من الطبيعي ـ في سياق المعركة التي يواجهها الإسلام مع مظاهر الاعتداء عليه وعلى الكيان الإسلامي ـ أن يحقّق المسلمون سلسلةً من الانتصارات، فيما يمنون بسلسلة أخرى من الهزائم التي تضعف موقفهم وتوهن حالهم، والتاريخ الإسلامي ـ بل البشري ـ مليء بتاريخ الجماعات التي تحقّق انتصارات وتمنى بهزائم، حتى التجربة النبوية لم تكن انتصارات فقط، بل تخلّلتها بعض الهزائم ببعض المعايير على الأقل، كما حصل في تجربة أحُد؛ من هنا كان من الضروري أن يلاحق الفقه الإسلامي، وكذلك العلوم الأخلاقية، ما يمكن أن نجده في الكتاب والسنّة وعرف العقلاء فيما لو تحقّق نصرٌ أو هزيمة، دون الاستغراق في القضايا الميدانية التي تتحرّك دوماً بتغيّرات الزمان والمكان؛ فرصد الوظيفة الدينية والأخلاقية في مواقع من هذا النوع، وإن لم يكن بالأمر العسير، إلا أنّنا لم نجده ـ بشكل جادّ ـ في الدراسات الفقهية الإسلامية ولا الدراسات الأخلاقية، إلا متناثراً هنا أو هناك، مع ضرورته والحاجة إليه.
ونحاول هنا تسليط الضوء على بعض المفاهيم التي وإن كانت واضحةً إلا أن الإضاءة عليها ضمن هيكلة جديدة وعنونة جديدة، يظلّ مفيداً للدارسين والمتابعين؛ ونعتمد هنا منهج مراجعة القواعد والأصول والمقاصد العامة التي يمكن أن تنطبق على هذا الواقع أو ذاك، ونبدأ بالحديث عن تجربة الهزيمة.
تجربة الهزيمة ومرارة النكسة، معايير وقيم في الأخلاق والتشريع
قد يواجه المسلمون هزيمةً في معركةٍ ما، نتيجة تخاذلهم أو تخاذل بعضهم أو قصورهم أو تقصيرهم أو تشتّتهم أو تفوّق العدو عليهم ماديّاً أو معنوياً أو .. وهنا يمكن الحديث عن سلسلة إجراءات يفترض بهم ـ شرعياً أو أخلاقيّاً ـ اتخاذها، وأكتفي هنا بالإشارة إلى بعضها:
1 ـ يفترض بالمسلمين أن يسلّي بعضهم بعضاً بمصائبه؛ كما لو قتل له قريب أو عزيز، أو خسر مالاً في الحرب أو .. فإنّه إذا كانت تعزية أهل الميّت مستحبّةً ـ كما ثبت في الفقه الإسلامي ـ فتعزية المسلمين لبعضهم إثر هزيمةٍ في الحرب ـ مع عظيم الفاجعة والمصيبة ـ يكون مستحباً أيضاً، ومشمولاً للأدلّة الدالة على استحباب مواساة المسلمين بعضهم في مصائبهم، بل هذا ثابت بطريق أولى؛ لما لهذه الحالة من طابع اجتماعي عام يمسّ المسلمين بكيانهم الجمعي؛ من هنا يفترض بهم مساعدة بعضهم بعضاً على التماسك وتوطيد عرى الألفة فيما بينهم، ووقوفهم إلى جانب بعضهم في المحن والمصائب، لا أن يتشفى بعضهم من بعض في مثل هذه الظروف الحرجة، نتيجة منطق شخصي أو عشائري أو قَبَلي أو حزبي أو طائفي أو قومي أو .. فإذا هزمت دولة إسلامية يفترض بالآخرين الوقوف إلى جانبها في لحظات المحن، لا التشفي منها لأجل خلافات مذهبية أو غيرها؛ إذاً، فالمطلوب تحقيق المواساة الفردية والاجتماعية، والأدلّة العامة والمقاصد العليا تساعد على ذلك.
