بناءات العلاقة مع الحقل الخارج ـ ديني
الشيخ صادق لاريجاني(*)
ترجمة: علي آل دهر الجزائري
مقدمة ــــــ
نشر في العدد الأول من مجلة «نقد ونظر» الموقرة، وتحت عنوان «اقتراح»، كلام لفضلاء ومحققي الحوزة العلمية والجامعة في ما يخص أصول الاجتهاد، وارتباط تحول العلوم بالاجتهاد، وكيفية إمضاء بناء العقلاء، ومسائل من هذا القبيل. وقد أخذت هذه الحوارات حجماً مهماً من المجلة وتضمنت نقاطاً صغيرة وجديرة بالاهتمام. وفي نفس الوقت لوحظت فيها أحياناً بعض الهفوات المنطقية، والتحليلية، والتاريخية، البيِّنة. ولا يتَّسع المجال لنقد ودراسة كل هذه المجموعة؛ لأن تنقيح كل واحدة من الأفكار التي طرحت بحاجة إلى المزيد من التأمل والنقد والدراسة. والذي بين يديك هو دراسة نقدية مختصرة لبعض الآراء والمقترحات المذكورة في تلك المقالة، أتمنى أن تساعد على تطوير هذه الأبحاث وتبيان حدودها. والإشكال الأساسي الوارد على كل تلك المقالة، ولابد من الإشارة إليه قبل التعرض للموارد الخاصة، هو عدم الوضوح والإجمال في السؤال، وأحياناً في الجواب. وفي بعض الأسئلة كان إجمال السؤال إلى حدٍّ انتفى معه الاشتراك بين جوابين، أي إنهما لم يجيبا عن موضوع واحد. وعلى سبيل المثال: حدث ذلك في مسألة تأثير الزمان والمكان في الأحكام الشرعية، والذي يتضح بقليل من التأمل.
1ـ الاستنباط الفقهي والنظريات غير الدينية ـــــ
كان السؤال الأول الذي طرح في الاقتراح هو «ما هي العلاقة بين النظريات الفلسفية والكلامية والعلمية وبين استنباط الأحكام الفقهية؟ وما هي العلوم الضرورية للاجتهاد؟». وقد أجيب عنه من قبل المشاركين في الحوار. وكلٌّ منهم أشار إلى جانب من المسألة. وبصورة عامة فإن الأجوبة مجملة، وبعضها مغلوطة جداً. فقد قال الدكتور كرجي في الإجابة عن السؤال: «…إذا كان المقصود هل أن لتلك العلوم ارتباط مباشر بعلم الفقه، كارتباط علم الأصول؟ فالجواب: كلا، لأنه بدون علم الأصول، وكيفية استنباط الأحكام الفقهية، لا يمكن الاستنباط، أما تلك العلوم فليست كذلك([1]).
والذي يُفهم من الجواب المذكور أن ارتباط العلوم الأخرى بالفقه ليس كارتباط علم الأصول بالفقه، أما علم الأصول فله ارتباط مباشر، لكنه لا يبين بالتالي هل أن للعلوم الأخرى ارتباط مباشر مع الفقه أم لا، إلا أن نأخذ مفهوم كلامه. وإذا كان الجواب بالإثبات ففي هذه الحالة يصبح كلامه الثاني بلا معنى، حيث قال: إنه بدون هذه العلوم يمكن الاستنباط الفقهي؛ لأن الارتباط غير المباشر هو بالنتيجة نوع توقف واستناد، ولذا لا يتحقق لدينا استنباط فقهي صحيح بدون تنقيح تلك المباني.
وبناء على ذلك فإن تقسيم الارتباط إلى مباشر وغير مباشر، وإن كان مفيداً في معرفة نوع المقدمات، لكن ليس له تأثير في أصل البحث حول وجود ارتباط، كما أنه لا يمكن الاجتهاد الصحيح بدون تنقيح تلك المقدمات.
وقد ذكر في مقطع آخر من كلامه: «…وإذا كان المقصود أن من لم يكن معتقداً بعقائد صحيحة مبنية على مسائل مختلفة، وفي علوم مختلفة، ومنها: الفلسفة، والكلام هل يتمكن من الاجتهاد الصحيح؟ فالجواب: نعم، بل إنه يصلح أن يكون حجة لنفس المستنبط، بشرط أن يكون اجتهاده مبنياً على القواعد الصحيحة للاستنباط، كأن يستفيد من النصوص وظواهر الكتاب والسنة، ويراعي قواعد الخاص والعام، والمطلق والمقيد، والمفهوم والمنطوق، وغيرها، ويعمل بالأصول والأمارات المعتبرة، ويستعمل كلاًّ منها في موضعه. وإذا كان المقصود هل أن اجتهاد المجتهد في الفرض المتقدم حجة على الغير أم لا؟ فالجواب: إنه لما كانت العدالة شرطاً في مرجع التقليد فلا يصح لآخر تقليده، أو يختاره للقضاء والحكم…»([2]). وهذا الكلام يبدو غريباً إلى حدٍّ ما؛ لأننا إذا قبلنا الارتباط غير المباشر بين الاستنباط الفقهي والمبادئ الفلسفية والكلامية فلا يعقل أن ندعي أنه يكون لدينا اجتهاد صحيح بدون تنقيح تلك المبادئ. والسبيل الوحيد للقائل المتقدم هو نفي كل ارتباط بين الفقه والمعارف الفلسفية والكلامية، وإن كان ارتباطاً غير مباشر، لكن هل يمكن ذلك؟
والأظرف من ذلك كلامه الآخر: «بشرط أن يُبنى على قواعد الاستنباط الصحيحة. والحقيقة، أن محور البحث هو قواعد الاستنباط الصحيحة تلك؛ فمن يرى أن mالأحكام بأسرها متضادات» في مسألة تنافي الوجوب والحرمة لا يصح كلامه ما لم ينقح المقصود من ماهية «الحكم»، وكيفية تحقق التضاد بين الأحكام، أي إن كلامه سيكون بلا دليل ولا حجة. ولذا فالاستنباط الذي يقوم على أساسه سيكون استنباطاً باطلاً.
