حيدر حب الله(*)
مقدمة
ما نهدفه في هذه الوريقات هو معالجة موضوع تمّ الحديث عنه في الفقه الإسلامي في أبواب متعدّدة ومواضع مختلفة، وهو موضوع (ابن الزنا)، فقد ذكر الفقهاء المسلمون أنّ ابن الزنا لا يحظى ببعض المناصب أو المواقع أو الحقوق الماليّة وغيرها مثل إمامة الجماعة والجمعة، والمرجعية وولاية الأمر، والقضاء، والشهادة، والإرث، والديات..
ففي الوقت الذي يمكن أن يكون أيّ مسلم عادل قاضياً أو إماماً للجماعة أو شاهداً في المحكمة أو نحو ذلك، إلا أنّ الفقهاء يذكرون أنّ ذلك محظور في حقّ ولد الزنا، وأنّ هذا اعتبارٌ قانوني تشريعي وضعته الشريعة ليس عقاباً له، فهو غير مذنب، وإنّما لدواعٍ أخر.
بل تعدّى الأمر حدود ذلك، فسُلب عن ابن الزنا ـ عند بعض الفقهاء ـ وصفان أساسيّان:
الوصف الأوّل: وصف البنوّة وعلاقاتها، فاعتبره بعض الفقهاء بلا أسرة، فالشرع أبطل بنوّته، وأبطل أبوّة وأمومة أمّه وأبيه وغيرهما. وبعبارة أخرى: تمّ اقتطاعه من الحياة الأسريّة تماماً، أو بشكل شبه تام.
الوصف الثاني: وصف الإسلام، حيث ذهب بعض الفقهاء إلى الحكم بكفره، وما يترتّب على الكفر من أحكامٍ معروفة كالنجاسة وغيرها.
وعلى أية حال، فنحن نريد قراءة (ابن الزنا) في الفقه الإسلامي، وتقويم القراءة المدرسيّة؛ لنرى الموقف الشرعيّ منه في هذا السياق.
ونشير إلى أنّ الكلام كلّه هنا يدور حول ابن الزنا، وليس ابن الملاعنة، ولا ولد الشبهة، ولا اللقيط، ولا ما يسمّى بظاهرة أولاد الشوارع والمتشرّدين، ولا ولد التلقيح المحرّم لو قلنا بحرمته كتلقيح ماء الأجنبي لبويضة الأجنبيّة، ولا الولد الذي يكون عن وطءٍ محرّم للزوجة كالوطء حال الإحرام أو حال الحيض مع تحقّق الحمل في هذه الحال.. فإنّ هذه كلّها لا تساوق مفهوم الزنا شرعاً حتى لو كان بعضها محرّماً كما هو واضح، فهؤلاء الأولاد لا يُحرمون شرعاً من شيء ممّا يُحرم منه ابن الزنا، على تفصيل في ابن الملاعنة في قضيّة الإرث كما هو معروف.
ونقدّم بدايةً بالموضوعين (الوصفين) المشار إليهما؛ لأنّهما مفتاح ما بعدهما.
1 ـ الانتماء الأسري لولد الزنا
يستوحى من الموروث الفقهي أنّ ابن الزنا ليس ولداً شرعيّاً؛ لهذا فلا تترتّب آثار البنوّة الشرعيّة عليه، فلا يُلحق بوالديه أو بأبيه، فالحديث الشريف يقول: «الولد للفراش وللعاهر الحجر»([1])، وهذا معناه أنّه لا توجد للزاني أيّ نتيجة من فعله سوى الحجر، فلا يُلحق به ولدُه، وليست الأسرة الشرعيّة إلا تلك التي تكون ناتجةً عن الفراش، أي عن سرير الزوجيّة لا غير.
كما أنّه قد ورد في بعض الروايات أنّ ابن الزنا (لِغَيّة)([2])، أي وكأنّه لا أثر له، إنما هو ابن زنية، لا قيمة له، وهو ساقطٌ عن الاعتبار، وهذا معناه أنّ الشرع سلب منه مقوّمات الارتباط الأسري، فأصبح بلا أسرة.
إلا أنّ بعض المتأخّرين ـ وعلى رأسهم السيد الخوئي ـ ذهبوا إلى أنّ مفاهيم الأبوّة والبنوّة والأمومة والأخوة والعمومة و.. هي عناوين واقعيّة تكوينيّة لم تقم الشريعة بوضعها، وكلّ ما فعلته الشريعة أنّها لم تورّث ولد الزنا، وهذا غير نفي إلحاق ولد الزنا بأبيه حتى نقتلعه من مناخه الأسري، فالصحيح ترتيب كلّ الآثار الأسريّة على ولد الزنا عدا الإرث؛ لورود النصّ فيه([3]).
وأمام هذا المشهد المنقسم يمكننا التعليق:
أولاً: إنّ النبويّ المعروف: «وللعاهر الحجر»، والوارد من طرق السنّة والشيعة، يؤسّس لقاعدة فقهيّة معروفة، وهي قاعدة الفراش، وهذه القاعدة ينحصر موردها، كما هو سياق هذه الروايات جميعاً تقريباً، بحالة الزنا بامرأة متزوّجة أو مملوكة، ففي هذه الحال حَرَمَت الشريعةُ ـ عند الشك ـ الزاني من نسبة الولد إليه، وقالت: كلّما كان بالإمكان نسبة الولد إلى زوج المرأة الشرعي أو مالكها على تقدير كونها أمةً، كان هذا هو المتعيّن، فيما لا ينال الزاني شيئاً، كما يقال: ألقم حجراً، وليس له إلا التراب، بمعنى أنّه لن يحظى بشيء.
ومن الواضح أنّ هذه القاعدة الفقهيّة لا تهدف إلى نفي الترابط بين ابن الزنا وأسرته أبداً، وإنّما تهدف إلحاق الولد بالفراش عند الشك، وأين هذا مما نحن فيه، حتى نقفز من هذه الدائرة الضيّقة لمعنى عام؟! وقد أبطل العلماء في محلّه ما نُسب إلى الإمام أبي حنيفة ـ انسجاماً مع هذا الفهم غير الصحيح للحديث ـ حيث عمّمه إلى حالة اليقين بانتساب الولد للزاني.
وعليه، فالحديث النبويّ والنصوص المستندة إليه لا يمكن الجزم بانعقادها على ما هو أوسع من هذا، بل غايته اختصاص النصّ بحال كون المرأة المزنيّ بها متزوّجةً أو أمةً، لا مطلقاً؛ بقرينة إقحام الفراش هنا، وليس الحديث بصدد حصر الولديّة بالفراش، فهذا غير مُحْرَز من سياقاته.
وبعبارة أخرى: إنّ الحديث النبويّ لا يُحرز صدوره بصدد بناء قانون عام مطلقاً في أنّ الولد لا يُنسب لأهله إلا عبر الفراش، فيما لا ينال الزاني شيئاً، بل من المحتمل جداً ـ بقرينة أغلب، وربما كلّ، موارد ورود هذا الحديث سنّياً وشيعياً ـ أن يكون المراد منه حالة الزنا بالمتزوّجة أو الأمة، فيلحق الولد بالزوج لا بالزاني.
ولهذا كلّه، وجدنا فريقاً كبيراً في الفقه السنّي يعترف بالعلاقة النسبيّة بين الولد وأمّه دون العلاقة بينه وبين أبيه([4])، ولعلّ هذا يكون مؤشراً لكون السبب هو أنّ علاقته بأمّه واضحة، بخلاف علاقته بأبيه الزاني، حيث لا فراش، كما لا توجد معطيات علميّة قاطعة بالنسب في تلك العصور بالخصوص.
وربما لهذا أيضاً نُسب إلى بعض القدماء أنّه كان يرى إلحاق الولد بأبيه الزاني إذا لم تكن الأم في فراش الزوجيّة أو الملك، واستلحقه الزاني بنفسه، مثل إسحاق بن راهويه، وعروة بن الزبير، وسليمان بن يسار، والحسن البصري، وابن سيرين، وإبراهيم النخعي في رواية([5])، وعطاء بن أبي رباح، وهو اختيار الشيخ ابن تيمية([6])، وروي عن أبي حنيفة أنه قال: لا أرى بأساً إذا زنى الرجل بالمرأة فحملت منه أن يتزوّجها مع حملها ويستر عليها، والولد ولدٌ له([7]). ويستند بعضهم إلى ما رواه سليمان بن يسار، من أنّ عمر بن الخطاب كان يليط ـ أي يُلحق ـ أولاد الجاهلية بمن ادّعاهم في الإسلام([8])، حيث فهمه بعض على أنّه محاولة من عمر لحلّ مشكلة أولاد الزنا في الجاهليّة.
ولعلّ التأمّل في عدم إلحاق ولد الزنا بالزاني في حالة كون المرأة فراشاً بالزوجيّة أو الملك لشخص آخر شرعي، هو أنّهم في تلك الأزمنة قليلاً ما كانوا يتمكّنون من التأكّد من نسبة الولد إلى الزاني تكويناً، فكان يُلحق بالحالة الغالبة، إضافةً إلى أنّ ذلك نوعٌ من العقوبة للزاني وإدراج للولد في أسرة متكوّنة شرعيّة، وإلا فلو تيقّنّا من أنّه ولده ولو عبر الفحوصات العلميّة الدقيقة، فاللازم هو الأخذ بالحكم القرآني في حرمة نسبة الولد لغير أبيه وحرمة التبنّي في هذه الحال، وادّعاء الولد لنفسه، مع أنّه ابن الزاني، لهذا يجب النظر في هذا الموصوع هنا من هذه الزاوية أيضاً وتفصيله في محلّه في مباحث الأنساب وللمسألة صور تتصل بالملاعنة وغيرها.
ونحن لو تأمّلنا قاعدة الفراش في الفقه الإسلامي لوجدنا مسارها واضحاً في حالة وجود زوجيّة أو ما هو بحكمها، فقد اختلف الفقهاء في حالة الدوران بين فراشين، كما لو طلّقت المرأة ثم تزوجّت بآخر، فولدت ولداً بعد زواجها الثاني بستة أشهر، فبأيّ الفراشين يتمّ الإلحاق؟ وكما لو حكمت القيافة بنسبة الولد لغير الفراش، وأنّ ذلك لا قيمة له؛ لأنّه مجرّد ظنون، ولهذا قالوا بأنّ الزوج لا يمكنه نفي الولد عنه إلا باللعان إذا انطلق من يقينه بعدم كون الولد له، فاللعان حكم قضائي يرفع قاعدة الفراش نتيجة يقين الزوج بعدم النسبيّة بينه وبين الولد، ولا يمكن تحميله هذا النسب قهراً عليه. ومراجعة تطبيقات قاعدة الفراش تشرف بالإنسان على اليقين باختصاص موردها بحال وجود زوجيّة مسبقة وأمثالها، مع عدم العلم أو قيام الحجّة القضائية على نفي الولد عنه، فهذه القاعدة حكم ظاهري قضائي عام في حال عدم العلم بالنسبيّة مع وجود فراش الزوجيّة.
يضاف إلى ذلك أنّ القائلين بقطع العلاقات النسبيّة يلزمهم مبدئيّاً ترتيب تمام الآثار مثل إلغاء ثبوت الدية على العاقلة في موارد قتل الخطأ، وعدم ترتيب آثار الهاشمية عليه لو كان الزاني هاشميّاً، وإسقاط النفقة عن الأب (والأم) تجاه هذا الولد، وبالعكس، وسقوط ولايتهم عليه مطلقاً، وقضايا الرضاع والحضانة وبعض أحكامهما، وبعض قضايا ملك اليمين كما لو ملك أحد العمودين، ومسألة قتل الوالد بولده في باب القصاص، ونحو ذلك. كما يلزمهم اعتبار هذا الولد فاقداً لأيّ أسرة إطلاقاً لو عمّموا قطع النسب للأب والأم معاً ولا فراش في البين، وهذا يعني أنّ هذا الولد لن يمكن بسهولة إصدار هويّة شخصيّة له تنسبه لوالده أو لوالديه معاً على اختلاف الآراء في نسبته لأمّه.. وفي ذلك الكثير من التأثيرات التي تقع على الطفل، والتي ينبغي التنبّه لها. ولا نريد اعتبارها دليلاً على بطلان هذه الفكرة، بقدر ما هي منبّه. ولهذا اضطربوا في كثير منها لمحاولة وضع حلّ لها فلتراجع بحوثهم، لاسيما في الفقه السنّي.
يضاف إلى ذلك أنّ القول بنسبته للأمّ دون الأب، يعني أنّ الأم ستتحمّل مسؤوليّة الولد، وسيعفى الزاني من تحمّل هذه المسؤولية، ونخلي مسؤوليّته من هذا الأمر، وهذه أيضاً ظاهرة اجتماعيّة قد لا يجدها الإنسان متناسبةً مع الفضاء التشريعيّ في الإسلام، لاسيما لو كانت الأم زانيةً أيضاً.
ثانياً: إن تعبير (لغية) لا يُفيد سقوط الولد عن الاعتبار قانونيّاً، بل هو توصيف؛ لأنّ الرواية تقول: الولد لغيّة لا يورث، ومعنى ذلك أنّ الولد الذي يكون لزنيةٍ وضلالة لا يورث، فكلمة (لغيّة) مثل كلمة (لزنية) لا فرق بينهما، فلا تفيد في حدّ نفسها سوى توصيفه بأنّه ولد نزوةٍ وسقطةٍ وزنا، لا غير، ولا أقلّ من عدم ظهور الحديث في غير ذلك، وسيأتي التعليق على هذا الحديث بالتفصيل عند الكلام عن إرث ولد الزنا إن شاء الله.
ثالثاً: إنّ ما ذكره السيّد الخوئي من واقعيّة هذه التوصيفات صحيحٌ، بمعنى أنه لو فسّرنا الأبوّة بأنّه من وُلِدَ من منيّه الولد، لكان هذا توصيفاً واقعياً، إلا أنّ كلامنا ليس في هذا، وإنّما في ترتيب آثار الأبوّة على الزاني، أو البنوّة على ولد الزنا، فكلام السيد الخوئي ينفع في مقابل دعوى أصالة عدم الأبوّة حتى تثبت بنصّ، ولا ينفع في مورد القول بأنّ الشريعة يمكنها نفي الأبوّة ادعاءً واعتباراً، استطراقاً لنفي تمام آثارها، فإنّ هذا من حقّ الشارع. وتكوينيّةُ الأبوّة لا تمنع منه هنا؛ وعمدة دليل القائل بالنفي هنا هو ورود النصّ المسقِط لاعتبار الأبوّة، لا عدم ورود النصّ المثبت للأبوّة، فلاحظ.
وعليه فضمّ كلام السيد الخوئي، مع الإطلاقات والعمومات، الواردة في الأبواب المختلفة، إلى جانب ما سجّلناه من ملاحظات آنفاً على أدلّة النافين للعلاقة الأسريّة.. هذا بمجموعة هو الدليل المثبت لقيام هذه العلاقات.
قد يقال: بأنّ سبب الإرث هو النسب، فلو نفي الإرث فمعنى ذلك نفي النسب.
ولكنّه يمكن الجواب عنه بما أفاده العلامة فضل الله، من أنّ النسب مقتضٍ للإرث، فلا يؤثر أثره إلا إذا لم يمنع الشارع عن تأثير المقتضي فيما يقتضيه([9])، والأمر بيد الشارع في ذلك؛ لأنّ هذه العلاقات ـ أعني العلاقة بين النسب والإرث ـ ليست تكوينيّةً، بل هي اعتباريّة قانونيّة، كما هو واضح، فيمكن للشارع الإقرار بالنسب مع الحرمان من الإرث، كما هو الحرمان بالحجب والقتل والكفر وغير ذلك مع الإقرار بالنسب في هذه كلّها.
ولعلّ ما ينبّه على صحّة ما توصّلنا إليه هو أنّ فريقاً كبيراً من فقهاء المسلمين لا يجيز لولد الزنا أن ينكح أحد محارمه المفترضين في الأسرة التي هو منها واقعاً، بمعنى أنّه لو زنا شخص بامرأة، فولدت بنتاً، يحرم على الزاني نكاح هذه البنت، وكذلك يحرم على أولاده نكاحها، وهكذا، مع أنّ المفروض أنّ علاقة النسبيّة قد تلاشت وفقاً للادّعاء الفقهي المشهور، ولهذا يميّز بعض فقهاء أهل السنّة فيقولون بأنّ ولد الزنا هو ولد تحريم، وليس ولَدَ محرميّة، لكي يحرّموا عليه النكاح في أقربائه الذين سلبت عنهم سمة القرابة بالنسبة إليه شرعاً.
وليس هناك دليل صريح وواضح في هذه التمييزات، فإذا سُلبت العلاقة النسبية تماماً فكيف عرفنا أنّه لا يجوز له النكاح في أقاربه الواقعيّين الذين سلبت قرابتهم عنه؟! والأدلّة التي ذكروها كثير منها استحسانيّ. والغريب أنّهم استدلّوا بنصوص قرآنية تعترف ضمناً بكون الولد ابناً للزاني والزانية وأمثال ذلك، مع أنّهم نفوا عنه هذه الصفة شرعاً، وما ذلك في تقديري إلا لتضارب الأمر عندهم وشعورهم بصعوبة هذه النتائج التي وصلوا إليها، ولهذا تجد من يعتبر التحريم هنا احتياطاً في الفروج، ولا أدري ما هو موجب الاحتياط اللزومي في خصوص هذا المورد مع ثبوت الدليل على قطع النسبيّة دون سائر الموارد الأخرى التي لم يحتاطوا فيها! ولهذا تجد من أدرجها في الربيبة وألحقها بها، على أساس أنّها بنت موطوءته([10])، مع أنّه لا يوجد في الإسلام شيء اسمه حرمة بنت الموطوءة إذا لم يكن هناك عقد نكاح مع هذه الموطوءة أساساً، حيث نصّ القرآن على كون أمّها ﴿مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ﴾، والمفروض أنّ الموطوءة هنا ليست زوجةً له، بل لو صحّ هذا القول للزم تحريم نكاح الزاني في سائر بنات المزنيّ بها ولو من غيره، ولا أظنّ أحداً يقول بذلك.
وفي تقديري، فما ذهب إليه بعض الشافعية، وبعض المالكية([11])، من تجويز هذا النكاح بين الزاني وابنته الواقعيّة هو الأنسب بمبانيهم والمنسجم مع نظرياتهم.
وعليه، فلو تيقّنا من أنّها ابنته واقعاً بالأدلّة العلميّة، لزم الترخيص في أن يتزوّج منها وفقاً لقانون فكّ النسبيّة! وربما هذا منبّه على بطلان مثل هذه النظريات الفقهيّة، وعلى فهم قانون الولد للفراش بطريقة غير صحيحة، فالنبيّ لم يكن يريد فكّ العلاقات الواقعيّة النسبيّة، بل كان يريد أن لا نعمل بالاحتمالات والظنون التي ترفع نسبة الولد إلى فراش الزوجيّة وتلغيها، تنظيماً للأمور وتقديماً لفراش الزوجيّة على غيره.
فالصحيح ترتيب تمام آثار العلاقات الأسريّة من المحرّمات والرخص على ولد الزنا، إلا ما خرج بالدليل، كما أنّ الأصل طهارة المولد مع احتماله، وعليه فلا يدفع الأب زكاته له، إذ إنّه ولده تجب عليه نفقته، ولا تدفع الزكاة لمن تجب نفقته على الدافع، وكذلك تجري فيه أحكام العقيقة، وسائر أحكام الأولاد والنفقات والمحارم والأنكحة وغير ذلك، إلا ما خرج بالدليل.
