هل العلمانية هي البديل ؟
بعد تجربة الإسلاميين في السياسة والسلطة هل العلمانية هي البديل ؟
بداية كي نقيم أي تجربة لابد لنا من قراءتها ضمن ظروفها المحيطة زمانيا وضمن جغرافيتها مكانيا والتحديات الداخلية والخارجية ، فاستلام الإخوان المسلمين للحكم في مصر لم يتجاوز العام وجاؤوا لحمل إرث النظام السابق بكل فساده وأبجدياته .
وعادة في الثورات التحول والتغيير للأفضل يحتاج التالي :
١- رؤية حول مشروع الدولة وآليات التطبيق ضمن خطة استراتيجية ثاقبة ،
٢- ولوضع الرؤيك لابد أن يكون لديهم إحاطة بالميدان سواء الاجتماعي وماهيته وتركيبته أو السياسي وخارطة طريق الأحزاب والسلطات والتغيير المطلوب .
٣-الخروج من عقل الجماعة والحزب إلى عقل الدولة الجامعة لكل المكونات .
وهذا يتطلب تجربة في الساحة السياسية وتجربة الدولة طويلة ممارسة وتنظيرا ، تجربة في الفضاء الحر وليس في سراديب السجن والمجتمع وفي سراديب العمل السري .
٤- وقت زمني طويل ومرحلي وتدريجي ، كي يستطيع التخلص من مراكمات الفساد للنظام السابق من خلال تخلصه من كل توابعه ، وكي يعيد تأسيس بنية الدولة على أساس سليم مستفيدا من أخطاء النظام السابق ومستلهما من تجارب الآخرين .
٥- منظومة قيم ومعايير ومبادئ قادرة على الصمود والمواجهة لكل أنواع الضغوط ، كون إعادة بناء نظام دولة على أسس صحيحة تتبنى المبادئ السلية سيكون له وقع كبير ورد فعل أكبر معاكس يحاول إفشاله وزعزعته.
فقيادة الدولة تحتاج رؤية حول الدولة والشعب ، رؤية تنهض وتقوم مسيرة من مضى وتعيد رسم خطى الدولة وفق أبجديات الدولة الحديثة التي تحقق العدالة .
وهي تختلف تماما عن قيادة الحزب والتيار والجماعة ، فلا تجربة الإخوان المسلمين في مصر يمكن تصنيفها بالفاشلة رغم كل الممارسات الخاطئة التي ارتكبها الإخوان في الحكم ، وهي ممارسات تأتي في سياقها غالبا الطبيعي نتيجة حداثة التجربة وحداثة ممارسة إخوان مصر تطلعاتهم وأمنياتهم في الفضاء الحر ، هذا فضلا عن الأدوات التي استخدمها الإخوان في مصر من أجل الوصول إلى السلطة ، وفي أغلبها هي أدوات لا تتناسب وهدف الاصلاح كون أغلبها فاسد .
ولا تجربة إخوان تركيا يمكن الاتكاء عليها كتجربة ناجحة نتيجة ازدواجية المعايير والقيم التي ينتهجها أردوغان وأخواته وأدواته ، ونتيجة تلوث أياديهم بدماء السوريين والعراقيين والفلسطينيين من خلال دعمهم للجماعات التكفيرية وعلاقاتهم مع الكيان الصهيوني رغم مواقفهم العلنية ضده .
هذا فضلا عن أن إخوان تركيا لا يشبهون الإخوان في العالم العربي ، لجنوحهم الحاد في الآونة الأخيرة نحو فكرة أظهرت حقيقة تحركاتهم وتطلعاتهم وطموحهم ، وهي فكرة إحياء العثمانية بثوب جديد لذلك أطلق عليهم العثمانيون الجدد .
والتجربة الإيرانية في الحكم هي تجربه أيضا لها ما لها وعليها ما عليها ، لكنها إلى الآن تجربة صمدت في وجه أعتى الرياح وتطورت رغم كل العقبات ، وحجزت لها موقعا متقدما في خريطة العالم العربي والإسلامي ، ولكن مازالت تقف أمام عقبات داخلية أهمها الخوف من العسكرة ، وهذه العقبات هي وليدة تحديات خارجية تحاول زعزعة الداخل لتقويض النظام مما ينعكس على الداخل أمنيا واقتصاديا .
لكنها التجربة الأكثر ثباتا ونجاحا إلى الآن في الحكم من قبل الإسلاميين.