وهكذا مَنْ يرى أن «الفرد المردَّد» ـ ومن وجهة نظر فلسفية ـ تصور باطل([3]). فكلما طرح التردد بين فردين بصيغة «الفرد المردَّد»، والذي يبدو مبدئياً غير صحيح في رأيه، فسيكون الاستنباط المبني عليه غير صحيح أيضاً. فمثلاً: في الوجوب التخييري لا يمكنه القول: «وجوب أحد هذين» بنحو الفرد المردَّد (أما الجامع المبهم «أحدهما» فكلام آخر)، «والإكراه على أحد الأمرين» لا يمكن أن يفسِّر الإكراه بالفرد المردَّد، وهكذا.
فالمسألة الأصولية في جميع الموارد تحتاج إلى مقدمة كلامية أو فلسفية، وما لم تنقح تلك المقدمة فمن الطبيعي أن يكون الاستنباط الفقهي المبني على تلك المسألة الأصولية استنباطاً غير تام، إلا أن يُدعى أن المسألة الأصولية لا تحتاج إلى أية مقدمة فلسفية أو كلامية، وهو زعم يخالف الواقع.
والمعقول هو القبول بأصل الارتباط في الجملة. وأظن أن أغلب الفقهاء والمحققين الأصوليين قائلون ـ صراحة أو ارتكازاً ـ بهذا المقدار من الارتباط الجزئي([4]).
وعند القبول بهذا الارتباط في الجملة لابد من الالتفات الى نقطتين:
الأولى: إن بحث تعيين ماهية «الارتباط في الجملة» يطرح ـ غالباً ـ في العلوم الخاصة، كالفقه، والأصول. فلابد للفقيه أن يبين أن مقدماته الأصولية مبنية على أيٍّ من المبادئ الفلسفية والكلامية. والظن أننا نلاحظ العلوم بنظرة من الدرجة الثانية، وتاريخية (نظرة معرفية)، ونكتشف علاقاتها، فتكون نظرتنا هنا نظرة «متفرج»، لا نظرة «لاعب»، الذي تكرر ذكره في مكتوبات الدكتور سروش، وهذا ظن خاطئ جداً؛ لأن نظرة «المتفرج» لا يمكنها أن تبين لنا هل أن علم الأصول يتوقف ـ حقّاً ـ على المبادئ الفلسفية الكلامية أم لا؟ والذي يظهر لنا في تلك النظرة هو سلوك العلماء، والحد الأكثر مما نفهمه هو أن عالماً استند في فهمه الأصولي إلى بعض المبادئ الفلسفية والكلامية، أما أنه هل يوجد ـ حقاً ـ هكذا استناد للفهم الأصولي على المبادئ الفلسفية أم لا؟ فهذا يحتاج إلى بحوث «تفاعلية» أخرى، أي لابد من دخول المعركة، مثل علماء الأصول، وإثبات هكذا استناد أو رفضه.
الثانية: إن أطروحة الارتباط في الجملة في مقابل أطروحة الارتباط الكلي المدعاة في نظرية القبض والبسط، والتي تدعي أن كل المعارف الفقهية والأصولية وغيرها مرتبطة بكل المعارف البشرية، بحيث إنه أولاً: يؤدي أيّ تعبير في المعرفة الفقهية إلى تغيير في المعارف غير الدينية؛ وثانياً: إنّ أي تغيير في المعارف غير الدينية يؤدي إلى التغيير في المعرفة الفقهية، أو المعرفة الدينية بصورة عامة([5]).
وهذه الأطروحة تبدو غير معقولة بهذه السعة. وهذه النظرية هي التي ذكرت البراهين المفصلة في نقدها، وعرضت الموارد التي تنقضها في كتابي «المعرفة الدينية». وللأسف إن سروش يقول دائماً بإغماض تام: «إن المعارضين لم يأتوا حتى بنصف مورد نقض لهذه النظرية»، ولو لم يكن ذلك لأدرك بقليل من التأمل موارد النقض تلك. نعم، لم يتمكن المعارضون من الإتيان بموارد نقض ـ وليس عليهم أن يأتوا بها ـ للمدعى القائل: إنه لا يوجد فهم فقهي وتفسيري بدون حكم قبلي (مفروض). وهذا الادعاء، الذي يشتبه دائماً مع الادعاء الأول في كلمات الدكتور سروش، ادعاء صحيح. وبالتالي فإن فهم نص ما بحاجة إلى المعرفة بمفردات ذلك النص وقواعده النحوية، واستعمال القواعد العقلائية حول نسبة المعاني للمتكلِّم، وغيرها. ولم يعترض أحد على مثل تلك الأسس التي يتوقف عليها فهم النص، وإنما ينشأ الإشكال من الاشتباه بين هذا الادعاء الصحيح والادعاء الأول. فما هو غير معقول ارتباط القضايا الفقهية بكل المعارف البشرية، وميكانيكية تحولها غير الصحيحة في القبض والبسط. والأعجب من ذلك ادعاء صاحب نظرية القبض والبسط، الذي يقول: إنّ عامة علماء الدين ـ ومنهم الكاتب ـ يعتقدون أن أي نص يمكن فهمه بدون أي حكم مسبق (مفروض). ومشكلته، بالإضافة إلى اللحن التعريفي والدعائي في كلامه، أنه ـ ظاهراً ـ لم يُلقِ نظرة على مكتوبات الفقهاء وكيفية عملهم، فإن هؤلاء المحققين يذعنون بالأصل المتقدم ارتكازاً، ويستعلمونه في مجاله، ويصرِّحون في كثير من تحقيقاتهم الأصولية، وخصوصاً في بحث الاجتهاد والتقليد، بتوقُّف الفهم الفقهي على بعض المعلومات خارج النص.