2 ـ الانتماء الديني لولد الزنا (إسلام ولد الزنا)
من الواضح أنّ لولد الزنا حالات:
1 ـ أن لا يبلغ سنّ العقل واتخاذ قرارٍ تديّني، كما لو كان طفلاً صغيراً، وكان والداه كافرَين، وقد حكموا هنا بإلحاقه بهما، والحكم بكفره.
2 ـ أن يكون ولو أحد والديه الزانيين مسلماً، ويبلغ هو سنّ الرشد والعقل، فيكفر بالله ورسوله، ومن الواضح هنا أيضاً الحكم بكفره.
3 ـ أن يكون ولو أحد والديه الزانيين مسلماً، ويكون هو صغيراً.
4 ـ أن يكون والداه كافرين أو مسلمين أو أحدهما مسلماً، ويبلغ الولد سنّ العقل فيُسلم ويتشهّد الشهادتين.
وهنا يُسأل ـ في الحالة الثالثة والرابعة ـ: هل يُحكم بإسلامه إلحاقاً له بأحد والديه المسلمين أو عملاً بشهادته الشخصيّة أو أنّه رغم ذلك يُحكم بكفره وترتيب آثار الكفر عليه؟
ذهب الشيخ ابن إدريس الحلّي (598هـ) إلى الحكم بكفر ابن الزنا، في رأيٍ مخالف لجمهور العلماء، ورتّب على ذلك مجموعةً من الأحكام، كتحريم مناكحته؛ لأنّ القرآن حرّم نكاح الكافر، وعدم اعتبار شهادته، وعدم اعتبار عتقه، فإنّ هذه كلّها مشروطة بعدم الكفر، وابن الزنا كافر([12]).
وإذا صحّت هذه النظرية فقد تفسّر كلّ الأحكام التي قيلت في ولد الزنا، مثل منعه من حقّ المرجعيّة والولاية والقضاء وإمامة الجماعة والجمعة والإرث والشهادة وغير ذلك، حيث يرى الفقهاء سلب هذه الأمور عن الكافر، في الرأي المعروف بينهم.
وقد نُسب القول بكفر ونجاسة ولد الزنا إلى السيد المرتضى والشيخ الصدوق أيضاً، بل ادّعي نفي الخلاف فيه والإجماع عليه([13]).
والمستند في الحكم بكفر ولد الزنا ما دلّ على نجاسته، وهو ما يلي:
1 ـ خبر الوشاء، عن الصادق×: «أنه كره سؤر ولد الزنا واليهودي والنصراني والمشرك وكلّ من خالف الإسلام، وكان أشدّ ذلك عنده سؤر الناصب»([14]).
2 ـ خبر ابن أبي يعفور: «لا تغتسل من البئر التي يُجمع فيها غسالة الحمام؛ فإنّ فيها غسالة ولد الزنا، وهو لا يطهر إلى سبعة آباء..»([15]).
3 ـ خبر الديلمي، عن الصادق× وجاء فيه: «إنّ ولد الزنا يقول يا ربّ فما ذنبي؟! فما كان لي في أمري صنع! فيناديه منادٍ ويقول به: أنت شرّ الثلاثة، أذنب والداك فنشأت عليهما، وأنت رجس ولن يدخل الجنّة إلا طاهر»([16]).
وهذا الحديث ورد عن أبي هريرة في كتب أهل السنّة أيضاً، بمضمون قريب يثبت كونه أشرّ (أو شرّ) الثلاثة([17]). ولكن ورد اعتراض من عائشة على أبي هريرة في هذا الحديث، كما نقلت عائشة وابن عباس أنّه يكون شرّ الثلاثة إذا عمل بعمل أبويه لا مطلقاً، وأنّ أبا هريرة التبس عليه الأمر في الموضوع([18]). وقد أكثروا من التأويلات في معنى هذا الحديث فليراجع حتى لا نطيل بتتبّع بعضها ممّا هو من التكلّفات. وقد روي عن الحسن البصري أنه قال بأنّه إنّما سمّي ولد الزانية شرّ الثلاثة لأنّ أمّه قالت له: لست لأبيك الذي تُدعى به، فقتلها؛ فسمّي شرّ الثلاثة([19]). فتكون الجملة إشارة إلى شخص بعينة وإلى حادثة بعينها، لا إلى مطلق ولد الزنا.
4 ـ خبر زرارة، عن الباقر× قال: «لا خير في ولد الزنا، ولا في بَشَره، ولا في شعره، ولا في لحمه، ولا في دمه، ولا في شيء منه، عجزت عنه السفينة وقد حُمل فيها الكلب والخنزير»([20]).
5 ـ خبر محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر× قال: «لبن اليهوديّة والنصرانية والمجوسية أحبّ إليّ من لبن ولد الزنا، وكان لا يرى بأساً بلبن ولد الزنا إذا جعل مولى الجارية الذي فجر بالجارية في حِلّ»([21]).
6 ـ خبر علي بن الحكم، عن أبي الحسن× ـ في حديث ـ أنه قال: «لا تغتسل من غسالة ماء الحمّام، فإنه يغتسل فيه من الزنا، ويغتسل فيه ولد الزنا، والناصب لنا أهل البيت، وهو شرّهم»([22]).
7 ـ خبر إبراهيم بن أبي زياد الكرخي، عن الصادق× قال: «علامات ولد الزنا ثلاث: سوء المحضر، والحنين إلى الزنا، وبُغضنا أهل البيت»([23]).
8 ـ خبر أبي خديجة، قال: سمعت أبا عبدالله× يقول: «لا يطيب ولد الزنا أبداً، ولا يطيب ثمنه أبداً»([24]).
9 ـ خبر أبي خديجة الآخر، عن أبي عبدالله× قال: «لو كان أحد من ولد الزنا نجا، نجا سائح بني إسرائيل»، قيل له: وما كان سائح بني إسرائيل؟ قال: «كان عابداً، فقيل له: إنّ ولد الزنا لا يطيب أبداً، ولا يقبل الله منه عملاً، فخرج يسيح بين الجبال، ويقول: ما ذنبي؟!»([25]).
10 ـ مرسل العياشي، عن إبراهيم، عن أبي عبد الله× قال: «إنّ نوحاً حمل الكلب في السفينة ولم يحمل ولد الزنا»([26]).
11 ـ خبر نصر الكوسج، عن مطرف مولى معن، عن أبي عبد الله×، قال: «لا يدخل حلاوة الإيمان قلب سنديّ، ولا زنجي، ولا خوزيّ، ولا كرديّ، ولا بربريّ، ولا نبك الريّ، ولا من حملته أمّه من الزنا»([27]).
12 ـ خبر سعد بن عمر الجلاب، قال: قال لي أبو عبد الله×: «إنّ الله تعالى خلق الجنّة طاهرة مطهّرة، فلا يدخلها إلا من طابت ولادته»، وقال أبو عبد الله: «طوبى لمن كانت أمّه عفيفة»، وورد مضمونه في خبر عبد الله بن سنان أيضاً([28]).
13 ـ خبر عبد الله بن عمرو، عن النبي قال: «لا يدخل الجنّة ولد زنية، ولا منّان، ولا عاقّ، ولا مدمن خمر»([29]). وروي مرفوعاً عن مجاهد عن أبي هريرة. وروي قريب منه عن أبي هريرة بأنّه لا يدخل الجنّة، ولا ولده ولا ولد ولده([30]).
وهذا الحديث قال فيه الملا علي القاري: «زعم ابن طاهر وابن الجوزي أنّ هذا الحديث موضوع، لكن رواه أبو نعيم في الحلية عن مجاهد عن أبي هريرة به مرفوعاً، وأعلّه الدارقطني بأنّ مجاهداً لم يسمعه من أبي هريرة»([31]).
وقال العجلوني: «لا يدخل الجنّة ولد زنية. رواه أبو نعيم عن أبي هريرة مرفوعاً، وأعلّه الدارقطني بأنّ مجاهداً لم يسمعه من أبي هريرة، وقال في المقاصد: وأخرجه أبو نعيم والطبراني والنسائي لكن باضطراب، بل روي عن مجاهد عن أبي سعيد الخدري، عن عبد الله بن عمرو بن العاص كما بيّنت ذلك في جزء مفرد، وزعم ابن طاهر وابن الجوزي بأنّ الحديث موضوع، وليس بجيّد، ورواه النسائي أيضاً عن عبد الله بن عمرو بلفظ: لا يدخل ولد زنية الجنّة، قال الحافظ ابن حجر: فسّره العلماء ـ على تقدير صحّته ـ بأنّ معناه: إذا عمل بمثل عمل أبويه، واتفقوا على أنّه لا يُحمل على ظاهره، وقيل في تأويله أنّ المراد به من يواظب الزنا، كما يقال للشهود بنو صحف وللشجعان بنو الحارث، ولأولاد المسلمين بنو الإسلام»([32]).
وقد ذكروا أنّ في السند سالم عن نبيط عن جابان عن عبد الله بن عمرو، وأنّه لم يعلم لجابان سماع عن عبد الله، ولا لسالم سماع من جابان، ولا لنبيط([33]).
14 ـ خبر ميمونة بنت سعد، مولاة النبي، قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن ولد الزنا، قال: «لا خير فيه، نعلان أجاهد بهما في سبيل الله أحبّ إليّ من أن أعتق ولد زنا»([34]).
15 ـ خبر أبي هريرة، قال: قال رسول الله: «لأن أمتع بسوط في سبيل الله عز وجل أحبّ إليّ من أن أعتق ولد زنية»([35]). وهذا الخبر تارةً نقل أنّه من قول أبي هريرة وأخرى مرفوعاً إلى رسول الله.
هذا كلّه مضافاً لما ورد في ديته وأنّها ثمانمائة درهم، فتساوي دية أهل الكتاب، بل قد صرّح في بعضها بأنّ ديته دية اليهودي كما سيأتي.
فإنّه لو ضممنا هذه كلّها إلى بعضها بعضاً، وأضفنا إليها حكم ولد الزنا في القضاء والشهادة وولاية الأمر والمرجعية وإمامة الجمعة والجماعة وغير ذلك.. يحصل العلم أو الحجّة بأنّه غير مسلم، بل هو ملحقٌ بالكافر، فيُحكم بترتيب آثار الكفر عليه.
إلا أنّ هذا المستند يتعّرض لمناقشات عديدة أبرزها:
أوّلاً: إنّ بعض هذه الروايات لا يفيد شيئاً في المقام، كمسألة السؤر (خبر رقم 1)؛ اذ قد يكون حكماً تعبديّاً لا يعني النجاسة ولا الحرمة، تماماً كالذي ورد في سؤر الحائض والجنب، وقد يكون مرتبطاً بالحزازة المعنويّة لا بالنجاسة.
وكذلك خبر تفضيل لبن المجوسية على ابن ولد الزنا (رقم 5)؛ فإنّ له علاقة باللبن الذي عند الأمّ (أمّ ولد الزنا) لا بولد الزنا نفسه، فيكون موضوع اللبن مرتبطاً بكونه متولّداً عن زنا، ولا تلازم بينه وبين أن يُحكم ولد الزنا بذلك، علماً أنّه على أبعد تقدير سيُحكم بنجاسة اللبن أو بحرمة إرضاع الولد منه، وهذا لا يلازم نجاسة ابن الزنا لو بلغ فأسلم وتشهّد الشهادتين.
وكذلك الحال في النهي عن الاغتسال بغسالة ماء الحمام (رقم 6)، فإنّه لا وجه لاعتبار ذلك من باب كفر ولد الزنا أو نجاسته، ولعلّه تنزّهاً عن كلّ ما يرتبط بالزنا، ويشهد له أنها ذكرت أيضاً غُسالة الزاني المغتسل نفسه، ولا فرق فيه بينه وبين غير الزاني من حيث النجاسة، ما لم نقل بنجاسة عرق الجنب من الحرام، واعتبار غسالته هذه هي تلك التي تتصل بفعله الزنا وتتعقّبه مباشرةً، بل في بعض هذه الروايات التعليل بأنّه يغتسل فيه المجنب مطلقاً، مع أنّ المجنب ليس بنجس، فتكون هذه النصوص إمّا تنزيهاً عن نجاسة عرضيّة أو تنزيهاً عن الغسالة مطلقاً، لا كشفاً عن وجود نجاسة ذاتيّة بالضرورة.
كما أنّ كون ديته مطابقة لدية الذمّي أو اليهودي، لا يعني كفره، وإن كان مؤشراً عليه ظنّاً، فهو حكم تعبّدي، ومجرّد التشابه ليس بدليل، وسيأتي بحثه، وإلا فهل كون دية المرأة أقرب إلى دية اليهودي دليلٌ على قربها من الكفر؟!
ثانياً: إنّ بعض هذه الروايات باطل متناً، ومخالف للقرآن الكريم ولحكم العقل، مثل خبر الديلمي (رقم 3)، وخبر أبي خديجة الثاني (رقم 9) وخبر الجلاب وغيرها من الأخبار، إذ كيف يحكم بعقابه ودخوله جهنّم فيما القرآن يجعل ـ في العديد من الآيات ـ المعيار في الخلاص هو الإيمان والعمل الصالح والتقوى وأنّ الله لا يظلم أحداً مثقال ذرّة وأنّه يجزى بعمله مهما كان قليلاً، مع أنّه لا علاقة له بما فعل أبوه وأمه؟!
بل كيف يُعقل أنّه لو تاب والداه دخلا الجنّة، فيما هو لا يدخل الجنة حتى لو تاب وآمن وعمل صالحاً؟! مع أنّه لو عصى لعصى بغير اختيارٍ منه، على خلافهما حيث عصيا باختيارهما.
فهذه الروايات لا يمكن تصديقها، ولو كانت معتبرة السند.
كما أنّ القرآن صريح بأنّ الله لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى، فكيف ذهبت جهود سائح بني إسرائيل وأمثاله سدى؟!
كما أنّ خبر نصر الكوسج باطل متناً، وواضحة عليه معالم النزعة القومية، فما معنى عدم دخول حلاوة الإيمان في قلوب الأكراد والبربر والزنج وغيرهم؟! وهل هذا يتوافق مع المناخ القرآني العام في التعامل مع البشر في قضايا الإيمان والدين؟!
ولنعم ما قال فيه المحقق العراقي حيث قال: «علامة الوضع في هذا الحديث ظاهرة؛ إذ لم تكن المنطقة ذات تأثير في نجابة إنسان أو شقائه. وإنّما كان يختلق أمثال هذه الأحاديث الكاذبة، من كان يروقه ضرب خصومه بسلاح الدين، فكان هذا يختلق حديثاً في ذمّ قبيلة خصمه، وذاك في ذمّ قبيلة هذا. وقد راجت سوق وضع الحديث يومذاك في ذم بلاد وقبائل ومدح بلاد وقبائل أخرى. أفترضى نفس ذكيّة مؤمنة الاعتماد على هكذا مخاريق؟»([36]).
ثالثاً: إنّ جملةً من هذه الروايات ضعيف السند، وما بقي لا ينفع، وذلك:
أ ـ أما من الناحية السنديّة، فخبر الوشاء مرسل؛ لأنّه رواه عمّن ذكره. وخبر ابن أبي يعفور ضعيفٌ بابن جمهور وبالإرسال أيضاً. وخبر الديلمي مرسل، مضافاً لضعف الديلمي نفسه المتهم بالغلوّ والكذب، والملحق به من خبر أبي هريرة لا يؤخذ به؛ لعدم الأخذ برواية أبي هريرة بعد ورود النص عن عائشة بنقد فهمه ونقله للحديث. وخبر علي بن الحكم هو مرسل؛ إذ رواه عن رجل، وخبر الكرخي ضعيف بابن مسرورٍ وغيره، وخبر أبي خديجة ضعيف بمحمد بن خالد البرقي، حيث لم تثبت وثاقته عندي([37]). وخبر العياشي ضعيف بالإرسال، وخبر نصر الكوسج ضعيف السند بالكوسج نفسه فهو مهمل جدّاً، وكذلك ورد في السند سهل بن زياد المتهم بالضعف. وخبر الجلاب وعبد الله بن سنان ضعيف السند بالحسن بن راشد، فلم تثبت وثاقته، كما وفي السند محمد بن علي الكوفي ولم تثبت وثاقته إن لم نقل بأنّه أبو سمينة الضعيف الكذاب، وخبر ميمونة ضعيف بأبي يزيد الضبّي (الضنّي)؛ حيث لم تثبت وثاقته، بل قد صرّحوا بكونه مجهولاً، وقد ضعّف ابن حزم إسرائيل الوارد في السند، وهذا الرجل فيه كلام أيضاً بينهم([38]). وتقدّم الكلام في بعض الأخبار الأخرى فلا نعيد. وحديث أبي هريرة الأخير لا نعمل به؛ نتيجة أبي هريرة نفسه حيث نتوقّف في حديثه.
نعم، خبر أبي خديجة الآخر ظاهره الاعتبار السندي، وكذلك كلّ من خبر زرارة وخبر محمد بن مسلم. وبعض أخبار الدية مصحّحة عندهم، وسيأتي إن شاء الله الحديث عنها. علماً أنّه لم يرد شيء من هذه الأخبار في الصحيحين عند أهل السنّة.
وعليه، فما صحّ سنداً هنا هو:
1 ـ خبر زرارة (رقم 4)، وهو مناقضٌ للقرآن الكريم والسنّة الشريفة وحكم العقل كما قلنا قبل قليل، فلا اعتبار به.
2 ـ خبر محمد بن مسلم (رقم 5)، وقد قلنا بأنّه لا علاقة له بحكم ولد الزنا إسلاماً أو طهارةً.
3 ـ خبر أبي خديجة الآخر (رقم 9)، وقد قلنا بأنّه يناقض الكتاب والسنّة وحكم العقل.
وعليه، فلم يتحصّل خبرٌ صحيح السند والمتن، يمكن من خلاله الحكم بكفر ولد الزنا أو نجاسته. بل الدالّ بين هذه النصوص ـ كما بيّنا ـ ليس سوى أخبار غالباً ضعيفة السند أو المتن أو كليهما، فلا يحصل وثوق بالصدور من ذلك.
رابعاً: لو سلّمنا بدلالة بعض الروايات على النجاسة، كروايات السؤر والغسالة، فهي تُثبت النجاسة، ولا تُثبت الكفر أو العقاب؛ لاحتمال كون عنوان ولد الزنا مما تترتّب عليه النجاسة بلا توسّط عنوان الكفر، ولا دليل بالضرورة على الملازمة، ويمكن مبدئيّاً تصوّر الحكم بالنجاسة مترتباً على من هو معنون بعنوان المسلم، فهي أحكام اعتباريّة كما هو واضح.
خامساً: ذكر الشيخ الأنصاري والسيد الشهيد الصدر وغيرهما أنّ روايات الغسالة وأمثالها غاية ما تدلّ عليه هو الحزازة المعنويّة، ولو بقرينة عدم طهارته إلى سبعة آباء، ومقارنته بالكلب والناصب ونحو ذلك([39]).
وهو احتمالٌ وارد، وإن لم يظهر تعيّنه، إلا بعد ضمّ الإشكالات إلى بعضها أو بمثل ما قاله السيد محسن الحكيم من أنّ التعبير عن الناصب بأنه شرّهم كاشفٌ عن إرادة الخباثة المعنويّة([40]).
سادساً: إن تعبير (كره) الوارد في خبر الوشاء (رقم1) يمكن أن يجتمع مع الكراهة المصطلحة، دون الحرمة، فلا دلالة فيه على الحرمة أو النجاسة، كما أفاده بعض الفقهاء([41]). وهو جيّد. ويعزّز ـ كما أفاده السيد الصدر ـ بأنّه قد ثبتت طهارة النصراني واليهوديّ، فلا يكون هذا النص مفيداً للنجاسة لوجودهما فيه.