وكوننا نتكلم عن التجربة في العالم العربي بعد ثورات ما سمي بالربيع العربي فإن سؤالا يطرح نفسه من معطيات تلك التجارب :
هل يعني ذلك ترسيخ قناعة في ذهنية الشعوب مفادها الحاجة إلى العلمانية كحل بديل يحقق رغبات الاصلاح والعدالة للشعوب ؟
إن إشكالية الفصل بين الديني والسياسي إشكالية منهجية في العقل العربي ، الذي هيمنت على جزء كبير من نخبه ومفكريه العلمانية التي لها ما لها وعليها ما عليها .
الاشكالية المنهجية تكمن في عملية ترقيع الأفكار في الثقافة المكونة للهوية ، هذا الترقيع حتما يولد جنينا مشوها ومعاقا بنيويا .
مما ينتج عنه التخرصات التي نراها سلوكيا لدى أغلب العلمانييين العرب ، الذين لا أراهم إلى الآن قدموا مشروعا للدولة غير التطرف غالبا في مواجهة المختلفين معهم من الدينيين إن صح التعبير ، خاصة في الخليج.
وكوني هنا أنتقدهم لا يعني أنني في صدد تقييم للعلمانية كنظرية من حيث المنهج ، لكنني أحاول أن أقوم بمسح ميداني للمنهج في آلية تبني الأفكار في عقول النخب والسياسيين في العالم العربي.
فنحن وقعنا بين أمرين :
– الاستلاب ومن ثم الانبهار بنفسية منهزمة.
– التقوقع على الذات والفوبيا بحجة الحفاظ على الهوية.
أي فكرة لها وعاء نمت فيه وترعرعت ، العلمانية هي نتاج مسيرة طويلة في الصراعات الفلسفية التي حدثت بعد النهضة والتنوير في أوروبا واللتان كانتا نتيجة الانقلاب على الكهنوت والاختزال الكنسي للدين وتحويله لسلطة على رقاب الناس.
نمت وترعرعت بعد مخاضات فكرية وعقلية والسير في تجارب ميدانية اجتماعية وسياسية تدرجت في إبعاد الدين الذي مثلته الكنيسة عن الحياة، بدأت بعزلها عن السلطة وانتهت ليكون الدين مجرد طقوس بسيطة فردية تؤدى في الكنيسة يوما في الاسبوع .
حيث مارست الكنيسة باسم الدين استبدادا سلطويا راكمت فيه الثروة، وقتلت المختلف وقمعت الحريات ، وشرعنت استبداد السلطة وكله باسم الدين .
فلكي نستطيع واقعا أن ننهض بواقعنا من وجهة نظري هو ليس باستيراد تلك الافكار التي نجحت في مجتمعات نتيجة ظروفها السياسية وتراكماتها العقلية والعملية نجاحا ظاهريا في ابعاده المادية، مع وجود خلل كبير في أبعاده الأخرى ، بل بالاستفادة من تلك التجربة البشرية العريقة ومحاولة المراجعة وإعادة النظر في القراءة الدينية وتصويبها لمعرفة ماذا نريد من الدين ؟
ما هي مساحات الاشتغال التي يجب أن يشغلها في حياتنا وما دور العقل فيه ؟
هل واقعا هناك شيء اسمه دين وسياسية؟؟
واقعا هناك سلطة دينية تستخدم السياسة بمعناها الحالي وليس كما هي ، فكلمة لا اله الا الله هي عين السياسة ، لأنها إقرار برفض اي سلطة علينا لغير الله ، وهذا يترتب عليه رفض الاستبداد وأنظمته كلها ولكن لا على الطريقة السلفية التكفيرية وإنما على الطريقة الحضارية التي ترى الدين خالدا بحركيته ومرونته وأصيل بثواته التي تعتبر هيكله العظمي.
فإبعاد الدين هو تكريس للاستبداد بأشكال مختلفة ، لأن محورية الدين تكمن بكلمة ” لا” ، وهي تعني الرفض لكل أنواع الهيمنة خارج إرادة الله وفق قراءة عقلية معتدلة لهذه الإرادة التي مثلها الدين وشريعته.
فالأنظمة التي حكمت منطقتنا أنظمة لادينية لكنها مستبدة استغلت الدين لتخدير الشعوب وتعطيلهم عن مواجهتها ومحاسبتها.
وأما التوحش الجديد الذي ظهر حاملا راية الدين ، ومتكأ على فتاوى تكفيرية إقصائية ، فهذا يحتاج إلى إفراد دراسة خاصة به ومع ذلك لا يمكننا الحكم على الدين من خلال فئة ، لكننا يمكن أن نعتبر أنها فئة ظهرت نتيجة الدين السلطوي الذي كرس فهم الدين في تصورات الشعوب على أنه مجموعة من الطقوس والشعارات من جهة ، وأزاح دور العقل وأقصاه ليوطن للنصوص الحديثية دورا محوريا وفق منهج تخديري وتسليمي لا يقيم للقرآن أي مرجعية معرفية تغربل وتعيد النظر في النصوص الحديثية المختلفة معه ، بل حولت القرآن أيضا لأسفار يحملها قراء يجيدون تجويد الآيات وترتيلها بصوت شجي ، دون أن يدركوا عمقها وآفاقها وتطبيقاتها على أرض الواقع الإنساني وكيفية إدارتها لحياته الخاصة والاجتماعية ونظمها لأمره.
