ـ القسم الأول ـ
الشيخ علي دهيني(*)
مقدمات تمهيدية
1ـ موضوع البحث
إن هذا البحث يتمحور حول أحكام بعض الشعائر الحسينية، دون الخوض في جميعها. ومن المعلوم أنها على قسمين: الأول: ما يسمّى بالشعائر المنصوصة، وهي التي ورد الحثّ عليها من المعصوم بعنوانها الخاص، كما في البكاء، وإنشاء الشعر، وإنشاده، وزيارة مقامات الأئمة^؛ والثاني: ما دل عليه دليل عامّ، من دون تحديده باسمه الخاصّ، أي ما دخل تحت ضابطة كلية، كما في مسيرات الحزن في أيام عاشوراء.
ونحن لم نتناول أحكام كافة الشعائر؛ بلحاظ أن بعضها منصوص عليه بالتحديد. وهذا لا إشكال فيه. نعم، قد يقع النقاش في حكمه، وبعض ما يتعلَّق به من تفاصيل. وأما غير المنصوص فلا مجال لعدّه وإحصائه، بل لا ضرورة لذلك؛ لأن الأحكام العامة سوف تظهر في بحث ضابطة الشعائر. وهذا ما سوف يأتي معنا لاحقاً. كما أن هذا البحث يتناول الجهة الفقهية للشعائر، دون غيرها من الجهات، كالجهة التاريخية، أو التحليلية.
2ـ ضرورة التوسع في الأبحاث العاشورائية
ويمكن لنا بيان هذه النقطة بما يلي:
أـ من المعلوم أن من جملة الأهداف التي جاء من أجلها الإسلام ـ بعد ربط الإنسان بالخالق ـ تقنين وتنظيم الحياة البشرية في كل أبعادها، على مستوى علاقة الإنسان بربه، وعلاقة الإنسان بنفسه، وعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وعلاقة الإنسان بالطبيعة.
ب ـ إذا كان الفقيه هو المتصدّي لبيان هذه التكاليف والقوانين في زمن غيبة الإمام المعصوم# فمن المفروض أن تكون أبحاثه وفتاواه شاملة لكل الأبعاد التي ذكرناها في المقدمة الأولى. ومن جملة هذه الأحكام ما يتعلق بالشعائر الحسينية التي يقوم بها أتباع المذهب الإمامي في شهرَيْ محرَّم وصفر من كل عام، بل يمكن القول: إنهم يقومون بها على مدار العام. وبعد الرجوع إلى المصنّفات القانونية والتشريعية لهذه الشعائر وجدنا أنها قليلة ومحدودة، وغير مستوعبة لكافّة الجوانب الأساسية، ما خلا الكثير من أجوبة الاستفتاءات في هذا المجال. إلا أنه من المعلوم أن الفتوى تفي بالجانب العملي، دون الجانب العلمي، القائم على بيان الأدلة، ومناقشة الإشكالات. كما أنه من المعلوم أن توالي الأزمان يولِّد العديد من المصاديق الجديدة. وقد أخذ بعضها جدلاً واسعاً في المجتمع، كالتطبير، والشبيه، وغيرهما.
ج ـ أرى أن من اللازم أن يتصدى الأفاضل من الطلبة والعلماء في الحوزة العلمية للكتابة في العناوين والمواضيع الجديدة، أو التي قلّما كتب فيها علماؤنا، حتى لا يحصل الفراغ العلمي في التنظير لأمثال هذه القضايا. كما أنه من واجبنا تغطية جوانب الحياة كافّة في المواضيع القانونية والتشريعية.
د ـ إن الأبحاث المتعلِّقة بعاشوراء غير محصورة في الجانب الفقهي القانوني، بل تشمل الجوانب الأخرى، من قبيل: الجانب التحقيقي في الأحداث المتعلقة بواقعة كربلاء، حيث إن من شأن التحقيق في هذه المواضيع الحفاظ على التراث الإسلامي نقياً، بعيداً عن أن تناله يد التزوير والتحريف، لا من خلال الحاقدين، ولا من خلال الغلاة.
كما ويضاف إلى هذا الجانب جانب آخر، وهو البحث التحليلي للمجتمع الإسلامي، في خصائصه وصفاته، وفي نقاط قوته وضعفه، والعوامل التي أدت إلى تكالب الكثيرين لمصلحة أهل الباطل والانحراف، وهجرانهم لأهل الحق، مع علمهم التامّ بذلك. يحصل كلّ هذا مع ادّعائهم أنّهم من أمة محمد|.
وهذه الأبحاث تهيّئ لنا الأرضية لإبعاد مجتمعنا عن هذه الأمراض والويلات التي فتكت بذاك المجتمع في زمن الإمام الحسين×، وما قبله حتماً؛ لأن الظاهرة الاجتماعية لا يمكن أن تكون وليدة لحظة من الزمن، بل هناك عوامل متراكمة أوصلت إلى هذه الحالة المأساوية.
وعليه فالبحث في عاشوراء يشمل الجوانب الثلاثة المتقدمة، وهي: التشريعي؛ والتحقيقي؛ والتحليلي.
والمطلوب الدخول في غمار هذه الجوانب كافّة.
3ـ ضرورة تأسيس مدارس خاصّة بالقراء
إذا كان المطلوب من الإنسان المؤمن الالتزام بوصايا رسول الله| فإن منها قوله: «…ولكن الله يحب عبداً إذا عمل عملاً أحكمه»([1]).
والذي يفهم من هذا الحديث أن المرتجى من المؤمن تسرية هذا التوجيه التنظيمي والإداري إلى كافة أعمال الإنسان وتصرفاته ومشاريعه وخططه، سواء منها الفردية أو الاجتماعية، العبادية أو العرفية. ولهذا نرى من الضروريّ في زماننا هذا تأسيس مدارس خاصّة تُعنى بشؤون القراء لمجالس العزاء؛ نظراً إلى الأهمّية التي يحتلها المجلس الحسيني في ثقافة أبناء هذا المذهب على مستوى الدعوة والإرشاد إلى الله تعالى، وعلى مستوى البيان الصحيح والسليم لثورة الإمام الحسين×.
ونرى أن الالتزام بهذه الدعوة يتطلب العمل في جهتين:
الأولى: إننا نعيش في مجتمعاتنا اليوم مشكلة القراء الذين لم يدرسوا في الحوزة العلمية، ولا يملكون المستوى العلمي الذي يؤهِّلهم ليكونوا في عداد خَدَمة القضية الحسينية خاصّة، والإسلامية عامة. وبالتالي فإن هؤلاء الذين يحملون النوايا الطاهرة والصادقة سوف يقعون في العديد من الأخطاء، سواء على مستوى نقل الأحداث العاشورائية أم على مستوى بثّ المفاهيم الدينية في العقيدة والشريعة والأخلاق، وهذا ما سيؤدي إلى تصغير قيمة الدعاة والمبلّغين في نظر أبناء المذهب، وفي نظر الآخرين الذين يجلسون ويستمعون إليها من أهل المذاهب الأخرى، أو الديانات الأخرى، أو من الذين يملكون ثقافة بعيدة عن قيم الدين، بل ويؤدي هذا إلى انعكاس المفاهيم الخاطئة عن الدين نفسه. وهذا ما حصل ويحصل، كما رأينا بحسب التجربة التبليغية التي نعيشها.
وأما الحلّ الذي نراه مناسباً للخروج من هذه المشكلة فهو تأسيس مدارس ومعاهد خاصة بتأهيل القراء في المجالات العلمية التي يحتاجها الخطيب، وهي تشمل: اللغة، العقيدة، الفقه، الأخلاق، التاريخ، الخطابة.
وبهذا يصبح القارئ ذا شخصية مستقلة، بحيث يتجاوز حالة التقليد الببغائي للقرّاء الكبار، كالذي كان يقلِّد الشيخ الكاشي في كلّ كلمة يقولها، حتى أنه ذات مرة نقل الشيخ حادثة تحكي عن أيام وجوده في النجف، فقام المقلِّد بنقلها كما هي دون تغيير، مع أنه لم يرَ النجف، ولا ينسجم عمره مع بعض تفاصيل الحادثة؛ أو كالذي يحاول إثارة العاطفة لدى الحضور من الموالين بالقول: إن اسم فاطمة له نقطة واحدة، واسم الحسن فيه نقطة واحدة، واسم الحسين فيه ثلاث نقاط، أما اسم زينب ففيه خمس نقاط، فما هي علاقة النقاط بالعاطفة وبالمصائب التي نزلت على زينب بنت أمير المؤمنين؟ وقد كان هذا محلاًّ للنقد الشديد من قبل بعض كبار الخطباء في إيران؛ أو كالذي يقول: إن مَنْ لم يمارس التطبير فسوف يأتي يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيِسٌ من رحمة الله تعالى.
الثانية: والعمل فيها يقع على عاتق هذه المدارس المقترح إنشاؤها، وهو إعداد متون خاصة بالمقتل وسائر ما يتعلَّق بكربلاء من أحداث، اعتماداً على المصادر التاريخية الأولية، كتاريخ الطبري، وروايات أهل البيت^، حتّى يتمكَّن المستمع من الإحاطة بحقيقة ما حصل، بعيداً عن بثّ بعض الأمور التي حكاها الشعراء بلسان الحال على أنها من الحقائق، أو بعض الأحداث التي لم تذكر في أيّ مصدر تاريخي.
ونحن وإنْ كنا نعترف بالفارق بين الرواية التاريخية والرواية التي يعتمدها الفقيه في عملية الاستنباط الفقهي، إلا أنّه من غير المنطقيّ الحديث عن أمور وقضايا على أنها حقائق مع عدم ذكرها في أيّ مصدر من مصادر التراث الإسلامي، ثم يُتعامل معها على أنها من الحقائق، وقد يُشكَّك في منكرها ورافضها، ويُنسب إليه ضعف الإيمان والولاء لأهل البيت^. وكأن المطلوب من الموالي الحقيقي لأهل البيت^ الأخذ بكل ما حواه التاريخ، بل بما لم يحوِه التاريخ، وإنما ظهر في أزمنة المتأخِّرين. ولا أدري من أين جاؤوا به قميصاً للمزايدة لا أكثر.
وبناءً على ما تقدَّم يفترض العمل لإعداد متون خاصّة وواضحة ومحقَّقة من قبل أهل الاختصاص في هذا الحقل العلمي.
4ـ الإحياء ومصاديقه
وفيها أمور:
أـ لقد وردت عدة روايات على لسان المعصومين^ ـ وهي في مقام الحث على إحياء أمرهم وتذاكر علومهم ـ بحيث قد يصل البعض إلى ادّعاء التواتر المعنوي لهذه المجموعة من الروايات. وهي تحمل لفظ الإحياء ومشتقاته اللغوية. ونحن نذكر بعضاً منها:
1ـ عن أبي عبد الله الصادق×، قال: «تجلسون وتتحدَّثون؟ قلتُ: نعم، قال: تلك المجالس أحبُّها، فأحيوا أمرنا، رحم الله من أحيا أمرنا…»([2]).
2ـ عن أبي جعفر× قال: «اجتمعوا وتذاكروا تحفّ بكم الملائكة، رحم الله من أحيا أمرنا»([3]).
3ـ عن أبي جعفر× أنه قال: «…وأن يتلاقوا في بيوتهم، فإنّ لقيا بعضهم بعضاً حياة لأمرنا، رحم الله من أحيا أمرنا…»([4]). وغيرها كثير.
ب ـ إن هذا الإحياء لأمرهم يصدق يقيناً على الأساليب والطرق التي تحدَّث بها أئمتنا، ونصّوا عليها نصاً خاصاً، من قبيل: رواية المصائب، وذكر علومهم، والتزام شريعتهم، وإنشاء الشعر وإنشاده بحقّهم، وزيارة مراقدهم، والبكاء على مصائبهم، والفرح في أعيادهم…
كما أن هذا الإحياء يصدق أيضاً على المصاديق المستحدثة تبعاً لتطور المجتمعات البشرية في أساليبها وطرق تواصلها. ولذا نجد أنه قد استجدّت العديد من الطرق التي يمكن أن تكون وسيلة وأسلوباً لإحياء أمرهم، ونشر علومهم وفضائلهم، والحثّ على التزام القيم الدينية كافّة، وهي الوسائل الجديدة، من قبيل: التلفاز، والراديو، والإنترنت، والأفلام، والمسلسلات، وأفلام الكارتون للأطفال، والحوارات، والمؤتمرات.