سابعاً: ما ذكره الشيخ الأنصاري، من أنّ غاية ما في هذه الأخبار هو عدم إسلام ولد الزنا، وهذا لا يُثبت كفره، إلا بنفي الواسطة بين الكفر والإسلام، وقد اختار الشيخ البحراني أنّ له حالة بين الإيمان والكفر، ولهذا يستفاد من النصوص أنّه لا يدخل الجنّة، ولكنّه لا يذهب إلى النار([42]).
إلا أنّ الإنصاف أنّ هذا من التكلّفات، والقرآن يذكر أنّ الناس إمّا في الجنّة أو في النار، وأنّهم إمّا مقرّبون أو أصحاب يمين أو شمال، وقد بُيّنت مواقعهم في الآخرة في الجنّة والنار، وظاهرة ولد الزنا لها حضور واضح في الموروث الحديثي والتاريخي، فكيف لم يُشر إليها القرآن الكريم وأطلق الوعود والعطايا وقوانين الثواب والعقاب إطلاقاً قد يفهم منه الإباء عن التخصيص؟!
والغريب ما ذكره الشيخ يوسف البحراني والشيخ جواد التبريزي من أنّ ابن الزنا المؤمن يُثاب يوم القيامة في النار، أي يكون ثوابه منها([43])، وهذا من تسرية الذهنية الفقهيّة الاعتبارية إلى الذهنية الكلاميّة، وكلّه مخالف للمزاج العام للقرآن الكريم، وإن كان في بعض الروايات الضعيفة إشارة لمثل هذه المصائر لولد الزنا، وأنّه لا يدخل الجنّة إلا من طابت ولادته([44])، وكذلك خبر أيّوب بن حرّ، عن أبي بكر قال: كنّا عنده ومعنا عبد الله بن عجلان، فقال عبد الله بن عجلان: معنا رجل يعرف ما نعرف، ويقال: إنّه ولد زنا، فقال: «ما تقول؟» فقلت: إنّ ذلك ليُقال له، فقال: «إن كان ذلك كذلك بني له بيت في النار من صدر، يردّ عنه وهج جهنم، ويؤتى برزقه»([45]).
فهذا كلّه مخالف لمنطق القرآن الكريم الصادح من أوّله إلى آخره بأنّ العبرة في الجنّة والنار هو الإيمان والعمل الصالح، وبأنّ الله وعد الذين آمنوا بالجنّة، والله لا يخلف الميعاد. ولم أفهم معنى وضعه في النار يأتيه رزقه دون أن يعذّب! وما قيمة حياته بناء على هذا الخيار القهري؟!
وعقليّة التخصيص يمكن إجراؤها في الأحكام الشرعيّة، أما في مثل ما نحن فيه فهو صعب جداً بعد كلّ هذا التأكيد القرآني وغيره، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأنّه لا تزر وازرة وزر أخرى، وأنّ سعيه سوف يُرى، وأنّ أكرمكم عند الله أتقاكم وأنّنا كرّمنا بني آدم و.. هذا فضلاً عن منطق العدل الإلهي الذي تؤمن به العدليّة.
من هنا فلا أصدّق هذه الروايات وأشكّ في وضعها، حتى لو قلنا بأنّه لا يجب على الله الثواب، وأنّ وعده يخصّص بغير ولد الزنا، كما ذكره السيد الخميني([46])، فإنّ هذا يخالف ظاهر بعض هذه الروايات، كرواية عدم نجاته مثله مثل سائح بني إسرائيل، ورواية عدم وجود أيّ خير فيه، وأنّه أسوأ من الكلب والخنزير، وأنّ النعال خير منه، فهذا لا يرتبط بقضيّة التفضّل بالثواب، بل يشير إلى ظاهرة واقعيّة في ابن الزنا، ويناقضها الواقع الخارجي ومنطق العدليّة، ولو كان السياق سياق عدم دخول الجنّة؛ لعدم وجوب الثواب على الله، لما ناسب ذمّ ابن الزنا في ذاته، بل لناسب مدحه وتصويره كأنّه مثل الآخرين غايته لا يُعطى الثواب.
ثامناً: ما ذكره السيد الخميني، من أنّ هذه النصوص يمكن فهمها ضمن سياق الروايات الكثيرة التي عبّرت بالكفر وأريد منه العصيان، ككفر تارك الصلاة مثلاً، فلا موجب لحملها على الكفر الاصطلاحي([47]).
إلا أنّ هذا الوجه يمكن الأخذ به لو أنّ النصوص استخدمت كلمة الكفر، إلا أنّ الموجود بين أيدينا هو الحكم عليه بالنار، وبأنّه نجس، وبأنّه لا خير فيه أبداً، وبأنّه أسوأ حالاً من الكلب والخنزير حتى لم تتحمّله سفينة نوح، وبأنّ النعال خير منه، وبأنّه أشرّ من غيره، وغير ذلك، وهذه الألسنة ـ بصرف النظر عن سائر المناقشات ـ لا تتحمّل التأويل الذي افترضه السيد الخميني، كما هو واضح.
تاسعاً: حاول بعضهم تخريج هذه الأحاديث بأنّ ولد الزنا يُسلب منه الإيمان قبل موته، ولهذا كانت هذه هي أحكامه.
وقد أجاب عنه الميرزا الآملي بأنّه لو كانت هذه هي النكتة في كلّ الأحكام المترتّبة عليه لكان يفترض ترتيب تمام آثار الإسلام عليه قبل وفاته، وتخصيص أثر الولادة من الزنا في الآخرة([48]).
ويمكن أن نضيف إلى كلامه رحمه الله أنّه لو كان الأمر كذلك، فلماذا ورد أنّه يوضع له بيتٌ في النار يتنعّم فيه، فهذا خلاف منطق العقاب القرآني.
عاشراً: إنّ خبر الكرخي (رقم 7) مناقضٌ للواقع، فهناك أولاد زنا كُثر في العالم لا يُبغضون أهل البيت، لأنّهم لا يسمعون بهم أساساً، والبغض التقديري غيرُ ظاهر من الرواية، بل إنّ اجتماع الخصال الثلاث التي ذكرتها هذه الرواية غير متحقّق فيهم.
حادي عشر: حاول بعضهم ـ كالسيد المرتضى ـ أن يفسّر هذه النصوص بأنّها إخبارٌ عن واقع حال ابن الزنا، ولو أظهر الإيمان والصلاح، فهي تخبر عن أنّ كلّ ابن زنا هو سيء وخبيث، ويختار الفساد، مهما ظهر لنا صلاح حاله، ولهذا لا نرتّب عليه آثار العدالة ولو بدت لنا؛ لإخبار الشارع لنا بأنّه غير عادل واقعاً([49]).
ويجاب بأنّ ذلك مآله إلى سلب الاختيار في الفهم العقلائي؛ إذ ما هذه الصدفة التي التأمت بحيث جعلت كلّ أولاد الزنا بالخصوص يختارون الفساد ليحرموا من الجنّة ولا يشذّ منهم أحد؟! فهذا لا يُفهم إلا بضرب من تأثير الخلقة عليهم؛ لأنّها القاسم المشترك بينهم. والغريب أنّ السيد المرتضى يردّ بعض الأخبار في الباب بأنها آحادية، ولا أدري كيف قبل بخبر (لا يدخل الجنّة ابن زنا) واعتبره مفيداً للعلم؟! فهذه تأويلات وتكلّفات في كيفية الخروج من مأزق هذه النصوص التي تخالف منطق القرآن ومنطق العقل السليم.
ثاني عشر: ذكر بعضهم كما تقدّم، أنّ الأحاديث تُحمل على أنّ المراد هو فاعل الزنا لا ولد الزنا، كما يقال: بنو الإسلام، وهم المسلمون.
وهذا غريب، فأيّ مُراجع لألسنة هذه الروايات يرى وضوحاً في أنّه يراد منها ابن الزنا، بل ما معنى أنّه كذلك إلى سبعة آباء أو ولده وولد ولده، وأمثال هذه التعابير؟! فما ذكر من التأوّلات مرجعه إلى شعورهم بصعوبة فهم هذه الأحاديث وفقاً لأصول الإسلام والقرآن والعقل، وهي أحاديث رواها العشرات من أئمّة الحديث الشيعة والسنّة، حيث ذكر السيد علي الميلاني أسماء خمسين من كبار علماء أهل السنّة نقلوا هذه الأحاديث في كتبهم([50]).
ثالث عشر: ذكر السيد علي الميلاني المعاصر، أنّ هذه الأحاديث يُفهم منها الكلام عن الحالة الغالبة، ومن ثم لا تمنع من حصول حالة الصلاح في ابن الزنا في حالات قليلة([51]).
وهذه المحاولة جيّدة، لولا أنّها لم تأخذ بعين الاعتبار مجموعة المواقف من ابن الزنا في مختلف الأبواب، فإنّ صدور مثل هذه النصوص سوف يسيء لابن الزنا الصالح، فما الفائدة في إعلامنا بأنّ أكثر أولاد الزنا سيكونون سيئين، ثم نقوم بالحكم عليهم وعلى سلالتهم وجذورهم بأنّهم في جهنّم، وبأنّ النعال خير منهم، وبأنّهم شرّ من غيرهم، وبأنّه لا خير في بدنهم ولا روحهم.. ونخلق وعياً اجتماعيّاً سلبيّاً منهم، بحيث يوجب ذلك خلق فضاء غير سليم تجاه الصالح من أولاد الزنا؟! فأين العدالة في هذا الموضوع؟!
فالسؤال الرئيس هنا: لو صحّ هذا التحليل فلماذا تخبرنا النصوص بهذه الطريقة ثم تحكم بهذه الحدّة عليه؟! علماً أنّ ابن الزنا إذا كان مسلماً يدخل الجنّة ولو دخل النار مدّةً نتيجة عدم صلاحه، على المشهور بين علماء الإسلام، مع أنّ النصوص تؤكّد على عدم دخوله الجنّة أبداً، بل كيف نجمع هذا التفسير مع مثل حديث سائح بني إسرائيل المفروض أنّه كان صالحاً؟! وكذلك مع خبر الديلمي المتقدّم، وخبر زرارة الدالّ على أنّ ابن الزنا لا خير فيه أبداً لا في لحمه ولا بشره ولا شيء منه، وخبر أبي خديجة أنّه لا يطيب ولد الزنا أبداً وأمثال ذلك. فهل هذه النصوص تخلق وعياً صحّياً تجاه ولد الزنا في المجتمع لو عاشها الناس أو أنّها تخلق وعياً سلبيّاً، وظاهرها أنّه مسلوب الخير مطلقاً؟!
هذا كلّه، ونحن لا نملك أيّ دليل علمي على أنّه بالفعل أولاد الزنا أغلبهم فاسد، ولم نقم بأيّ إحصاء علمي يؤكّد هذا الأمر، ولو كان المعيار هو الغلبة، فمن أين نشأت هذه الغلبة؟ فلو نشأت من كونه ابن زنا عدنا إلى أصل الإشكاليّة العقديّة العدليّة، ولو نشأت من الفضاء الاجتماعي المحيط حيث لا يتربّى بطريقة سليمة، فهذا أمرٌ يشترك معه فيه الكثير من أطفال الشوارع وأبناء الأسر الممزّقة وغيرهم، فما هو الموجب لتركيز النظر بهذه الحدّة على ابن الزنا؟! بل لو كان هذا هو السبب لكان اللازم بالشريعة أن تدعو لاحتضان ولد الزنا وخلق فضاء أسري بديل له حذراً من انحرافه، مع أنّ الجوّ العام يوحي بعكس ذلك تماماً، فيما تقدّمه لنا النصوص الحديثية في باب ولد الزنا عموماً.
وبعبارة أخيرة: إنّ فرض أنّ الأحاديث تحكي عن الحالة الغالبة في ابن الزنا غير معقول؛ إذ فضلاً عن أنّها ستكون جائرةً في حقّ ابن الزنا الصالح الذي يقرأها أو يسمعها، لا معنى لها في مثل خبر سائح بني إسرائيل، ولا في مثل عدم دخوله الجنّة أو وضعه في بيت في النار يتنعّم منه، فالصالح يدخل الجنّة، ولماذا مع صلاحه يوضع في بيتٍ في النار؟! كما أنّه لا يتناسب ذلك مع سياق خبر الديلمي، ولا خبر زرارة بعده. بل لو كانت العبرة بالغلبة لكان الأنسب الإشارة إلى ذلك، حفاظاً على المعايير القرآنيّة في الثواب والعقاب، نظراً لحساسية الموضوع ودفعاً لأيّ التباس في الفهم.
وعليه، فالصحيح أنّ ولد الزنا كسائر الناس، فإذا شهد الشهادتين فهو مسلم وتترتّب عليه آثار الإسلام، تمسّكاً بالقواعد الشرعيّة العامة في هذا السياق، وتمسّكاً أيضاً بالكثير من النصوص التي حدّدت لنا الإسلام الواقعي والظاهري معاً، وتمسّكاً كذلك بالنصوص الكثيرة التي بيّنت معايير الثواب والعقاب عند الله مشيرةً إلى أنّ الله لا يظلم، وأنّه يفي بوعده، وأنّه كريم جواد، وأنّ العبرة عنده بالإيمان والعمل الصالح، وإلا يلزم أن يكون طاهرُ المولد الفاسق الفاجر أحسن حالاً عند الله من ولد الزنا الصالح التقيّ الورع كسائح بني إسرائيل! ولهذا قال الحرّ العاملي بأنّ الموافق لقواعد العدليّة هو مجازاة ولد الزنا بعمله لا غير([52]).
ولم يُنقل في التاريخ أنّ المسلمين والمتشرّعة قد تعاملوا مع أولاد الزنا في مجتمعاتهم على أنّهم كفّار، فقتلوهم أو أخذوا منهم الجزية أو بحثوا في فقههم من هذه الزوايا، بل لو كان كافراً وارتكز كفره الواقعي أو الظاهري في أذهان المتشرّعة فما معنى ورود النصوص بأنّه لا يؤمّ الناس أو لا يقضي، فإنّ مثل هذه النصوص تشير إلى إرادة أهل البيت حرمانه من حقّ، ولو كان كافراً معلوم الكفر ولو ظاهراً لما كانت حاجة لهذه النصوص، بل لركّزوا على كفره وأنّه لا تترتّب عليه آثار الإسلام.
بل لو كان كفره ـ ولو الظاهري ـ مرتكزاً في الأذهان لكانت ظاهرة علاقاته مع الناس باديةً في النصوص من حيث النكاح، مع أنّنا لا نجد ذلك، ولم نسمع أن تحدّث الإسلام عن موقفٍ من أولاد الزنا في المجتمع العربي يميّزهم عن المسلمين ويعتبرهم كفّاراً ولو ظاهراً، كيف وسيكون الابن ـ ولو كان صغيراً ـ كافراً محروماً من الجنّة ومن كثير من الحقوق المدنيّة، بل قد يقال بنجاسته، بمقتضى إطلاق هذه النصوص، فيما الأب والأم مسلمان قد يدخلان الجنّة لو تابا!
كما أنّ خبر ابن أبي يعفور، قال: قال أبو عبد الله×: «إنّ ولد الزنا يستعمل، إن عمل خيراً جزي به، وإن عمل شراً جزي به»([53])، هو الموافق للقرآن والأوفق بالقواعد، لكنّه ضعيف السند أيضاً.
يضاف إلى ذلك أنّ مقتضى الفطرة وأخذ الميثاق أنّه مسلم ويتأتّى منه الإسلام، فلو كانت ولادته القهريّة تسلِب منه توفيق الإيمان ولو غالباً، ثم يعاقب أو لا يُثاب، فهذا خلاف المنطق الفطري الديني، وخلاف منطق إلقاء الحجّة عليه أمام الله سبحانه، ولكنّا رأينا في النصوص ترتيب الآثار على سوء أعماله وكفره لا على كونه ولد زنا.
وإنّني أعتقد بأنّ أيّ شخص يقرأ ـ بدون تكلّف وتأوّل وأدلجة ـ هذه النصوص، سيشعر بشكل واضح بمنافاتها للمناخ القرآني الجليّ في موضوع قيمة الإنسان، وأنّه لا أنساب يوم القيامة، ولا عبرة بكلّ هذه المعايير، بل العبرة بالعمل الصالح الذي يمكن أن يصدر من جميع البشر كلّ حسب طاقته، وأنّ الله لا يظلم أحداً شيئاً، فتخيّل من نفسك لو جاء حديث يقول: لا خير في كرديّ ولا عراقي ولا فارسي ولن يروا الجنّة أبداً، وأنّ النعال خير منهم، فهل تقبل بهذا الحديث وتجده منسجماً مع ثقافة العدل والإحسان والمنطق القرآني العادل في التعامل مع الناس، أو تعتبره موضوعاً أو تكل علمه إلى أهله ولا تعمل به مطلقاً؟!
وإذا كان الغرض منه الحدّ من الزنا بتخويف الزانيين، فلماذا تكون الطريقة بظلم وتشويه صورة الابن الذي لا ناقة له ولا جمل في كلّ ما حصل؟!
وإذا اُريد بيان التأثير السلبي للزنا على الولد في الجملة فهناك أشياء كثيرة تؤثر سلباً في الجملة على بني البشر ولم نجد هذه الحدّة في النصوص حولها؟!
وإذا اُريد عدم تعاطف الناس مع أولاد الزنا بحيث لا يشجّع ذلك على فعل الفاحشة، فإنّ هذا يكون على حساب ابن الزنا نفسه، لاسيما بعد حرمانه من جملة حقوق مدنيّة على رأي الكثير من الفقهاء كما سوف نرى بعون الله، فالأفضل أخذه من والديه واحتضانه بدل تركه منبوذاً في المجتمع بخلق ثقافة سلبيّة تجاهه، الأمر الذي سيشجّعه على الذهاب خلف سنّة أبيه وأمّه فيما فعلاه؟! فنحن عندما نحكم بهلاكه الدائم أو الغالبي نشجّعه على الفساد ونغريه به بدل أن ننقذه منه، وعندما نحكم بكفره فنحن نحرمه من الاندماج في المجتمع الإسلامي وكأنّنا نقول له بأنّ عليك أن تذهب لتندمج في مجتمع كافر كي تشعر بذاتك، ولو كان النبي يروّج مثل هذه المفاهيم فقد يصدّ بعض الناس عن الدخول في إسلامه عندما يكونون أولاد زنا حتى في ديانة غير الإسلام. أليست كلّ هذه المنظومة من الملاحظات النقديّة تربك وثوقنا بصدور هذه النصوص وتدفعنا لعدم الأخذ بها؟!
إنّني أحتمل أنّ صدور هذه النصوص جاء في العصر العباسي الذي كثرت فيه الفاحشة حداً عظيماً، وازداد الحديث فيه عن أولاد الزنا، فاختلقت هذه النصوص لمواجهة هذه الظواهر، أو أنّها أتت لتدين بعض الشخصيات التاريخية التي يراد اتّهامها في أدائها عبر اتهامها بأنّها منسوبة لآبائها، وهذا أمرٌ تكرّر كثيراً في عدد من الشخصيّات حتى في الصدر الأوّل كما هو معروف، وهذا كلّه يعزّز احتمال الوضع في هذه الأحاديث ويفقدنا الوثوق بها.
وعليه، فالصحيح هو القول بكون ولد الزنا كسائر الناس في ترتيب آثار الإسلام عليه أو الكفر، وفقاً لسائر القواعد الشرعيّة، وأنّه يحاسب على إيمانه وعمله الصالح لا غير، فلا يصحّ إطلاق القول بكفره.
3 ـ إمامة ولد الزنا للجماعة والجمعة
لعلّ المعروف بين فقهاء الإماميّة هو أنّ ابن الزنا لا يكون إماماً للجماعة وما اُخذت فيه الجماعة كصلاة الجمعة، دون تمييز في ذلك بين المأمومين طاهري المولد وغيرهم. بل قد ادّعي عليه الإجماع.
