يتخذ موضوع mالجنسn في مجتمعاتنا صيغةً خاصّة، فهو من المحرّمات الاجتماعية المقلقة، كما أنه من الحاجات الأساسية في حياة الإنسان، على صعد عدّة، ليس آخرها بقاء النوع البشري، وأحبّ هنا أن اُسجّل ـ كالعادة ـ نقاط أوّلية، نطلّ من خلالها على هذا الموضوع الشائك.
1 ـ ثمة اتجاهان في ساحتنا الإسلامية، يختلفان في تناولهما لهذا الموضوع:
الاتجاه الأول: ما أسمّيه الاتجاه الديني، وأقصد بهذه التسمية ذاك الاتجاه الذي يعتبر أن الصورة الحقيقية لموضوعة الجنس، يمكن أخذها من النص الديني، ومن ثم يكون هذا النصّ هو المرجع في تنظيم هذه الظاهرة وضبطها؛ لهذا نجد الحديث عن قوّة شهوة المرأة لولا الحياء، وعن عناصر مؤثرة في رفع التوتر الجنسي أو خفضه مستمداً من النص الديني، ومن الروايات بالخصوص.
الاتجاه الثاني: وأسمّيه هنا ـ دون أن أقصد التمييز السلبي بين العلم والدين ــ الاتجاه العلمي، وهذا الاتجاه يتخذ من العيادات النفسية والطب النفسي والعضوي، ودراسات فرويد و.. موادّ لدراسة هذه الظاهرة في النفس والاجتماع، وكل معلومة تتوفر له عبر هذا السبيل يعتبرها منطلقاً للتقدّم لمعرفة هذا الأمر؛ لذا فهو يعيب على الاتجاه الديني بساطته في تناول الموضوع، واعتباره الظاهرة الجنسية غير معقّدة، فيما يرى الاتجاه الديني في المقابل، أنّ كثيراً من المعطيات التي يقدّمها الاتجاه العلمي غير مؤكّدة.
2 ـ وربما تبعاً لاختلاف المنهج تختلف آليات التعامل مع mالجنسn في حياة الإنسان؛ فالاتجاه الديني يرى ـ خصوصاً في الوسط الإسلامي ـ أنّ السبيل الأفضل لمعالجة هذا الوضع هو الجمع بين تنفيس الاحتقان من جهة، والحدّ من العناصر الخارجية المحيطة من جهة أُخرى، فلم يكن في الإسلام رهبانية كما هي الحال في الديانة المسيحية؛ لقد كان الإسلام والفقه الإسلامي مهتميّن بهذا الموضوع يعيرانه أهمية غير عادية، ففي مقدّمات الزواج هناك تركيز على الجانب الغرائزي واحترام له، وكذلك الحال في أصل تشريع الزواج، بل وتعدّده، بل وتشريع الزواج المنقطع لدى بعض المذاهب الإسلامية على الأقلّ، وقد عرف الفقه مسألة عيوب الفسخ، وإذا راجعناها وجدنا الشؤون الجنسية حاضرةً بقوّة فيها، حتى أن أموراً كنوعية الطلاق من بائن ورجعي، ومسألة المهر و.. قد ربطت في بعض حالاتها بقضايا بحت جنسية، فمهر المدخول بها غير مهر غيرها، وطلاق غير المدخول بها بائن لا رجعي و..
طبعاً، نحن لا نعرف تمام حيثيات هذه الصورة التشريعية، لكن ما نعرفه أن موضوع mالجنسn حاضر بقوّة في الديانة الإسلامية، بوصفه ظاهرةً معترفاً بها غير منبوذة، بل راجحة، كما تؤكّده النصوص.
هذا على صعيد تنفيس الاحتقان، سيما ما يتعلّق بالزواج المنقطع الذي أزعج بعض المذاهب الإسلامية، فيما نراه صورةً ممتازة للإسلام في احترام الغرائز الحيوانية عند الإنسان.
