فقد قال الإمام علي×: «أيها الناس، إنّ أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه، وأعلمهم بأمر الله فيه»([10]).
إن الإمامة تعني توفر خصائص لدى الإمام تؤهله لإقامة النظام التشريعي في فترة معينة. وهو نظام موجود بجميع تفاصيله في القرآن الكريم. وعليه لا بد للإمام من أن يتمتع بجميع خصائص رسول الله‘. وفي هذه الخصوصية لا يشارك أهل البيت أحد من البشر حتى أعلم علمائهم. ومن هنا قيل في شأنهم: «الأئمة قوّام الله على خلقه، وعرفاؤه على عباده، ولا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه، ولا يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه»([11]).
وكلمة الخلق تعني جميع الكائنات من الأحياء والجمادات، أرضيّها وسماويها، والعباد تعني العقلاء من الناس وذوي الألباب منهم. أليس بإمكاننا أن ندرك من هذه الكلمات أن السعادة والشقاء رهن بمعرفة الإمام وإنكاره؟ فهل هذه الخصيصة ناشئة من الأعلمية أم من الولاية؟
هل اكتفى الإمام في تعريف نفسه للناس بأعلميته، ولم يتحدث عن إمامته أبداً؟!
في ما يلي نماذج من نهج البلاغة:
«ليس على الإمام إلا ما حمّل من أمر ربّه»([12]).
«أيها الناس، إني قد بثثت لكم المواعظ التي وعظ الأنبياء بها أممهم، وأديت إليكم ما أدّت الأوصياء إلى من بعدهم، وأدبتكم بسوطي؛ فلم تستقيموا، وحدوتكم بالزواجر فلم تستوسقوا. لله أنتم، أتتوقعون إماماً غيري يطأ بكم الطريق، ويرشدكم السبيل؟!»([13]).
«قال: يا أمير المؤمنين، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك؟! قال×: ويحك، إني لست كأنت، إن الله تعالى فرض على أئمة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعَفة الناس، كي لا يتبيغ بالفقير فقره»([14]).
«أما بعد، فقد جعل الله سبحانه لي عليكم حقاً بولاية أمركم»([15]).
«ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به، ويستضيء بنور علمه، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورعٍ واجتهاد وعفة وسداد…، وأنا من رسول الله كالضوء من الضوء، والذراع من العضد. والله، لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت عنها، ولو أمكنت الفرص من رقابها لسارعت إليها، وسأجهد في أن أطهر الأرض من هذا الشخص العكوس [يعني معاوية] والجسم المركوس، حتى تخرج المَدَرة من بين حبّ الحصيد»([16]).
ألا تكفي هذه النماذج المتقدّمة من نهج البلاغة، وخاصة قوله: «ليس على الإمام إلا ما حمّل من أمر ربه»، وقوله: «إن الله تعالى فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس..»، وقوله: «إن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه..»،وقوله: «أتتوقعون إماماً غيري يطأ بكم الطريق، ويرشدكم السبيل؟»،وقوله: «الأئمة قوّام الله على خلقه، وعرفاؤه على عباده، ولا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه..»، وقوله: «فقد جعل الله سبحانه لي عليكم حقاً بولاية أمركم»، دليلاً على بطلان مزاعم الشيخ كديور، حيث يقول: «إنني لم أرَ في مصدر من المصادر أنّ الإمام الحسين× قد أجاب عن السؤال القائل: من هو الإمام؟ بقوله: الإمام هو المنصوب من الله، الإمام هو المنصوب من قبل رسول الله، الإمام هو المعصوم، الإمام هو العالم بالغيب.
لماذا إنكار مقامات الأئمة^؟! ــــــ
إنه لمن الغريب أن ينكر شخص مثل الشيخ كديور ــ وفي المجتمع الشيعي الوحيد، وأثناء محاضرة حول أحد الأئمة الشيعة ــ عصمة الأئمة، والنصّ عليهم جهاراً، ثم يقول: «ليس الغرض نفي أو إثبات مراتب آل علي، وإن ما نريد قوله: هل العلم بالغيب شرط في تحقق الإمامة أم لا؟».
ألا تكفي كلمة الإمام علي× في إثبات بطلان مقالة الشيخ كديور، حيث قارن علم الإمام علي بعلم الآخرين، فقال: «لقد دعا الإمام نفسه عالماً، ويمكن لغيره أن يكون عالماً أيضاً»؟!
وعن أبي عبد الله×: «إن لله علمين: علم مخزون مكنون لا يعلمه إلا هو، من ذلك يكون البداء؛ وعلم علَّمه ملائكته ورسله وأنبيائه، فنحن نعلمه».