أمّا فقهاء أهل السنّة، فذهب بعضهم إلى كراهة إمامة ولد الزنا لكنّه لو تقدّم جاز، وهو المعروف من مذهب الأحناف، وبعض الشافعيّة، مستندين إلى أنّ ولد الزنا ليس له أب يثقّفه فيغلب عليه الجهل، وأنّ في تقديمه تنفير الناس من الجماعة.
وذهب آخرون إلى أنّه لا تكره إمامته، ولكن يكره أن يكون إماماً راتباً، وهو المعروف بين المالكيّة، ولعلّه رأي الشافعي أيضاً.
وذهب أحمد والحنابلة إلى أنّه لا تكره إمامته مطلقاً، شرط توفّر سائر الصفات فيه، وهو المنسوب أيضاً إلى عطاء، وسليمان بن موسى، والحسن، والنخعي، والزهري، وعمرو بن دينار، وإسحاق، وداود، وابن المنذر وغيرهم([54]).
وقد عبّر الكثير من الفقهاء عن هذا الشرط عادةً في كلماتهم بطهارة المولد، وبناءً عليه، فلو شكّ في طهارة مولده لم تجز الصلاة خلفه؛ لأصالة عدم الطهارة، وسوف نرى أنّ هذا مخالف للنصوص التي أخذت قيد أن لا يكون ابن الزنا، ولم تأخذ قيد أن يكون طاهر المولد، إذ يمكن استصحاب عدم كونه ابن زنا عند الشكّ، ولعلّه لهذا فسّر بعضهم شرط طهارة المولد بأن لا يعلم كونه ابن زنا، كما أشار لذلك كلّه السيد محسن الحكيم([55]).
والمستند في الحكم هنا مجموعة من الروايات الإماميّة عن أهل البيت، حيث لا توجد رواية سنيّة في الموضوع، ولا رواية نبويّة، ولهذا اعتمد أهل السنّة ـ كما رأينا ـ على وجوه استحسانيّة اعتباريّة غير سالمة؛ لأنّ المفروض أنّ إمام الجماعة يمكن أن نشترط فيه علمه بالصلاة وصلاحه، ومن ثمّ لا داعي لشرط زائد مثل طهارة المولد لإحراز علمه وصلاحه، كما أنّه لو كان عدم وجود الأب معه مبرّراً لافتراض جهله بالدين، فما هو العمل في اليتيم، حيث يلزم أن نقول بعدم جواز إمامته؟!
وعلى أية حال، فأهم الروايات هنا ما يلي:
الرواية الأولى: معتبرة أبي بصير، عن أبي عبدالله×، قال: «خمسة لا يؤمّون الناس على كلّ حال: المجذوم والأبرص والمجنون وولد الزنا والأعرابي»([56]).
وهي واضحة في الدلالة على المطلوب، ومعتبرة من حيث السند.
الرواية الثانية: معتبرة زرارة ـ على المشهور ـ عن أبي جعفر×، قال: قلت له:.. فقال: وقال أمير المؤمنين×: «لا يصلّي أحدكم خلف المجذوم والأبرص والمجنون والمحدود وولد الزنا، والأعرابي لا يؤمّ المهاجرين»([57]).
وهي واضحة في الدلالة على المطلوب أيضاً، وسندها معتبر على المشهور، وفيه إبراهيم بن هاشم القمّي.
وقد يقال بأنّ ظاهرها النهي عن الصلاة خلف هؤلاء، وهو لا يلازم بطلان الصلاة، فلعلّه حكمٌ تكليفي مستقلّ في ظرف الجماعة، لا أنه يبطل الصلاة والجماعة، تماماً كقولك: لا تنظر نظرة حرام وأنت تصلّي، وسيأتي.
الرواية الثالثة: خبر محمد بن مسلم، عن أبي جعفر× أنه قال: «خمسة لا يؤمّون الناس، ولا يصلّون بهم صلاة فريضة في جماعة: الأبرص والمجذوم وولد الزنا والأعرابي حتى يهاجر، والمحدود»([58]).
وهذا الخبر دالّ أيضاً، لكنّه ضعيف السند، كما أشار السيد الخوئي([59])؛ لضعف طريق الصدوق إلى محمد بن مسلم في المشيخة، على ما هو الصحيح، فيصلح للتأييد.
الرواية الرابعة: خبر الأصبغ بن نباتة، قال: سمعت علياً× يقول: «ستّة لا ينبغي أن يسلَّم عليهم، وستّة لا ينبغي [لهم] أن يؤمّوا الناس، وستّة في هذه الأمّة من أخلاق قوم لوط، فأما الذين لا ينبغي أن يسلّم عليهم: فاليهود والنصارى، وأصحاب النرد والشطرنج، وأصحاب الخمر، والبربط والطنبور، والمتفكّهون بسبّ الأمهات، والشعراء. وأمّا الذين لا ينبغي أن يأمّوا من الناس، فولد الزنا، والمرتدّ، والأعرابي بعد الهجرة، وشارب الخمر، والمحدود، والأغلف..»([60]).
وهذه الرواية ضعيفةٌ من السند، حيث وقع في طريقها أبو جميلة، وهو المفضل بن صالح الضعيف المتهم.
يضاف إلى ذلك أنّ الوارد في الرواية هو تعبير «لا ينبغي»، وهذا التعبير وإن كان يصلح لإفادة الحرمة، إلا أنّه يستعمل في الكراهة والتنزيه أيضاً، فلا يتعيّن دلالته في المقام على الحرمة التكليفية والوضعيّة، ويعزّز هذا الاحتمال أنّ نفس التعبير ورد في موضوع من يُسلّم عليه، مع أنّه لا خلاف في جواز السلام على الأصناف الستة التي ذكرت في ذلك ولو بعضها على الأقلّ، فدلالة هذه الرواية ـ كسندها ـ ضعيفة.
الرواية الخامسة: ما أورده المحدّث النوري عن كتاب جعفر بن محمد بن شريح، عن عبدالله بن طلحة، عن أبي عبدالله× أنه قال: «لا يؤمّ الناس: المحدود، وولد الزنا، والأغلف، والأعرابي، والمجنون، والأبرص، والعبد»([61]).
وهذا الخبر ضعيف؛ لعدم وضوح الطريق أساساً، بل عدم ثبوت وثاقة جعفر بن محمد بن شريح، كما أنّ عبد الله بن طلحة إن كان هو النهدي فهو مجهول الحال، فالخبر ضعيف سنداً، ومصدراً.
يضاف إلى ذلك شذوذ هذا الخبر في موضوع العبد، حيث تفرّد بذلك، مع وجود روايات معارضة له فيه.
الرواية السادسة: خبر العياشي عن عبدالله (عبيد الله) الحلبي، عن أبي عبدالله× قال: «ينبغي لولد الزنا أن لا تجوز له شهادة، ولا يؤمّ بالناس، لم يحمله نوح في السفينة، وقد حَمل فيها الكلب والخنزير»([62]).
والحديث ضعيف السند؛ لعدم وضوح طريق العياشي إلى الحلبي، مضافاً إلى ضعفه متناً ـ بملاحظة ذيله ـ كما قلنا سابقاً.
الرواية السابعة: صحيحة زرارة، قال: سمعت أبا جعفر× يقول: «لو أنّ أربعةً شهدوا عندي على رجل بالزنى، وفيهم ولد الزنى لحددتهم جميعاً؛ لأنّه لا تجوز شهادته، ولا يؤمّ الناس»([63]).
وهي تامّة الدلالة والسند.
الرواية الثامنة: خبر علي بن جعفر، عن أخيه، قال: سألته عن ولد الزنا، هل تجوز شهادته؟ قال: «نعم، (لا) تجوز شهادته، ولا يؤمّ»([64]).
وسيأتي الحديث عن هذا الخبر في شهادة ولد الزنا.
هذه هي الأحاديث العمدة الواردة في ابن الزنا من حيث إمامته للجماعة، ويمكن هنا ذكر بعض التعليقات:
التعليق الأوّل: ما أورده المحقّق الإصفهاني على الاستدلال بروايات الباب بأنّ هذه الروايات قد ورد فيها تعداد جملة من الأشخاص ممّن لا ينبغي الصلاة خلفهم، مع أنّ بعض من ورد ذكره قد ثبت جواز الصلاة خلفه، ودلّت على ذلك الروايات الأخرى، وذلك مثل الأبرص، والروايات التي لم تضم مثل الأبرص غير معتبرة السند هنا، وما ضمّ مثله فهو المعتبر سنداً، ومع هذا كيف نفهم من وحدة التعبير «لا يؤمّون» «لا يصلي أحدكم خلف».. إرادة الحرمة، بعد الجزم بعدم إرادتها جداً في مورد الأبرص؟ ولهذا احتاط الشيخ الإصفهاني في المسألة([65]).
وهذا الاشكال واردٌ وعرفي أيضاً، ولا أقلّ من تضعيفه الوثوق النهائي في المسألة. ولهذا لم يُفتِ الكثير من الفقهاء بعدم جواز الصلاة خلف العبد والأغلف والمجذوم والأبرص، رغم ورود هذه العناوين في هذه الروايات هنا، وإذا التأمت عناوين متعدّدة في رواية، وبعضها ثبت فيه عدم الإلزام، وجاءت ضمن تعبير واحد، فإنّ ذلك يضعف ـ عرفاً ـ الوثوق بدلالة هذا التعبير على الإلزام، فعندما يقول: خمسة لا يؤمّون الناس، ثم ثبت بالأدلّة الأخرى أن اثنين منهم كان النهي فيه كراهتيّاً، فإنّ دلالة التعبير على الإلزام في البقيّة يصبح غير عرفي مع وحدة التعبير في الرواية. نعم، على منهج مدرسة الميرزا النائيني في فهم الوجوب ونحوه بالعقل لا يتمّ هذا الكلام، لكنّنا نراه منهجاً غير عرفيّ.
وهذا الإشكال لا يسلم منه عدا صحيحة زرارة (رقم 7)، إذ لم يرد فيها ضمّ هذه العناوين إلى ولد الزنا، أمّا بقية الروايات فقد تبيّن حالها.
التعليق الثاني: إنّ عدد الروايات الدالّة في نفسها هنا سبعة، وبينها ثلاث روايات صحيحة السند على المشهور، وروايتان عندنا، فعلى مبنى حجيّة خبر الواحد الظنّي يمكن الأخذ بالصحيح من الأحاديث، وأمّا على مبنى حجيّة الخبر المطمأنّ بصدوره، فإنّ هذا القدر يصعب تحصيل اطمئنان بصدوره في مورد بحثنا، مع ثماني روايات هذا حالها:
أ ـ بينها ست (أو خمس) روايات ضعيفة السند، واثنتان (أو ثلاث) صحيحة السند، وواحدة (بل اثنتان لو قلنا بصحّة ثلاثة) من الصحيحتين ضعيفة الدلالة على الإلزام كما تقدّم.
ب ـ واحدة من مجموعة الروايات ضعيفة المتن، وهي الرواية السادسة.
ج ـ الرواية الرابعة ضعيفة الدلالة أساساً في نفسها.
د ـ كلّ من الروايات رقم ( 1 ـ 2 ـ 3 ـ 5)، ضعيفة الدلالة، وفقاً للتعليق الأوّل المتقدّم، أي بضمّها إلى سائر نصوص باب الجماعة وشروط الإمام.
وعليه ففي الحقيقة لم يسلم رواية دالّة غير ضعيفة المتن، إلا صحيحة زرارة (رقم 7)، فلوحدها لا تكفي للوثوق بالصدور، وعليه فيُلتزم بوجود توجيه عام بعدم إمامة ولد الزنا، لكنّ هذا التوجيه غير إلزامي.
وربما يتأيّد ذلك كلّه بأنّه لو صدر عن النبيّ مثل هذا الحكم في العصر النبوي (بعد البناء على عدم بقاء شيء من الدين لم يبيّن بوفاته)، لأثار أسئلةً في ظلّ وجود ظاهرة أولاد الزنا في المجتمع العربي وفقاً لبعض الآراء، ومع ذلك لا نجد عيناً ولا أثراً لذلك في النصوص النبويّة، ولكنّ هذا مجرّد مؤيّد وليس بدليل.
التعليق الثالث: لو راجعنا هذه الروايات جميعها، عدا خبر زرارة، فسوف نجد تعبيراً متكرّراً وهو «إمامة الناس»، وهذا التعبير من القريب جداً أن يُراد به الصلوات العامّة، مثل صلاة الجمعة والعيدين وصلوات المساجد جماعةً، أما صلاة الجماعة التي تكون لبضعة أشخاص أو لشخص واحدٍ في البيت أو غيره، فلا يظهر من هذه الأحاديث التعرّض له. وبعبارة أخرى لعلّ الممنوع هو تصدّيه للصلوات العامة لا لمطلق الجماعة، وهو ما توحيه كلمة (الناس) الواردة في هذه النصوص، فتأمّل جيداً.
نعم، خبر زرارة ورد في نهي المأمومين عن الائتمام بالمجذوم والأبرص والمحدود و.. فلا تفيد ذلك، لكن في آخرها تعبير «والأعرابي لا يؤمّ المهاجرين»، ولعلّه يساعد على الاحتمال الذي أثرناه في فهم هذه الأحاديث، كما أنّ خبر العياشي يحتمل الخصوصيّة الذاتية.
التعليق الرابع: لو راجعنا هذه الروايات فسوف نجد لها لسانين: لسان نهي الشخص نفسه عن التصدّي للإمامة، أو نهي الآخرين عن الائتمام بهذا الشخص، ولسان الإخبار بأنّ فلاناً وفلاناً لا يؤمّون الناس، وهنا يحتمل أنّ يكون المورد حكماً تكليفياً في ترك التصدّي أو ترك الاقتداء، لا أنّ ذلك يجعل صلاة الجماعة غير مشروعة ولا تترتّب عليها الآثار، فلم يرد في الروايات هنا ما ورد في روايات أخر من عدم ترتيب آثار الجماعة على هذا الاقتداء، وعليه، فما يُفهم هنا هو عدم جواز التصدّي له وعدم جواز الاقتداء به، لا عدم صحّة الجماعة لو حصلت وتمّ الاقتداء.
والحاصل: إنّ حظر إمامة الجمعة والجماعة على ولد الزنا لم يثبت بوجه معتبر بناءً على حصر حجّية الخبر بالمطمأنّ بصدوره، وإن كان هو الأفضل احتياطاً للروايات الواردة، ويتأكّد الاحتياط في الصلوات العامّة.
4 ـ شهادة ولد الزنا
المعروف بين فقهاء الإماميّة عدم نفوذ شهادة ولد الزنا ولو كان عادلاً، فلا تؤخذ شهادته بالأمر اليسير ولا بغيره، سواء عرف ولد الزنا بالصلاح أم لم يعرف به، وذهب بعضهم الى قبول شهادته في الأمر اليسير مع كونه صالحاً. أمّا أهل السنّة فلعلّ المعروف بينهم ـ عدا المالكيّة ـ قبول شهادته على الزنا، وأمّا شهادته على غير الزنا فهي مقبولة عندهم بالاتفاق حسبما يبدو([66]).
وقد استند في ذلك ـ أي منع شهادته ـ لوجوه، أبرزها:
الوجه الأوّل: القول بكفره وعدم إسلامه، مع أنّ من شروط الشهادةِ الإسلامَ والإيمان في الشاهد.
ويجاب بأنّه قد تقدّم عدم صحّة القول بكفر ولد الزنا، وفاقاً للمشهور، فلا موجب لعدم الأخذ بشهادته من هذه الزاوية.
الوجه الثاني: النصوص الخاصّة الواردة في المقام، وهي:
1 ـ خبر أبي بصير، قال: سألت أبا جعفر× عن ولد الزنى أتجوز شهادته؟ فقال: «لا»، فقلت: إنّ الحكم بن عتيبة يزعم أنّها تجوز. قال: «اللهم لا تغفر ذنبه، ما قال الله عز وجلّ للحكم بن عتيبة: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ﴾»([67]).
وطريق هذا الحديث في الكافي ضعيف بسهل بن زياد تارةً، وبصالح بن السندي أخرى، لكن للشيخ الطوسي طريق آخر للحسين بن سعيد الأهوازي عن أحمد بن حمزة، عن أبان، عن أبي بصير، وقد كنّا لم نصحّح طريق الشيخ إلى الحسين بن سعيد.
كما رواه الصفار في البصائر عن السندي بن محمد، عن جعفر بن بشير، عن أبان، وهو طريقٌ صحيح لو غضضنا الطرف عن أصل ثبوت نسخة البصائر التي بين أيدينا اليوم.
ورواه الكشي عن محمد بن مسعود، عن علي بن الحسن بن فضال، عن العباس بن عامر، عن جعفر بن محمد بن حكيم، عن أبان، وهو ضعيفٌ بجعفر بن محمد بن حكيم.
وعليه، يكون لهذا الحديث أربعة طرق إلى أبان، وهي:
أ ـ طريق الكليني الضعيف بسهل بن زياد وابن السندي.
ب ـ طريق التهذيب الضعيف بطريقه إلى الأهوازي.
ج ـ طريق الصفّار، وهو صحيح.
د ـ طريق الكشي الضعيف بمحمد بن جعفر بن حكيم.
وبتعاضد الطرق الأربعة يمكن القول بصحّة هذا الحديث إلى أبان، لكنّه يبقى حديثاً آحادياً من أبان إلى أبي بصير إلى الإمام، فلاحظ وانتبه.
نعم، متن هذا الحديث فيه بعض الغرابة، فلماذا الدعاء على المسلم بأن لا يغفر الله ذنبه؟! أليس من الأنسب بثقافة الإسلام والقرآن أن يُدعى له بالهداية والرشاد والغفران؟ إلا إذا قيل بأنّ النصوص متعدّدة في ذمّه وبعضها يتّهمه بالكذب، وأنّه بالغ السوء جدّاً.
ثم ما علاقة الآية القرآنية بما نحن فيه؟ إلا على تفسيرها بأنّ القوم يراد منهم أهل البيت، كما جاء في بعض الروايات، مع أنّه خلاف ظاهر الآية الكريمة بفهمها العرفي والعربي، واستخدام القرآن لكلمة قوم، واضح في المعنى الواسع لانتماء الرجل وقبيلته وعشيرته وأهل بلده، لا في خصوص أهل بيته، فالرواية ملتبسة المتن من وجهة نظري. هذا إذا قلنا بأنّ الحكم بن عيينة عربيّ، وأمّا إذا قلنا بأنّه غير عربي وأنّه مولى امرأة من كندة، فقد ينظر الحديث إلى أنّه لا يعرف العربيّة ولا يفقه حتى يفتي، وإنّما يعرفها العربي، أي محمّد وقومه، ولكنّ هذه الطريقة في النقد تبدو غير واضحة، فلو صحّت هذه الآليّة في تقويم الأشخاص، للزم الطعن في كثير من غير العرب في أمر الاجتهاد، إلا إذا قيل بأنّ ذلك جاء بعد الفراغ عن عدم فقاهة الحكم بن عيينة، لا مطلقاً.
وعلى أيّة حال، فالحديث دالٌّ على عدم نفوذ شهادة ولد الزنا مطلقاً كما هو واضح.
2 ـ خبر محمد بن مسلم، قال: قال أبو عبدالله×: «لا تجوز شهادة ولد الزنا»([68]).
والدلالة واضحة؛ غير أنّ السند وإن كان كلّ رواته ثقاتاً، إلا أنّنا قلنا مراراً بأنّ ما يرويه محمد بن عيسى عن يونس، لا يُحرز فيه اتصال السند؛ لوجود شبهة إرسال، فلا دليل يُثبت صحّة الرواية.