3 ـ ولا أريد الاستطراد هنا، لكن أشير إلى نقطتين تتعلقان بزواج المتعة دون أن أدخل مجال البحث الفقهي:
الأولى: تكاد المذاهب الإسلامية جميعها تتفق على أنّ النبي 2 قد أباح المتعة للمسلمين في بعض الظروف، والشيء المؤكّد ـ حسب الظاهر ـ أن هذه الظروف ـ أو منها ـ ما كان في بعض الحروب التي ابتعد فيها الرجال المسلمون عن نسائهم فترةً طويلة، فرخّص لهم الرسول 2، وقد فهم بعض الفقهاء من المنع اللاحق ـ على تقدير وجود منع ـ نسخ هذا الحكم، فيما هناك احتمال ينبغي درسه بجدّية، وهو أن لا يكون المنع اللاحق نسخاً، بل إفادةً للتشريع الأولي، بحيث يكون تشريع الزواج المؤقت في صورة الاضطرار النوعي، ومعنى هذه الفرضية التي نتنزّل بها على حسب مفاهيم الاجتهاد السنّية، أن في تشريعات mالجنسn أحكاماً اضطرارية، الأمر الذي لا نجده حاضراً في الفتاوى الفقهية عادةً، أي أن الإسلام قد تصوّر حالةً اضطرارية في موضوع الجنس، ليست خاصّة بصورة الإكراه، كأن يوضع سلاح فوق رقبته، أو يرتكب الفاحشة، كما يصوّره دائماً الخطاب السائد، بل هناك حالات اضطرارية نوعية، ولعلّ الاضطرار لدى شريحة من الشباب اليوم في ظلّ ظروف الحياة الصعبة تفوق الاضطرار الذي عاناه المسلمون في غزوات الرسول 2، أفهل رخّص الرسول لتلك الحالة فقط أم أن المعيار كان هو الاضطرار النوعي؟
أعتقد أننا إذا لم نرد تبنّي نظرية ترخيص الزواج المنقطع، كما هي حال طائفة من المسلمين، فلا أقلّ من أن تكون النصوص سبيلاً لإعادة فهم فكرة الاضطرار في هذا الموضوع.
وحتى لو غضينا الطرف عن نصوص النكاح المنقطع في مناقشتنا لمن يرفضه، فإن قواعد الاضطرار والحرج ينبغي درسها بجدّية على هذا المحور، وكأن هناك حالة لدى بعض المشتغلين بالمجال الفقهي الإسلامي تجعلهم يأخذون بقواعد الحرج والضرر والاضطرار، لكن عندما تصل النوبة إلى قضايا الجنس لا نجدهم يتعاملون بإيجابية مع هذا الموضوع، بقدر تلك الإيجابية الموجودة في المواضيع الأخرى، ولعلّ السبب في ذلك يرجع إلى حساسية الأمر، لكنّ ذلك يستدعي جدية أكبر في التعامل لا تعامياً عن الموضوع الحرج نفسه.
الثانية: أفترض أنّ بعض الرافضين لمقولة الرخصة في مجال الأمر الجنسي، سيما النكاح المنقطع، أو أي صيغة تشبهه، ينطلقون في رفضهم أحياناً من فوضى الواقع في هذا الموضوع، وهي الفوضى التي تبعث أحياناً على القلق، بحيث تغدو هذه المنافذ الدينية لتنفيس الاحتقان أدوات يُدمَن عليها، فتخرج عن الطابع الاستثنائي الذي تقوم عليه بحسب تحليلها العقلاني، وربما ـ ولا نبتّ على المستوى الفقهي هنا ـ يستشفّ ذلك من بعض الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت ( والتي تستغرب بعض الشيء من إقدام متزوّجٍ بالدائم على الزواج المنقطع، فتعبّر بجملة: mما أنت وذاك، قد أغناك الله عنهاn على ما جاء في صحيحة علي بن يقطين (وسائل الشيعة 21: 22)، ومعنى ذلك أن المتعة ـ الزواج المؤقت ـ تشريع في حال عدم الغنى، نعم قد لا يكون حراماً في غير هذه الحال، لكنّه على المستوى المفاهيمي يظلّ تشريع الاستثناء؛ من هنا يتحفظ على فوضى التطبيق، وهي فوضى لا ينبغي أن تزيل أصل الحكم، بل تكون باعثاً على ضبطه.
