د. سعيد أحمديان(*)
مقدّمة ـــــــ
احتوت صحيفة (شرق) موضوعاً تحت عنوان: (إعادة قراءة الإمامة في ضوء الثورة الحسينية)، والذي هو في الأساس موضوع محاضرة ألقاها الشيخ كديور في ليلة عاشوراء، وقد كان العنوان والموضوع الأساس لهذه المحاضرة هو الاهتمام بمفاهيم الدين المحرّفة؛ لإعادة التعرف عليها، والحركة نحو الإصلاح في مسير الإصلاح الحسيني. بيد أن الذي تجلى أكثر هو تسليط الأضواء على الإمامة بوصفها من المسائل المحرّفة. والذي يمكن الإشارة إليه بوصفه من محاور البحث التي ينبغي التأمل حولها عنوانان، هما:
1ـ إن إحدى المسائل الجادة الهامة في هذا الخطاب هو التأكيد على هذا الانحراف، وأن تاريخ التدين لم يشهد متدينين على وتيرة واحدة من الاهتمام بالدين ومسائله. فبعض أبعاد الدين حظيت باهتمام المتدينين، حتى أصيبت بالتضخم والتخمة، في حين لم تحظَ المسائل الأخرى إلا بنسبة ضئيلة من الاهتمام، فأصابها الضمور والخور.
يعود أساس هذه المسألة إلى آفة خطيرة حذَّر منها القرآن الكريم، حيث قال: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}. غاية الأمر أن الإنصاف في مثل هذا الموضوع أن يكون المتكلم نفسه هو المبادر إلى رسم أبعاد التدين. فمثلاً: لابد من التدقيق في مفهوم الولاية والإطاعة التي ورد ذكرها في القرآن مراراً وبصراحة، حيث أكد على وجوب إطاعة الرسول، وأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، والآيات التي تتحدث عن معاملة الكافرين وعقوبتهم بقسوة من قبل الحكومة الدينية، فإما أن نؤمن بهذه المفاهيم بأجمعها، أو نذرها بأجمعها، فننظر إلى الجميع بنظرة واحدة.
كديور والخلط بين التكوينيات والتشريعيات ــــــ
يرى الشيخ كديور أن ما تمّ التركيز عليه في مسألة الإمامة نوع تقديس لم يكن على تلك الشدّة في صدر الإسلام، وقال: إن الوجه الذي يميز التشيع من سائر القراءات الإسلامية يتجلى في أمور ثلاثة، تتمثل في أن قراءة علي× أكثر عقلانية وعدالة وعرفانية.
إن ما يتم التأكيد عليه في المحافل الدينية هو النواحي الميتافيزيقية في الأئمة، مما يؤدي إلى عجز الآخرين عن أن يكونوا مثلهم؛ لأنهم خلقوا من طبيعة وطينة غير طبيعة وطينة سائر الناس. وهذا ما لم يكن له وجود في القرن الأول والثاني. وإذا كان موجوداً فلم يكن بهذه القوّة التي شهدها العالم الشيعي في ما بعد. وإن كلمات الإمام علي وسائر الأئمة تؤكد على بشريتهم.
ولقد ورد عن النبي‘ قوله: «أنا وعلي من شجرة واحدة، وسائر الناس من شجر شتى». كما أن الإمام يُعتبر مركز الوجود، ولولاه لساخت الأرض بأهلها. وهذا الكلام ليس مبالغة أو شعراً، وإنما هو أحاديث وردت على لسان الأئمة الذين كانوا يعيشون في القرن الأول والثاني.
وقال الشيخ كديور في موضع آخر: إنه لم يعثر على مورد قال فيه الإمام المعصوم، في جواب (من هو الإمام؟): «الإمام هو المنصوب من الله، الإمام هو المنصوص من قبل رسول الله، الإمام هو المعصوم، الإمام هو العالم».
وكأنه نسي قول الله تعالى، حيث يقول في شأن الغدير: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}، الدال على وجوب نصب الإمام من قبل الله تعالى، كما يدل على ضرورة نصبه من قبل النبي‘ أيضاً. وكأنه لم يعثر على حديث جابر بن عبد الله الأنصاري عن النبي‘ الذي يعدّد فيه أسماء الأئمة فرداً فرداً، وأنه لا سبيل إلى النجاة إلاّ بالتمسك بهؤلاء الأئمة^.