3 ـ صحيحة زرارة، قال: سمعت أبا جعفر× يقول: «لو أنّ أربعةً شهدوا عندي على رجل بالزنى، وفيهم ولد الزنى لحددتهم جميعاً؛ لأنّه لا تجوز شهادته، ولا يؤمّ الناس»([69]).
والخبر دالّ على عدم نفوذ شهادة ولد الزنا، ويحتمل اختصاص ذلك بشهادته على الزنا فقط، وإن كان مجرّد احتمال لكنّه ليس بذاك البعيد للغاية، لاسيما بعد ذهاب بعض علماء أهل السنّة إلى تخصيص رفض شهادته بخصوص شهادته في الزنا.
4 ـ خبر الحلبي، عن أبي عبدالله× قال: سألته عن شهادة ولد الزنا، فقال: «لا، ولا عبد»([70]).
والسند ضعيف بالطريق إلى الأهوازي، ولكنّه صحيح عند المشهور.
ولكن قد يقال بأنّ هذه الرواية ضعيفة الدلالة هنا؛ لأنّه تعارضها مجموعة من الروايات المعتبرة الدالّة على نفوذ شهادة العبد والمملوك، والمذكورة في محلّه، وتقدّم تلك الروايات بملاك موافقة القرآن، كما أفاده السيدان: الخوئي والكلبايكاني وغيرهما([71])، وعليه، فمن الصعب بعد ذلك وبعد وحدة سياق التعبير أن يُفهم من نفي شهادة ولد الزنا في هذه الرواية عدم نفوذها جدّاً، فإذا قبل الفقيه بذلك هناك ازداد وهن دلالة هذه الرواية هنا في موضوعنا، بملاك وحدة السياق والتعبير.
5 ـ خبر العياشي المتقدّم، عن الحلبي، عن أبي عبدالله× قال: «ينبغي لولد الزنا أن لا تجوز له شهادة، ولا يؤمّ بالناس، لم يحمله نوح في السفينة، وقد حمل فيها الكلب والخنزير»([72]).
وسندها ضعيف كما تقدّم، وكذلك متنها، فراجع.
وعليه، فهناك خمس روايات بينها روايتان معتبرتان، وعليه فلا تقبل شهادة ولد الزنا. لكن يقابل ذلك بضعف متن الرواية الخامسة بلحاظ ذيلها كما تقدّم، وشيء من التساؤل حول متن الرواية الأولى كما ألمحنا، وكذلك ضعف دلالة الرواية الرابعة بعد ضمّ روايات العبد، مع احتماليّة معارضة الروايتين الآتيتين قريباً ولو معارضةً في الجملة، إلى جانب نصّ الشيخ الطوسي الآتي، مع إفادة عمومات القرآن والسنّة قبول شهادته لو قلنا بوجود عموم، فتحصيل اليقين بالصدور في حرمان ولد الزنا مطلقاً من الشهادة، مشكلٌ، نعم على مبنى حجيّة خير الواحد الثقة لا إشكال في عدم نفوذ شهادة ولد الزنا.
هذا، ويحتمل ـ ولو بعيداً ـ أن تكون قضية منعه من الشهادة خاصّة بشهادته على الزنا أو أنّ فلاناً هو ابن زنا؛ نظراً لاحتمال المصلحة في ذلك، وارتفاع احتمال الكذب في الشهادة.
غير أنّ هذه المجموعة من الروايات تعارضها مجموعة أخرى وهي:
الرواية الأولى: خبر أبان، عن عيسى بن عبد الله، قال: سألت أبا عبدالله× عن شهادة ولد الزنا، فقال: «لا تجوز إلا في الشيء اليسير، إذا رأيت منه صلاحاً»([73]).
ودلالة الحديث واضحة، وصحّته مبنيّة على تصحيح طريق الطوسي إلى الأهوازي، وهو صحيح عند المشهور كما تقدّم، لكنّ الحر العاملي احتمل فيه التقية([74])، ولا موجب له، بل يمكن الالتزام بكونه مخصّصاً لسائر الروايات بعد كونه أضيق دائرةً منها.
وقد أورد السيد الخوئي على مضمون الرواية بأنّ الشيء اليسير والكثير ليسا من الأمور التي لها واقعيّة، بل هي أمور إضافيّة نسبية؛ إذ ما من شيء إلا وهو صغير بالنسبة لشيء وكثير بالنسبة لآخر، فلا فائدة من هذا المضمون الذي تقدّمه الرواية، فيوكل علمها إلى أهله([75]). ويظهر من السيد السبزواري ـ ولو تلويحاً ـ تبنّي إشكال السيد الخوئي هنا([76]).
وقد أجيب عن هذا الإشكال بجوابٍ صحيح، وهو ما ذكره السيد كاظم الحائري، من أنّ مفهوم اليسير وغيره من المفاهيم العرفيّة، فيرجع فيه إلى العرف([77])، وما لم يحرز أنّه يسير يرجع فيه إلى مقتضى العمومات السابقة.
وذكر بعضهم أنّ مفاد هذا الحديث يرجع إلى سقوط شهادة ولد الزنا مطلقاً، فلا تعارض بينه وبين الروايات السابقة أصلاً حتى بالعموم والخصوص؛ لأنّ الشيء اليسير مطلقاً لا ماليّة له، فلا معنى للشهادة فيه، وفيه ما فيه([78])؛ فإنّه خلاف الظاهر جداً، وإن ذهب إليه العلامة الحلي([79]).
الرواية الثانية: خبر علي بن جعفر، عن أخيه، قال: سألته عن ولد الزنا، هل تجوز شهادته؟ قال: «نعم، تجوز شهادته، ولا يؤمّ»([80]).
ظاهر هذا الحديث نفوذ شهادة ولد الزنا مطلقاً، نعم لا يكون إماماً، فيعارض الأحاديث المتقدّمة بأجمعها معارضةً تامّة، ولهذا حمله الحرّ العاملي وغيره على التقية([81]).
ولكنّ هذا الحديث يواجه مشاكل:
أولاً: إنّ الوارد في كتاب «مسائل علي بن جعفر» الذي يروي الحميري هذا الخبر عنه، أنه «لا تجوز شهادته ولا يؤم»([82]). بل لقد نقل ذلك عن مسائل علي بن جعفر الحرُّ العاملي نفسه([83])، فيتعارض النقل في الحديث الواحد من الراوي الواحد، ولا أقلّ من التساقط، فنبقى على دلالة المجموعة الأولى من الروايات بلا معارض.
ثانياً: إنّ الرواية أعلاه نقلها الحرّ العاملي كذلك في الوسائل عن قرب الإسناد، لكنّ الموجود في طبعة قرب الإسناد للحميري هو: «لا تجوز شهادته ولا يؤم»([84])، ومعه يتساقط النقلان في هذا الإطار.
وهذه المناقشة جيدة لو ثبت طريق لقرب الإسناد الموجود بين أيدينا اليوم، وإلا أشكل الأمر، لكن على أية حال، هي قرينة مضعِّفة لهذا الحديث بهذه الصيغة له.
ثالثاً: إنّ الرواية ترجع بحسب صيغة الأخذ بشهادة ابن الزنا، إلى عبد الله بن الحسن، عن علي بن جعفر. وعبدالله بن الحسن لم تثبت وثاقته، فتكون الرواية ضعيفة السند.
وبهذا ـ مع إعراض المشهور عن هذه الرواية ـ تسقط عن الاعتبار؛ والأرجح حصول التصحيف في نسخة صاحب الوسائل، كما أفاده بعض العلماء([85]). وإن كان قول: (نعم)، يناسب بعده الإثبات أكثر مما يناسبه النفي، إذا كان السؤال بصيغة الإثبات، فيسألك شخص: هل تذهب إلى السوق: فتقول: نعم أذهب، ولا تقول: نعم، لا أذهب. ويسألك شخص: هل يجوز لبس الحرير؟ فتقول: نعم يجوز، ولا تقول: نعم لا يجوز، هذا هو مقتضى العادة الغالبة في طريقة التعبير، حتى لو كان الاثنان صحيحين لغةً ونحويّاً.
والمتحصّل إلى الآن عدم نفوذ شهادة ولد الزنا مطلقاً، وعلى أبعد تقدير أخذ شهادته في الأمر اليسير، على مبنى حجيّة خبر الواحد الظنّي الثقة، دون الخبر المعلوم صدوره.
إلا أنّه في مقابل هذا كلّه، ذكر الشيخ الطوسي أنّ: «شهادة ولد الزنا إذا كان عدلاً مقبولة عند قوم في الزنا وفي غيره، وهو قويّ، لكنّ أخبار أصحابنا يدلّ على أنه لا يقبل شهادته.. وقال بعضهم: لا تقبل شهادة ولد الزنا.. والأوّل مذهبنا»([86]).
ويظهر من الشهيد الثاني تبنّي هذا الكلام، حيث قال بعد نقل كلام الشيخ الطوسي: «ومجرّد معارضة أخبار أصحابنا لا يقتضي الرجوع عمّا قواه؛ لجواز العدول عن الأخبار لوجه يقتضيه، فقد وقع له كثيراً، ووجه العدول واضح؛ فإنّ عموم الأدلّة من الكتاب والسنة على قبول شهادة العدل ظاهراً يتناول ولد الزنا، ومن ثم ذهب إليه أكثر من خالفنا»([87]). وهذا الموقف من الشهيد الثاني جاء بعد ذهابه إلى ضعف سند الأخبار على مبانيه، عدا خبر واحد قاصر الدلالة عنده.
لكنّ السيد الطباطبائي شكّك في اعتماد الشيخ الطوسي التقوية هنا، على أنها مذهبٌ له([88])، لكنّه غير واضح بعد ضمّ آخر كلامه.
وعلى أيّة حال، فما أفاده الشيخ الطوسي غير واضح على مبانيه، لا سيما وأنّه أحد الذين رووا لنا أخبار ولد الزنا، ما لم نقل بأنّه يرى هذه الأخبار أخباراً آحادية لا ترقى إلى مستوى العلم بالصدور، والخبر الحجّة هو خصوص المعلوم الصدور فلا يعمل بها.
وسيأتي في ختام أبحاثنا هذه تعليق إجماليّ على مجمل نصوص ابن الزنا، إن شاء الله تعالى.
الوجه الثالث: ما ذكره بعض علماء أهل السنّة، لردّ شهادة ابن الزنا في الزنا نفسه، حيث ذكروا أنّ ولد الزنا متّهم بالحرص على التأسّي، بمعنى وجود من يكون مثله في كونه ولد زنا، وأنّ الإنسان إذا كان له من يشاركه في صفة خفّت عليه المصيبة؛ لأنّها إذا عمّت هانت، وإذا ندرت وخصّت هالت، فالعادة أنّ من فعل قبيحاً فإنه يحبّ أن يكون له نظراء فيه، كما قال عثمان: ودّت الزانية لو أنّ النساء كلّهنّ يزنين، وعليه يكون ولد الزنا متهماً بالرغبة في مشاركة غيره له في كونه ابن زنا مثله، وبأنّه يودّ اشتهار الزنا بين الناس، حتى لا تلحقه معرّة، ومن هنا فليس ردّ شهادته هنا لعدم توفّر شرط العدالة، بل هو لوجود التهمة التي لا تنفكّ عن كونه ابن زنا، ولهذا أيضاً ردّوا شهادته في كلّ ما يتعلّق بالزنا كالقذف واللعان([89]).
والجواب: إنّ هذا الكلام ليس بغالبي فضلاً عن الاطّراد الدائمي، فليست عقدته من الزنا، بل من الولديّة بالزنا، فيمكن تصوّر التهمة فيما لو أراد أن يشهد على شخص بأنّه ولد زنا؛ لأنّ في ذلك منفعةً مفترضة له، أمّا أصل الشهادة على الزنا فلا علاقة لها بتهمته بدرجة قويّة، بل لو صحّ هذا الأمر للزم عدم قبول شهادة الزاني ولو تاب وأصلح، في قضايا الزنا، وعدم قبول شهادة القاتل في قضايا القتل، وعدم قبول شهادة الزوج في الانتصار لزوج آخر على زوجته وهكذا، وهذا باب يُعلم من الشرع عدم تبنّيه إلا في حالات محدودة جدّاً.
هذا مضافاً إلى أنّ فكرة المعرّة إنّما هي في ظلّ مجتمع محافظ معنيّ بقضيّة النسب، فلا يمكن التعميم لمجتمعات لم تعد ترى كثير معرّة وعيب في كونه ولد زنا بحيث يصل الأمر إلى حدّ رغبته بتعميم هذه الحال، فهذا الوجه استنسابي لا ينشأ من نصّ واضح، ولا من دليل مطّرد ولا غالبي.
والمتحصّل عدم قبول شهادة ولد الزنا، بناء على حجية خبر الواحد الظنّي الثقة، أمّا على مبنى حجيّة الخبر المعلوم بصدوره، فإنّ الأخبار هنا لا ترقى إلى مستوى اليقين بصدورها، وهي لا تزيد عن عدد أصابع اليد الواحدة، وفيها بعض الملاحظات المتقدّمة، نعم الظنّ القوي موجود، لكنّه لا يكفي على هذا المبنى، والشهرة واضحة المدركيّة هنا.
5 ـ دية ولد الزنا
المعروف أنّ دية ولد الزنا هي دية المسلم، وذهب بعضهم إلى أنّ ديته ثمانمائة درهم مثل دية الذمّي، وهذا هو مذهب الصدوق والمرتضى، فيما يظهر من ابن إدريس أنّه لا دية له؛ لأصالة براءة الذمّة([90])، ويبدو أنّ ذلك عنده انطلاقاً من كفره على رأيه، وأنّ دم كلّ كافر يذهب هدراً إلا ما خرج بالدليل، ولم يخرج ابن الزنا بدليل بعد عدم الأخذ بهذه الروايات هنا في الباب.
والمستند النصّي هنا هو بعض الروايات، وهي:
الرواية الأولى: خبر جعفر بن بشير، عن بعض رجاله، قال: سألت أبا عبد الله× عن دية ولد الزنا. «قال: ثمانمائة درهم مثل دية اليهودي والنصراني والمجوسي»([91]).
وهذه الرواية هي بعينها ما نقله الشيخ الطوسي عن جعفر بن بشير أيضاً([92]).
الرواية الثانية: خبر عبد الرحمن بن عبد الحميد، عن بعض مواليه قال: قال لي أبو الحسن×: «دية ولد الزنى دية اليهودي ثمانمائة درهم»([93]).
الرواية الثالثة: خبر إبراهيم بن عبد الحميد، عن جعفر× قال: «دية ولد الزنى دية الذمي ثمانمائة درهم»([94]).
هذه هي الروايات الثلاث العمدة في المقام، وهي تتفق في الدلالة على كون الدية ثمانمائة درهم، فيما دية المسلم عشرة آلاف درهم.
والبحث في هذه الروايات سنداً مهمّ هنا، وذلك:
1 ـ إنّ الرواية الأولى مرسلة، ومراسيل جعفر بن بشير غير معتبرة، ولا القول بوثاقة كلّ مشايخه، كما حقّقناه في علم الرجال.
2 ـ أما الرواية الثانية فهي ضعيفة بالإرسال أيضاً كما هو واضح.
3 ـ وأما الرواية الثالثة، فهي التي اعتمد عليها السيد الخوئي هنا فوافق الصدوق والمرتضى، وخالف المشهور، والسبب في ذلك أنّ في سند الرواية عبد الرحمن بن حماد، ووثاقته مبنيّة على وثاقة كلّ رواة كامل الزيارة، فتصبح الرواية معتبرة عنده([95]). وحيث عدل السيد الخوئي عن هذا الرأي أواخر عمره، وعدوله هو الصحيح ـ كما حقّقناه في الرجال ـ لهذا تكون هذه الرواية ضعيفة السند أيضاً.
وعليه ففي الباب ثلاث روايات ضعيفة السند، فلا يحصل وثوق بالصدور يعارض العمومات والقواعد، مع معارضة خبر ابن سنان الآتي، فالصحيح أنّ دية ولد الزنا المسلم دية المسلم، وإذا كان كافراً رتّبت أحكامه عليه.
لكن يبقى في المقام رواية عبدالله بن سنان، عن أبي عبدالله× قال: سألته فقلت له: جعلت فداك، كم دية ولد الزنا؟ قال:«يعطى الذي أنفق عليه ما أنفق عليه»، قلت: فإنّه مات وله مال فمن يرثه؟ قال: «الإمام»([96]).
وهذه الرواية يبدو أنّها تعارض كلاً من العمومات والمطلقات الواردة في الديات من جهة، والنصوص الثلاثة المتقدّمة الدالة على أنّ ديته ثمانمائة درهم من جهة ثانية، لهذا لابد أولاً من حلّ مشكلة تنافيها، وقد ذكرت حلول:
الحل الأول: ما ذكره المدني الكاشاني (1366هـ)، من أنّ وجه الجمع هو أنّ هذه الرواية خاصّة بمن لم يبلغ من ولد الزنا ويظهر الشهادتين، فيما سائر الروايات تحمل على ما بعد بلوغه وتشهّده، والوجه في ذلك أنه لو كان بالغاً متأهلاً متزوّجاً فإنّ ميراثه يكون لزوجته وأولاده، مع أنّ الرواية جعلت ميراثه للإمام([97]).
وهذا الجمع ممكن، لكنّه لا شاهد له في النص أبداً، فكما هو محتمل كذلك يحتمل أن يكون هذا الخبر شاذاً يعارض مجموع أخبار الإرث والديات، وإمكان الجمع لا يساوق صحّة الجمع بهذه الطريقة، على أنّ الإنفاق عليه لا يختصّ بحال الصغر، بل هو مفهوم يشمل حالة البلوغ وما بعده، حيث يظلّ الولد عادةً في عهدة والديه يُنفقان عليه.
الحلّ الثاني: ما ذكره السيد الطباطبائي والسيد الخوانساري (1405هـ) وغيرهما، من أنّ مقتضى هذا الحديث هو أنّه يعطى المنفق ما أنفق، وهذا قد يقلّ عن ثمانمائة درهم أحياناً، وقد يزيد عن دية المسلم أحياناً أخرى، وهذا مرفوضٌ بالإجماع، فيتعيّن الثمانمائة درهم([98]).
وهذا الجمع أكثر غرابة من سابقه، إذ حمل هذا الحديث بقرينة الإجماع على الثمانمائة حملٌ على خلاف الظاهر جداً، فلماذا لم يقل الإمام في الجواب بأنّ ديته ثمانمائة درهم؟! ولماذا استعاض بهذه الطريقة الغريبة؟!
نعم، قد يُقصد هنا تضعيف هذا الحديث بالإجماع وإعراض العلماء عنه قاطبة، وهذا ما فعله السيد الخوئي حيث ردّ علم هذا الحديث إلى أهله([99]).
والصحيح في التعامل مع هذا الحديث أنه:
أولاً: مخالف لكلّ روايات باب الدية والإرث على تنوّعها، الأمر الذي يساعد في المنع عن حصول الوثوق بصدوره.
ثانياً: إنّه مخالف لاتفاق الفقهاء قاطبة حسب الظاهر، مما يكشف عن الإعراض عنه، الأمر الذي يساعد أيضاً في المنع عن تحصيل الوثوق بصدوره.
ثالثاً: إنّ لازمه زيادة دية ولد الزنا ـ أحياناً ـ على دية المسلم الحرّ، وهذا فيه غرابة وشذوذ يحالف الجوّ العام لروايات ابن الزنا وغيره، فيساعد على المنع عن تحصيل الوثوق بصدوره.