وهناك في الوسط السنّي من يفسّر تحريم الخليفة الثاني عمر بن الخطاب للمتعة على أنه حكم ولائي حكومي سنّته فوضى تطبيق هذا التشريع، ومهما كانت هذه الفرضية، فهي تنبني على ضرورة ضبط فوضى تطبيق هذا الحكم، وأيّ حكم آخر، فإن هذا من نوع التعسّف في استخدام الحق.
على أية حال، نحن ندعو إلى دراسة الزواج المنقطع وأمثاله، لا بعقلية طائفية سجالية تاريخية، بل بعقلية واقعية اجتهادية تؤمن بالشريعة وتحترمها.
4 ـ الخط الثاني الذي عمل عليه الإسلام هو خطّ مواجهة الواقع المحيط، ففي الغريزة الجنسية هناك ضغط داخلي مفروض على الإنسان، يأتيه مع بلوغه سنّ النضج، من هنا، من الضروري ضبط الواقع الخارجي أيضاً؛ لأن التركيز على أن يضبط الإنسانُ نفسه في ظل انفلات اجتماعي يغدو أمراً محرجاً وقاسياً، من هنا تكامل الإسلام مع نفسه في هذا الموضوع، فمارس حثاً على ضبط النفس، وقدّم لنا في القرآن الكريم نماذج نقتدي بها، كما صار مع يوسف النبي %؛ حتى فضّل السجن على ارتكاب الفاحشة، وهو ليس أمراً بسيطاً على أرض الواقع، كما مارس الإسلام ـ من جهة ثانية ـ ضبطاً للواقع الاجتماعي، بتشريعه ـ ضمن الحدّ الممكن ـ للستر والحياء وضبط العلاقات و.. وهذا الأمر ذو تأثير جدلي على طرفي العلاقة، أي الرجل والمرأة، فإن الستر وإن كان تكليفاً على المرأة، لكنه التكليف الذي يحميها، كما تفوح رائحة هذه الحماية من النص القرآني نفسه حين يقول: >ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ< (الأحزاب: 59)، إذاً فهو كتكليف الإنسان بإقفال باب بيته كي يحمي نفسه، وهذه الحماية هي التي تضبط في الطرف الآخر دوافع العداء، إذاً فهي لا تمنع الطرف الآخر فحسب، بل تساعده على أن لا يندفع نحو ما لا نريده أن يقع فيه، وبهذا يكون الستر الشرعي من طرف الرجل والمرأة لما يجب عليهما ستره، ذا تأثير متبادل على الطرفين، لضبط الإيقاع الغريزي في المجتمع.
5 ـ أما الاتجاه العلمي، فنراه أقرب إلى تبرير مظاهر السلوك الإنساني الجنسي منه إلى التنديد به أحياناً، فالجنس السلبي عنده هو الجنس الذي يؤذي الآخرين، كالاغتصاب أو التحرّش أو … ومعنى ذلك أن لا سلبية في mالجنسn إلاّ ضمن الإطار الاجتماعي عندما يخرق حدود الحرية، أو ضمن الإطار الجسدي، عندما يؤذي الإنسان نفسه مادياً، وفي غير هذه الحال هناك توجيهات أخلاقية لا ترقى إلى إلزام قانوني.
ويميل السائد في الاتجاهات هذه إلى اعتبار كبت الغريزة الجنسية بمثابة الفزّاعة التي تلاحق أي تشريع أو قانون أو دين، ومعنى ذلك أنهم يتصوّرون أن حلّ متطلّبات الغريزة يكون بإباحية أو بتعبير أخفّ بحرية جنسية ضمن الإطار السالف، اعترافاً إما بأن الكبت الجنسي ذو ضرر أكبر من الحرية الجنسية، مع الاعتراف بالضرر فيها، أو أن الحرية الجنسية هي السبيل الصحّي الرئيس للتعامل مع الغريزة.