يقول سروش: إنه ببركة أبحاثه في القبض والبسط أفاق علماء الدين ـ ومنهم: الكاتب ـ من غفلتهم، واعترفوا «بتوقف فهم النص على بعض الأحكام القبلية (المفروضات) خارج النص. ولا أدري إن كان هناك عاقل يدعي أن صاحب الوافية استفاد من أبحاث القبض والبسط ليقول قبل أربعمائة سنة: إن الاستنباط الفقهي بحاجة إلى المعرفة بالمفردات، والصرف، والنحو، والمنطق، وغيرها. فإذا كان مدّعى نظرية القبض والبسط هو ذلك الأمر الواضح فليس بحاجة إلى دليل، ولا إلى كل هذا الضجيج، ولابد أن نقول له: إنه أهدر عمره عبثاً، وأتلف وقت الآخرين، ونحت لنفسه ادعاءً كبيراً؛ لأن ما قاله لم ينكره أحد.
لكنّ الإنصاف أن المسألة ليست كذلك. وهذا التباس ومغالطة، ولأجل تبرير ذلك الادعاء الكبير الأول، الذي لا دليل عليه، والمؤدّي إلى نتائج غير معقولة.
وقد ابتعدنا بعض الشيء عن بحثنا الأساسي. فقد كان الكلام عن ضرورة القبول بأطروحة الارتباط في الجملة، أي إن بعض المعارف الفقهية ترتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بالمعارف الفلسفية والكلامية، ولازم ذلك الارتباط أن الاستنباط الفقهي لا يصح بدون تنقيح تلك المباني، أما مسألة حجية رأي الفقيه بدون تنقيح تلك المباني لنفس الفقيه فهي مسألة أخرى وتدور مدار كونه مقصِّراً في تحصيل المقدمات أم لا. كما أن صحة رجوع الآخرين إلى ذلك الفقيه أيضاً مسألة أخرى. وعلى أية حال فالذي يبدو أن المسألة لا تدور مدار «العدالة»، كما قال الأستاذ كرجي. فالذي يخطئ في استنباطه الفقهي لا يخرج من العدالة إذا لم يكن مقصّراً في تحصيل المقدمات. ولذا فإن صحة رجوع الآخرين إلى هذا المجتهد وعدمها تدور مدار نكات أخرى. وأساساً من العجيب أن تطرح مسألة «العدالة» في هذا الموضوع في كلام الأستاذ كرجي.
2ـ ارتباط الفقه والبحث الفلسفي، معضل التداخل ــــــ
لقد قال الأستاذ السيد كاظم الحائري في الإجابة عن السؤال الأول: إذا كان المقصود أن الفلسفة والكلام تجعلان رأي الفقيه إلهياً، وتوسعان من رؤيته، فهذا حسن، وله تأثير، ولابد أن يكون للفقيه رؤية إلهية لما وراء الطبيعة. وإلا فهذا الفقيه سوف لن يكون فقيهاً، وليس لفتواه قيمة؛ لأن الفلسفة تثبت لنا أن هذا العالم حلقة من بين حلقات أخرى. وهذه مسائل لابد أن يعرفها عالم الدين، أما إذا أريد المزج بين المسائل الفلسفية والعلمية مع علم الأصول، ويقدّم لنا علم أصول متضخم ـ كما يقال ـ، فهذا لا يمكن القبول به…»([6]).
والذي يبدو من هذا النص أن الفلسفة والكلام ـ في رأيه ـ تصحح اعتقادات الفقيه، وارتباطها بالفقه والفتوى الفقهية بمقدار أن الفقيه إذا لم يكن معتقداً بالله والرسول والقيامة فإن فقهه بلا معنى ولا دليل.
وهكذا جواب هو في الحقيقة نفيٌ لعلاقة الفلسفة والكلام بالفقه؛ لأن البحث عن تأثير النظريات الفلسفية والكلامية والعلمية على الاستنباط الفقهي، لا عن كون الفقيه معتقداً بالله، ولا حول معرفة الفقيه بالله.
ففي علاقة الاستنباط الفقهي بالفلسفة والكلام بصورة مطلقة لا يمكن الدفاع عنه، كما أوضحنا بالتفصيل. وتوجد شواهد كثيرة على ذلك. فلابد من القبول بأطروحة الارتباط في الجملة.
3ـ فهم الدين والتوقع من الدين، ماذا ينتظر البشر من الدين؟ ــــــ
يؤكد الشيخ شبستري في خطابه على نقطة، وهي أن الفقيه قبل أي اجتهاد لابد أن يعين حدود الرجوع إلى الدين، ومجاله؛ لأن هناك أصل مسلَّم في علم التفسير، وهو أن فهم أي نص ـ ولا يختص بالكتاب والسنة ـ، سواء كان النص فلسفياً أو تاريخياً أو حقوقياً أو غير ذلك، إنما يتحقق إذا تبين للمتلقي ابتداءً توقُّعه من الرجوع إلى ذلك النص، ومضمون ذلك النص إجمالاً. وبدون هذا الموضوع في الرؤية لا يتيسر أي فهم للنص. فعلى الفقيه أن يوضِّح لماذا يرجع إلى الكتاب والسنة»([7]).