يبدو واضحاً أن هناك خلطاً في كلام الشيخ كديور بين المباحث التكوينية والتشريعية، وعدم تدقيق في أصول الإمامة وفروعها. فلا بد من بيان الدليل على وجوب إقامة الإمام. وهو إما عقلي، أكدت عليه الأدلة الكلامية الشيعية كدليل على ضرورة استمرار النبوة لإدارة المجتمع وفقاً لقاعدة اللطف، وعندها لا بد من انتقال جميع صلاحيات النبي إلى الإمام، سوى الوحي؛ بل إذا كانت مسؤولية النبي تنحصر بإبلاغ الوحي فإن وظيفة الإمام تكمن في بيان ذلك الوحي وتطبيقه؛ أو الأدلة النقلية، التي تتمثل بأحاديث النبي في إثبات مسألة الإمامة. وعليه لا بد من النظر بدقة إلى هذه النصوص النبوية، فإذا كانت هذه الرؤية تعتبر من التقديس الشديد فيبدو أن أول من روّج هذا التقديس هو النبي‘.
وأما صفات الإمام التي تفوق الطبيعة البشرية فلا ربط لها بشؤونه الإنسانية الأخرى، أي إنه كالنبي‘ في كونه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، في حين أنه ــ كما عبر النبي‘ نفسه ــ من الناحية التكوينية أول مخلوق، والسبب في وجود سائر المخلوقات الأخرى. وقد ورد في مصادر أهل السنة أن النبي‘ قال لعلي×: «أنت مني بمنزلة رأسي من جسدي». وعليه يبدو أن هذا التقديس كان من قبل النبي‘، قبل أن يصدر عن المتشرعين. وكذلك حديث الكساء، الذي هو في حدّ الحديث المتواتر، والذي ينتهي بآية صريحة الدلالة على عصمة النبي وأهل بيته، حيث يقول: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.
وأما ما قاله الشيخ كديور، من أن ما أكد عليه الأئمة هو نوع أفضلية في العمل والبصيرة والتهذيب وطهارة النفس وعقل الدراية في قبال عقل الرواية، دون أن نعهد سيد الشهداء أو الإمام علي وسائر الأئمة قد استندوا إلى النواحي الميتافيزيقية في التعريف بأنفسهم، فيكفي في ردّه ونقضه الرجوع إلى نهج البلاغة، وخطب الإمام الحسين، وأدعية الصحيفة السجادية، وغيرها من المصادر الدينية المعتبرة.
إن ما ورد في المصادر الدينية لا يمنح الأئمة أفضلية نسبية على الآخرين، وإنما يثبت أنهم منشأ ومصدر لجميع الفضائل. وبذلك لا يبقى هناك مجال للمقارنة. فهناك أكثر من مئة رواية يصف فيها الأئمة أنفسهم بكونهم مصدر العلم المؤدي إلى معرفة الله. كما ورد عن أمير المؤمنين× قوله في نهج البلاغة وقد سأله ذعلب اليماني: هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين؟ فقال×: أفأعبد ما لا أرى؟! فقال: وكيف تراه؟ فقال×: لا تراه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان. أي إن علم الإمام يبلغ مرتبة من الظهور تكون بمنزلة المشاهدة والعيان. كما ورد عن سائر الأئمة في روايات متعددة قولهم: «بنا عُرف الله وبنا وُحِّد…».
وعليه لا ينبغي شك في أن هناك تقديساً في الجوانب التكوينية، وكون الإمام المعصوم هو مركز وقطب عالم الإمكان. كما ثبت في زيارة أمين الله، التي بلغت في الوثاقة حدّ التواتر، أن عبارة (أمين الله) تدل على عصمة الإمام وعلمه.