ج ـ يفترض بالمؤسسة الناجحة التي تملك مشروعاً تعمل لإقناع الآخرين به اعتماد هذه الأساليب كافة، حيث إن لكل إنسان مفتاحاً يؤثِّر فيه، ويدخل إلى قلبه وعقله. وليس من الصحيح اعتماد الأسلوب الواحد، أو الأساليب البدائية التقليدية؛ فإنه من الواضح أنه إذا كان البعض يتعاطف مع المجالس المعتادة في النوادي والحسينيات والمساجد فإن إنساناً آخر قد يتعاطف وينفتح قلبه على قيم عاشوراء أو قيم الدين عامة من خلال الوسائل الحديثة، كالتلفاز أو الإنترنت أو الأعمال المسرحية. ولهذا كله يمكن القول: إن على المؤسسات المعنية بالدعوة والإرشاد إلى الإسلام في العالم العمل لتأسيس ما يسمى بالمدينة الفنية، المعنية بالاهتمام بكافة النشاطات المسرحية والتمثيلية للكبار والصغار حول كربلاء، بل حول قيم الإسلام ومعارفه وعظمائه.
ويمكن أن يقول البعض في المقام: إن هذه التوجه نحو النشاط الفني، عبر الأفلام والمسرحيات، قد يتضمَّن الإساءة إلى أحد المعصومين، أو إلى فكرة وقيمة من قيم الدين، وبالتالي فسوف نقع في المحذور، ومعه تنتفي الفائدة والغاية المرجوّة من أمثال هذه الأعمال.
ويمكن الجواب: لماذا ينبغي أن نتوقَّع دائماً فشل المشاريع، وأنه لا يمكن القيام بالمخطَّط الفلاني أو غيره؟! بل المفروض علينا الإعداد والتخطيط أولاً، ثم التنفيذ الصحيح، من خلال الاعتماد على أصحاب الخبرات في المجالات كافة، وأما المحاذير فيمكن تجاوزها ببساطة، من خلال الاعتماد على تحقيق أهل الخبرة في المجال التاريخي مثلاً. كما يمكن عدم تشخيص شخصية المؤدِّي لدور المعصوم×، من خلال هالة من النور أو غيرها. وعليه فإن تجاوز بعض المحاذير التي يتوقف عندها البعض أمرٌ في غاية اليسر والبساطة.
كما لابدّ من الإشارة إلى نقطة مهمة في المقام، وهي أن عالم الإبداع لا ينحصر بالأفكار، بل يشمل عالم الأساليب والطرق والخطط والبرمجة التي يجب القيام بها في سبيل نشر قيم الإسلام في العالم. ومن باب المثال، لا الحصر، أقول: إنه عندما أُسيء إلى شخصية رسول الإسلام محمد| فإن حجم ما قمنا به هو الشجب والإدانة. وهذا ـ بكل صراحة ـ لا يوصل إلى نتيجة. فهل فكر أحدنا بالتخطيط للقيام بمشروع يبيّن عظمة وسمّو شخصية رسول الإسلام للعالم؟
د ـ أعتقد أنه من اللازم الحفاظ على كافة أشكال الإحياء الشعبية. ونرفض المقولة التي تروّج لفكرة حصر الثورة الحسينية وأشكال الإحياء بالنخب المثقَّفة، دون الامتداد الشعبي والجماهيري لها؛ وذلك لما ذكرناه قبل قليل، من أنّ لكلّ إنسان مفتاحاً يمكن من خلاله الدخول إلى قلبه وعقله. وهذه النماذج هي من قبيل: المسيرات، وإعداد الطعام، والمجالس العامة، وما شاكل. ولا ينبغي الغفلة عن أن الدليل الشرعي يشمل كل هذه الطرق التي ذكرت، سواء القديمة والمعهودة أم الجديدة؛ لصدق عنوان الإحياء لقيم الإسلام عليها شرعاً وعرفاً.
هـ ـ لا يمكن لأحد التذرُّع بعدم التأثير إيجاباً في الناس من خلال أسلوب أو طريقة معينة، بل المفروض التفكير والتخطيط لكلّ ما من شأنه إيصالنا إلى الهدف، والتأثير على عقول الآخرين. ولهذا نسأل: لماذا لا تؤسَّس الفضائيات الناطقة باللغة الأجنبية، بحيث نُسمِع صوتنا إلى شعوب أمريكا وأوروبا، بل إلى عموم شعوب الأرض؟ ألم نقرأ في كتاب الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾؟! ولماذا لا نقيم المؤتمرات مع كبار المفكرين في الغرب حول قضايا الدين، والإنسانية، والمظلومين، وغيرها من العناوين؟ ولماذا لا نخرج إلى مجتمعنا لمعالجة كل مظاهر وأسباب ابتعاد الشباب عن القيم الدينية؟
ولماذا؟ ولماذا؟ التي قد تمرّ معنا عشرات المرات في كثير من الأسئلة التي تطرح حول التخطيط والإعداد، ليكون الإسلام هو الدين الذي يخلّص البشرية من مشاكلها ومعاناتها، بل ليكون هو الأقوى في وجه الظالمين والمستبدّين، بل ليقدم السعادة والراحة والاطمئنان لشعوب الأرض. هذا هو مشروع الإمام المهدي#، فأين نحن منه؟
نعم، حتى لا نقع في محذور عدم الإنصاف نقول: إن شعلة الثورة الإسلامية في إيران، وعلى رأسها الإمام علي الخامنئي، لهي الأمل في هكذا مشاريع، إلا أن حجم التحديات تفرض على الجميع المشاركة في ذلك.
إني لا أرى أي مبّرر في عدم الالتزام بسيرة رسول الله| الذي كان يفعل كل هذا وزيادة، سوى هجر المجتمع، ليكون العلماء في وادٍ والمجتمع في وادٍ آخر. فمَنْ سيعمل لجعل العالِم خلاصاً لمشاكل المجتمع؟
5ـ المشاريع الإصلاحية حول أحداث عاشوراء، وما يتعلق بها من الشعائر، أو ما يُنسب إليها
وفي المقام أمور:
أـ من المعلوم أن من جملة الخطابات الأساسية التي أطلقها الإمام الحسين× في مقام بيان الهدف والعلة من هذا الخروج الثوري ضد يزيد بن معاوية هو ما ذكر فيه عنوان الإصلاح في أمة النبي محمد|.
وهذا الإصلاح في كل متعلَّقاته، من إصلاح الحاكم، وإصلاح المجتمع، كما إصلاح الفرد. وعليه فثورة الإمام هي ثورة إصلاحية تصحيحية.
ب ـ بناءً على ما تقدّم فإن اللازم علينا اعتماد هذا المنهج في كل جوانب الحياة، ومختلف العلوم التي نتداولها اليوم. وهذا هو المنهج القرآني في التمسُّك بالحقائق، وهجر الأباطيل، ولو دخلت في علوم شريفة.
ج ـ لقد قام العديد من علمائنا بتجارب إصلاحية في ما يتعلق ببعض الأحداث المنسوبة إلى التاريخ، مع عدم وجودها في مصنّف ولا أثر للمتقدِّمين من علماء التراث الإسلامي. ونحن نذكر بعض هذه المشاريع، مع عدم التعهُّد بإحصائها كاملة؛ حيث إن الهدف هو الإشارة، لا التتبُّع الكامل والشامل.
التجربة الأولى: هي التجربة التي قام بها الشيخ النوري في كتاب «اللؤلؤ والمرجان». وقد تعرَّض فيه لمقدمة؛ وفصلين؛ مع تنبيهات أربعة؛ وثلاثة فروع. وقد ركز في كتابه على نقاط عديدة، وهي:
1ـ لقد ذكر المصنِّف السبب الذي دعاه إلى القيام بتأليف هذا الكتاب، وهو شكوى عرضها عليه السيد محمد الهندي عن أحوال القرّاء، واعتمادهم على المبالغة، ونشر الأكاذيب، والروايات المجهولة، دون خوف أو ورع، بزعم أن الغاية هي إبكاء المؤمنين على الإمام الحسين×، ثم يشير العلامة إلى أن هذا البلاء قد عمّ وانتشر في العديد من البلدان.
2ـ أشار في الفصل الأول إلى الإخلاص، وشنَّ هجوماً على القرّاء (الموجبة الجزئية)، واعتبر مقامهم أخسّ من الكسبة العاديين، وأنهم يسعون وراء المال، بعيداً عن الإخلاص.
3ـ تعرض في الفصل الثاني إلى ذمّ الكذب، ومدح الصدق، ثم الكذب على الله ورسوله وسائر المعصومين^، وأقسام الكذب وأحكامه.
4ـ أما في التنبيهات فقد تعرَّض ـ في التنبيه الأول ـ إلى تكليف ناقل الأخبار، وسرد العديد من الأحداث، نقلاً عن كتاب (الإرشاد) للشيخ المفيد، و(اللهوف) لابن طاووس، ثم أثبت أن لا صحة لها.
وتعرض في التنبيه الثاني لأمور كاذبة صدرت من علماء كبار، كما أشار إلى ذلك في كتابه. وغير ذلك من التفاصيل.
ونحن لا نتبنّى ما ذكره العلامة النوري في كتابه، فإن هذا بحاجة إلى دراسة مستقلّة، إلا أن الهدف هو الإشارة إلى المحاولة الإصلاحية، مع غضّ النظر عن التقييم العلميّ العامّ لها، ومدى نجاحها.
التجربة الثانية: وهي التي قام بها السيد محسن الأمين في رسالة «التنزيه»، والتي تعّرض فيها إلى بعض المنكرات التي ترتكب في إحياء الشعائر الحسينية، وإلى نقاش عنيف كان قد دار بينه وبين الشيخ عبد الحسين صادق، صاحب كتاب «سيماء الصلحاء»، عبر التأليف والتصنيف، ولكن النقطة المركزية فيه هي محاولته إثبات حرمة التطبير وجرح الرأس، من خلال انطباق عنوان الضرر عليها. وقد ساق لذلك العديد من الأدلة؛ منها ما ذكر؛ ومنها أنها تؤدي إلى تشويه المذهب، وتعطي صورة سيئة عن ثورة الإمام الحسين×.
كما أشار إلى عمل الشبيه، الذي رضي به مشروطاً، ثم دافع عن نفسه أمام هجوم البعض عليه بأنه من المتمسكين بنهج الأئمة^، وأنه لم يخالفهم.
التجربة الثالثة: هي التي قام بها الشيخ محمد جواد الطبسي في كتابه «المقتل الحسيني المأثور». وقد أشار في مقدمته إلى أنه كتاب جديد من نوعه؛ لما فيه من عرض روائي لأحداث كربلاء على لسان المعصومين، من بدايته إلى نهايته.
ولكن نشير في المقام إلى عدة ملاحظات:
1ـ أشار المؤلِّف إلى أنه لا يتعهَّد باستيعاب كل الروايات في هذا المجال، فلعلّ بعض الروايات قد فاتته أو غابت عن ذهنه.
2ـ إن المنهج الذي يعتمده لهو منهج جديد في هذا الحقل المعرفي.
3ـ إن قيمة هذا المنهج هو حماية الأحداث العاشورائية من أن تطالها أيدي المزايدين، الذين أشار إليهم العلامة النوري في كتابه، والذين يمكن أن نجد مصداقاً لهم في كل زمان.
وهذه تجربة جيِّدة ومدعاة للتأمل والتحقيق، حيث أحتمل أنها تحمي كربلاء من التركيبات الوهمية التي أُلصقت بها.
6ـ لزوم توظيف الشعائر الحسينية لمصلحة المسلمين وقضاياهم المعاصرة
إن المعايير التي على أساسها تقيّم نقاط قوة الشعوب أو ضعفها عديدة؛ فمنها: القوة البشرية العددية، كما النشاط والحيوية، والحضور في ميدان المواجهة والتحدّي مع الآخرين، ولعل مجتمعاً أو أمة تفوق سائر الأمم بلحاظ القوة الشعبية في عددها ولكن ما قيمة الجسم الضخم الذي لا حراك فيه ولا نشاط ولا حيوية.
ولعل هذه المصيبة هي التي تصيب جسم المسلمين في هذا الزمان، حيث إن عددهم تجاوز المليار نسمة، ومع ذلك لا يوجد أيُّ صدى لكل حركتهم السياسية في هذا العالم، بل لعل بعض الدول تملك من الحضور السياسي في العالم ما يفوق المسلمين، مع كونها لا تصل في عددها السكاني إلى عُشْرهم.