هي جماعات استلهمت منهجية الحكم من الأنظمة المستبدة بأشكال اختلف ظاهرها واتفق باطنها وأهدافها ، هي عبارة عن ولادات لأنظمة سلطوية أخرى لكن الفرق أن تلك الأنظمة تحالفت مع السلطة الدينية لتشرعن وجودها ، أما هذه فهي استخدمت الدين مباشرة لتتسلط به على رقاب الناس بعد فشل الأنظمة تلك وانغماسها في التآمر على الشعوب وانكشاف أمرها.
واستطاعت هذه الجماعات المنحرفة في ظل خواء روحي وتغييب عقلي متراكم للشعوب ، وفي ظل شعارات جاذبة لكنها خاوية في حقيقتها ، وفي ظل حالة يأس تعم فئات كبيرة من الشباب في الوطن العربي الذي يعاني من الفقر والبطالة والتهميش والظلم ، والفراغ ، والتغييب وغيره ، استطاعت أن تجذب إليها عدد كبير إما بالإغراء المالي أو بالاغراء الديني الشعاراتي الذي يربطهم بنعيم الآخرة ويخلصهم من شظف العيش في ظل منظومة دينية فكرية اعتاد عليها هؤلاء ، ربطتهم دوما بأن الدين لأجل الموت وليس لأجل الحياة ونظمها وتسيير الإنسان وفق نظام إلهي يقوده لحياة طيبة وآخرة سعيدة.
لذلك في ظل غياب شبه كلي لفهم عقلي معتدل لعلاقة الدين بالحياة والاستبداد السياسي بغطاءات إما علمانية أو دينية متشددة ، قد تكون بعض الحلول التي يمكن أن تعيد صناعة أنظمة أكثر خدمة لشعبها وأقل عمالة للخارج ضد داخلها تكمن في التالي :
– العمل الأهلي في منظمات اجتماعية، كونها تدمج الأفراد في المجتمع وتنمي انتماءهم له وللوطن لا للأنظمة ، وتكون لها سلطة أهلية تصوب العمل السياسي وتخفف من الاستبداد ، وتلعب دورا في صناعة الأنظمة وفق معايير تتناسب وبيئاتها الاجتماعية وهويتها وظروفها .
– انطلاق شبكة تنسيقية بين أصحاب الفكر المعتدل حقيقة من العلماء كافة ومن الأديان كافة والنخب تعمل على تظهير حقيقي لعلاقة الدين بالإنسان دون مجاملات ولا عصبيات ، آخذة بحسبانها قراءة الدين على ضوء الراهن وأحداثه ومستفيدة من التجارب البشرية في هذا الصدد ، لا تكون لها ارتباطات بالأنظمة حتى لا يكون حراكها مرهونا لتلك الأنظمة .
– وأما موضوع تنظيم الأحزاب فإلى الآن لم تستطع أغلب الأحزاب في الوطن العربي أن تخرج من عقلية الأنظمة الاستبدادية كليا ، فغالب الأحزاب لابد أن تصاب بمس الاستبداد ، كون البيئة السياسية تاريخيا شكلت العقل العربي بطريقة تسللت فكرة الإستبداد إلى بنيته العقلية والمفاهيمية وكرستها كسلوك تختلف شدته وضعفه من حزب إلى آخر ، لذلك نحتاج إعادة النظر في مفهوم الحزب في العقل العربي وإمكانية تغييره وإعادة هيكلياته وأهدافه على ضوء التجربة الغربية وغيرها من التجارب التي قدمت نجاحات بنسب مختلفة، وأهمها أن لا تكون الأحزاب جزء من السلطة بل صانعة لها وفق معايير تمنع التسلط وترتفع بمنسوب وعي الشعوب وحريتها والنهوض بالعقل والفهم ومعايير النهضة والابداع .
فالسلطة وسيلة لخدمة المجتمع لكنها تحولت لغاية فانهدم المجتمع لاجل تلك الغاية.
إن إشكالية أغلب التيارات الدينية اليوم هي في عقول رموزها المتحجرين غالبا، وإلا كان يمكن أن تتحول تلك التيارات لمؤسسات تصنع السلطة التي تخدم الناس وتحقق العدالة.