وكان الدكتور سروش أيضاً ـ قبل ذلك ـ يؤكد على هذه النقطة في مقالاته في القبض والبسط. ولكن هل أن الكلام المتقدم بهذا النحو الإجمالي المبهم مبرر؟! والظريف أن الشيخ شبستري قد قال بأسلوب دعائي: إن هذه النقطة المذكورة هي أصل مسلَّم في علم التفسير، ولم يُقِمْ دليلاً ولا برهاناً على ذلك.
فهل أن وضوح المتوقع من النص هو الذي يمكّننا من فهمه، وبدون ذلك الوضوح لا يتيسر أي فهم للنص؟ أظن أن هناك الكثير من موارد النقض لهذا المدعى بهذا التعميم. فلو فرضنا أن شخصاً أراد أخذ كتاب من أحد رفوف مكتبة مبعثرة بدون أية سابقة ذهنية؛ لأنه شخص ليس لديه أي توقع معين من النص، أو يمكن أن لا يحمل أي توقع على الأقل، وعندما يفتح الكتاب يجده كتاباً فلسفياً من ترجمة أرسطو ومؤلفاته، فهل أن أمراً كهذا أمر غير ممكن؟ وهل أن هذا الشخص لما لم يكن لديه توقع خاص من النص لا يمكنه فهم هذا الكتاب الذي يترجم لأرسطو ويذكر مؤلَّفاته لأنه لم يكن يعرف من البداية موضوع الكتاب إجمالاً، ولذا لا يمكنه فهم شيء من النص؟
بل يمكن الترقي بالفرض إلى أكثر من ذلك، بأن نفرض أن توقعنا من النص كان توقعاً خاصاً، نفرض أننا تناولنا كتاباً لفيلسوف، ومن الطبيعي أن نتوقع من النص أن يناقش مسألة فلسفية، ولكن ـ خلافاً لتوقعنا تماماً ـ وجدناه كتاب قصة أو رواية، ألا يمكن تصور ذلك؟
ليس الحكم في ذلك صعب في اعتقادي. كل شخص يعرف أن هكذا فرض ممكن، يعني من الممكن أن يتوقع الإنسان من النص أمراً معيناً، لكن النص يحتوي على أمورٍ مخالفة لتوقعه تماماً. وأحياناً ربما تكون أبحاث الكتاب على خلاف توقعه إلى حد التعجب والدهشة.
إذاً ادعاء أنه «بدون توقع مسبق من النص لا يمكن فهم النص» ادعاء بلا دليل.
وفي خصوص الكتاب والسنة مثلاً: كان توقعك أن تجد في الكتاب والسنة شيئاً من الطاقة الذرية، لكن عندما تبحث في الكتاب والسنة لا تجد شيئاً حول الموضوع، وهذا محتمل جداً، وعليه فإن توقعك ربما كان في الاتجاه المخالف للمعنى والفهم الذي تستفيده من الكتاب والسنة. وعكس هذا صادق أيضاً، فربما كان توقعك أنه لا يوجد مطلب حول عالم التكوين في الكتاب والسنة لكن عندما ترجع إلى تلك النصوص تجد فيها أبحاثاً من هذا النوع. مثلاً: يتحدث القرآن عند طي السماوات ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ﴾، أو حول ظلام الشمس والنجوم ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ﴾. وبناءً على ذلك ففي نصوص الكتاب والسنة أبحاثٌ لم تكن تتوقعها. كل هذه الأمور ممكنة، وناقضة للمدعى القائل: «لا يمكن الفهم للنص بدون أن يكون هناك توقع معين منه».
والسر في كل ذلك أن ألفاظ النص ومعانيه ليست تابعة بالكلية للتصورات الذهنية للقارئ، بل لها وجودها المستقل والعيني. ترتبط مداليل الألفاظ إلى حدٍّ ما بالتوافقات والأوضاع بين أفراد المجتمع، وفهم النص يتوقف على معرفة هذه التوافقات، وهذه التوافقات ليست شخصية، ولا فردية، بل هي عينية وعامة. ولا نحتاج في فهم النص أكثر من ذلك، أي إن معرفة المراد الجدي للمتكلم كما هو في الواقع ليست هي المسألة التي تشغل بالنا منذ البداية، إنما المهم بالنسبة لنا هو المدلول والمراد العام، وله عينية، وبه يتم الاحتجاج بين المتكلم والمخاطب. فالفقيه الذي يراجع الكتاب والسنة لا يهدف إلا إلى الحصول على فهم عيني عام للكتاب والسنة، وبه يتم الاحتجاج بين المولى وعباده. وإذا أمكن إثبات أن المولى الحكيم يريد قطعاً هذا المعنى العام والعيني فهذا أمر تبعي ومتأخِّر.
ومما تقدم يتضح بطلان كثير من النتائج التي رتبها الشيخ شبستري على مدعاه. وسنناقش في المقطع التالي بعض هذه النتائج، لكن قبل ذلك ننوِّه إلى عبارة تبدو متناقضة مع كلامه المتقدم، فيقول: «وطبعاً ربما أدرك الفقيه برجوعه إلى الكتاب والسنة أنهما يجيبان عن أسئلة لم تخطر في ذهن الفقيه أو يصححان الأسئلة التي طرحها الفقيه. كل ذلك ممكن»([8]).