ونحن في المقام لسنا في صدد التعرُّض للتنظير السياسي لمشروع حيوية الأمة، واستعادتها لعناصر قوتها، في ترابطها وتلاحمها، وفي مواجهة أعدائها، إلا أنه لابدّ من ذكر أمرين:
أـ عندما دعا الإمام الخميني إلى إقامة الشعائر السياسية في موسم الحج لم يكن يهدف قطعاً إلى شق وحدة المسلمين، بل إلى تقويتها؛ لأن هذا الموسم السنوي تحلم به الأمم؛ لعدم قدرتها على جمع هذا القدر الكبير من الناس في مكان وزمان واحد، إلا أن المسلمين بأنفسهم يبذلون أموالهم وأوقاتهم وراحتهم في سبيل الوصول إلى تلك البقعة المقدسة. وعليه فالمفروض استغلال هذا التواجد الكبير للقيام بعدد من الأنشطة السياسية، التي تعبِّر عن وحدة المسلمين وتكاتفهم مع بعضهم في مواجهة التحديات. كما ينبغي إعلان مواقف واضحة وصريحة من كل قضايا العالم الإسلامي بشكل موحّد. كما أنه من المفروض على السلطة الحاكمة في بلاد الحجاز الانتباه إلى هذا الموضوع، والسكوت عن كل التحركات السياسية التي لا تستهدف أمنها بالتأكيد، إنْ لم تكُنْ جزءاً من الدعوة إليها والمشاركة فيها.
ولو قام المسلمون في ما مضى بهذا المشروع لما بقي لإسرائيل، بل سائر أعدائنا، من تواجد في عالمنا الإسلامي.
ب ـ إذا كنا نطالب إدارة الحرمين بالقيام بهذه الخطوة، أو على الأقلّ السماح بذلك، فحريٌّ بنا نحن أيضاً أن نقوم بهذا المشروع، في إحيائنا لشعائر الإمام الحسين في اليوم العاشر من محرَّم، وفي يوم الأربعين، من كل عام في مدينة كربلاء، بحيث تتفضّل المرجعية الدينية بالحضور، وتخطب في هذه الجموع، باسم الملايين الذين يشاركون في تلك المراسم، وتكشف عن المواقف السياسية الواضحة لأبناء هذه الأمة في مواجهة الظالمين والمحتلين في بلاد العالم الإسلامي.
قاعدة وجوب تعظيم الشعائر أو حرمة هتكها
وهنا نقاط:
1ـ في معنى لفظ الشعائر لغة
قال الخليل في «العين»: والشِّعار ما استشعرت به من اللباس تحت الثياب، سمّي به لأنه يلي الجسد، دون ما سواه من اللباس… والشِّعار ما ينادي به القوم في الحرب ليعرف بعضهم بعضاً…، وتقول: أنت الشعار، دون الدثار، تصفه بالقرب والمودّة. وأشعر فلان قلبي همّاً أي ألبسه بالهمّ حتى جعله شعاراً للقلب. وشعرت بكذا، أشعُرُ، شعراً، لا يريدون به الشعر المبيّت، إنما معناه فطنت له، وعلمت به. ومنه: ليت شعري، أي علمي؛ وما يُشعرك، أي ما يدريك… وشعائر الله مناسك الحج، أي علاماته([5]).
وقال ابن دريد في «ترتيب جمهرة اللغة»: وشعائر الله المناسك، وهي أنصاب الحرم، واحدتها شعيرة([6]).
وقال في موضع آخر: أنصاب الحرم حجارة تنصب ليعرف حدوده بها([7]).
وقال ابن فارس في «معجم مقاييس اللغة»: ومشاعر الحج مواضع المناسك، سمِّيت بذلك لأنها معالم الحج، والشعيرة واحدة الشعائر، وهي أعلام الحج وأعماله([8]).
والمتحصِّل من هذه الكلمات أن الشعيرة كالشعار، فكما أن الشعار يدلّ على تحديد الجيش وتعيينه فكذلك الشعيرة هي علامة تدلّ على شيء ما، نحو: شعائر الحج، التي تدلّ على مواضع الحج وأحكامه، وكشعائر المسلمين في المساجد والمقابر ونحوها، فكلٌّ يشير إلى شيء ما، من حكم أو سلوك أو اتجاه. وعليه فالشعائر هي العلامات الدالّة على شيءٍ ما.
2ـ ما هي الشعائر في كلمات المفسرين والفقهاء؟
قال الشيخ الطوسي في «التبيان»: الشعيرة العلامة التي تشعر بها لما جعلت له. وأشعرت البدن إذا علمتها بما يُشعِر أنها هدي. وقال أيضاً: إن الشعائر علامات مناسك الحج كلّها، منها: رمي الجمار، والسعي بين الصفا والمروة، وغير ذلك… وقال مجاهد: هي البدن… وقيل: شعائر الله دين الله([9]).
وقال الطبري في «جامع البيان»: فالشعائر المعالم من ذلك. وإذا كان ذلك كذلك كان معنى الكلام لا تستحلّوا أيها الذين آمنوا معالم الله، فيدخل في ذلك معالم الله كلّها في مناسك الحج، من تحريم ما حرَّم الله إصابته فيها على المحرم، وتضييع ما نهى عن تضييعه فيها، وفي ما حرم من استحلال حرمات حرمه، وغير ذلك من حدوده، وفرائضه، وحلاله، وحرامه؛ لأن كلّ ذلك من معالمه وشعائره، التي جعلها أمارات بين الحق والباطل، يعلم بها حلاله وحرامه، وأمره ونهيه…؛ لأن الله نهى عن استحلال شعائره، ومعالم حدوده، وإحلالها، نهياً عامّاً من غير اختصاص شيء من ذلك دون شيء، فلم يُجِزْ لأحدٍ أن يوجه معنى ذلك إلى الخصوص، إلاّ بحجّة يجب التسليم لها. ولا حجة بذلك كذلك([10]).
وقال القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن»: وقال الحسن: دين الله كلّه؛ لقوله ذلك: ﴿وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾، أي دين الله. قلتُ: وهذا القول هو الراجح، الذي يقدَّم على غيره؛ لعمومه([11]).
وقال المراغي في «العناوين الفقهية»: إن الظاهر ممّا ذكره أهل اللغة والتفسير أن الشعائر محتملة لمعانٍ أربعة: أحدها: أن يراد علامات دين الله وطاعته عموماً، فيشمل سائر المحترمات. وهذا على كونه جمع الشعار، وهو العلامة، والإضافة الى الله يكتفى فيها بأدنى مناسبة. ثانيها: أن يراد به البدن خاصة. ثالثها: أن يراد مناسك الحج وأعماله جميعاً. رابعها: أن يراد به مواضع مناسكه ومعالمه([12]).
هذه لمحة عن الآراء المتعددة في تفسير هذا اللفظ. وسوف يأتي ذكر الرأي الصحيح، مع بيان الدليل.
3ـ الأدلة على وجوب تعظيم الشعائر أو حرمة هتكها
الأول: وهو الاستناد إلى القرآن الكريم. وفيه عدة آيات:
أـ ﴿وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ…﴾ (الحج: 30).
والاستدلال هنا يتوقف على عدة أمور، منها: بيان معنى حرمات الله. وفيها عدة أقوال:
1ـ أحكامه، وما لا يحلّ هتكه.
2ـ أعمال ومناسك الحج، يضاف إليها الكعبة، والحرم المكي، كما مال إلى هذا صاحب (الأمثل).
3ـ كل ما حرّم الله تعالى (دائرة المحرَّمات).
4ـ الأحكام الإلزامية، مع الأماكن المقدسة؛ لأن تعظيم هذه الحرمات يمثّل تعظيماً لله تعالى، كما ذهب إليه السيد فضل الله في تفسيره([13]).
5ـ الحرمات، المشعر الحرام، والبيت الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، كما ذكره الطبري([14]).
هذا ما ذكره علماء التفسير. أما أرباب اللغة فقد قال الخليل في العين: الحُرْمة ما لا يحل لك انتهاكه([15]).
وقال ابن دريد: وعظّمت الرجل تعظيماً إذا بجّلته وأكرمته([16]).
وبعد هذا نقول: إن الآية وإنْ تلت آيات تتحدث حول أحكام الحجّ، إلا أنه لا يمكن بقرينة ذلك الادعاء أن الحرمات هي أعمال الحج، دون غيرها، بل الصحيح أنه ما لم تكن هناك دلالة على الحصر بأعمال وأماكن الحج فالعبرة بعموم اللفظ. وعليه فالحرمات هي ما لا يحلّ انتهاكه، من تكليف، أو هتك حرمة مكان مقدَّس. فالآية تريد القول: مَنْ يحترم ويجلِّل الحرمات الإلهية فهذا خيرٌ له عند الله. وهذا صيغة استحباب، لا وجوب. وعليه فمع القول بعدم الواسطة بين الإهانة والتعظيم تثبت حرمة الإهانة، وبالتالي وجوب التعظيم؛ ومع القول بوجود واسطة بينهما تثبت حرمة الإهانة، مع عدم القول بوجوب التعظيم. وهذه قضية عرفية سيأتي مزيد من بيانها في نقاط لاحقة.
ب ـ ﴿وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ (الحج: 32).
وقد اختلف في المراد من شعائر الله على أقوال: 1ـ معالم الدين؛ 2ـ مناسك الحج؛ 3ـ البدن إذا أشعرت؛ 4ـ علامات مناسك الحجّ كلّها؛ 5ـ علامات الله وأدلته، وهي تضم الأحكام والتعاليم العامّة، وأوّل ما يلفت النظر مناسك الحج، التي تذكّر بالله. وعليه فالشعائر تشمل جميع الأعمال الدينية التي تذكِّر الإنسان بالله تعالى.
وما لم توجد قرينة على إرادة المعاني الخاصة التي ذكرت فالصحيح الأخذ بالمعنى العام لها، وهو الأخير. وهذا هو المراد منها لغةً. ثم إن الآية لا تحمل لسان الوجوب، بل الاستحباب. نعم، إذا دل دليل خاص على وجوب تعظيم أمرٍ ما فهو المتَّبع.
ج ـ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا...﴾ (المائدة: 2).
وقد وقع الخلاف هنا في معنى شعائر الله تعالى، كما مرّ سابقاً، فلا نعيد. إلا أن الصحيح القول بالمعنى العام الشامل لكل ما يدلّ على الله تعالى. هذا وقد ذكرت الآية عدة أحكام، وهي:
1ـ النهي عن هتك جملة من الأمور، وهي:
أـ شعائر الله، وهي كل ما يدلّ على الله، ومنه: مناسك الحج، فلا يجوز هتكها.
ب ـ الشهر الحرام، فلا يجوز هتكه بالقتال فيه.
ج ـ الهدي، وهو ما يساق في الحجّ من الغنم والبقر والإبل.
د ـ القلائد، وهي الهدي المقلَّد بنعل ونحوه، علامةً على أنه هدي للحج، لكي لا يتُعرَّض له.
هـ ـ كلّ مَنْ أمّ البيت الحرام.
2ـ إن الاصطياد بعد الإحلال جائزٌ؛ فإن الأمر عقيب الحظر يدلّ على الجواز، لا الوجوب.
وهناك آيات أخرى ذكرت لفظ الشعائر إلا أنها لا تفيدنا في مقام الاستدلال على وجوب التعظيم أو حرمة الهتك. وعليه فلا يوجد دليل قرآني يدلّ على وجوب تعظيم الشعائر، إلا مع القول بالملازمة بين حرمة الهتك ووجوب التعظيم. وسوف يأتي بيان هذا الأمر.
الثاني: السنّة. ولم نجد فيها رواية معتبرة تدلّ على حرمة إهانة المحترمات في الدين بالعنوان العام، كعنوان الشعائر. نعم، وردت روايات كثيرة تدلّ على حرمة إهانة بعض صغريات القاعدة، نحو: حرمة إهانة المؤمن. إلا أنّه ورد في الوسائل خبر معاوية، عن أبي عبد الله×، قال: ثم اشترِ هديك إنْ كان من البدن أو من البقر، وإلاّ فاجعله كبشاً سميناً فحلاً، فإنْ لم تجد كبشاً فحلاً فموجأً من الضأن، فإنْ لم تجد فتيساً، فإنْ لم تجِدْ فما تيسّر عليك، وعظِّم شعائر الله([17]).
وهذا الحديث موثَّق. وهو يدل على وجوب التعظيم، إلا أنه يمكن القول: إننا لا نحرز في المقام انعقاد الإطلاق لغير الهدي.