رابعاً: إنّ الشيخ الصدوق روى هذا الحديث عن يونس بن عبد الرحمن، لكنّه لم يذكر طريقه الى يونس في المشيخة كما صرّح بذلك أيضاً الحرّ العاملي في خاتمة الوسائل([100])، فيكون مرسلاً بطريق الصدوق، أما الشيخ الطوسي فله عدّة طرق إلى يونس، لكنّها جميعاً تمرّ تارةً بمحمّد بن عيسى بن عبيد عن يونس، وقد قلنا بأنّ الرجلين وإن كانا ثقتين لكن لا يحرز الاتصال بينهما، بل يشك فيه جداً. وأخرى وقع في الطريق كلّ من إسماعيل بن مرار وصالح بن السندي، أما الأوّل فوثاقته مبنيّة على تفسير القمي ولم يصحّ، وأما الثاني فوثاقته مبنية على كامل الزيارة، ولم يصحّ؛ وليس صالح بن السندي من المشايخ المباشرين لابن قولويه حتى نقول بوثاقته.
وعليه، فالحديث غير معتبر السند، فلا يصح، لا سيما على مبنى الوثوق بالصدور كما هو الصحيح.
ونتيجة البحث أنّ ولد الزنا ديته دية غيره، إن كان مسلماً أو غيره، حراً أو غيره، بلا فرق بينه وبين غيره في شيء؛ وفاقاً للمشهور.
6 ـ مرجعيّة ولد الزنا وولايته
هل يمكن لولد الزنا أن يُصبح مرجعاً للتقليد بحيث يرجع إليه غيره في الفتوى مع اجتماع سائر شرائط المرجعيّة فيه أو لا؟ وهل يمكن ـ بناءً على التفكيك بين المرجعيّة وولاية الأمر ـ أن يصل إلى منصب إمام المسلمين وولي الأمر أو لا؟
من الواضح أنّه ـ وطبقاً للقاعدة ـ لو بلغ ولد الزنا مرتبة الاجتهاد، فإنّه مكلَّف بالعمل برأيه؛ لقطعه بالحكم الواقعي أو الظاهري، ولا يجوز للمجتهد الرجوع إلى غيره كما هو واضح، إلا أنّ الكلام في رجوع غيره إليه، سواء كان هذا الغير قليلاً أم كثيراً، وكان ابن زنا أم لم يكن المقلِّدون أولاد زنا؟
ولا توجد في هذه المسألة نصوص خاصّة، لكنّ الفقهاء يظهر منهم القول بعدم ثبوت تولّي ولد الزنا منصبَي: المرجعيّة والولاية.
والمستند في ذلك مجموعة من الأدلّة:
الدليل الأول: الإجماع على عدم تولّي ولد الزنا لهذه المناصب([101]).
وجوابه واضح فإنّه لم يتعرّض أغلب العلماء لهذه المسألة سابقاً، فلا يُحرز إجماع حقيقيّ، علماً أنّ هذا الإجماع محتمل المدركية جداً من خلال ما سيأتي من الوجوه الأخرى.
الدليل الثاني: أصالة عدم حجيّة قول ولد الزنا وفتواه، وعدم ولايته على غيره، فإنّ هذا الأصل خرج منه غير ولد الزنا قطعاً، فيظلّ ولد الزنا تحت أصالتَي العدم: عدم حجية الفتوى، وعدم الولاية([102]).
والجواب: إنّ الأدلّة الدالّة على حجّية الفتوى وعلى ثبوت الولاية لم يذكر أيّ منها، سواء كانت أدلّةً لفظية أم غير لفظية، قيد طهارة المولد، فما هو الموجب لعدم الأخذ بها في مورد ابن الزنا؟! فلا السيرة العقلائية ولا العمومات فيها شيء من هذا القبيل، نعم لو قلنا بكفر ولد الزنا أمكن الحديث عن ضعف بعض الأدلّة في بابي التقليد والولاية.
الدليل الثالث: ما ذكره غير واحد من الفقهاء، من الاستناد إلى دليل الأولويّة والفحوى، وذلك أنّ الروايات الواردة في بابي الشهادة وإمامة الجماعة، مؤيّدةً بسائر روايات ولد الزنا، يُفهم منها ـ بالأولويّة ـ عدم إمكان تصدّيه لمنصب الولاية والمرجعيّة، فإذا لم يُسمح له أن يكون شاهداً ولا إمام جماعة، كيف يُسمح له أن يكون إماماً للمسلمين؟! أو كيف يسمح له أن يكون مرجعاً دينياً؟! هذا مضافاً لتنفّر الطباع منه حيث لا مكانة اجتماعيّة له.
وقد عبّر بعضهم عن هذا الدليل بتنقيح المناط الاطمئناني، بل يفهم منه أنّ مذاق الشارع هو إرادة الكمال فيمن يتولّى هذه المناصب، والشرع يُعلم منه أنّ الولادة من الزنا منقصة، ولا تُقبل في مثل هذه المقامات([103]).
إلا أنّ هذا الاستدلال نوقش من جهات:
أولاً: ما ذكره السيد تقي القمّي، من أنّ ملاكات الأحكام ليست محرزة بالنسبة إلينا، وغاية ما يُستفاد من هذا الوجه هو ظنّ اشتراط طهارة المولد في مرجع التقليد، ولهذا لم يبنِ السيد تقي القمي على صحّة شرط طهارة المولد([104]).
وهذا الكلام جيد، لولا فكرة الأولويّة، فإنّها تقوم على الدلالة اللفظيّة من النص، فيكون دليل منعه من إمامة الجماعة والشهادة بنفسه دالاً بالأولويّة على عدم إمامته لما هو أرفع منهما، مثل الولاية والمرجعية، فإنّ العرف يفهم من تحريم تلك المنع عن هذه، فمناقشة السيد القمي جيدة لكنها تحتاج إلى تتميم بما سيأتي.
ثانياً: ما أشار لبعضه السيد رضا الصدر([105])، وهو الذي خطر ببالي قبل مطالعة ما أفاده، وحاصله ـ مع توضيح وتعديل في البيان منّا ـ أنّ إمامة الجماعة قد تكون لها خصوصيّاتها التي لم يسرّها الفقهاء لغيرها بما في ذلك الذين أخذوا بشرط طهارة المولد في مرجع التقليد، فالضعيف المريض لا يؤمّ الصحيح، والمسافر لا يؤمّ غيره، وذو العاهة لا يؤمّ غيره، وضعيف القراءة لا يؤمّ غيره ولو لنقصٍ في الخلقة، والأغلف لا يؤمّ غيره، والمحدود لا يؤمّ غيره، ومع تشاحّ الأئمة يقدّم الأصبح وجهاً أو الأكبر سناً، والأسبق إسلاماً وهجرةً ونحو ذلك من أحكام الجماعة، مع أنّ هذه بأجمعها لم يلتزم أحدٌ بجريانها لا في إمامة المسلمين ولا في المرجعيّة، وهذا كلّه يضعّف من القوة الاحتماليّة للأولوية المدّعاة، ويعزّز ما ذكره السيد تقي القمي آنفاً.
بل إنّ للشاهد خصوصيّات أيضاً، وإلا لزم عدم حجيّة خبر الثقة إذا كان ابن الزنا بدليل الأولويّة، فإنه لو كان معه شاهدٌ آخر أو ثلاثة آخرين ما قبلت شهادته، فكيف يؤخذ بخبره لوحده، لا سيما فيما ينقله عن المعصوم مثلاً؟! مع أنهم لم يذكروا ذلك في مباحث خبر الواحد وحجيّة الحديث. فتسرية باب القضاء إلى باب الإفتاء أو ولاية الأمر لا شاهد له؛ لاحتمال وجود خصوصيّات وقيود زائدة في المسألة القضائيّة.
وأمّا الحديث عن المذاق العام عند الشارع، فقد تقدّم أنّ أغلب الروايات التي تشكّل هذا المذاق العام ضعيفة السند، كما أنّ بعضها مرفوض المتن مخالف للقرآن والعقل، وليس هناك ما هو دالّ معتبر إلا ما جاء في إمامة الجماعة والشهادة والإرث، والأخير واضح الخصوصيّة، فيما الأوّلين لا يُفهم منهما الأولوية بما يقيّد المطلقات ويخصّص العمومات كما ذكرنا. فضلاً عن المناقشات فيهما كما تقدّم.
وأمّا القول بأنّ الولادة من الزنا منقصة ومقامُ المرجعية والولاية رفيع، فهذا لا يصحّ على إطلاقه، إذ كم من صفةٍ هي منقصة ولم يشترطوا عدمها في المرجع والإمام، سواء في المنقصة الجسديّة أم الإجتماعية، فلو كان أبوه ابن زنا أو كانت أسرته معروفة بالانحطاط الأخلاقي والاجتماعي جاز له التصدّي، بل مقتضى القواعد الدينية العامّة ومرجعيّة العلم والإيمان والعمل الصالح في تقويم الناس هو أصالة عدم المنقصة بما يرجع إلى غير هذه الثلاثة ما لم يثبت بدليل، فهذه هي المعياريّة القرآنية العامّة، فيما اعتبار ولد الزنا منقصة في حدّ نفسه ـ بصرف النظر عما تقدّم ـ هي ثقافة شعبية أو عربيّة.
بل ليست الحريّة عند كثيرين شرطاً في إمام الجماعة ولا القاضي ولا الشاهد ولا إمام المسلمين ولا المرجع، مع أنّها منقصة عرفيّة أيضاً، فكيف يليق أن يكون إمام المسلمين مملوكاً لشخص؟! فكلّ من ذهب إلى عدم شرط الحريّة في هذه يلزمه عدم الأخذ بروح هذا الدليل ـ أعني حديث المنقصة ـ هنا.
نعم، لو كانت هناك خصوصيّة زمنية أو عرفية تمنع من تصدّيه، وأنّه يكون فيه الفساد، أمكن الأخذ بها بالعنوان الثانوي، وإنما الكلام في اشتراط ذلك بالعنوان الأوّلي.
والملفت أنّ بعض الفقهاء أجاز مؤخّراً تقليد المرأة وقضاءها، وإمامتها للمسلمين أو تولّيها المناصب العليا في الدولة كرئاسة الجمهورية والوزارات، مع أنّ النص وارد أيضاً في عدم إمامتها للرجال وفي التضييق من اعتبار شهادتها.
ثالثاً: قد تقدّم بعض التشكيك في اشتراط طهارة المولد في إمام الجماعة تبعاً للمحقّق الإصفهاني، فيكون شرطاً كمالياً في إمام الجماعة لا أصلياً ولزوميّاً فيها، فعلى تقدير الأولويّة تكون طهارة المولد شرطاً كمالياً. كما تقدّم التعليق على نصوص منعه من الشهادة فلا نعيد.
الدليل الرابع: ما ذكره بعض المعاصرين، من أنّ أغلب الأنظمة الوضعيّة والدينية لا تولّي ولد الزنا المناصب العليا، كما أنّ ذلك هو مقتضى التناسب بين الخليفة والمستخلف، أي المعصوم الذي تشترط فيه شرعيّة الولادة حتى آدم×، وبذلك يكون الحكم في المقام موافقاً لأرقى المجتمعات؛ لأنّ الناس لا تريده زعيماً([106]).
والجواب: إنّه إذا قصد بهذا التأييد أو محاولة التبرير الإقناعي للفكر الوضعي ومن يتأثر به، فلا بأس، أما إذا قصد إقامة الدليل على ذلك أو جعل هذا سيرةً عقلائية فهذا غير واضح أبداً، فمتى كانت القوانين الوضعية مفيدةً لوحدها لدليل شرعي؟! والغريب أنّ ظاهر العبارة يفيد جعل هذا كلّه دليلاً شرعياً اجتهادياً، رغم خلوّه من النصوص والبراهين، وكيف عرفنا ضرورة هذه المناسبة بالخصوص بين الخليفة والمستخلف، مع أنّ الكثير من الشروط غير مأخوذة في نائب المعصوم، كإسلام والديه مثلاً، أو كونه من بني هاشم أو من قريش أو نحو ذلك، فهذا الوجه اعتباريٌّ لا يصلح لغير التأييد. هذا لو ثبت أنّ القوانين الوضعيّة عندها مثل هذا الأمر.
الدليل الخامس: أن يُلتزم بضرورة كون وليّ الأمر من قريش، ونفترض أنّه لا علاقة نسبيّة بين الزاني وأسرته، وفي هذه الحال لا يمكن تولّيه؛ لعدم كونه قرشيّاً بعد قطع الشرع علاقته النسبيّة.
وهذا الدليل مبنيٌّ على ضرورة كون الحاكم من قريش، ولم يثبت إطلاق لهذا الدليل، كما أنّه قد أثبتنا أنّ العلاقة النسبية ما تزال قائمة، فهذا الدليل الذي قد يطرح في الوسط السنّي غير دقيق.
هذا، وقد يستند للجواز هنا بتولية الإمام علي× لزياد بن أبيه على بعض بلاد فارس، مع أنّه قد ورد أنّه ألحقه معاوية بأبي سفيان.
وأجيب بأنّ الذي ولاه ليس الإمام مباشرةً بل واليه، وبأنّه ولد على فراش عبيد والولد للفراش، فإلحاقه بأبي سفيان هو الذي كان على خلاف الموازين الشرعيّة، بل قد ورد ذلك في بعض النصوص العلوية أيضاً، والمسألة فيها كلام يراجع في محلّه([107]).
وعليه، فلم يقم دليل معتبر على اشتراط طهارة المولد، لا في المرجع ولا في إمام المسلمين، فضلاً عن سائر المناصب السياسية والاقتصادية والاجتماعية الأخرى عدا ما تقدّم.
7 ـ تولّي ولد الزنا للقضاء
على غرار عدم تولية ولد الزنا لولاية الأمر والمرجعيّة، ذهب غيرُ واحدٍ من فقهاء الإماميّة، لا سيّما المتأخّرين، إلى عدم تولّي ولد الزنا لمنصب القضاء أيضاً، أمّا فقهاء أهل السنّة فالمعروف بينهم أنّهم لم يمنعوا من تولّيه القضاء، لكنّ المالكيّة كانت لدى بعض فقهائهم بعض الآراء، فذهب بعضهم إلى أنّه تجوز توليته غير أنّه لا يحكم في الزنا، وهذا قول سحنون، واستدلّ بالقياس على عدم قبول شهادته في الزنا عند المالكية، وتقدّمت مناقشة أدلّتهم هناك، وقال أصبغ بأنّه تجوز توليته ويحكم في الزنا وغيره، وقال أبو الوليد الباجي بأنّه لا يولّى مطلقاً، معلّلاً بأنّ القضاء موضع رفعة وطهارة كالإمامة، وينبغي أن لا تتسارع ألسن الناس بالطعن فيه. وقد حكم الشافعيّة باستحباب كون القاضي معروف النسب([108]).
واستند للقول باشتراط طهارة المولد في ولاية القضاء، إلى أمور:
1 ـ فحوى ما دلّ على عدم قبول شهادته وعدم صحّة إمامته([109])، مؤيدةً بالإجماع.
وقد تقدّم الجواب عنه آنفاً فلا نعيد، ولعلّ لما قلناه هناك عقّب المحقّق الخوانساري هنا بالقول: «فتأمّل»([110]).
2 ـ الإجماع، حيث اعتبره السيد الكلبايكاني هو العمدة، بعد ضعف كلّ الأدلّة([111]).
وهو لو سُلّم صغروياً فهو محتمل المدركية، وفاقاً للعلامة مغنيّة وغيره([112]).
3 ـ إنّ الناس تتنفّر من ولد الزنا، فلا يصحّ جعله في مثل هذا المنصب([113]).
والجواب: إنّ هذا مجرّد وجه اعتباري استحساني، كما يقول المحقّق العراقي([114]).
4 ـ إنّ هذا ما يقتضيه شرف هذا المنصب الخطر؛ لئلا يوهن في أنظار العامّة من الناس، فهو مجلس لا يجلسه إلا نبي أو وصي نبي([115]).
والجواب: إنّ الشريعة بنيت على مصالح ومفاسد، وعلى الناس أن تغيّر أمزجتها لمصالح الشريعة، ولا يصحّ سلب الناس حقوقهم لأنّ الآخرين تربّوا اجتماعياً على وضع ما، على أنّ حالة ولد الزنا حالات فرديّة فلا يسقط منصب القضاء، وإلا لزم اشتراط أن لا يتصف القاضي بكلّ ما من شأنه أن يوهن منصبه في القضاء أمام الناس، كأن لا يكون من أسرة يوجد حزازة اجتماعية من جهتها! وهذا ما لم يلتزم به أحد.
وأما كون المنصب خطراً لا يبلغه إلا نبي أو وصي نبي، فهذا لا فرق فيه بين ولد الزنا وغيره؛ لأنّ القرب من منصب النبوّة والإمامة إنّما هو بالعلم والإيمان والعمل الصالح، فلو أثبتا كفر أو خبث ولد الزنا في نفسه لربما صحّ هذا الكلام هنا، أما ومثله مثل سائر الناس فلا يصحّ هذا الاستدلال في المقام.
والغريب أنّ المحقّق العراقي الذي اتّهم روايات كفر ولد الزنا بالوضع والاختلاف وشنّ عليها هجوماً عنيفاً بتهمة معارضتها للكتاب والسنّة القطعيين، ومع إقراره بأنّ مقتضى العمومات جواز تولّي ولد الزنا للقضاء، إذ لا قصور فيها ولا تخصيص، مع ذلك يميل ـ بعد ردّ كلّ الأدلّة ـ إلى شرط طهارة المولد([116])، ولم أفهم الوجه فيه!
هذا كلّه، مضافاً إلى أنّ سقوط هيبة منصب القضاء بمثل تولّي ابن الزنا له خاصّ ببعض المجتمعات، فلو فرض أنّ هناك مجتمعاً لا يقف عند هذه الأمور، فلا معنى لهذا الاستدلال في حقّه، فكان ينبغي التفصيل هنا لا إطلاق الكلام.
ومع عدم وجود نصوص في المقام، وعدم صحّة دليل الفحوى، يصبح حرمانه من منصب القضاء مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾، كما يرى العلامة مغنية([117]).
5 ـ انصراف الدليل عن ولد الزنا([118]).
وهذا غير واضح؛ إذ ما هو موجب هذا الانصراف؟ فإذا كان قلّة وجود ولد الزنا المترشّح لمنصب القضاء، فهو لا يوجب الانصراف كما قرّر في علم أصول الفقه، واذا أريد أنّه غير مسلم فيما الأدلّة تدلّ على «رجل منكم»، فقد تقدّم إسلام ولد الزنا ظاهراً وواقعاً، بل المستدلّ بهذا الدليل يرى ذلك أيضاً، فلم يظهر الوجه في دعوى الانصراف بعد كون ابن الزنا مجتهداً عالماً عادلاً مسلماً مؤمناً ذكراً وغير ذلك، بل حتى دعوى كون هذا الانصراف بدويّاً كما ذكر بعض الفقهاء المعاصرين([119])، هي أيضاً غير واضحة؛ ولولا وجود رأي فقهي لما خطر على بال أحد أنّ ولد الزنا تنصرف عنه النصوص.
6 ـ أصالة عدم نفوذ حكمه وقضائه([120]).
وقد تقدّم جوابه عند الحديث عن مرجعيّته وولايته.
هذه هي عمدة الأدلّة التي طرحها الفقه الإسلامي في الموضوع. والمشكلة الفقهيّة هنا أنّ الفقهاء رغم إقرارهم بعدم وجود نصوص في الموضوع، لكنّهم ـ ومنذ عصر المحقّق الحلي لا قبله ـ يستندون إلى هذه الشواهد المتقدّمة.