والسؤال هنا كيف يتضمن النص مبحثاً لم يخطر ببال الفقيه، بينما أنتم تعتقدون أنه بدون التوقع المعين من النص لا يتيسَّر أي فهم له، فلابد ـ بالتالي ـ أن تعتقدوا أنه بدون تصور الفقيه لمباحث النص لا يمكن فهم النص، كما صرحتم بذلك. ولذا كيف اعترفتم في هذه العبارة الثانية أنه يمكن أن نعثر على مطلب لم يكن ـ على الإطلاق ـ في ذهن الفقيه؟! أليس هذا سوى الاعتراف بإمكان تحقق فهم للنص بدون توقف على تصورات الفقيه وتوقعاته السابقة؟
واستكمالاً للكلام المتقدم يطرح الشيخ شبستري مسألة الدور الهرمنوطيقي. ومن دون أي استدلال يكرر مدعاه العريض، ويعتبره أصلاً مسلّماً. وللدور الهرمنوطيقي تصويرات مختلفة، ويظهر من بعض هذه التصويرات نوع من النسبية في فهم النص، وهناك إشكالية في أصل تصورها، فضلاً عن التصديق أو الإنكار. ولهذا ما لم يقدّم الشيخ شبستري تصويراً واضحاً للدور فلا يمكنه أن يؤسس عليه بحثاً آخر، بالإضافة إلى أن الدور الهرمنوطيقي لا علاقة مباشرة له بالتوقع من النص. فكون المفسر يفهم النص بحسب «إمكاناته» لا يتضح منه طبيعة تلك «الإمكانات». ويتفق الجميع على أن هناك نوعاً من المعارف ضرورية لفهم النص، ولا ينكر أحد هذه الكلية. والبحث أساساً في نوع المقدمات اللازمة لفهم النص، ونوع الإمكانات التي لابد أن يتوفر عليها المفسِّر. والشيخ الشبستري يدعي أن «التوقع من النص» إحدى هذه المقدمات، ولم يقم أي دليل على ذلك. وكما لاحظنا فإن هناك نقوضاً جدّية على الصيغة الكلية لهذا المدعى.
أنواع التوقّع الإنساني من الدين ــــــ
يبحث الشيخ شبستري بعد ذلك نوعين من التوقع من الدين يقتضيان نوعين من الحياة المعينة. وملخص كلامه أن أحد أنواع التوقع من الدين أنه يغطي كل حركات وسكنات المؤمنين، ويسعى الفقيه لتحصيل حكم كل فعل من المكلف، سواء كان بصورة خاصة أم بصورة عامة. وتصبح حياة المجتمع الذي ينظر إلى الدين بهكذا طريقة حياة خاصة، يجب على أفراد هكذا مجتمع أن لا يقدموا على شيء إلا أن يكون قد ورد عنه بحث في الكتاب والسنة بصورة عامة أو خاصة، «وإذا كان لفقيه هكذا رأي لا يمكنه في مقام العمل أن يُحيل الجزء الأكبر من أفعال الناس إلى العلوم والتجربة البشرية، ويخرجها من دائرة علم الفقه، وهي الأفعال المتعلقة بالسير الطبيعي للحياة الإنسانية والتمدن البشري، من حيث إن كليات الكتاب والسنة فوضت الأمر في هذه المسائل إلى الناس أنفسهم… وعلى هكذا فقيه أن يطرح جانباً الاستفادة من العلم والتجربة البشرية بالمرة، لكي يكون وفياً لرؤيته حول حقيقة الوحي (الكتاب والسنة ودورهما).
والتوقع الآخر من الدين هو أن يتدخل في المجالات الكلية جداً، وأعطى الاختيار للإنسان في الكثير من المسائل لكي يقرر بنفسه. والمجال هنا لعقل الإنسان نفسه. ففي هذا المجال يتكفل الوحي بيان القواعد القيمية العامة، وليس له دور آخر. مثلاً: إذا أرادت جماعة الوصول إلى التنمية الاقتصادية فوّض إليهم هذا القرار، ويمكنهم أن يتخذوه أو أن لا يتخذوه. وما هو موجود أنهم إذا أرادوا القيام بذلك فلابد أن يرجعوا إلى الكتاب والسنة لكي يعرفوا المناهي الإلهية (المعاصي)، ولا يرتكبوا حراماً في التنمية الاقتصادية، أي إن دور الكتاب والسنة في التنمية الاقتصادية بيان المحرمات والمكروهات، لا بيان الواجبات والمستحبات. والمسألة المهمة هنا أن هاتين النظرتين كلامية وفلسفية… وتتدخل مسائل أخرى في تكوّن هذه النظرة الكلامية والفلسفية…»([9]).
هذه خلاصة كلام الشيخ شبستري. وكما هو واضح فهو يدافع عن النوع الثاني من التوقع من الدين. وأرى أن هناك أخطاء كبيرة في تصويره للدين. بالإضافة إلى ذكره الكثير من الكلام غير المنقَّح وغير الدقيق:
أولاً: من الطبيعي جداً أن يكون للدين رأي حول كل حركات الإنسان وسكناته، إما بنحو الخصوص أو بنحو العموم؛ لأن الهدف الأساسي للدين إيصال الإنسان إلى كماله النهائي. ولما كانت حركاته وسكناته يمكن أن تؤثر في وصوله إلى الكمال فمن الطبيعي جداً أن يكون للدين رأي في هذا المجال. وبالإضافة إلى ذلك يتضح من الرجوع إلى نصوص الكتاب والسنة أن للدين رأياً في مجال العلاقات الاجتماعية، والعلاقات الأسرية، والعلاقات الاقتصادية، والحقوق الجزائية، وأمثالها. وقد ذكرت في القرآن ـ أحياناً ـ حدود واضحة لهذه الأمة.