وإنْ أبى أحدٌ هذا القول، وذهب إلى الإطلاق لكافة الشعائر، فهو لا يدلّ على أزيد من التعظيم المقابل لعدم الإهانة، كما في غيره من الخطابات الشرعية، نحو: زُرْ أرحامك، أي تجب الزيارة بحدٍّ لا يصدق معه عنوان القطيعة، وهكذا في المقام، فالتعظيم واجب بما لا يصل معه عدمه إلى حدِّ الإهانة.
الثالث: ويشمل الإجماع، وسيرة المتشرِّعة، وحكم العقل. وقد قامت هذه الأدلة على حرمة الهتك، دون وجوب التعظيم.
والمتحصِّل من مجموع الأدلة أنه لم تدلّ على وجوب التعظيم لمطلق الشعائر. وهذه النتيجة قد ذكرها كلٌّ من: السيد الخوئي، والسيد الشهيد الصدر، في أبحاثهما الفقهية([18]).
وخلاصة القول في هذه النقطة: إن التعظيم على قسمين: أحدهما: هو التعظيم بنحو يؤدي إلى مراعاة مقتضى الحال عرفاً أو شرعاً؛ وثانيهما: المراعاة الزائدة عن الحدّ المتعارف.
وترك الأول يعتبر إهانة، حيث لا واسطة بينهما، دون ترك الثاني، حيث توجد بين التعظيم فيه والإهانة واسطة، وهي التعظيم بالمستوى الأول. فالحرمة تثبت لترك الأول، دون الثاني. وهذا التفصيل هو المنسجم مع الفهم العرفي لهذين المفهومين (التعظيم والإهانة)، وعلى العرف يدور حكمهما. وهذا الكلام وجدناه في «العناوين الفقهية»، للمراغي([19]).
إن كل ما تقدّم كان في مقام الحديث عن الأدلة حول تعظيم مطلق الشعائر.
4ـ أدلة إحياء أمر أهل البيت^
وهي جملة من الأحاديث ورد فيها الحث على إحياء أمرهم وتذاكر علومهم^. وتمثّل القسم الأول.
الحديث الأول: عن الإمام الصادق× قال: تجلسون وتتحدَّثون؟ قلت: نعم، قال: تلك المجالس أحبّها، فأحيوا أمرنا، رحم الله من أحيا أمرنا. يا فضيل، مَنْ ذَكَرنا أو ذُكرنا عنده فخرج من عينيه مثل جناح الذباب غفر الله له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر([20]).
الحديث الثاني: عن أبي جعفر× قال: رحم الله عبداً أحيا ذكرنا، قلتُ: ما إحياء ذكركم؟ قال: التلاقي والتذاكر عند أهل الثبات([21]).
الحديث الثالث: خبر خيثمة، عن أبي عبد الله×، قال: أبلغ موالينا السلام، وأوصِهِم بتقوى الله العظيم، وأن يعود غنيهم على فقيرهم، وقويهم على ضعيفهم، وأن يشهد حيّهم جنازة ميّتهم، وأن يتلاقوا في بيوتهم؛ فإن في لقاء بعضهم بعضاً حياة لأمرنا، ثم قال: رحم الله عبداً أحيا أمرنا([22]).
الحديث الرابع: خبر شعيب العقرقوفي قال: سمعت أبا عبد الله× يقول لأصحابه: اتقوا الله، وكونوا إخوة بررة، متحابّين في الله، متواصلين، متراحمين، تزاوروا، وتلاقوا، وتذاكروا أمرنا، وأحيوه([23]).
الحديث الخامس: عن أبي جعفر× قال: اجتمعوا، وتذاكروا، تحفُّ بكم الملائكة، رحم الله من أحيا أمرنا([24]).
وهذه الأحاديث وإنْ كانت ضعيفة السند، إلا أنها تفيد الوثوق بالصدور، وهي في مقام الحث على إحياء أمر أهل البيت^، ومنهم: الحسين وثورته.
القسم الثاني: وهو حديث عمارة قبور الأئمة^، ففي خبر واعظ أهل الحجاز، قال: أتيت أبا عبد الله×، فقلتُ له: ما لمن زار قبره ـ يعني أمير المؤمنين× ـ، وعمر تربته؟ فقال: يا أبا عامر، حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، الحسين بن علي، عن علي^، أن النبي| قال له: والله، لتقتلنَّ بأرض العراق، وتدفن بها، قلتُ: يا رسول الله، ما لمن زار قبورنا، وعمرها، وتعاهدها؟ فقال لي: يا أبا الحسن، إن الله جعل قبرك وقبور ولدك بقاعاً من بقاع الجنة، وعرصة من عرصاتها، وإن الله جعل قلوب نجباء من خلقه، وصفوة من عباده، تحنُّ إليكم، وتحتمل المذلّة والأذى فيكم، فيعمرون قبوركم، ويكثرون زيارتها؛ تقرُّباً منهم إلى الله، ومودّةً منهم لرسوله، أولئك يا علي المخصوصون بشفاعتي، والواردون حوضي، وهم زوَّاري غداً في الجنة. يا علي، من عمَّر قبوركم وتعاهدها فكأنما أعان سليمان بن داوود على بناء بيت المقدس، ومَنْ زار قبوركم عدل ذلك له ثواب سبعين حجة بعد حجّة الإسلام، وخرج من ذنوبه حتّى يرجع من زيارتكم كيوم ولدته أمه…([25]).
وهذا الحديث وإنْ دلَّ على عمران القبور وزيارتها، إلا أنه لا خصوصية لما ذكر، بل هو في مقام الحثّ على إحياء أمرهم. وبالتالي يدلّ على استحباب إحياء شعائرهم^. ولكنه ضعيف السند لا يركن إليه.
والمتحصِّل أن الأدلة التي دلت على استحباب تعظيم مطلق الشعائر، مع هذه الأدلة التي تحث على إحياء أمر أهل البيت، كافية للحكم باستحباب إحياء شعائر الإمام الحسين؛ فإنه مصداقٌ بارزٌ وظاهرٌ لهذا العنوان.
5ـ هل الشعائر توقيفية أو لا؟
إن توقيفية الشعائر بشكل مطلق، سواء كانت مرتبطة بعاشوراء أم لا، تعني أن أمر تحديد وتعيين العناوين وطرق وأساليب الإحياء إنما هي بيد المولى، ولا علاقة للعبد بها، بل وظيفته الالتزام والتطبيق لا أكثر.
وقد طرحت العديد من الإشكالات في المقام لإثبات القول بالتوقيفية. ونختصرها بما يلي:
الأول: إذا كانت الشعائر تشمل الأحكام الشرعية ـ تبعاً لما ذكرنا سابقاً ـ فلا بد أن يكون أمرها بيد المولى، ولا يُعقل إيكال تشريعها إلى الناس.
الثاني: قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللّهِ…﴾ (البقرة: 158).
وهذا يدل على أن الجعل بيد الله، لا الناس.
الثالث: لو كانت الشعائر بيد العرف لاتّسع الباب، ويلزم من ذلك إنشاء دين جديد، وفقاً لرغبات الناس وسلوكيّاتهم وأعرافهم.
الرابع: يلزم من ذلك أيضاً تحليل الحرام، حيث قد يتَّخذ البعض ما هو محرَّم من ضمن الشعائر.
والجواب عن كلّ ما ذكر باختصار:
أما الإشكال الأول فإنه لم يدْعُ أحدٌ أن تصبح التشريعات بيد الناس، بل إن الذين رفضوا مقولة التوقيفية قالوا: إن التشريع بيد المولى، إلا أن المولى حين يذكر الأحكام والتشريعات فإنه يبيّنها بطريقتين:
الأولى: أن يبيّن التشريع، ويذكر لنا بشكل تفصيليٍّ طريقة امتثاله وتطبيقه، مثل: تشريع الصلاة، والصوم، والحج، والخمس، والزكاة، وغيرها. وهنا لا يمكن للعبد القول بإمكان الصلاة تبعاً لما يريد من الأجزاء والشرائط، بل لا بد من الالتزام بما حدّده المولى. نعم، له أن يصلي كما يشاء ضمن الحدود الشرعية، فيصلي مثلاً في بيته، أو على السطح، أو في المسجد، جماعةً أو فرادى، وما شاكل هذا من أنحاء التطبيق، من دون التدخل في أصل الأجزاء والشرائط المرتبطة بالواجب.
الثانية: أن يحدّد المولى تكليفاً، من دون بيان طريقة تطبيقه. فهنا يوكل المولى أمر التطبيق إلى المكلَّف، وهو من أبناء العرف، فعندها يعمد المكلَّف إلى تطبيق الأمر الرباني تبعاً لما يفهمه العرف. فإذا قال المولى: أكرم العلماء فإنّ المكلَّف هو الذي يحدِّد كيفية الإكرام مثلاً، وهكذا. وهذا ما يسمّى بالموضوعات العرفية، في مقابل الموضوعات الاستنباطية، التي يكون أمرها بيد المشرِّع.
وأما الإشكال الثاني فإن الآية وإنْ دلت على أن الله حدّد بعضاً من الشعائر، إلا أنه من الواضح أنها ليست في مقام الحصر.
وأما الإشكال الثالث فما هي المشكلة في اتّساع الشعائر؟! فإن أمرها يدور بين حالتين: إما أن تكون موافقة للشريعة؛ أو مخالفة. فإنْ كانت مخالفة فهي ليست من الشعائر؛ وإن كانت موافقة فهذا هو المطلوب، وهو الإكثار من عناوين القرب من الله، ودلالة الناس على خالقهم، وهذا شيء مطلوب.
وأما الإشكال الرابع فلا يلزم من كون بعض الشعائر بيد المكلَّفين تحليل الحرام؛ لأن المكلَّف لا يُدخِل في الشعائر ما هو محرَّم؛ ولأن ما هو بيد المكلَّف إنما هو الموضوعات العرفية، دون الاستنباطية، وإلا لو سلَّمنا بهذا الإشكال لعمّ إلى غيرها من الموارد، ولسُدَّ باب الالتزام بالموضوعات العرفية التي جعلها المولى بيد المكلَّف. وهذا ما لا يلتزم به أحدٌ.
وعليه فلا إشكال في كون بعض الشعائر بيد المكلَّفين، ومنها: الشعائر الحسينية.
6ـ الموانع الطارئة على القاعدة
ينبغي التعرُّض لهذا الموضوع؛ لأنه يحدِّد لنا الدائرة التي يمكن من خلالها تفعيل الشعائر الحسينية في المجتمع تبعاً لكل زمان، بما فيه من الأعراف والأساليب والمناهج المستحدثة. وعليه نقول: إن هناك عدة عناوين ينبغي ملاحظتها في تعيين أمرٍ ما أو ظاهرةٍ معينة في كونها من الشعائر أو لا.
الأول: يجب أن لا يكون العمل المطلوب وسمه بعنوان الشعيرة حراماً؛ لأنه لا يمكن التقرُّب إلى الله تعالى بما هو محرَّم. وقد ذكر السيد الأمين في رسالته العديد من الأمور التي قام بها البعض مع انطباق عنوان الحرام عليها، فلا يمكن أن تكون هذه الأمور من الشعائر، كالكذب، والغناء، واستعمال الآلات المحرَّمة. نعم، يكفي أن تكون مباحة بالعنوان الأعمّ، أي أن لا تكون محرَّمة. ولا بأس لو كانت من العناوين المكروهة بذاتها، وهذا على وزان: لا تصلِّ في الحمام.
الثاني: لزوم الضرر والإضرار. إن هذا العنوان قد وقع محلاًّ للنقاش بين العلماء على مستوى المقدار المحرَّم من الإضرار بالنفس، وهل هو مطلق الضرر أو الضرر المعتد به؟ ونحن لا نبحث هذا العنوان هنا، بل نؤجِّله إلى ما سيأتي من أبحاث، ولكن نقول: إنْ انطبق عنوان الضرر والإضرار ـ تبعاً لكلٍّ من الرأيين ـ في أمرٍ ما فلا يمكن الحكم بشعيريّته.
الثالث: لزوم عنوان الهتك والاستهزاء بالمسلمين، أو بالمذهب، أو بعظمة الإمام الحسين وثورته. وعليه فهذا العنوان يعود أمره إلى العرف. ولذا قد يختلف من زمان لآخر، ومن مجتمع لآخر. وهذا العنوان سوف يأتي بحثه ضمن ما يسمّى بضرب الرؤوس. ومع انطباق هذا العنوان لا مجال للحكم بكون الموضوع المنطبق عليه من الشعائر.