وعن الإمام محمد بن علي الباقر، عن أبيه، عن جده ^، قال: «لما نزلت هذه الآية على رسول الله: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} قام أبو بكر وعمر عن مجلسهما، فقالا: يا رسول الله، هو التوراة؟ قال: لا، قالا: فهو الإنجيل؟ قال: لا، قالا: فهو القرآن؟ قال: لا، فأقبل أمير المؤمنين ×، فقال رسول الله؟ هو هذا، إنه الإمام الذي أحصى الله تبارك وتعالى فيه علم كل شيء»([17]). إلى غير ذلك من هذه الروايات، وهي كثيرة.
وبعد التقدم العلمي الذي حقَّقه الإنسان انكشفت له خصائص عن النظام الكوني بعد أن كانت خافية عليه. إذاً يمكن للمغيبات أن تدرك بالوسائل العلمية، وقد تحقق ذلك.
ومن ذلك قصة النبي سليمان وملكة سبأ، وما دار بينهما من الحقائق، التي جاء ذكرها في القرآن الكريم على النحو الآتي: {قَالَ يَا أَيُّهَا المَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (النمل: 40). فكيف أمكن لآصف بن برخيا أن يأتي بعرش بلقيس من مسافة تقدر مسيرتها بشهرين قبل أن يرتد لسليمان طرفه؟ يمكن تفسير ذلك وفقاً لمعطيات العلم الحديث، وفرضية تحول المادة إلى طاقة وبالعكس، ولكنها لم تكُن في عهد سليمان إلا من الأمور المغيبة التي لا يمكن بلوغها إلا بواسطة العلم بالغيب.
وقد جاء في وصف القرآن قوله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ}. ولما كان القرآن قطعي السند فلا بد أن يكون عند النبي وآله علم بجميع ما ورد في القرآن الكريم، وإنهم^ قياساً بآصف بن برخيا، الذي كان (عنده علم الكتاب)، أقدر منه على علم الغيب بمراتب.
قال الإمام علي×: «ما من شيء تطلبونه إلا هو في القرآن، فمن أراد ذلك فليسألني»([18]).
وقال أيضاً: «والله، لو شئت أن أخبر كل رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت، ولكن أخاف أن تكفروا فيّ برسول الله»([19]).
وقال أيضاً: «أيها الناس، سلوني قبل أن تفقدوني، فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض…»([20]).
قال الإمام هذه الكلمات في وقت سادت فيه هيئة بطليموس، التي ترى استحالة اختراق الأفلاك، حتى أُنكر أن يكون معراج رسول الله‘ جسمانياً، ولم تكن هيئة كوبرنيق قد ظهرت بعد. إذاً قد تحدث الإمام عن أمور غيبية، إلا أن علم الإمام يقوم على حقائق قرآنية، وبذلك كان الإمام× عالماً بالمغيبات.
وقال الإمام علي×: «إنما الأئمة قوّام الله على خلقه». والقوّام هنا جمع قيّم، بمعنى الوالي والمدبّر. والمراد من الخلق كل ما ينطبق عليه عنوان المخلوق. فهل يمكن أن يكون هناك تدبير وولاية على المخلوقات دون علم بمكنوناتها؟!
أرجو أن لا يذهب الشيخ كديور إلى أن هذه الأحاديث إنما أُمليت على الإمام علي× من قبل المفوّضة، أو أن الشيعة المفوّضة قد ألَّفوها وأقحموها في نهج البلاغة؛ إذ لا يبعد من شخص يجاهر بإنكار التشيُّع أن يتبنى مثل هذا الكلام. ونترك الحكم إلى القارئ الكريم([21]).
الهوامش
(*) كاتب في علوم العقيدة الإسلامية.
([1]) ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة 13: 109.
([2]) نهج البلاغة، الخطبة: 192.
([3]) ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة 6: 375.
([9]) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 1: 16.
([10]) نهج البلاغة، الخطبة 173.
([11]) المصدر السابق، الخطبة 152.
([12]) نهج البلاغة، الخطبة 105.
([13]) المصدر السابق، الخطبة 182.
([14]) المصدر السابق، الخطبة 209.
([15]) المصدر السابق، الخطبة 216.
([16]) المصدر السابق، الكتاب 45.
([17]) بحار الأنوار 35: 428؛ معاني الأخبار: 95؛ الميزان في تفسير القرآن 17: 70.
([19]) نهج البلاغة، الخطبة 175.
([20]) نهج البلاغة، الخطبة 189.
([21]) تم نقل مقال الأستاذ محمد صدر زاده ناقصاً على مواقع شبكة الإنترنت.