وقد تحدثت بالتفصيل في هذا الشأن في موضع آخر بأن الأدلة الدينية والأدلة غير الدينية تبين نوعاً من «السعة في الحدود» للدين، أو فيها هكذا اقتضاء على الأقل.
والنقطة الأهم أنه لأجل الفحص عن مسألة في الكتاب والسنة ليس من الضروري أن نعلم مسبقاً أن حكم هكذا مسألة مذكور في الكتاب والسنة، ويكفي الاحتمال العقلائي للحكم كي يبحث الفقيه عنه. وكما يقال في الاصطلاح الحوزوي: فإن الاحتمال العقلائي للحكم قبل الفحص منجِّزٌ. نعم، من يتيقَّن قبل الفحص عن مسألة أن حكمها غير موجود في الكتاب والسنة فمن الطبيعي أن لا تنقدح في نفسه الرغبة للفحص، لكن الظاهر أن هكذا يقين لا يحصل إلا عن طريق الوحي والإلهام.
ثانياً: ادُّعي أنه «إذا كان تلقّي الفقيه عن الدين أن له رأياً في كافة أفعال المكلفين فلابد حينئذٍ أن يطرح جانباً الاستفادة من العلم والتجربة البشرية». وهذا الادعاء يثير العجب، فهل أن شأن العلم والتجربة البشرية تعيين أحكام المكلفين، حتى يوجد لها بديل عند الرجوع إلى الكتاب والسنة؟! فإن العلم والتجربة البشرية تتعلق حسب القواعد بعالم التكوين بالعلاقات التكوينية للعالم. العلم يقر ما الذي يجب أن نفعل من أجل التنمية، أما ما هي قيم هذه التنمية وعدمها فلا يعينها العلم. العلم لا يخبرنا أنه بمراعاة أية قيم تحصل التنمية، وإنما تتضح هكذا قيم بواسطة الدين، وبالتوافق مع الأخلاق، فالعلم يمكن أن يعين مسار العلاقات الاقتصادية، لكنه لا ينشئ قيمها وما يجب وما لا يجب فيها.
نعم، إذا أثبت العلم ضرورة أو استحالة فعل يقع متعلقاً لحكم فحينئذٍ يخرج ذلك الفعل من مسار ما يجب وما لا يجب، لكن هذا ليس شأناً دائمياً للعلم. إذاً فمن المعقول جداً والمتصور أن يعتقد الفقيه ـ كما هو حال كافة فقهاء الأعصار ـ أن لكل فعل من أفعال المكلفين حكماً في الكتاب والسنة، ولكنهم في نفس الوقت يستفيدون من العلوم التجريبية في حدودها الخاصة.
ثالثاً: لم يتضح من أين استنبط الشيخ شبستري من الكتاب والسنة أن الدين مثلاً في مجال التنمية الاقتصادية لديه «نواهٍ» لا غير، ووظيفة سلبية فحسب، وليس فيه أي «وجوب» إثباتي. وبتعبيره: فإن «دور الكتاب والسنة في مسألة التنمية الاقتصادية بيان المحرمات والمكروهات، لا بيان الواجبات والمستحبات».
لكن الكتاب والسنة كما فيها ﴿وَلا تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ﴾ فإن فيها ﴿وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ المُسْتَقِيمِ﴾، وكما يقول ﴿وَلا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالبَاطِلِ﴾ يقول أيضاً: ﴿أَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾.
مضافاً إلى ذلك فإن «التروك» في كثير من الأحيان ربما تكون متعلق الوجوب. مثلاً: وجوب الصوم هو في الأساس إيجاب بعض التروك. وعليه فالادعاء باختصاص مضامين الكتاب والسنة ـ ولو في المجالات الاجتماعية والاقتصادية وجوانبها الحقوقية ـ بالمحرمات خاصة ليس له مبرر، وأشبه ما يكون بنوع من التوهم والتخيل، لا أنه حقيقة مستفادة من الكتاب والسنة.
5ـ التباس المفهوم والمصداق ــــــ
يعتبر التباس المفهوم والمصداق واحداً من أكثر الأخطاء التي تلحظ عادة في كلام المتحدثين والكتّاب، لكنّ وقوعه في كلام أهل العلم والفضل غير متوقع إلى حدٍّ ما.
وقد طرح الأستاذ كرجي عند بحثه عن فهم العرف وحجيته مسألة أن فهم العرف هل يراد منه «فهم عرف عصر التشريع» أو «العرف في أي عصر»؟ ثم أضاف أن لا حاجة لنحرج أنفسنا بالقول: إنه ما فهمه العرف في عصر التشريع؛ لأن الشارع المقدس قال: ﴿أَحَلَّ اللهُ البَيْعَ﴾، ففي كل عصر أطلقت كلمة «بيع» على معاملة فهي ممضاة من الشارع. ولذا يمكن أن يختلف ما يطلق عليه «بيع» في الأزمنة المختلفة. والخلاصة أن المقصود من ﴿أَحَلَّ اللهُ البَيْعَ﴾ هو ما يسميه العرف بيعاً في كل زمان.