وتبعاً لكل ما ذكر فالشعيرة هي العناوين التي جاء تحديدها في الروايات، كالبكاء، والزيارة، وذكر فضائلهم، ومناقبهم، أو ضرورة كون الشعيرة المستحدثة ممّا ينطبق عليها عنوان إحياء أمرهم، مع عدم تعنونها بمانع من الموانع التي ذكرت.
الشعيرة الأولى: البكاء
وفيها مطالب:
1ـ في جواز البكاء على الميت
وفيه نقاط:
1ـ 1ـ المصادر الإمامية التي تعرضت لجواز البكاء على الميت
ذكر الحرُّ العاملي في الوسائل، الجزء 3، باب جواز النوح والبكاء على الميت، ثلاثة أحاديث، وفيها ما يدل على الجواز. وكذلك ذكر في الجزء نفسه، باب 87، وهو جواز البكاء على الميت، والمصيبة، واستحبابه عند زيادة الحزن، وفيه ما يدلّ على الجواز بشكل لا لبس فيه، بل يدلّ بعضها على الاستحباب. وكذلك ذكر في الباب الذي يليه، وهو الباب 88، في استحباب البكاء لموت المؤمن، ثلاثة أحاديث، وفيها ما يدلّ على عنوان الباب.
أما النوري في المستدرك فذكر في الجزء الثاني، باب 58، وباب 74، ما يدل على جواز البكاء على الميت، بل واستحبابه عند زيادة الحزن.
1ـ 2ـ إطلالة على كلمات علماء الشيعة في هذا الموضوع
1ـ قال المحقق الحلي في المعتبر: البكاء جائز قبل الموت وبعده([26]).
2ـ وقال العلامة الحلي في تذكرة الفقهاء: البكاء جائز إجماعاً، وليس بمكروه قبل خروج الروح، ولا بعدها، عندنا([27]).
3ـ وقال الشيخ البحراني في الحدائق: الظاهر أنه لا خلاف نصاً وفتوى في جواز البكاء على الميت، قبل الدفن وبعده. ويدلّ على ذلك الأخبار المستفيضة([28]).
4ـ وقال النراقي في مستند الشيعة: جواز البكاء على الميت مجمع عليه، والنصوص به مستفيضة، وفي بعضها الأمر به عند شدة الوجد([29]).
5ـ وقال السيد اليزدي في العروة: يجوز البكاء على الميت، ولو كان مع رفع الصوت، وقد يكون راجحاً، كما إذا كان مسكِّناً للحزن وحرقة القلب، بشرط أن لا يكون منافياً للرضا بقضاء الله، ولا فرق بين الرحم وغيره([30]).
6ـ وقال السيد الخوئي في موسوعته ـ ونِعْم ما قال ـ: جواز البكاء على الميت. والوجه في ذلك أمور:
أـ الأصل. فإنّ كلّ ما لم يقُمْ دليلٌ على حرمته في الشريعة المقدسة فهو محكوم بالحلّية. ولم يدلنا دليل على حرمة البكاء على الميت.
ب ـ السيرة المستمرة المتصلة بزمان المعصومين^، ولم يردعوا عنها بوجه، فلو كان البكاء على الميت محرَّماً لانتشرت حرمته، ووصلت إلينا متواترةً. والخبر الذي يُنقل من أن الميت يعذَّب ببكاء أهله ضعيفٌ منافٍ لقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ (الإسراء: 15).
ج ـ الأخبار الواردة في أن النبي| بكى على إبراهيم، وقال: تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب. وبكى أيضاً على جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة. وكذلك بكت الصدّيقة الزهراء على رقية بنت رسول الله، وعلى أبيها. وبكى علي بن الحسين على شهداء الطفّ مدة مديدة([31]).
ونقول في المقام:
1ـ نحن نوافق تماماً على الأدلة التي ذكرها السيد الخوئي، إلّا أننا نضيف: إنه مع المراجعة والتتبُّع للمصادر التاريخية يظهر لنا أن النبي| قد بكى على الأموات في حياته في محطات كثيرة؛ فقد بكى على أبي طالب، والحمزة، وجعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة، ويوم موت ولده إبراهيم، وكذلك يوم زيارة قبر أمّه آمنة([32]).
2ـ لقد أشار علماؤنا إلى الروايات الواردة في جواز البكاء على الميت، كما أشرنا، ولكن الموسوعات الفقهية للقدماء أشارت إلى الموضوع بشكل مختصر جدّاً، مما يدل على أن الحكم في هذه المسألة كان من الواضحات في تلك الفترة الزمنية، كما أشار إليه الشيخ الطوسي في المبسوط([33])، وكذلك فعل ابن إدريس في السرائر([34]).
1ـ 3ـ كلمات علماء السنة
وفي المقام أمران:
1ـ الأحاديث التي ذكرها السنة في الموسوعات الحديثية حول موضوع البكاء على الميت، ونذكر منها ما يلي:
أـ ورد في مسند أحمد: عن النبي| قال: يعذّب الميت ببكاء أهله عليه([35]).
ب ـ ورد في مسند أحمد: …فقال (عمر): لا تبكوا علينا، مَنْ كان باكياً فليخرج، ألم تسمعوا ما قال رسول الله|؟! قال: يعذَّب الميت ببكاء أهله عليه. فمن أجل ذلك كان عبد الله لا يقرُّ أن يبكى عنده على هالك، من ولده ولا غيرهم([36]).
ج ـ ورد في موطأ مالك: …فقالت عائشة: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، أما إنه لم يكذب، ولكنّه نسي أو أخطأ، إنما مرَّ رسول الله| بيهودية يبكي عليها أهلها فقال: إنكم لتبكون عليها، وإنها لتعذَّب في قبرها([37]).
دـ ورد في الدر المنثور: …فسمع ابن عمر بكاءً، فقال: ألا تنهى هؤلاء عن البكاء؛ فإن رسول الله| قال: إن الميت يعذَّب ببكاء الحي عليه، فأتيت عائشة، فذكرت ذلك لها، فقالت: والله، إنك لتخبرني عن غير كاذب ولا متَّهم، ولكنّ السمع يخطئ، وفي القرآن ما يكفيكم: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾([38]).
هـ ـ جاء في صحيح البخاري: …أن النبي| قال: إن الميت ليعذَّب ببكاء الحيّ([39]).
وهناك العديد من المصادر الأخرى التي ذكرت هذا المضمون من الروايات، مثل: صحيح مسلم، ومصنّف ابن أبي شيبة، والسنن الكبرى للبيهقي، وصحيح ابن حبّان، وغيرها.
2ـ أما الفتوى عندهم في هذا الموضوع فقد ورد: يحرم البكاء على الميت برفع الصوت والصياح، عند المالكية، والحنفية. وقال الشافعية والحنابلة: إنه مباح([40]).
وجاء في المغني: أما البكاء بمجَّرده فلا يكره في حال. وقال الشافعي: يباح إلى أن تخرج الروح، ويكره بعد ذلك([41]).
ويمكن لنا التعليق بما يلي:
أولاً: لا يمكن تصديق الخبر الوارد في مصادر أهل السنة؛ وذلك لأن النقل متعارض بين ما ذكرته عائشة وما جاء على لسان ابن عمر.
ثانياً: لا ينبغي النظر في المقام إلى السند؛ إذ حتى لو كان الطريق معتبراً فمن المفروض ملاحظة متن الرواية.
ثالثاً: إنه لا مجال لإعمال قواعد الجمع العرفي بين هذه الروايات، بل هي متعارضة فيما بينها. كما أنها لا تنسجم مع الدليل العقلي القائم على عدالة الله، وكذا الدليل القرآني القطعيّ، من أن الإنسان لا يتحمّل وزر الآخرين، سواء في حياته أو بعد موته، فقد قال تعالى: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ (الإسراء: 15).
رابعاً: إن دليل السنة في قول المعصوم وفعله وتقريره فيه غنى وكفاية لإفادة التواتر في جواز وشرعية البكاء على الأموات، فقد ثبت من خلال القول والفعل والتقرير جواز ذلك، من خلال ما قاله وفعله النبي، ومن خلال قول وفعل أئمتنا^ في هذا المجال. وعليه فلا يُصغى إلى بعض الروايات المتعارضة التي ذكرت في مصادر أهل السنة.
2ـ في استحباب البكاء على الإمام الحسين بن علي وأهل بيته^
وفيه نقاط:
2ـ 1ـ في لمحة عن المصادر التي ذكرت استحباب البكاء لقتل الحسين×
أـ ذكر ابن قولويه في «كامل الزيارات» العديد من الأبواب التي تتعلق بالبكاء على الإمام الحسين×، نحو: بكاء جميع ما خلق الله على الحسين؛ بكاء الملائكة عليه؛ بكاء السماء والأرض عليه؛ ثواب مَنْ بكى عليه؛ بكاء علي بن الحسين على أبيه؛ الحسين قتيل العبرة لا يذكره مؤمن إلا بكى؛ ثواب مَنْ قال في الحسين شعراً فبكى وأبكى. وقد ذكر ذلك في الباب 26 إلى الباب 36 من كتابه. وهو من أقدم المصنّفات في هذا الموضوع([42]).
ب ـ ذكر الحرّ العاملي في «الوسائل» باباً حول استحباب البكاء لقتل الحسين×، وقد ذكر فيه عشرين حديثاً. كما يمكن مراجعة المصادر التي اعتمد عليها، وهي: كامل الزيارات؛ المحاسن؛ قرب الإسناد؛ ثواب الأعمال؛ تفسير القمي؛ أمالي الصدوق؛ عيون أخبار الرضا؛ علل الشرائع؛ الكافي؛ مصباح المتهجِّد([43]).
ج ـ ذكر المجلسي في «البحار» باباً حول ثواب البكاء على مصيبته ومصائب سائر الأئمة^، وقد ذكر فيه 38 حديثاً([44]).
دـ ذكر صاحب المستدرك باباً حول استحباب البكاء لقتل الحسين وما أصاب أهل البيت، خصوصاً يوم عاشوراء، وذكر فيه 13 حديثاً([45]).
2ـ 2ـ نظرية الاستحباب المطلق مع تحصيل الثواب المذكور في الروايات للبكاء على الإمام الحسين×
وهذه النظرية لا تحدّد الثواب المذكور في الروايات في إطار زمنيّ أو مكانيّ خاصّ، بل تشمل كافة الأزمنة والأمكنة، وأن مطلق البكاء على الإمام الحسين يرتّب الحصول على هذا الثواب المذكور.
وبناء على هذا نقول: لقد ورد في البكاء على الحسين× أخبار كثيرة، ادّعى البعض أنها تفيد التواتر. ولا يبعد ذلك مع ملاحظة كافة الأخبار الواردة على لسان النبي والأئمة^ في هذا الموضوع. وعليه فقد يقال: يكفينا النظر إلى مدلول الروايات، ولا حاجة لنا في البحث عن الأسانيد.
ولكن يمكن الجواب: إن التواتر القائم إنما يفيدنا في المعنى الجامع، وهو ما يسمى بالمدلول العام والجامع المستفاد من هذا التواتر. أما إذا أردنا ملاحظة المداليل الخاصّة في كلّ طائفة من هذه الروايات فلا بدّ لنا من ملاحظة السند، وهل يمكن الاعتماد عليه أو لا؟ ولا يمكن التمسُّك بالتواتر لإثبات المداليل الخاصة الموجودة في كل طائفة من الروايات؛ لأن التواتر إنما يثبت المعنى الجامع، لا المداليل الخاصة. وعليه فالأخبار على طوائف:
الطائفة الأولى: وهي ما ورد فيها أن البكاء على الحسين أو سائر الأئمة^ يوجب غفران الذنوب، وهي:
1ـ رواية فضيل بن يسار، عن أبي عبد الله×، قال: مَنْ ذكرنا عنده ففاضت عيناه، ولو مثل جناح الذباب، غفر الله ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر([46]).
وهذا الحديث صحيح سنداً. ودلالته على عنوان هذه الطائفة واضحة.
2ـ رواية الريان بن شبيب، عن الرضا×، أنه قال له: «يا بن شبيب، إنْ كنتَ باكياً لشيء فأبكِ للحسين بن علي×؛ فإنه ذبح كما يذبح الكبش، وقتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلاً، ما لهم في الأرض شبيهون، ولقد بكت السماوات السبع والأرضون لقتله، إلى أن قال: يا بن شبيب، إنْ بكيت على الحسين× حتى تصير دموعك على خديك غفر الله لك كلّ ذنب أذنبته، صغيراً كان أو كبيراً، قليلاً كان أو كثيراً…»([47]).