وحصيلة الكلام: إنّه لم يقم دليلٌ معتبر على عدم صلاحية ولد الزنا لتولّي منصب القضاء، بلا فرق بين قاضي التحكيم والقاضي المنصوب، شرط أن يحوز على سائر الشروط المعتبرة في القاضي، وبهذا يظهر أيضاً أنّ سائر الوظائف في مجال العمل القضائي العام أو الخاصّ لا مانع من تولّيه إيّاها، بما في ذلك منصب قاضي القضاة أو رئيس السلطة القضائيّة.
8 ـ إرث ولد الزنا
المعروف بين الفقهاء أنّه لا توارث بين ولد الزنا وبين أبيه وأقارب أبيه، فلا هو يرثهم ولا هم يرثونهم، وذهب بعض الفقهاء إلى أنّ الحكم كذلك في طرف الأم، فلا هو يرث أمّه أو أحداً من أقاربها، ولا هي ترثه أو أقاربها أيضاً، وكلّ من قال بقطع العلاقة النسبيّة بين الولد ووالده قطع التوارث بينهما، وكذا كل من قال بقطعها بين الولد وأمّه قطع التوارث بينهما أيضاً.
لكنّ بعض الفقهاء خصّصوا الحكم بنفي التوارث بطرف الأب، وفهموا نصوص قطع التوارث على أنّها خاصّة بطرف الأب، ولا تشمل الأم وأقاربها، وذلك مثل كثير من فقهاء أهل السنّة الذين قالوا ببقاء علقة النسبيّة بين الولد وأمّه، ومثل الشيخ محمد إسحاق الفياض من الإماميّة، حيث خصّص نفي التوارث بطرف الأب.
وحكم التوارث هذا خاصّ بولد الزنا مع والديه وأقاربهم، أما توارثه مع زوجته أو أولاده، فلم يقل الفقهاء بانقطاع صلة الإرث هنا، بل هو يرثهم وهم يرثونه.
وفي كلّ مورد أثبتنا فيه قطع صلة التوارث، فإنّ الفقهاء يُرجعون الإرث لسائر مستحقّيه، فإن لم يكن مستحقّ، لم يأخذه ابن الزنا أو أحد من أقاربه، بل يعود للحاكم الشرعي، فلو توفّي ولد الزنا الأعزب الذي لا أولاد لديه ولا زوجة، فإنّ ماله يكون للحاكم الشرعي، إلا إذا قلنا بإرث قرابته من الأم، وكانوا موجودين، فيرثون حينئذٍ.
وطبقاً لفكرتَي: إسلام ولد الزنا، وأصالة انتمائه الأسري، واللتين تقدّمتا سابقاً، يصبح مقتضى القاعدة أنّ ولد الزنا يرث كغيره من الأولاد، ومن ثم فلابدّ من التفتيش عن المانع من إرثه من طرف الأب أو من الطرفين.
والمستند في المنع ـ بعد استبعاد مثل الإجماع؛ لوضوح مدركيّته ـ هو النصوص الحديثية الخاصّة، حيث لا يظهر في القرآن الكريم عينٌ ولا أثر لمختلف قضايا ابن الزنا، وهذه النصوص هي:
الرواية الأولى: خبر الحلبي، عن أبي عبدالله× قال: «أيّما رجل وقع على وليدة قوم حراماً، ثم اشتراها فادّعى ولدها، فإنّه لا يورث منه شيء؛ فإنّ رسول الله‘ قال: الولد للفراش وللعاهر الحجر، ولا يورث ولد الزنا إلا رجل يدّعى ابن وليدته..»([121]).
ولهذا الحديث بدويّاً أربعة أسانيد:
أ ـ سند الكليني لابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي، وفي الطريق إبراهيم بن هاشم.
ب ـ سند الطوسي في الاستبصار والتهذيب إلى ابن أبي عمير، عبر طريقه إلى الحسين بن سعيد، ولم يصحّ هذا الطريق عندي.
ج ـ طريق الطوسي في التهذيب إلى ابن أبي عمير، وفيه البزوفري، ولم تثبت وثاقته.
د ـ طريق الطوسي إلى الحسين بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن علي بن أبي حمزة البطائني، عن الصادق× وهو ضعيف بعلي بن أبي حمزة على الأقلّ.
وبهذا يظهر أنّ لهذا الحديث واقعاً سندين فقط، هما:
1 ـ السند إلى ابن أبي عمير، عن حماد عن الحلبي، وهو سند الكليني والطوسي.
2 ـ السند إلى القاسم بن محمد، عن علي بن أبي حمزة..
ويشترك السندان ـ في الجملة ـ بالطريق إلى الحسين بن سعيد في كتب الطوسي.
فمخرج الحديث هو: ابن أبي عمير والقاسم بن محمد، والأوّل ثقة، والثاني إما هو الإصفهاني الضعيف، أو الجوهري مجهول الحال.
وعليه فالحديث لم يصحّ سنداً عندي، لكنّ المشهور صحّته السندية.
إلا أنّ هذه الرواية لا تفيد عدم التوارث بين الزاني وولد الزاني، بل غاية ما تفيد ـ لا سيما بقرينة الشاهد النبوي الذي فيها ـ أنّ الزاني عندما زنى بالوليدة، كانت في فراش المالك الأوّل، والقاعدة تقضي بانتساب الولد إلى المالك الأوّل فهو أبوه، ولهذا لا توارث بين الزاني وبين هذا الولد؛ لعدم إحراز كونه ابنه أساساً؛ ولهذا أشار المحدّث البحراني إلى أنّ الرواية تحمل على كون الشراء قد وقع بعد تحقّق الولد، كما هو ظاهر الخبر([122]).
وهذا كلّه يعني أنّه في كلّ مورد تجري فيه قاعدة الفراش لا يُنسب الولد للزاني، بل يُنسب لصاحب الفراش، وهذا غير عدم توريث ولد الزنا بعد ثبوت انتسابه لأبيه، كما لو كانت غير متزوّجة ولا أمةً، أو أحرز يقيناً ـ عبر الفحوصات الطبيّة والمخبريّة الدقيقة ـ بكون هذا الولد هو ولده.
وبعبارة أخرى: ما لم يُحرز انتساب الولد للزاني لا توارث بينهما، أما لو أحرز فهذا خارج عن إطار هذه الرواية، ولا أقلّ من الشك في انعقاد إطلاق فيها، وتعبير (ادّعى ولدها) شاهد أيضاً على ما نقول، من حيث عدم إحراز انتساب الولد إليه.
نعم تواجه الرواية حينئذٍ مشكلة بيع هذه الأمة؛ لأنّها أم ولد، وهذا بحث آخر يعالج في محلّه.
والحاصل إنّ المدّعى هو عدم التوارث بين الزاني وابن الزنا، مع أنّ مورد الحديث هو عدم إحراز النسب بعد وجود قاعدة الفراش الخاصّة بحال الشك.
هذا كلّه، مضافاً إلى اختصاص هذا الحديث بالأب الزاني، ولا يشمل أقرباءه ولا الأم وأقربائها، بل ظاهره حرمان الأب من الإرث، وليس فيه إشارة لحرمان ابن الزنا من إرث الأب فليلاحظ جيداً.
هذا، ومثل هذه الرواية تماماً ـ لتشابه الألفاظ ـ خبر علي بن سالم، عن يحيى، وأخبار أخرى كذلك([123])، وهو ضعيف السند بشبهة الإرسال بين محمد بن عيسى ويونس، في أحد أسانيده، وفي بعضها الآخر بضعف أبي جميلة، كما يوجد ضعف سندي بملاحظة علي بن سالم، فهو مجهول الحال، نعم، يوجد سند صحيح وهو سند الطوسي في التهذيب للحسن بن محمد بن سماعة، عن وهيب، عن أبي بصير.
الرواية الثانية: خبر محمد بن الحسن الأشعري، قال: كتب بعض أصحابنا كتاباً إلى أبي جعفر الثاني× معي، يسأله عن رجل فجر بامرأة، ثم إنّه تزوّجها بعد الحمل، فجاءت بولد، وهو أشبه خلق الله به؟ فكتب بخطّه وخاتمه: «الولد لغية لا يورث»([124]).
وهذا الحديث له طريق إلى الأشعري ضعيف بسهل بن زياد، وله طريق آخر له فيه علي بن سيف. ورواه الصدوق والطوسي بطريقهما إلى الحسين بن سعيد عن الأشعري، وذلك في غير موضع. كما رواه الطوسي بطريقه إلى الصفّار وصولاً إلى الأشعري.
وتنتهي هذه الطرق ـ بصرف النظر عن ضعف بعضها ـ إلى محمد بن الحسن الأشعري القمّي المعروف بشنبولة، وهو رجل مجهول الحال لم تثبت وثاقته، وفاقاً للسيّد الخوئي([125])، ولهذا جعل العلامة المجلسي هذه الرواية غير معتبرة السند([126]).
وأما دلالة الحديث، فلو قرأنا الكلمة (لَغْيَة) فتكون وصفاً لولد الزنا، فيحكم بعدم إرثه مطلقاً من كلّ أقربائه، وأما إذا قرأناها (لِغَيّة) ، أي لضلالة الأب، فيكون معناها أنّه ولد زنية وضلال الأب، والغيّة هذه هي مانع الإرث، فيظهر الاختصاص، بل إنّ كلمة (لا يورث) قد تعني خصوص أنّه لا يرثه أبوه؛ لأنه أتى به حراماً، لكن لا تعني أنّه لا يرث أباه أو أمّه أو أيّاً من أقربائه، فلعلّ سؤال السائل كان حينئذٍ عن إرث الأب منه (يُورَث، وليس يُورَّث) فجاء الجواب كذلك، إذ لا معنى لاختصاص الجواب بالإرث لو كان السؤال عاماً، وما أثرناه غاية ما يُثبت عدم إرث الزاني من ولده من الزنا عقوبةً له، أو عدم إرث عامة أقاربه، لا عدم إرثه هو منهم.
الرواية الثالثة: خبر عبدالله بن سنان المتقدّم، عن أبي عبدالله× قال: سألته فقلت: جعلت فداك، كم دية ولد الزنا؟ قال: «يعطى الذي أنفق عليه ما أنفق عليه»، قلت: فإنّه مات وله مال، فمن يرثه؟ قال: «الإمام»([127]).
فإنّ هذا الحديث يقطع التوارث بينه وبين أسرته مطلقاً من طرف الأب والأم، بل هو يقطعها حتى في حقّ زوجته وأولاده، على تقدير كونه بالغاً بحيث لا يرثه أحد.
لكنّ الرواية لا تدلّ على عدم إرث ولد الزنا من أقربائه من كلّ الأطراف على تقدير موت أحدهم لا موته.
هذا، وقد تقدّم الحديث عن ضعف سند هذه الرواية، بل وجود عناصر خلل فيها، تجعلها في شواذ الأخبار التي تفتقد الحجيّة والاعتبار، فلا نعيد.
هذه هي النصوص الأصليّة المعتمدة في حرمان ولد الزنا من الإرث وقطع التوارث بينه وبين الأب والأم وأقاربهما، وقد تبيّن أنها بين ضعيف سنداً، وقليل عدداً، وقاصر دلالةً، حيث لا تفيد حرمان طرف الأم، ولا حرمان ولد الزنا نفسه.
بل يوجد في مقابل هذه الرواية ما يعارضها إذا فهمنا منها العموم لمطلق الأقرباء. مما لابدّ من بيانه، وهو:
1 ـ خبر يونس، قال: ميراث ولد الزنا لقراباته (لقرابته) من قبل أمّه، على نحو ميرات ابن الملاعنة([128]).
وهذه الرواية تجعل حكم ابن الزنا كحكم ولد الملاعنة، في أنّه لا يرثه إلا طرف الأم على تفصيلاتٍ هناك، ولعلّ هذه الرواية هي مدرك ما حكي عن الصدوق وأبي الصلاح الحلبي وأبي علي، وما ذهب إليه الشيخ الفياض مؤخّراً، من التوارث بين ابن الزنا وطرف الأم.
لكنّ الرواية مقطوعة؛ حيث لم يسندها يونس إلى أيّ من الأئمّة، ولهذا احتمل الشيخ الطوسي عندما أوردها أن تكون مذهباً شخصيّاً ليونس لا يُلزمنا بشيء، وربما لهذا أدرجها الشيخ الكليني آخر الباب أيضاً.
يضاف إلى ذلك أنّ راويها عن يونس هو محمد بن عيسى، وقد تقدّم وجود شبهة إرسال في هذا السند.
2 ـ خبر حنان بن سدير، عن أبي عبد الله× قال: سألته عن رجل فجر بنصرانيّة، فولدت منه غلاماً، فأقرّ به ثم مات، فلم يترك ولداً غيره، أيرثه؟ قال: «نعم»([129]).
وسند هذا الخبر بهذه الصيغة يواجه شبهة الإرسال بين محمد بن عيسى ويونس، كما أشرنا لها سابقاً.
3 ـ صحيحة حنان بن سدير الأخرى، قال: سألت ابا عبدالله× عن رجل مسلم فجر بامرأةٍ يهوديّة فأولدها، ثم مات ولم يدع وارثاً. قال: فقال: «يسلّم لولده الميراث من اليهودية» قلت: فرجل نصراني فجر بامرأة مسلمة فأولدها غلاماً، ثم مات النصراني وترك مالاً، لمن يكون ميراثه؟ قال: «يكون ميراثه لابنه من المسلمة»([130]).
والظاهر أنّ كلمة «من اليهودية» حصل فيها تأخير، فليس المراد الميراث من اليهودية، بل يسلّم لولده من اليهودية الميراث، وإلا فلا يكون قد حصل جواب السؤال أساساً، وهذا ما رجّحه أيضاً العلامة المجلسي([131]).
وقد حمل الشيخ الطوسي هذه الرواية على حالة إقرار الزاني بالولد وإلحاقه به، لا مطلقاً([132]). ومعنى هذا الكلام هو التفصيل في حكم إرث ولد الزنا، بين حالة ما إذا أقرّ به الزاني فيحصل التوارث، وحالة ما إذا لم يقرّ به الزاني فلا يحصل التوارث، ولعلّه لهذا شبّه في الرواية السابقة بابن الملاعنة؛ لأنّ ابن الملاعنة يحصل توارث بينه وبين والده على تقدير إقراره به، وإلا فلا.
أما العلامة المجلسي، فاحتمل الحمل على عدم العلم بالفجور أو على حصول وطء الشبهة([133]). وأما المحقّق النجفي، فقد ذهب إلى طرح هذين الخبرين لمعارضتهما النصوص الصحيحة، بل الإجماع، واشتمالهما على الغريب([134]).
والحقّ أنّه ينبغي أن يقال بأنّ هذا الخبر صالحٌ لتقييد الأخبار الأخرى، وليس معارضاً لها؛ لأنّ تلك الأخبار دالّة بعمومها أو إطلاقها على عدم توريث ولد الزنا، وهذه دالّة على توريثه فيما إذا لم يكن وارثٌ من جهة وكان أحد الزانيين مسلماً والآخر غير مسلم، فلماذا لا يلتزم بالتقييد هنا بتوريثه في هذه الحال الخاصّة، ويبقى الحكم في عدم التوريث في غير هذه الحال على مقتضى الروايات المتقدّمة على تقدير دلالتها الإطلاقيّة التي فهموها.
هذا على مباني القوم، أمّا على فهمناه من الروايات المتقدّمة، وأنّ غايتها حرمان الأب من إرث ولده لا العكس، فهاتان الروايتان هنا تؤكّدان ما توصّلنا إليه تماماً؛ لأنّهما تتحدّثان عن توريث ولد الزنا، وقد قَبِلتا توريثه، فكأنّ المركوز في أذهان السائلين عدم وجود إرث بين الزاني وولده، فصار السؤال عن توريث الولد بعد فراغهم عن عدم توريث الأب من هذا الولد.
هذا، وأمّا ما ذكره الشيخ الطوسي هنا، فهو إقرار بالتوارث بين الزاني وولده على تقدير إقرار الزاني به، كما ذهب إليه بعض فقهاء أهل السنّة، وهذا كاسرٌ قويّ للإجماع المدّعى على عدم التوارث مطلقاً من الطرفين، لاسيما بعد ضمّ المنسوب إلى الصدوق وأبي الصلاح وأبي على الطوسي، فأين هو الإجماع في المقام؟ وما هي دائرته إذاً؟
4 ـ معتبرة إسحاق بن عمار، عن جعفر، عن أبيه، أنّ علياً× كان يقول: «ولد الزنا وابن الملاعنة ترثه أمه وإخوته لأمّه أو عصبتها»([135]).
وقد علّق الشيخ الطوسي على هذه الرواية بالقول: «يجوز أن يكون الراوي سمع هذا الحكم في ولد الملاعنة، فظنّ أنّ حكم ولد الزنا حكمه، فرواه على ظنّه دون السماع»([136]).
وحمل الحرّ العاملي هذا الحديث ـ إمكاناً ـ على كون الرجل زانياً، فيما الأم كان الفعل بالنسبة لها من وطئ الشبهة([137]).
إلا أنّ الإنصاف بُعد الحمل الذي ذكره الشيخ الطوسي([138])، ولو فتحنا هذا الباب ما استقرّ قرار في فهم الروايات، بل هو حمل تبرّعي بامتياز.
وأما حمل الشيخ الحرّ العاملي، فهو بلا شاهد أيضاً، لا من هذا النص ولا من خارجه، فيصعب الأخذ به.
كما أنّ الرواية واضحة في النظر إلى وراثة الأم للولد لا إلى وراثة الولد لها، فكأنّ هذا يعزّز أنّ الإشكاليّة كانت في وراثة الزانيين للولد لا العكس.
وعليه، فالصحيح أنّه لو أردنا أن نأخذ بما صحّ من مجموع الروايات المتقدّمة كلّها، وضم بعضها إلى بعض، فسنخرج بالنتيجة التالية:
1ـ إنّ علاقة التوارث بين ولد الزنا وطرف الأم ثابتة؛ لأنّ مثل معتبرة إسحاق بن عمار تخصّص الإطلاقات السابقة، لو انعقد فيها إطلاق.
2ـ إنّنا لم نعثر على دليل يمنع التوارث بين ولد الزنا وبين زوجته وأولاده وأمثالهم، فتجري فيه القاعدة.
3 ـ إنّ الزاني لا يرث من ابنه بالزنا، ولا يرثه ابنه، ما دامت قاعدة الفراش جارية، وموردها معروف، وهو الشكّ في الانتساب.
4 ـ إنّ الزاني لا يرث من ولده بالزنا ولو تمّت نسبته إليه شرعاً وواقعاً، ولعلّ ذلك من باب العقوبة له، ولابدّ من فرضه زانياً، فلو حصل ذلك منه عن شبهة لم تجر هذه الأحكام. وأمّا الأم فلم يرد في حقّها مثل هذا، ولو كانت زانية غير مكرهة أو مشتبهة. وهذا ـ عدم وراثة الأب الزاني ـ احتياطيٌ عندي؛ لأنه لم يثبت سوى بما يقرب من روايتين فقط، واحدة منهما صحيحة السند بدلالةٍ لا بأس بها.
5 ـ إنّه لم يقم دليل على عدم إرث ولد الزنا لأبيه أو أمّه وأقاربهما، فيرثهم جميعاً، حتى لو لم تثبت وراثتهم له.
وأعتقد أنّ النتيجة التي توصّلنا إليها تخالف مشهور الفقهاء، إن لم يكن إجماعهم. والله العالم.
النتيجة العامّة
ولد الزنا كسائر الناس في كلّ الحقوق والأحكام والواجبات في الدنيا والآخرة، إلا في:
1 ـ مرجوحيّة إمامته للجماعة، وليس المنع.
2 ـ كراهة سؤره على مبنى حجيّة خبر الثقة خاصّة، لا الخبر المطمأنّ بصدوره والذي هو معيار الحجّة في الأخبار عندنا.