التباس المفهوم بالمصداق واضح جداً في كلام الأستاذ كرجي. فمعاني الألفاظ ربما تختلف باختلاف الأزمنة. وعليه فمن غير المعقول أن نقول: إن كل المعاني المختلفة كانت مقصودة للشارع من لفظ واحد. والشارع عندما كان يتكلم مع مخاطبيه فإنه أراد معاني الألفاظ في زمان الخطاب. إذاً احتمال الأستاذ كرجي بأن كل معنى يطلق اللفظ عليه في أي عصر يكون مراداً [للشارع] احتمال لا وجه له أبداً.
لكن في نفس الوقت لا يستنتج من هذا الكلام أن إمضاء الشارع يختص بالبيع في عصر التشريع. فنحن نرجع إلى عرف عصر التشريع لتحصيل معاني الألفاظ، لكن ربما يكون الشارع قد بيَّن قضية حقيقية حول البيع بواسطة معاني عصر التشريع. وعليه فكل ما يصدق عليه معنى البيع زمان الشارع يكون مورد إمضاء الشارع ولو في زماننا، مثل: ﴿أَحَلَّ اللهُ البَيْعَ﴾، وأخذ المعنى من عرف زمان الشارع لا يستلزم أن يكون مصداق ذلك المعنى منحصراً بمصاديق زمان التشريع.
ولو فرضنا أننا وجدنا أن المراد من «البيع» في زمان الشارع «تمليك عين بعوض»، فحينئذ يكون كل مصداق من «تمليك عين بعوض» مورد إمضاء، ويشمل حتى المصاديق التي لم تكن موجودة في زمان الشارع. وكما قلنا فإن هذا المطلب نتيجة استظهار أن قوله ﴿أَحَلَّ اللهُ البَيْعَ﴾ في صورة قضية حقيقية من ناحية الموضوع، وليس قضية خارجية. وطبعاً كان هناك بعض الفقهاء الذين يحصرون المعاملات في خصوص معاملات زمان الشارع. وهدفنا هنا توضيح نقطة أخرى، وهي أن منشأ الاختلاف ليس في أن لفظ البيع هل كان معناه في زماننا نفس معناه في عصر التشريع أم لا؟ بل إن منشأ الاختلاف في استظهار كيفية جعل الشارع، وهل أنه بنحو القضية الحقيقية أم لا؟ وإلا فلا شبهة في أن معنى البيع إذا كان في زماننا يختلف عن معناه في عصر التشريع فلابد من الأخذ بمعناه في زمان الشارع، ولفهم كلام متكلم ما لابد من أخذ زمان تكلمه ومخاطبيه بعين الاعتبار.
وهذا لا يختص بالبيع، والذي يحظى بماهية حقوقية، بل الكلام في لفظة «ماء» كذلك. فإذا ورد هذا اللفظ في كلام الشارع، مثل: اغسله بالماء، فلا شك أن المراد من لفظ «الماء» ذلك المعنى الذي كان في زمان الشارع، أما مصداقه فلا يختص بمصاديق زمان الشارع، فلو فرضنا أن ماء زمان الشارع كان ملحه 20% فلا يجب علينا أن نضيف ذلك المقدار من الملح إلى الماء لنحصل أوصاف مصداق الماء في زمان الشارع. يكفي ما يصدق عليه مفهوم «ماء»؛ لامتثال الأمر المذكور، إلا أن تفهم أوصاف وشروط أخرى بالقرائن الحالية أو المقالية. وهذا موضوع آخر. وقد وقع الشيخ شبستري ـ الذي لم يقبل عدم تغير معاني الألفاظ بمرور الزمن ـ في جواب الأستاذ كرجي في إفراط آخر، وادعى أنه على أساس مباني اللغويين لابد أن يكون المراد من لفظ «بيع» في ﴿أَحَلَّ اللهُ البَيْعَ﴾ خصوص بيوع زمان التشريع. وينقل عن قول «اللغويين» أن اللغة مسألة تاريخية، بمعنى أنّ اللغة في كل مجتمع ولكل حضارة وعصر إنما ترتبط بما يوجد في ذلك الحضارة وذلك العصر والمجتمع. ولذا لا يمكن اعتبار «النسيج اللغوي» لحضارة ما ناظراً إلى حضارة أخرى. واللغات ليست بالشيء الذي تسحب معانيها مهما استطعنا… والآن إذا التفتنا إلى تلك الشبهة لابد أن نقبل أن ﴿أَحَلَّ اللهُ البَيْعَ﴾ تشمل البيع في زمان نزول القرآن فحسب([10]).
ويبدو أن في ما ذكره الشيخ شبستري في كلامه المتقدم أبحاثاً متعددة ومتداخلة مع بعضها. فالادعاء بأنّ «اللغة في كل مجتمع وعصر ترتبط بما يوجد في تلك الحضارة والعصر والمجتمع» كلام مبهم للغاية. فهل المقصود أن معاني الألفاظ تختص بذلك المجتمع، بحيث إن المعنى يتغير من ذلك المجتمع والعصر إلى مجتمع وعصر آخر أم أن المصاديق كذلك؟ إذا كان المقصود الاحتمال الأول فحتى لو سلمنا المبنى لا يثبت مدعى الشيخ شبستري. وهو في الحقيقة خلط بين المفهوم والمصداق؛ ليحصل على النتيجة التي يريدها. وإلا لو فرضنا أن لفظ «البيع» كان له معنى في عصر التشريع، وله معنى آخر في عصرنا، فهذا لا يؤدي إلى حصر «مصاديق معنى عصر التشريع» بزمان التشريع. وكمثال: لو فرضنا أن لفظ «بيع» في زمان التشريع كان «تمليك عين بعوض»، وتغير معنى هذا اللفظ في زماننا تماماً، وأصبح المراد من لفظ «البيع» معنى الإجارة، أي «تمليك المنفعة بعوض»، فهذا لا يستدعي أن «تمليك [عين] بعوض»، وهو معنى زمان التشريع، تنحصر مصاديقه بذلك الزمان. وعندما يقول الشارع: ﴿أَحَلَّ اللهُ البَيْعَ﴾ فالمقصود ـ وفقاً لمعنى ذلك الزمن ـ أن «تمليك عين بعوض» قد أمضي، وكلما وجد مصداق لهذا التمليك فهو ممضىً أيضاً. فمسألة تطبيق «معنى زمان التشريع» على «المصاديق الحالية» ليس له أدنى علاقة بتغير معاني الألفاظ بمرور الزمان. ولذا فكل هذا الإصرار من الشيخ شبستري على تغير معاني الألفاظ بمرور الزمان جهد بلا طائل.