وقد وقع الكلام في وثاقة محمد بن علي بن ماجيلويه؛ فقد وثَّقه البعض، اعتماداً على أن الشيخ الصدوق قد ترضّى عليه، بعد البناء على أن الترضي على الراوي يفيد التوثيق، أو اعتماداً على حكم العلامة بصحة طريق الصدوق إلى إسماعيل بن رباح، وهو فيه([48]).
إلا أنه بعد البناء على عدم كون الترضي من طرق التوثيق، وعدم الاعتماد على توثيقات العلامة، لا مجال لتوثيقه. وأما دلالة الرواية ففي غاية الوضوح.
الطائفة الثانية: ما يفيد أن البكاء على الحسين× يوجب غفران الذنوب العظام:
1ـ رواية إبراهيم بن أبي محمود، قال: قال الرضا× ـ في حديث ـ: فعلى مثل الحسين فليبكِ الباكون؛ فإن البكاء عليه يحطّ الذنوب العظام([49]).
وهي صحيحة سنداً. ودلالتها على المراد إثباته لا غبار عليها.
الطائفة الثالثة: ما ورد من أن البكاء على الأئمة^ يمنع الباكي من دخول النار:
1ـ رواية فضل وفضالة، عن أبي عبد الله×، قال: مَنْ ذُكرنا عنده ففاضت عيناه حرَّم الله وجهه على النار([50]).
ويمكن توثيق حكيم بن داوود؛ بلحاظ كونه من مشايخ ابن قولويه في «كامل الزيارات» بلا واسطة. أما مسلمة، وهو سلمة بن الخطاب، فلا مجال لتوثيقه بعد البناء على عدم وثاقة المشايخ غير المباشرين في كامل الزيارات. وعليه فالرواية غير معتبرة، إلا أن دلالتها واضحة.
الطائفة الرابعة: ما ورد فيها أن البكاء عليه يوجب دخول الجنة:
1ـ رواية محمد بن مسلم، عن أبي جعفر×، قال: كان علي بن الحسين يقول: «أيّما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين، حتى تسيل على خدّيه، بوّأه الله بها غرفاً يسكنها أحقاباً؛ وأيّما مؤمن دمعت عيناه، حتى تسيل على خدّه، في ما مسّنا من الأذى من عدوّنا في الدنيا بوّأه الله مبوّأ صدق…»([51]).
والرواية صحيحة سنداً؛ وواضحة دلالة.
2ـ رواية محمد بن أبي عمارة، عن جعفر بن محمد×، قال: «مَنْ دمعت عيناه فينا دمعة؛ لدم سفك لنا، أو حق لنا نقصناه، أو عرض انتهك لنا، أو لأحد من شيعتنا، بوّأه الله تعالى بها في الجنة حقباً»([52]).
إلا أن هذا الحديث ضعيف السند؛ لجهالة أربعة من رواته. أما دلالته على المطلوب فواضحة.
3ـ رواية أبي هارون المكفوف، قال: قال أبو عبد الله× ـ في حديث ـ: «ومَنْ ذكر الحسين عنده فخرج من عينه الدموع مقدار جناح ذباب كان ثوابه على الله، ولم يرضَ له بدون الجنة»([53]).
وهذا الحديث ضعيفٌ؛ لجهالة أبي هارون المكفوف. كما أن هناك نقاشاً في صالح بن عقبة، فإنّ مَنْ وثقه اعتمد على أنه ورد في تفسير القمي وكامل الزيارات، لكنْ لا بالمباشرة. يضاف إلى ما ذكر أن الأصحاب عملوا برواياته، وكتابُه معتمدٌ، كما عن الصدوق. ولكن يقال: إن كل ما ذكر لا يفيد التوثيق. وهو الصحيح؛ لأننا لا نقول بوثاقة كلّ مَنْ ورد في تفسير القمي أو كامل الزيارات، بل نقول: إن تفسير القمي غير معتمد؛ لعدم الوثوق بالنسخة الواصلة إلينا. مع توثيق خصوص المشايخ المباشرين في كامل الزيارات. كما أن عمل الأصحاب، واعتماد الصدوق على رواياته، لا يكفي، وإلا فالمفروض العمل بكل روايات الصدوق أو غيره التي قالوا عنها: إنها معتمدة. وهذا ما لا يمكن المصير إليه، فإننا أبناء الدليل والحجة، ولسنا أبناء التبعية في هذا الأمر.
الطائفة الخامسة: ما ورد من أن البكاء عليهم يوجب حضور الأئمة^ عند موت الباكي:
1ـ رواية مسمع بن عبد الملك، قال: قال لي أبو عبد الله× ـ في حديث ـ: «أما تذكر ما صنع به ـ يعني الحسين× ـ؟ قلتُ: بلى، قال: أتجزع؟ قلت: إي والله، وأستعبر بذلك، حتّى يرى أهلي أثر ذلك عليّ، فأمتنع عن الطعام، حتى يستبين ذلك في وجهي، فقال: رحم الله دمعتك، أما إنك من الذين يعدّون من أهل الجزع لنا، والذين يفرحون لفرحنا، ويحزنون لحزننا، أما إنك سترى عند موتك حضور آبائي لك، ووصيّتهم ملك الموت بك، وما يلقونك به من البشارة أفضل، ولملك الموت أرقّ عليك وأشدّ رحمة لك من الأم الشفيقة على ولدها»([54]).
ولكن هذا الحديث غير معتمد سنداً؛ لضعف الأصم، وجهالة الثلاثة السابقين عليه. إلا أن دلالته واضحة.
الطائفة السادسة: ما ورد من أن البكاء عليه يُسعِد فاطمة سيدة نساء العالمين÷:
1ـ رواية أبي بصير، قال: كنت عند أبي عبد الله× أحدّثه، فدخل عليه ابنه، فقال له: مرحباً، وضمّه، وقبّله، وقال: «حقّر الله من حقّركم، وانتقم ممَّنْ وتركم، وخذل الله من خذلكم، ولعن الله من قتلكم… وقال: يا أبا بصير، إذا نظرت إلى ولد الحسين أتاني ما لا أملكه بما أتى إلى أبيهم وإليهم. يا أبا بصير، إن فاطمة لتبكيه وتشهق… يا أبا بصير، أما تحب أن تكون في مَنْ يسعد فاطمة÷…»([55]).
إلا أن هذا الحديث ضعيف؛ بعبد الله بن عبد الرحمن الأصم، حيث قال عنه النجاشي: ضعيفٌ غالٍ، ليس بشيء.
والمتحصِّل من هذه الروايات المتواترة في الجامع المشترك بينها هو استحباب البكاء على الإمام الحسين×. إلا أن المعتمد عليه من هذه الطوائف هو الأولى والثانية والرابعة، دون الثالثة والخامسة والسادسة. نعم، إذا آمنا بنظرية التسامح في أدلة السنن، التي قد تستفاد من أحاديث «مَنْ بلغ»، أمكن الاعتماد على الثلاثة الأخيرة. والنقاش في هذه النقطة واسع لا مجال لطرحه في هذا البحث.
وعليه فنحن نعتقد أن ما ثبت من هذه الطوائف وآثارها غير مقيَّد بزمن أو حالة معينة، بل هو مطلق لكل زمان ومكان. والدليل هو نفس المدلول في هذه الطوائف. وسيأتي مزيد تحقيق لهذه النقطة في ما يأتي.
وقفة أخيرة في النظرية الأولى: بكاء النبي| على الحسين في روايات أهل السنة
جاء في المستدرك على الصحيحين للحاكم، مسنداً عن أم الفضل بنت الحارث، أنها دخلت على رسول الله| فقالت: يا رسول الله، إني رأيت حلماً منكراً الليلة، قال: ما هو؟ قالت: إنه شديد، قال: ما هو؟ قالت: رأيت كأن قطعة من جسدك قطعت، ووضعت في حجري، فقال رسول الله|: رأيت خيراً، تلد فاطمة إن شاء الله غلاماً فيكون في حجرك، فولدت فاطمة الحسين، فكان في حجري، كما قال رسول الله|، فدخلت يوماً إلى رسول الله، فوضعته في حجره، ثم حانت منّي التفاتة فإذا عينا رسول الله| تهريقان من الدموع، قلتُ: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي ما لك؟ قال: أتاني جبرائيل× فأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا، فقلتُ: هذا؟ فقال: نعم، وأتاني بتربة من تربته حمراء.
ثم قال معقّباً: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه([56]).
2ـ 3ـ نظرية الدكتور البهبودي
وهي: عدم الإطلاق الأحوالي لبعض روايات البكاء على الحسين×.
ونذكر في المقام أمرين:
الأمر الأول: قال البهبودي في حاشيته على البحار: توهّم الجهال أن لهذه الأحاديث إطلاقاً يشمل كل ظرف وزمان؛ فأنكرها بعض أشد الإنكار، وقال: لو صحَّت هذه الأحاديث لأتى على بنيان المذهب وقواعده، ولأدّى إلى تعطيل الفرائض والأحكام، وترك الصلاة والصيام، كما نرى الفسّاق والفجّار يتَّكلون في ارتكاب السيئات والاقتحام في جرائمهم الشنيعة على ولاء الحسين× ومحبته والبكاء عليه، من دون أن ينتهوا عن ظلمهم وغيّهم واعتسافهم. فليست هذه الأحاديث إلا موضوعة من قبل الغلاة، ودسّهم في أخبار أهل البيت^؛ ترويجاً لمرامهم الفاسد ومسلكهم في أن ولاء أهل البيت إنما هو محبتهم، لا الدخول تحت سلطانهم وأمرهم ونهيهم، على ما هو الصحيح من معنى الولاية؛ وبعضهم الآخر، الذين يروون الحديث ولا يعقلون فيه ولا يتدبرون، أخذ بالإطلاق، وادّعى أنّ مَنْ بكى على الحسين أو أبكى أو تباكى فله الجنة، حتى في زماننا هذا وعصرنا.
والحق أن هذه الأحاديث، بين صحاح وحسان وضعاف، مستفيضة، بل متواترة لا تتطرق إليها يد الجرح والتأويل، ولكنها صدرت حينما كان ذكر الحسين× والبكاء عليه وزيارته ورثاؤه وإنشاد الشعر فيه إنكاراً للمنكر، ومجاهدة في ذات الله، ومحاربة مع أعداء الله. فمَنْ كان يبكي على الحسين، أو يرثيه، أو يزوره، في ذلك الظرف لم يكن فعله ذلك حسرة وعزاء وتسلية فقط، بل محاربة لأعداء الدين وجهاداً في سبيل الله. وأما في زمان لا محاربة بين أهل البيت وأعدائهم، كزماننا هذا، فلا يصدق على ذكر الحسين والبكاء عليه عنوان الجهاد([57]).
الأمر الثاني: يرِد على ما قاله البهبودي: أـ إن محط نظر البهبودي هو أمثال الرواية الواردة في تفسير علي بن إبراهيم القمي: عن الإمام الصادق× قال: مَنْ ذكرنا أو ذكرنا عنده فخرج من عينيه دمع مثل جناح البعوضة غفر الله له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر، أو كصحيحة محمد بن مسلم، عن الإمام الباقر×، قال: كان علي بن الحسين يقول: أيّما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين حتى تسيل على خديه بوّأه الله بها غرفاً يسكنها أحقاباً؛ وأيّما مؤمن دمعت عيناه حتى تسيل على خدّه في ما مسَّنا من الأذى من عدوّنا في الدنيا بوّأه الله مبوّأ صدق…
ب ـ اعتبر البهبودي أن هذه الروايات وأمثالها، التي تبيّن الثواب الكبير، تشير إلى زمان خاصّ، وهو الزمن الذي يكون فيه ذكر الحسين والبكاء عليه جهاداً في سبيل الله، ومواجهة للأعداء، وليس كهذا الزمن، حيث إن ذكره والبكاء عليه لا ينطبق عليه عنوان المواجهة مع الأعداء والظالمين.
ج ـ من المعروف تاريخيّاً أنّ هذه الروايات قد صدرت في زمن الدولة الأموية، ثم العباسية، تبعاً لكل إمام، ولكن لا يمكن المصير إلى التفسير الذي ذكره البهبودي ما لم يُبْرِز تفسيراً واضحاً للمستند الذي دعاه إلى تبنّي هذا الرأي، فإن علماء التفسير القرآني والأصول في الفقه الإسلامي ذكروا أن المورد لا يخصِّص الوارد. وهذا شيء واضح. نعم، إنْ وجدت قرائن معيَّنة وأدلة واضحة في المراد من الحديث فنحن مع تلك القرائن، وإلا فالمحكَّم هو هذه القاعدة الأصولية.