3 ـ عدم قبول شهادته على مبنى حجية خبر الثقة لا المطمأنّ بصدوره كما هو الصحيح عندنا، وإن كان الاحتياط وجيهاً.
4 ـ بعض التفاصيل في إرث غيره منه، لا إرثه من غيره، فهو ثابت له، فيرث جميع أقربائه، ولا يحرم من الإرث مطلقاً، نعم لا يرثه أبوه الزاني فقط احتياطاً.
وأما سائر ما ذكره الفقهاء المسلمون فلم يثبت بدليل معتبر، على مبنى حجية خبر الثقة، فضلاً عن مبنى حجيّة الخبر الاطمئناني.
ولعلّ هذه الخصوصيات الأربع في ولد الزنا من باب:
1 ـ عقوبة الزاني نفسه، كما في الإرث.
2 ـ لتمييز النسب الشرعيّ عن غيره، لإعطائه الأهميّة على غيره، كما قال بعض الفقهاء([139]).
ويبقى سؤالٌ أخير: لماذا هذه النصوص كلّها في ولد الزنا في مختلف الموضوعات؟! لماذا هذا الموضوع أساساً إذا لم يكن في الإسلام تمييزٌ له عن غيره؟! ألا تعارض نتيجتكم هذا المناخ العام من النصوص؟!
والجواب: إنّ تفسير ظهور هذه النصوص كلّها يمكن أن يكون له وجوه غير ثبوت موقف شرعي إلزامي في الأمر، وذلك نطرحه كفرضيّة احتماليّة تحليليّة لا أكثر؛ لرفع الاستغراب:
1 ـ إنّ الثقافة الشعبيّة العامّة آنذاك وطبيعة موضوع النسب، وسط مجتمعات قبليّة، يخلق بطبعه ذهنيّة متحفّظة نوعاً ما من ولد الزنا، وهذا الأمر ظلّ سارياً في أكثر من مجتمع حتى عصرٍ قريب، إذ أدّى نفوذ الثقافة التحرّرية الغربيّة إلى اختلاف الاوضاع الاجتماعيّة، ومع ذلك فإنّ ولد الزنا ما يزال يُنظر له بشكل مختلف عن سائر الأولاد إلى يومنا هذا.
2 ـ إنّ بعض الشخصيّات السياسية والاجتماعيّة في التاريخ الإسلامي اتُّهمت بأنّها من أولاد الزنا، بهدف تنقيص قيمتها أمام الرأي العام أو الكشف عن حقيقتها في هذا المجال، وهذا أمرٌ معروف تمّ تداوله في كتب مذاهب المسلمين، وهذا ما يساعد على اتخاذ موقف سلبي من أولاد الزنا عند من يعارضون هذه الشخصيّات.
3 ـ إنّ هذا العرف العام، وكذلك هذا الموقف السياسي من هذه الشخصيّة أو تلك، يمكنه ـ افتراضاً ـ أن يساعد في خلق مجموعة من النصوص الإضافيّة على الفكرة الأساس التي أرادت النصوص الحقيقية طرحها، فالنصوص الحقيقيّة كانت تريد التركيز على قاعدة الفراش وسلامة الأنساب، وحرمان الزاني من إرث ولده على أبعد تقدير، والإشارة إلى ترجيح مبدأ طهارة المولد على خباثته، وإلى ترجيح سلامة الوجوه الاجتماعية والسياسية من العيوب العرفيّة، لكنّ العقل الشعبي تارةً والسياسي الاجتماعي أخرى، (يمكن) أن يكون قد أضاف إلى هذه الصورة الأوّليّة نصوصاً مختَلَقَة، فحوّل كلّ ولدِ زنا إلى مجرم يدخل النار أو هو محروم من الجنّة، وإلى كافر، وإلى أنجس من الكلب والخنزير والناصب، وإلى كونه مبتوراً تماماً عن أسرته والتوارث والمحرميّة معها، ليكون نكرةً في المجتمع تماماً، وقدّم مفاهيم يعارض بعضها ـ على الأقلّ ـ العقلَ السليم والقرآنَ الكريم وأصول السنّة الشريفة.
هذه صورة محتملة، وكلّما زادت نسبة النصوص الغريبة، كما في نصوص إسلام ولد الزنا ومصيره، عزّز ذلك افتراض وجود مجموعة من الوضّاعين لديهم نيّة لتمزيق صورة ولد الزنا تماماً في الثقافة الدينيّة، لاسيما عندما نجد ندرة في هذه النصوص ممّا هو منقول عن النبيّ محمّد شخصيّاً. هذا، ويمكن طرح فرضيات أخر لا حاجة للإطالة بها، والعلم عند الله.
الهوامش:
(*) نشر هذا البحث في المجلّد الخامس من كتاب (دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر)، للمؤلّف، وذلك عام 2015م.
([1] ) انظر ـ على سبيل المثال ـ: الكافي 5: 491 ـ 492؛ وصحيح البخاري 3: 5، 39.
([2] ) انظر ـ على سبيل المثال ـ: الكافي 2: 323، و7: 163، 164.
([3] ) انظر: الخوئي، موسوعة الإمام الخوئي (ج3) شرح العروة الوثقى، كتاب الطهارة: 64؛ والمصدر نفسه (ج24)، شرح العروة الوثقى، كتاب الزكاة: 143ـ 144؛ وأحكام الرضاع في فقه الشريعة: 77؛ وصراط النجاة 1: 336.
([4] ) انظر: السرخسي، المبسوط 17: 154؛ والمنتقى 4: 183، و6: 254؛ وأسنى المطالب 3: 20؛ والمغني 6: 228.
([5] ) انظر: المغني 6: 228؛ وزاد المعاد 5: 425.
([6] ) نسبه إليه البعلي في الاختيارات الفقهية: 477؛ وابن مفلح في الفروع 5: 526؛ ولكنّه ذكر القولين بلا ترجيح في: مجموع الفتاوي 32: 112.
([7] ) انظر: المغني 6: 228؛ والجوهرة النيّرة 2: 82؛ وحاشية ابن عابدين 3: 49.
([8] ) انظر: الموطأ 2: 740؛ والبيهقي، السنن الكبرى 10: 263؛ وابن عبد البر، الاستذكار 7: 171.
([9] ) انظر: محمد حسين فضل الله، فقه المواريث والفرائض 2: 330 ـ 331، تقرير درس السيد فضل الله، بقلم: خنجر حميّة، نشر دار الملاك، بيروت، الطبعة الأولى، 2000م.
([10] ) انظر: حاشية الخرشي 3: 207.
([11] ) انظر: أسنى المطالب 3: 148؛ وتحفة المحتاج 7: 299؛ ومواهب الجليل 3: 462؛ وحاشية الصاوي 2: 402.
([12] ) ابن إدريس الحلّي، السرائر 1: 357؛ و2: 122، 353، و3: 10.
([13] ) انظر: الأنصاري، كتاب الطهارة 5: 155.
([14] ) تفصيل وسائل الشيعة 1: 229.
([16] ) علل الشرائع 2: 564؛ وانظر: معاني الأخبار: 412.
([17] ) راجع ـ على سبيل المثال ـ: مسند أحمد 2: 311؛ وسنن أبي داوود 2: 241؛ والمستدرك 2: 204، 205.
([18] ) انظر ـ على سبيل المثال ـ: مسند أحمد 6: 109؛ ومجمع الزوائد 6: 257؛ والمستدرك 2: 215؛ والطبراني، المعجم الكبير 3: 92؛ وسلسلة الأحاديث الصحيحة 2: 282.
([19] ) انظر: البيهقي، السنن 10: 59.
([20] ) تفصيل وسائل الشيعة 20: 442.
([22] ) تفصيل وسائل الشيعة 1: 219.
([28] ) علل الشرائع 2: 564؛ والمحاسن 1: 139.
([29] ) سنن الدارمي 2: 112؛ والبيهقي، السنن الكبرى 10: 58؛ والنسائي، السنن الكبرى 3: 177؛ وصحيح ابن حبان 8: 176؛ والهيثمي، موارد الظمآن 4: 354، 356.
([30] ) انظر: الزيلعي، تخريج الأحاديث والآثار 4: 76 ـ 77؛ والطبرسي، جوامع الجامع 3: 613.
([31] ) الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة: 371.
([32] ) كشف الخفاء 2: 372؛ وانظر: مواهب الجليل 3: 462؛ وفتاوى اللجنة الدائمة 3: 350؛ وابن الجوزي، الموضوعات 3: 109 ـ 111؛ والطحاوي، مشكل الآثار 1: 370.
([33] ) انظر: البخاري، التاريخ الصغير 1: 298.
([34] ) مسند أحمد 6: 463؛ والمستدرك 4: 41؛ ومسند ابن راهويه 5: 108؛ والمعجم الكبير 25: 34.
([35] ) سنن أبي داوود 2: 241؛ والمستدرك 2: 214 ـ 215؛ والبيهقي، السنن الكبرى 10: 58 ـ 59 و..
([36] ) العراقي، شرح تبصرة المتعلّمين (كتاب القضاء): 301.
([37] ) انظر: حيدر حب الله، إضاءات في الفكر والدين والاجتماع 4: 152 ـ 159.
([38] ) انظر: المحلّى 8: 72؛ وانظر في أبي يزيد الضبي: الذهبي، ميزان الاعتدال 4: 588.
([39] ) بحوث في شرح العروة الوثقى (الموسوعة) 3: 381، والأنصاري، الطهارة 5: 157؛ والآملي، مصباح الهدى 1: 405، ومرتضى الحائري، شرح العروة الوثقى 1: 473؛ والخميني، كتاب الطهارة 3: 472 ـ 473؛ والخوئي، التنقيح 2: 72.
([40] ) مستمسك العروة الوثقى 1: 386.
([41] ) بحوث في شرح العروة 3: 382 ـ 383؛ والأنصاري، الطهارة 5: 157؛ ومستمسك العروة الوثقى 1: 386؛ والآملي، مصباح الهدى 1: 405؛ وفقه الصادق 3: 300.
([42] ) انظر: الأنصاري، الطهارة 5: 158؛ والآملي، مصباح الهدى 1: 406 (لكن قبل التمييز).
([43] ) انظر الحدائق 5: 195 ـ 197؛ والتبريزي، تنقيح مباني العروة (كتاب الطهارة) 2: 203.
([44] ) راجعها عند الحرّ العاملي، الفصول المهمة 3: 266 ـ 267.
([45] ) البرقي، المحاسن 1: 149. وهي ضعيفة السند بمحمد بن خالد البرقي وغيره.
([46] ) كتاب الطهارة 3: 469 ـ 470.
([47] ) الخميني، المصدر نفسه 3: 469.
([48] ) الآملي، المعالم المأثورة 2: 245 ـ 246.
([49] ) انظر ـ على سبيل المثال ـ: المرتضى، الانتصار: 501 ـ 502؛ والشهيد الأوّل، غاية المراد في شرح نكت الإرشاد 3: 329.
([50] ) انظر: استخراج المرام 1: 379 ـ 381.
([51] ) انظر: المصدر نفسه 1: 373 ـ 374.
([52] ) انظر: الحرّ العاملي، الفصول المهمة 3: 268.
([54] ) انظر: الطبرسي، المؤتلف من المختلف 1: 191؛ وبدائع الصنائع 1: 157؛ والعناية 1: 350؛ ونهاية المحتاج 2: 182؛ و المجموع 4: 181؛ والمدونة 1: 178؛ والمنتقى 1: 235؛ والأم 1: 193؛ والإنصاف 2: 274؛ والتاج والإكليل 2: 430: والمغني 2: 33.
([55] ) انظر: مستمسك العروة الوثقى 7: 320.
([56] ) الكافي 3: 375؛ والاستبصار 1: 422.
([57] ) الكافي 3: 375 ـ 376؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 1: 378؛ وانظر: مستدرك الوسائل 6: 464.
([58] ) كتاب من لا يحضره الفقيه 1: 378.
([59] ) الخوئي، المستند، كتاب الصلاة ج5 ق2: 399.
([60] ) الصدوق، الخصال: 331؛ وانظر: مستطرفات السرائر: 638.
([61] ) مستدرك الوسائل 6: 464.
([63] ) الكافي 7: 396؛ وتهذيب الأحكام 6: 244 ـ 245.
([64] ) تفصيل وسائل الشيعة 27: 376 ـ 377.
([65] ) الإصفهاني، صلاة الجماعة: 208.
([66] ) انظر: بدائع الصنائع 6: 269؛ وتبيين الحقائق 4: 226؛ والأم 6: 226؛ وأسنى المطالب 4: 355؛ وكشاف القناع 6: 427؛ وشرح منتهى الإرادات 3: 594؛ والمحلّى 8: 529؛ والتاج والإكليل 8: 179؛ وشرح الخرشي 7: 186؛ وحاشية الدسوقي 4: 173؛ ومواهب الجليل 6: 161.
([67] ) الكافي 1: 400، و7: 395؛ وانظر: تهذيب الأحكام 6: 244.
([68] ) تهذيب الأحكام 6: 244، والكافي 7: 395 ـ 396؛ وانظر: دعائم الإسلام 2: 511.
([69] ) الكافي 7: 396؛ وتهذيب الأحكام 6: 244 ـ 245.
([71] ) راجع: مباني تكملة المنهاج (ج41 من موسوعة الإمام الخوئي): 127؛ والكلبايكاني، كتاب الشهادات: 192.
([74] ) تفصيل وسائل الشيعة 27: 376.
([75] ) انظر: القضاء والشهادات (تقرير الجواهري) 1: 306ـ 307؛ ومباني تكملة المنهاج 1: 110 ـ 111؛ واللنكراني، تفصيل الشريعة (القضاء): 422.
([77] ) الحائري، القضاء في الفقه الإسلامي: 410.
([78] )التبريزي، أسس القضاء والشهادة: 507.
([80] ) تفصيل وسائل الشيعة 27: 376 ـ 377.
([81] ) المصدر نفسه 27: 377؛ والخوئي، القضاء والشهادات 1: 306؛ ومباني تكملة المنهاج 1: 110؛ ومهذب الأحكام 27: 177؛ ورياض المسائل 13: 308.
([82] ) مسائل علي بن جعفر: 191.
([83] ) تفصيل وسائل الشيعة 27: 377.
([85] ) انظر: التستري، النجعة في شرح اللمعة 6: 379.
([86] ) الطوسي، المبسوط 8: 228.
([87] ) مسالك الأفهام 14: 224.
([89] ) انظر: التاج والإكليل 8: 179؛ وشرح الخرشي 7: 186؛ ومواهب الجليل 6: 161؛ وحاشية الدسوقي 4: 186.
([91] ) كتاب من لا يحضره الفقيه 4: 153؛ وانظر: المصدر نفسه: 317.
([95] ) مباني تكملة المنهاج 2: 207.
([96] ) كتاب من لا يحضره الفقيه 4: 316؛ والاستبصار 4: 183.
([97] ) المدني الكاشاني، كتاب الديات: 33 ـ 34؛ وانظر: جامع المدارك 6: 181؛ ورياض المسائل 14: 193ـ 194.
([99] ) مباني تكملة المنهاج 2: 208.
([100] ) تفصيل وسائل الشيعة 30: 110.
([101] ) الحكيم، مستمسك العروة الوثقى 1: 46.
([102] ) انظر: الشيخ عبد النبي النجفي العراقي، المعالم الزلفى في شرح العروة الوثقى: 50.
([103] ) انظر: المعالم الزلفى: 50؛ والخوئي، التنقيح (الاجتهاد والتقليد): 235 ـ 236؛ والمرعشي النجفي، القول الرشيد في الاجتهاد والتقليد 1: 437 ـ 442؛ والمنتظري، دراسات في ولاية الفقيه 1: 364 ـ 367؛ ومحمد سعيد الحكيم، مصباح المنهاج (التقليد): 54؛ ومصطفى الهرندي، الفروع من فقه أهل البيت (الاجتهاد والتقليد) 1: 216 ـ 218.
([104] ) مباني منهاج الصالحين 1: 34.
([105] ) رضا الصدر، الاجتهاد والتقليد: 114.
([106] ) الهرندي، الفروع من فقه أهل البيت (الاجتهاد والتقليد) 1: 216 ـ 217، 218. بقلم حسن السيد عز الدين بحر العلوم، دار الكوكب، بيروت، ط1/ 2011م.
([107] ) راجع: المنتظري، دراسات في ولاية الفقيه 1: 364؛ والحدائق الناضرة 7: 326.
([108] ) راجع: المنتقى 5: 184؛ وحاشية الدسوقي 4: 131، 173؛ وشرح الخرشي 7: 142؛ والفواكه الدواني 2: 219؛ وأسنى المطالب 4: 279.
([109]) انظر: اليزدي، العروة الوثقى 6: 418؛ والعراقي، شرح تبصرة المتعلّمين (كتاب القضاء): 11؛ والقضاء والشهادات (تقرير بحث الخوئي للجواهري) 1: 32؛ ومباني تكملة المنهاج 1: 11؛ ومهذب الأحكام 27: 40؛ والتبريزي، أسس القضاء والشهادة: 16؛ واللنكراني، تفصيل الشريعة (كتاب القضاء والشهادات): 49؛ والحائري، القضاء في الفقه الإسلامي: 77؛ وفقه الصادق 25: 21؛ وفضل الله، فقه القضاء 1: 96 ـ 97.
([111] ) كتاب القضاء 1: 24؛ وانظر: مهذب الأحكام 27: 40.
([112] ) فقه الإمام جعفر الصادق 6: 62.
([114] ) شرح تبصرة المتعلّمين: 305.
([117] ) فقه الإمام جعفر الصادق 6: 62.
([118] ) الخوئي، كتاب القضاء والشهادات (تقرير الجواهري) 1: 32؛ ومباني تكملة المنهاج 1: 11؛ واللنكراني، تفصيل الشريعة (القضاء والشهادات): 49.
([119] ) عبد الكريم الأردبيلي، فقه القضاء 1: 61.
([120] ) مهذب الأحكام 27: 40؛ واللنكراني، تفصيل الشريعة، مصدر سابق: 49.
([121] ) الكافي 7: 163؛ والاستبصار 4: 185؛ وتهذيب الأحكام 8: 207 ـ 208، و9: 346.
([122] ) انظر: الحدائق الناضرة 24: 330.
([123] ) الكافي 7: 163؛ وتفصيل وسائل الشيعة 26: 275 ـ 276؛ وتهذيب الأحكام 9: 343.
([124] ) الكافي 7: 163، 164؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 4: 316؛ والاستبصار 4: 182 ـ 183؛ وتهذيب الأحكام 8: 182 ـ 183؛ و9: 343.
([125] ) مباني العروة (النكاح) 1: 276.
([127] ) كتاب من لا يحضره الفقيه 4: 316؛ والاستبصار 4: 183.
([128] ) الكافي 7: 164؛ والاستبصار 4: 183.
([129] ) الكافي 7: 164؛ الاستبصار 4: 184؛ وتهذيب الأحكام 9: 345.
([130] ) الكافي 7: 164؛ والاستبصار 4: 184؛ وتهذيب الأحكام 9: 345.
([132] ) الاستبصار 4: 184؛ وتهذيب الأحكام 9: 346.
([133] ) مرآة العقول 23: 247؛ وانظر: روضة المتقين 11: 342.
([134] ) انظر: جواهر الكلام 39: 276؛ وجامع المدارك 5: 370؛ والنجعة في شرح اللمعة 10: 493؛ وفقه الصادق 24: 471؛ وعلي البهبهاني، الفوائد العليّة 2: 405.
([135] ) الاستبصار 4: 184؛ وعوالي اللئالي 3: 338، 509.
([137] ) تفصيل وسائل الشيعة 26: 278.