أ ـ كأن الإسلام يرى أن الغريزة الجنسية ليست بالتي تأخذ راحتها ووضعها الطبيعي في ظلّ الحرية الجنسية وما يرافقها من لا ضبط اجتماعي أو ضبط بسيط، بل كلّما أعطيت الحرية زاد طلبها، أي ضاعفت من قوّتها، كالنار التي تعطى حريتها في الهشيم، فمن يقول: افسحوا الحرية الجنسية ترتاح الغريزة ويخفّ طلبها يجافي في قوله هذا الواقع، فهل انخفضت متطلبات الغريزة في الغرب بعد الحرية المذكورة؟
ب ـ موضوع الكبت الجنسي يتصل ـ في تداعياته النفسية ـ بالعقل الجمعي وثوابت المجتمع، ففي ظلّ مجتمع يرى الشذوذ الجنسي حراماً تختلف ضغوطات الكبت عن مجتمع يراه حلالاً، لكن لا يتوفر للشاذ ـ ولو صدفةً ـ ما ينفس به احتقانه، ليس الكبت ظاهرة بحت نفسية، بل تعزز أو تقلّص من ضغطها النفسي تبعاً للثقافة الاجتماعية.
ج ـ لا شك أنّ للكبت آثاره السلبية التي تظهر في مواضع عدّة من الشخصية الإنسانية على شكل نتوءات، من هنا لا يصحّ ـ كما يحصل في بعض الأوساط الدينية ـ المبالغة في التحفظ، افتراضاً أنّ الاحتياط هنا جيد، فالاحتياط هنا ربما لا يكون ممكناً؛ لأن الأمر يدور بين محذورين؛ فيكون ـ وفق قواعد أصول الفقه ـ غير قابل لتطبيق مفهوم الاحتياط فيه، بمعنى أننا قد نظنّ أن المزيد من التحفظ ـ طبعاً غير الثابت دينياً بالدليل ـ يؤمّن حصانةً للإنسان، فيحسُن في حاله الاحتياط، لكن إذا اخذنا بعين الاعتبار بعض الآثار السلبية للكبت والقمع الجنسي سنجد أنفسنا بين محذورين، محذور الخوف من التورّط في المحرّم الديني المحتمل، ومحذور المردود السلبي للتحفظ الاجتماعي، ولو باسم الدين، ويجب هنا أن يساهم المختصّون جميعاً في هذا الأمر لرصد وموازنة المصالح والمفاسد، لا كما يحصل ـ غالباً ـ في الأوساط الدينية من سلوك سبيل التحفظ، كأنه لا أضرار فيه.
أولاً: تصفية الفتاوى والصورة الاجتماعية للدين ممّا ينشأ عن رغبة محضة في الاحتياط والتحفظ دون ثبوت دليل شرعي حاسم، فالحلال يجب الاهتمام به كالحرام، فليس الدين شريعة المحرّمات كما يعرفه أكثر الناس، بل هو شريعة الحلال والحرام، إلى جانب جوانبه الأخرى، فكثرة الاحتياط هنا قد تكون لها مردودات سلبية، وإن كانت بعض الاحتياطات القليلة مفيدةً.
ثانياً: في ظلّ انفجار المعلوماتية لم يعد صحيحاً حجب الثقافة الجنسية عن الناس، سيما الشباب، بل لا بد من توعية تجمع بين القيم الأخلاقية والدينية وبين المعطيات العلمية، فكثير وربما أكثر الأمراض الجنسية سببها نفسي، وفي عالمنا الإسلامي الغارق في صورة الجنس / العيب / الحرام / الحياء… يحجم المريض عن البوح ـ ولو للطبيب ـ بمشكلته، فتتضاعف، فيما تكون مشكلةً بسيطة؛ لذا من الضروري كسر هذا الرهاب النفسي هنا. وتوفير الغطاء الديني والأخلاقي لذلك.
ثالثاً: لا ينبغي الخلط دوماً بين الحبّ والجنس، وقد أشرت لهذا الأمر في دراسة أخرى (مجلّة النجاة، العدد: 11)، من هنا لا ينبغي قمع الحاجات العاطفية تحت ستار الحدّ من الرذيلة، بل لا بدّ من تفكير أكثر جديةً في هذا الموضوع، على ضوء الضوابط الإيمانية العليا.
>وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً<.