د ـ لابدّ من الرجوع إلى روايات البكاء لنرى هل تحمل في ألسنتها ما يدل على نظرية البهبودي أو أن لسانها آبٍ عن ذلك؟ وبعد الرجوع إليها وجدنا أنها مطلقة أولاً بلحاظ الزمان، وهي ترتِّب الثواب على دمع العين والبكاء عليه وما شاكل، وليس فيها أية إشارة إلى ما ذكره.
هـ ـ بما أن الروايات لا تحمل في متنها ما يدلّ على تفسير ورأي البهبودي نحتمل أن الذي دعاه إلى التمسُّك بهذا التفسير لهذا القسم من الرويات هو عدم تعقُّل هذا المستوى من الثواب لهذا الفعل البسيط، الذي لا يحتاج إلى جهد وبذل ونشاط.
و ـ لا ملازمة بين البكاء على الحسين في زمن بني أمية أو بني العباس وبين المواجهة معهم؛ لأن الكثير من الذين كانوا يبكون الحسين إنما كانوا يبكونه سرّاً، أو في أماكن خاصّة بأبناء الطائفة، بل إن أغلبهم لم يفعل ذلك أمام السلطان وأتباعه.
ز ـ إن النظرية التي أفادها البهبودي يمكن اللجوء إليها لو وجدنا في بعض النصوص أن الإمام يقول فيها لأتباعه مثلاً ـ: اخرج إلى السوق أو إلى أي تجمُّع عام، وابكِ الحسين×، ليراك الناس أو أتباع السلطان، ولك بكل دمعة أو كلمة أو بيت من الشعر قصراً في الجنة، أو يغفر الله لك بكل بيت من الشعر جميع ذنوبك. فلو كان لسان بعض الروايات على هذا النحو لقلنا بالنظرية التي أفادها. ولكن لا يوجد أمثال هذه التعابير.
ح ـ إن الثواب الإلهي المقدَّم للعباد إما أن يكون في باب التفضّل؛ أو من باب الاستحقاق، على الخلاف في المسألة. فإن كان من باب التفضُّل فهو أمر بيد المولى يحدِّده كمّاً وكيفاً، وهو القادر الكريم المتفضّل؛ وإن كان من باب الاستحقاق فكلنا يعلم أن لا مطابقة أبداً بين الواجبات والمستحبّات وبين ثوابها، بل إن الثواب على أي عمل يزيد دائماً عن قيمة نفس العمل. والخلود في الجنة هو أكبرُ شاهد على ما نقول. بل لو فرضنا أن شاباً بلغ اليوم، وذهب غداً إلى ساحة الجهاد، فقاتل، وأبلى بلاءً حسناً، ثم استشهد، فأدخله الله الجنة، وأعطاه من ثوابها، وخلَّده فيها، فهل يوجد تناسب بين العمل وبين الثواب أم أن البهبودي لا يذعن لهذا المثال أيضاً، ولا أظنّه يفعل ذلك.
ط ـ إن القيام بعملية استقراء ـ ولو ناقصة ـ لثواب بعض الأعمال يدلُّنا بوضوح على أن الله تعالى قد يثيب العبد بهذا المستوى المذكور في روايات البكاء على الحسين× على أعمال قد تكون بسيطة. وسوف يأتي معنا في نقاش النظرية الثالثة مزيد تحقيق وبيان حول هذه الفكرة.
ي ـ إن ما ذكره النبي× لأمير المؤمنين× بعد معركة الخندق، من أن ضربته تعادل عمل الثقلين إلى يوم القيامة، لأكبر دليل على أن الموازين الإلهية في الإثابة تختلف عما هو سائد بين الناس، مع اعترافنا بعظمة الفعل، وخصوصية الأمير. ولا مجال لقياس العطاء الرباني على أفعال وصفات البشر.
2ـ 4ـ نظرية السيد هاشم معروف الحسني
وهي التي تعتبر بعض هذه الروايات موضوعة ومدسوسة. وهنا أمران:
الأمر الأول: وهو في بيان كلام السيد الحسني المذكور في كتابه (الموضوعات في الآثار والأخبار).
قال&: أقول ذلك في حين أني لا أستبعد بعض مرويات القصاصين والوعاظ وغير الموثوقين وإن لم تكن مستوفية للشروط المطلوبة في الراوي للرواية؛ إذ ليس كل ما يرويه غير الموثوق في دينه مكذوباً؛ لجواز أن يصدق الكاذب أحياناً، ولكنّ الذي أدَّعيه أنّ الأخذ بجميع مروياتهم، واعتبارها في مستوى الصحيح، ولو من حيث ترتيب الآثار عليها، كما هو المستفاد من أخبار «مَنْ بلغه»، مع العلم بأن أكثرها مكذوبة عليه، أو مبالغ فيها بنحوٍ لا يستسيغه العقل، ولا يقرّه منطق الشرائع والأديان، جعلها في هذا المستوى الذي يشجع الكذبة والمرتزقة من الوعّاظ على المتاجرة بالدين واستغلال المستضعفين، وفي الوقت ذاته ربما يخدّر السامع عن العمل، ويبعث في نفسه روح الاتّكال على الثواب الموعود به، عندما يسمع أن الدمعة التي لا تزيد عن جناح بعوضة إذا خرجت من عينه حزناً على ما أصاب أهل البيت^ يغفر الله له بسببها جميع ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر، كما جاء في رواية علي بن إبراهيم، عن الإمام جعفر بن محمد الصادق×…
لقد ألمحت بعض الآيات والنصوص عن الرسول والأئمة إلى أن الله سبحانه يضاعف الجزاء على الأعمال الصالحات، ولكنْ لم يرِدْ في آية من آيات الكتاب، ولا في حديث صحيح عن الرسول والأئمة^، أن عملاً واحداً من أعمال الخير ـ مهما كان نوعه ـ يغفر الذنوب جميعها، ولو كانت كزبد البحر وعدد الرمل والحصى، كما جاء في أحاديث القصّاصين والوعّاظ التي نسبوها إلى الرسول والأئمة الهداة الميامين. وهل يجوز على الرسول العظيم| أن يقول لابنته فاطمة سيدة النساء: اعملي يا فاطمة، فلن أغني عنك من الله شيئاً، ويقول في الوقت ذاته لمن حضر معه وقعة بدر من المسلمين: اعملوا ما شئتم، فإنّ الله قد غفر لكم؟ وهل يجوز ذلك على مَنْ قال: إن الحديث إذا لم يوافق العقل والكتاب فليس من أحاديثنا، وهو مدسوسٌ علينا…؟
إن الإسلام بعيدٌ عن السخف والخرافات بُعْدَ الخير عن الشرّ، والحق عن الباطل([58]).
الأمر الثاني: ذكر السيد الحسني عدة أدلة في مقام بيان نظريته، التي رفض فيها أن تكون هذه الروايات صادرة من المعصوم×، بل هي من فعل القصّاصين والكاذبين. ويمكن لنا التعليق على كلامه بما يلي:
أـ إن قول النبي| لفاطمة÷ لا يتناقض مع الروايات التي تدلّ على العديد من الأعمال الموجبة لغفران الذنوب، أو الموجبة لعودة العبد كمَنْ لا ذنب له، أو لعودته كيوم ولدته أمّه، وغيرها من التعابير، وإنما يتحقق التناقض لو كان الاتكال على البكاء وغيره من الأعمال البسيطة قد أخذ مساحة أوسع وأشمل من مساحة الأعمال والقيم الأساسية في الشريعة الإسلامية.
ب ـ نحن نوافقه تماماً على أن الإسلام بعيدٌ كلّ البعد عن الخرافات والسفائف، ولكن قد نختلف معه في كون بعض المصاديق من صغريات هذه الكبرى أم لا.
ج ـ يرد عليه العديد من الإشكالات التي ذكرناها على نظرية البهبودي، فلا نعيد.
د ـ إن زعمه عدم وجود حديث عن النبي أو الإمام يدلّ على غفران الذنوب بعمل واحد غير دقيق، بل بمراجعة الروايات نجد أنها ذكرت أن بعض الأعمال توجب غفران الذنوب، أو خروج العبد من الذنوب كيوم ولدته أمه.
ونحن نذكر العديد من الأحاديث في هذا المجال:
1ـ عن حمران بن أعين قال: زرتُ قبر الحسين بن علي’ فلما قدمت جاءني أبو جعفر×، فقال: أبشر يا حمران، فمَنْ زار قبور شهداء آل محمد، يريد الله بذلك وصلة نبيّه، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه([59]).
وهذا الحديث ضعيف السند؛ لجهالة عدد من رجاله، وهم الأربعة الأواخر قبل حمران بن أعين. إلا أن دلالته تنفع في المقام.
2ـ عن بكر بن محمد، عن أبي عبد الله×، قال: مَنْ قال حين يأخذ مضجعه ثلاث مرات: الحمد لله الذي علا فقهر، والحمد لله الذي بطن فخبر، والحمد لله الذي ملك فقدر، والحمد لله الذي يُحيي الموتى ويميت الأحياء وهو على كل شيء قدير، خرج من الذنوب كهيئة يوم ولدته أمه([60]).
وهذا الحديث صحيح سنداً. ودلالته لا غبار عليها على ما ندّعي.
3ـ عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله×، قال: الحاجّ على ثلاثة أصناف: صنف يُعتق من النار؛ وصنف يخرج من ذنوبه كهيئة يوم ولدته أمه؛ وصنف يُحفظ في أهله وماله، وهو أدنى ما يرجع به الحاج([61]).
وهذا الحديث صحيح السند. ودلالته على المطلوب واضحة.
4ـ روى صاحب الكشَّاف والثعلبي، في تفسير قوله تعالى: ﴿قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً﴾، بإسناده إلى جرير بن عبد الله البجلي، قال: قال رسول الله|: مَنْ مات على حب آل محمد مات شهيداً، ألا ومن مات على حبّ آل محمد مات مغفوراً له…، ألا ومن مات على حبّ آل محمد بشّره ملك الموت بالجنة([62]).
5ـ قال الصادق: من غسَّل ميتاً فستر وكتم خرج من الذنوب كيوم ولدته أمه([63]).
6ـ قال أبو جعفر× لجابر: يا جابر، مَنْ دخل عليه شهر رمضان، فصام نهاره، وقام ورداً من ليله، وحفظ فرجه ولسانه، وغضّ بصره، وكفَّ أذاه، خرج من الذنوب كيوم ولدته أمه. قال جابر: قلتُ له: جعلت فداك، ما أحسن هذا من حديث، قال: ما أشدّ هذا من شرط([64]).
7ـ قال رسول الله|: شهر رمضان شهر فرض الله عز وجل صيامه، فمَنْ صامه إيماناً واحتساباً خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه([65]).
8ـ قال رسول الله|: ومن فطّر فيه مؤمناً كان له بذلك عند الله عزّ وجلّ عتق رقبة، ومغفرة لذنوبه في ما مضى([66]).
9ـ قال رسول الله|: …ومَنْ زار قبوركم عدل ذلك ثواب سبعين حجة بعد حجة الإسلام، وخرج من ذنوبه حتّى يرجع من زيارتكم كيوم ولدته أمه، فأبشِرْ يا عليّ، وبشِّر أولياءك ومحبّيك من النعيم بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر…([67]).
هذا ما ذكرناه على عُجالة. ولستُ مبالغاً إذا قلتُ لقد وجدتُ العشرات، بل المئات، من الأحاديث التي تفرِّع ثواباً عظيماً على بعض الأعمال، وفيها من التعابير مثل: عاد كيوم ولدته أمه؛ تساقطت عنه الذنوب كيوم ولدته أمه؛ أما ذنوبك فقد غفرت لك، فاستأنف العمل؛ كان كيوم ولدته أمه صفراً من الذنوب، ولو اقترفها كبائر؛ محصت عنه ذنوبه كما يمحص الثوب في الماء، فلا يبقى عليه دنس؛ أو التائب من الذنب كمَنْ لا ذنب له.
نقطة أخيرة
ينبغي الالتفات إلى أن الحسني والبهبودي لا يقولان: إن البكاء على الإمام الحسين لا ثواب عليه، أو ليس مستحبّاً، بل يؤمن الحسني بعدم صدور هذا النوع من الروايات، وهو القسم الذي نفى صدوره. ونفى البهبودي أن يكون لهذه الروايات إطلاقٌ أحواليٌّ لحالة اطمئنان الشيعة، وعدم كون البكاء على الحسين مواجهة للظالم.