وقد قال الشيخ شبستري في موضع آخر: إن «النزاع ليس في استعمال الألفاظ. الألفاظ تستعمل، لكن معاني الألفاظ تختلف من زمن لآخر». واتضح الآن أن تغير معاني الألفاظ لا علاقة له بشمول معنى زمان التشريع بالنسبة للمصاديق الحالية. ومدعى محققينا هو الأمر الثاني، لا الأمر الأول، الذي يدافع عنه الشيخ شبستري بشدة.
والأعجب من الإصرار بلا طائل من الشيخ شبستري الإنكار الغريب للأستاذ كرجي، الذي ادعى أن «معاني الألفاظ لا تختلف، وإنما تختلف قيودها. القيود التي تؤخذ فيها تختلف في الأزمنة المختلفة، لكن ماهيتها الحقوقية لا تتغير»([11]).
فإنّ الألفاظ قد يتغير معناها بمرور الزمن، وقد يتبدّل إلى الضد، وهذا احتمال لا يمكن رفضه، وإنْ لم يقع. والادعاء بأن أصل المعنى يبقى ثابتاً، وتتغير قيوده، ادعاء بلا دليل أيضاً.
نعم، الحاصل أنه لا يوجد دليل على كلية «تغيّر معاني الألفاظ» أيضاً. وهو لابد أن يُقبل بنحو القضية الجزئية، وهذا المقدار كافٍ لرد كلام الأستاذ كرجي. ثم يضيف الأستاذ كرجي: «ولا تتغير ماهيتها الحقوقية». وأشكل عليه الشيخ شبستري بأن «الصحيح أن لا يستعمل اصطلاح «الماهية» في الأبحاث اللغوية؛ [لأن] بحث الماهية وعوارضها من الأبحاث الفلسفية»([12]).
أولاً: ليس واضحاً من أين جاء الشيخ شبستري بهذه الحدود. فكون الماهية وعوارضها تختص بالفلسفة فقط كلام غريب. إذا ذكرت خواص الماء في الكيمياء فلن تكون للماء ماهية قطعاً؛ لأن الكيمياء ليست فلسفة! ما هي علاقة كون الشيء ذا ماهية أو غير ذي ماهية بالفلسفة؟! ولا يلزم من ذلك أن لا يوجد هناك مصداق في زماننا لمعنى زمان الشارع. ويحتمل أن يكون مراد الأستاذ كرجي هكذا شيء.
وقد اشتبه ـ في نظري ـ هذا البحث الكبروي مع بعض الأبحاث الصغروية أيضاً عند الشيخ شبستري. مثلاً: هل أن لفظ «يد» لها من سعة المعنى بحيث تشمل اليد الملكوتية لله تعالى أم لا؟ هذا بحث صغروي، ويجب أن لا يقحم بالبحث الكلي الكبروي المتقدم. وفي لفظ البيع ربما ادعي أن لفظ «البيع» في زمن الشارع يتضمن كذا خصوصية أو لا يتضمنها. هذه كلها أجنبية عن البحث الفعلي، وترتبط بالبحث الفقهي. وما يرتبط بهذا البحث هو أن لفظ «البيع» كان له معنى في زمان الشارع، ومصاديق هذا المعنى لا تنحصر بزمان الشارع. إن انطباق معنى البيع على مصاديقه مسألة تكوينية قهرية، وليست بالاختيار وحسب الرغبة، لكي نقصرها على مجال معين.
الهوامش:
(*) أحد الفقهاء البارزين، ومن أبرز أساتذة الفكر والفلسفة، رئيس السلطة القضائية في إيران. يعدّ أحد أبرز نقاد بعض التيارات الإصلاحية.
([1]) مجلة نقد ونظر [بالفارسية]، العدد 1: 15.
([3]) هذا مضمون كلام المحقق الخراساني في كفاية الأصول.
([4]) إشارة إلى رأي المحقق الإصفهاني في كل كتاباته الفقهية والأصولية، ومنها: بحث العلم الإجمالي، وبحث الإكراه، في حاشية المكاسب وغيرها.
([5]) لقد أسسوا أبحاثاً أصولية على مبانٍ فلسفية في كل الأصول. وقد قبلوا بأصل الاستناد بنحو ارتكازي أو تفصيلي. واعترفوا ـ أحياناً ـ صراحة بأصل الاستناد في الجملة في أبحاث الاجتهاد والتقليد.
([6]) لاحظ: صادق لاريجاني، معرفت ديني [المعرفة الدينية]: 28 ـ 36 (الطبعة الفارسية).
([7]) مجلة نقد ونظر [بالفارسية]، العدد 1: 17.