الإمام بين الخصائص الوجودية والنواحي السلوكية ــــــ
وأما في ما يتعلق بجوانب الحياة البشرية فلم يكن الإمام في منصب الإمامة ليمتاز من سائر الناس، سواء في الحقوق أو الموقع؛ وذلك كي يثبت الإمام أن مسألة الحكومة الدينية مسألة إنسانية، ويمكن إدارتها بعدل وعقل، حتى من دون الاستفادة من علم الغيب. وقد عمد الإمام علي× إلى الالتزام بهذه السياسة، حتى لا يقول المستنيرون بعدم إمكان التأسي بسلوك الإمام في إقامة الحكومة وتأسيسها. وإن ما هو كائن في حوزة التقديس في الكلام الشيعي في مجال التكوين، وأشكل عليه الشيخ كديور، تحول في مجال التشريع إلى مستمسك لإثبات عدم الاستعانة بسلوكيات الأئمة في الأحداث السياسية. إذاً فالخطر الأول مضرٌّ للغاية؛ إذ يمكن للمتدينين الحمقى والمتنورين المغرورين أن يعرِّفوا الدين بشكل يتفق وينسجم مع متبنياتهم الفكرية. وعليه فإن سلوكيات الإمام الاجتماعية والسياسية وغير الخاصة قابلة للتأسي؛ حيث إن الإمام لم يكن يروم حلّ المسائل من خلال علم الغيب والعصمة. إذاً يمكن لغير المعصوم أن يقيم حكومة دينية. كما يمكن لغير المعصوم أن يثور وينهض من أجل إقامة الحكومة الدينية؛ تأسياً بالإمام الحسين×؛ أو يركن إلى الصلح، كما صنع الإمام الحسن×؛ ويمكنه أن يقتل أربعة عشر ألف رجل في حرب واحدة، كما صنع الإمام أمير المؤمنين في حرب النهروان؛ كما يمكنه إبعاد ونفي ذلك الرجل الذي كان يثير الفتن ويزرع الشبهات، كما صنع الإمام علي×؛ لأن فعل الإمام قابل للتأسي والمحاكاة. إلا أن هذا لا يعني أن الإمام من الناحية التكوينية والخصوصية كسائر الناس، فالإمام حقيقة قدسية وإلهية. فالإمام ليس أعلم من غيره فحسب، وإنما قلبه موضع يتجلى فيه علم الله، كما ذكر ذلك الإمام نفسه في نهج البلاغة. فالإمامة هبة إلهية. وإن الإمام إمام شاء الناس أو أبَوا، كما قال النبي‘: «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا». فالإمام ليس مجرد معصوم، وإنما هو عين العصمة. والعصمة لا تثبت من دون العلم بالغيب وتجاوز الظاهر إلى الباطن، وهي من لوازم العلم الكامل، وليست من لوازم العلم الأكمل، فقد ورد في رواية معتبرة قولهم^: «لا يقاس بنا أحد».
إذاً لا بد من الفصل بين النواحي الوجودية والنواحي السلوكية للإمام. فمن الناحية الوجودية يعد الإمام شأناً من شؤون النبي، بل هو النبي نفسه؛ وأما من الناحية السلوكية فقد أكد الأئمة على عدم إحداث تغيير في حقوقهم وواجباتهم السياسية والاجتماعية. فقد كان الإمام علي يتصرف ويتخذ المواقف والقرارات بوصفه مسلماً مسؤولاً، رغم أنه لم يكن ليخطئ الحكم وأمثال ذلك؛ ليثبت إمكان التأسي الديني بأفعالهم في المجادلات الاجتماعية والسياسية.
إن الاطلاقات الموجودة في كلمات الشيخ كديور غير واقعية. ويمكن إثبات ذلك من خلال الرجوع إلى النصوص الدينية، بشرط أن تكون شاملة وغير انتقائية.
ويبدو أنه لو تعمق في النصوص الدينية المعتبرة، ودقق في فلسفة الإمامة، لما اضطر إلى الوقوع في المغالطات، والهبوط بمستوى التعاليم الدينية، وخاصة ما كان منها مختصاً بتعريف الإمام؛ ليتم بيان مفهوم وموقع علم الإمام وعصمته بشكل أوضح وأدق.
____________________
(*) باحث في علم الكلام الإسلامي.