كما أن هناك نظرية عند بعض العرفاء، حيث يقول: إن عاشوراء هي محطة للفرح والسرور، وليست للحزن والبكاء؛ لأن فيها أعظم ملاحم الحبّ والعشق مع الله تعالى([68]).
ونعلّق باختصار: إنه إذا قصد معنى خاصّاً ينسجم مع ما تقدم من استحباب البكاء على الحسين× فلا مشكلة معه؛ وإن قصد هذا المعنى العرفي الذي يتبادر من الكلام فالحديث المتقدِّم كافٍ لردّ هذا الاتجاه. على أن النقاش مع العرفاء أمر بحاجة إلى دقّة في فهم مقاصدهم ومرادهم.
وقد تحصّل ممّا تقدم أن الصحيح هو النظرية الأولى في هذه الشعيرة.
الشعيرة الثانية: التباكي
وفيها مطالب:
1ـ ما هو المراد من لفظ (تباكى)؟
هناك عدة احتمالات في المقام:
أـ هو أن يُبكي المؤمنون بعضهم بعضاً، كما يفعل بعض الأولاد حين موت أبيهم أو أمّهم([69]).
ولكن يرِدُ عليه: إن هذا المعنى وإنْ صحّ في بعض المواد اللغوية، مثل: التعاون والتنافس والتضارب، بحيث يكون الإسناد إلى أكثر من طرف واحد، إلا أنه لا يصحّ في حال إسناد الفعل لطرف واحد، كما يظهر من ألسنة الروايات التي ذكرت التباكي، نحو: مَنْ أنشد في الحسين شعراً فتباكى فله الجنة.
ب ـ التظاهر بالبكاء أو إظهاره، باستشعار الحزن في القلب، ليظهر أثر ذلك على الوجه، لا على نحو الرياء. وأحتمل أن هذا المعنى هو المناسب، حيث إن مَنْ لم يستطع البكاء فبإمكانه الانتقال إلى أمر آخر، وهو التباكي. وهذا ليس أمراً غريباً، بلحاظ أن لبس السواد ـ مثلاً ـ هو لإظهار حالة الحزن عند الشخص والمجتمع. والتباكي من هذا القبيل.
ج ـ ذكر البعض احتمالات أخرى في المقام، وليس من داعٍ لذكرها؛ لأنها بعيدة عن المتبادر العرفي من هذه الكلمة([70]).
2ـ في كلام العلامة النوري في (اللؤلؤ والمرجان)
قال النوري: إن بعض قرّاء العزاء؛ ومن أجل رواج بضاعته، لم يشترط في هذه العبادة الإخلاص، بل جوّز فيها الرياء، وجعل ذلك من مختصّات سيد الشهداء، معتبراً أن الرياء يفسد كل طاعة إلا هذه… ومستنده في ذلك توهم ساذج أو تخيّل أن الإذن بالتباكي… يدل على ذلك، وإنّ تظاهر المرء بالبكاء والحزن على الحسين وإيهام الناس أنه يبكي كافٍ في الحصول على أجر البكاء. إنّ مَنْ يتصور ذلك أحمق وعديم الفهم، بل هو مفترٍ على الله ورسوله([71]).
ويمكن القول: يحتمل استناد الذين ذهبوا إلى هذا القول إلى أن التباكي في اللغة على وزن التفاعل، وهو في الغالب لا يكون إلا لإظهار صفة ليست موجودة، مثل: التجاهل، والتغافل، التمارض، التناسي.
ولكن يمكن الردّ على هؤلاء بالقول: لا يمكن المصير إلى هذا القول؛ لأنه يخالف ويتناقض مع بديهيات الدين الإسلامي. وآياتُ القرآن ونصوصُ السنة طافحةٌ بما يكفي لردّ هؤلاء الجهلة، فإن الرياء قسمٌ من الشرك، فكيف يمكن أن يقع مقرِّباً إلى الله تعالى؟! كما أن البكاء أو التباكي هو من المستحبّات. وعلى هذا سيكون أهمّ من كل الواجبات التعبُّدية التي يشترط فيها قصد القربة، كالصلاة والصوم والحج. كما أن لفظ التباكي لا يدلّ على ما ذكروه، بل المعنى الصحيح هو ما ذكرناه، من التظاهر بالبكاء بداعي الوصول إليه بنية القربة، لا بنية الرياء.
3ـ روايات التباكي
1ـ رواية أبي عمارة المنشد، عن أبي عبد الله×، قال: قال لي: يا أبا عمارة، أنشدني في الحسين×، قال: فأنشدته، فبكى، ثم أنشدته، فبكى، ثم أنشدته، فبكى، قال: فو الله ما زلت أنشده ويبكي حتى سمعت البكاء من الدار، فقال لي: يا أبا عمارة، مَنْ أنشد في الحسين× شعراً فأبكى خمسين فله الجنة، ومَنْ أنشد في الحسين شعراً فأبكى أربعين فله الجنة، ومَنْ أنشد في الحسين شعراً فأبكى ثلاثين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى عشرين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى عشرة فله الجنة، ومن أنشد في الحسين× شعراً فأبكى واحداً فله الجنة، ومَنْ أنشد في الحسين× شعراً فبكى فله الجنة، ومَنْ أنشد في الحسين شعراً فتباكى فله الجنة([72]).
والمناقشة هنا سندية؛ ودلالية.
أما سنداً فإن الحسن بن علي بن أبي عثمان ضعيف، قال عنه النجاشي: إن أصحابنا ضعّفوه؛ وقال عنه الطوسي: إنه غالٍ؛ وقال عنه ابن الغضائري: إنه ضعيف؛ وروى الكشي عن نصر بن الصباح ما دلّ على كفره([73]).
ولا يركن إلى كونه وقع في أسانيد تفسير القمي، ولو قلنا به، فالتضعيف مقدَّم عليه. مضافاً إلى أن أبا عمارة لا توثيق له في كتب الرجال. وعليه فالحديث ضعيف سنداً.
وأما دلالةً فإن الإمام فرَّع في كل فقرات الرواية الإبكاء والبكاء والتباكي على الإنشاد، لا مطلقاً. وعليه فهي محصورة بمَنْ قال في الحسين شعراً.
2ـ رواية صالح بن عقبة، عن أبي عبد الله×، قال: مَنْ أنشد في الحسين بيت شعر فبكى وأبكى عشرة فله ولهم الجنة، ومَنْ أنشد في الحسين بيتاً فبكى وأبكى تسعة فله الجنة، فلم يزَلْ حتى قال مَنْ أنشد في الحسين بيتاً فبكى، وأظنّه قال: أو تباكى، فله الجنة([74]).
وفي المقام نقاش سندي؛ ودلالي؛ ومتني.
أما سنداً فقد وقع كلام في صالح بن عقبة بين كونه ثقة أو ضعيفاً أو مجهولاً، فإن ابن الغضائري قال فيه: غالٍ كذّاب، لا يلتفت إليه. إلا أن البعض ناقشه بأن الأخبار التي رواها ليس فيها ما يدلّ على الغلو، وإنما تدل على علو وجلالة قدر أئمة أهل البيت^([75]).
نعم، قد ورد في تفسير القمي وكامل الزيارات. وعلى هذا يدور القبول وعدمه. وحيث لا نبني على وثاقة رجال تفسير القمي أبداً، ولو بنحو الموجبة الجزئية، كما أنه ليس من الرواة المباشرين في كامل الزيارات، فلا مجال لاعتماد روايات صالح بن عقبة؛ فإنه مجهول فيما لو لم نأخذ بكلام ابن الغضائري، وإلا فهو ضعيف.
وأما دلالةً فإن الإمام فرَّع الإبكاء والبكاء والتباكي على الإنشاد، لا مطلقاً.
وأما متناً فإن الراوي يقول: وأظنه قال: أو تباكى، فله الجنة. وعليه فهو لم يجزم بأن الإمام قال هذه الفقرة، فلا مجال لاعتمادها.
والمتحصِّل في المقام: إنه مع البناء على حجية خبر الثقة لا مجال لاعتماد هذين الخبرين. ولم نجد غيرهما. نعم، هناك خبر ثالث يقع في طريقه صالح بن عقبة. وقد اتّضح أمره ممّا تقدّم.
نعم، إذا كنا نبني على حجية الخبر الموثوق فإن أفادت هذه الأخبار الثلاثة الوثوق فلا بأس، وإلا فلا مجال للركون إليها. نعم، هذه الأخبار تدخل تحت قاعدة التسامح في أدلة السنن؛ لحديث «مَنْ بلغه ثوابٌ». فمع القول بهذه القاعدة يمكن اعتمادها من هذا الباب.
ـ يتبع ـ
الهوامش
______________________
(*) باحث وأستاذ في الحوزة العلمية، من لبنان.
([1]) الحر العاملي، وسائل الشيعة 3: 230، باب 60، ح2.
([2]) الوسائل 12: باب10، ح1 ـ 21.
([5]) الخليل بن أحمد الفراهيدي، العين: 482 ـ 483، دار إحياء التراث العربي.
([6]) ابن دريد، جمهرة اللغة 2: 293.
([8]) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة: 507، دار إحياء التراث العربي.
([10]) الطبري، جامع البيان 6: 36 ـ 37.
([11]) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 6: 37 ـ 38.
([12]) المراغي، العناوين الفقهية 1: 558 ـ 559.
([13]) فضل الله، من وحي القرآن 16: 59.
([14]) الطبري، جامع البيان 17: 112.
([17]) الوسائل 14: 95، باب 8، ح1.
([18]) الخوئي، الموسوعة الفقهية 3: 290؛ الصدر، بحوث في شرح العروة الوثقى 4: 314.
([19]) المراغي، العناوين الفقهية 1: 558.
([20]) الوسائل 12: 20 ـ 22، باب10، ح1 ـ 3 ـ 6 ـ 8 ـ 9.
([25]) الوسائل 14: 383، باب 26، ح1.
([26]) المحقِّق الحلي، المعتبر في شرح المختصر 1: 343.
([27]) العلامة الحلي، تذكرة الفقهاء 2: 118.
([28]) البحراني، الحدائق الناضرة 4: 163.
([29]) النراقي، مستند الشيعة 3: 318.
([30]) اليزدي، العروة الوثقى 1: 447 ـ 448.
([31]) الخوئي، الموسوعة الفقهية 9: 341 ـ 342؛ وكذلك يمكن مراجعة: الحكيم، مستمسك العروة الوثقى 4: 226.
([32]) تاريخ الطبري 3: 37، والعديد من المصادر الأخرى.
([33]) الطوسي، المبسوط 1: 189.
([34]) ابن إدريس، السرائر 1: 173.
([38]) الدر المنثور 4: 185: باب 164.
([40]) الفقه على المذاهب الأربعة ومذهب أهل البيت 1: 683.
([42]) ابن قولويه، كامل الزيارات، باب 26 ـ 36.
([44]) المجلسي، بحار الأنوار 44: باب 34 (ثواب البكاء على مصيبته).
([45]) النوري، مستدرك الوسائل 10: باب 49.
([46]) الوسائل 14: 501، باب 66، ح1.
([47]) الوسائل 14: 502، باب 66، ح1.
([48]) السبحاني، الموسوعة الرجالية الميسرة: 437.
([49]) الوسائل 14: 504، باب 66، ح8.
([50]) الوسائل 14: 509، باب 66، ح8.
([51]) الوسائل 14: 501، باب 66، ح3.
([52]) الوسائل 14: 506، باب 66، ح11.
([53]) الوسائل 14: 507، باب 66، ح14.
([54]) الوسائل 14: 508، باب 66، ح17.
([55]) البروجردي، جامع أحاديث الشيعة 15: 434، باب83.
([56]) المستدرك على الصحيحين 11: 135.
([57]) البهبودي، هامش بحار الأنوار 44: 293.
([58]) هاشم معروف الحسني، الموضوعات في الآثار والأخبار: 173 ـ 176.
([59]) الوسائل 14: 331، باب 2، ح22.
([60]) الكليني، الكافي 2: 535، باب الدعاء عند النوم، ح1.
([61]) الكليني، الكافي 4: 262، ح40.
([63]) الصدوق، من لا يحضره الفقيه 1: 131، باب غسل الميت.
([64]) من لا يحضره الفقيه 2: 98.
([65]) الطوسي، تهذيب الأحكام 4: 152.
([68]) الطهراني، روح مجرد: 84.
([69]) النوري، اللؤلؤ والمرجان: 66.
([70]) مجلة نصوص معاصرة، العدد 8: 77 ـ 78.