ورغم أن هذه التيارات تنتمي لمشارب دينية ، إلا أن أغلب ممارساتها في العمل الميداني التطبيقي هي ممارسات علمانية مختلطة مع فهم سلطوي .
فالأهداف نبيلة إصلاحية غالبا لكن آليات وأدوات تطبيقها فاسدة في الأعم الأغلب، فهي تعتمد غالبا على البراغماتية الغربية وعلى الطاعة السلطوية ، وعلى إقصاء المختلف و وتجميد الطاقات وعدم توزيع الأدوار واحتكار السلطة وعدم الإيمان بتدويرها ، إضافة لهامش الحرية الضيق الذي يحول الفرد المنتمي لها إما إلى شخص آلي ينفذ مخططات السلطة العليا دون نقاش بحجة الطاعة ، أو إلى منافق يبدي لأعضاء التيار ما لا يخفيه ليحقق مصالحه التي لا يمكن له تحقيقها إلا في إطار هذا التيار أو الحزب كونه يملك الجمهور .
والمشكلة أن من يأتي بشعارات إصلاحية لما هو موجود ، نراه تدريجيا ينغمس لأجل تمكين مشروعه ودخوله صندوق ضيق ، نجده يمارس بشكل أوبآخر نفس تلك الممارسات ويبرر لها كونه بات ضمن منظومتها .
بل يصل الأمر لممارسات شبيهة بممارسات الأنظمة السلطوية من خلال توزيع الوجاهات ، وتقريب الأشخاص وفق معايير شخصانية تعتمد على الوجاهات الاجتماعية ومدى قدرة توظيفها في المشاريع التي تطرح باسم الاسلام وضمن شعار في سبيل الله ، وواقعها في سبيل كل شيء إلا الله.
لذلك أغلب الأحزاب والتيارات الدينية رغم رفعها لشعارات دينية إلا أنها منغمسة بالعلمانية عملانيا وتطبيقيا وأداتيا ، سواء شعرت بذلك أو لم تشعر ، رغم أن الإسلام قدم لما منظومة أخلاقية كاملة لتكون في خدمة التطبيق النظري لنظرياته .
ومن هنا لا يمكنني بحجة الممارسات الخاطئة للاسلام أن أتبنى العلمانية ، ولا يمكنني أن أحارب العلمانية بإقصاء بل علي أن أقدم مشروعا تطبيقيا حقيقيا بديلا ، فعلمانية الغرب تدفعني لاعادة قراءة فهمي للدين ومساحات اشتغاله في الحياة وعلاقته بالدولة ومؤسساتها ومؤسسات المجتمع المدني ، لا أنها تجعلني اخلع هويتي وألبس ثوبها الذي لا ينفع أبدا مع قابليات هذه المجتمعات في العالم العربي وخاصة في الخليج تحت حجة ممارسة أغلب التيارات الاسلامية وتشددها باسم الدين وفشلها في السياسة وفي تحقيق العدالة والأمن .
فدور الدين في الحياة محوريا بل أصل لا ينفصل عنها، أراه دورا بناءا غير لاغيا للانسان وعقله بل الأصالة فيه للعقل القارئ للنص والمثور له ، فلا العقل دون نص يملك قدرة تامة ، ولا النص الديني دون عقل يمكنه أن ينفع الإنسان .
ومن هنا بات لزاما على التيارات والأحزاب الدينية والشخصيات والنخب الفاعلة أن تعيد قراءة تجربتها على ضوء تطورات المنطقة الجديدة وإرادة إدارة التوحش ، حتى لا يتم اختطاف الدين من قبل مجموعات متطرفة ومتوحشة تعتمد على التكفير والإقصاء لكل مختلف وتحول العدو في ذهنية الشعوب من العدو الحقيقي إلى عدو وهمي ، وتلعب على الفروقات المذهبية والطائفية كوسيلة ناجعة في إدارة التوحش ، وتمكن مشروع الاستعمار بمزيد من الهيمنة وتصنع مفاهيم جديدة في بنية العقل العربي تستحضر من التراث المنحرف ما يمكن تحويله لحقيقة في راهننا ومستقبلنا ، تكمن خطورته في حرف مسار الأمة يراكم انحرافات الماضي ويشرعنها بل يكرسها كواقع لا يوجد غيره بديل ، فتصنع اسلاما مشوها وتدريجيا يصبح مرفرضا كونه ينافي ما فطر عليه الإنسان ، ومن ثم تدريجيا تصبح القناعة الشعبية للجماهير هي في استبعاد الدين عن الحياة كما حدث في العهد الكنسي.
هذه قراءة سريعة وأولية قد يتم تطويرها أكثر أو تنضيجها مع القادم من الأيام ، كون مسيرة الأحداث تتسارع وتتسارع على ضوئها المعطيات والأفكار .