2 ـ العمل على التحلّي بروح الصبر والاسترجاع والعودة إلى الله تعالى، وكثرة التوبة والاستغفار؛ فإنّ الأدلّة الحاثة ـ من الكتاب والسنّة ـ على الصبر والاسترجاع في المصائب تقوى هنا وتشتدّ بطريق أولى؛ حيث تعود المصيبة على عموم المسلمين؛ أمّا كثرة التوبة والاستغفار فهي أمر واضح في حالة تقصير المسلمين أنفسهم في الحرب؛ لأنّ التقصير ذنب يحاسبون عليه أمام الله تعالى؛ لتخلّيهم عن وظائفهم الشرعية الموكلة إليهم؛ فيجب عليهم التوبة إلى الله عما فعلوه، كما وجب على بعض مسلمي أحُد ذلك.
ولا يختلف حال هذا التقصير بين أن يكون تقصيراً حصل أثناء الحرب، كتخلّي جماعة عن نصرة المجاهدين مع قدرتهم على ذلك، أو يكون التقصير في الإعداد القريب لها أو البعيد، وعليهم ـ أو على المسؤول منهم ـ أن يتوبوا إلى الله عما فعلوه؛ ولما كانت التوبة عبارةً عن الندم على فعلٍ ما والعزم على تركه، لزم على المسلمين أن يعزموا ويتعاهدوا على ترك المسبّبات التي أدّت بهم إلى الهزيمة، ويعقدوا إرادتهم الجادّة على ذلك؛ فإذا عرفوا أنّ تخلّفهم العلمي وتقصيرهم في الاهتمام بالشأن التكنولوجي أو المعلوماتي هو سبب هزيمتهم فعليهم الندم على ما فعلوه، والعزم على الشروع ببرامج وخطط ترفع من مستواهم العلمي والتكنولوجي ما استطاعوا، وإذا علموا أنّ سبب هزيمتهم هو تمزّقهم شيَعاً وتناحرهم مذهبيّاً أو قومياً أو حزبيّاً، فعليهم أن يشدّوا ويشمّروا عن سواعدهم لوضع خطط لتخطّي هذا التمزّق؛ فليست التوبة بكاءً وحسرة تنفّس الاحتقان فحسب، بل عزيمة وإرادة لما يستقبلون من أمرهم، كما أقرّ بذلك الفقهاء المسلمون في تعريفهم للتوبة، سواء عندما تعرّضوا لها في مباحث الاجتهاد والتقليد أم عند حديثهم عنها في مباحث شروط إمام صلاة الجماعة، إضافة إلى أنّ ذلك هو الذي اتجهت إليه التفسيرات الأخلاقية الإسلامية للتوبة، كما يلاحظ بمراجعة التراث الأخلاقي الإسلامي؛ ذلك كلّه مع الأخذ بعين الاعتبار أنّنا نتكلّم عن توبة أمّة ومجتمع لا عن توبة فرد أو أفراد محدودين؛ فهي توبة مجتمعية وليست فقط توبة شخصيّة.
3 ـ إعادة دراسة أسباب النكسة والهزيمة والتعرّف عليها، وهذه نقطة مهمّة من الناحية الشرعية والفقهية هنا، فنحن هنا لا نتحدّث عن أفراد وإنّما عن أمّة، وعندما نقول بوجوب التعرّف على أسباب الهزيمة ورصدها؛ فإنّما ذلك من باب المقدّمة للأخذ بأسباب النصر والعزّة في المرحلة القادمة، كي يحرّر المسلمون أراضيهم أو أسراهم أو مكانتهم أو إنسانهم أو.. وهذا يعني أنّه يفترض بالأمة أن تعرف عناصر هزيمتها؛ لأنّ هذا من شأن الأمة وعمومها، فيجب عليها التعاون للكشف عن هذه العناصر، سيما عندما تكون هذه العناصر مما تشترك فيه الأمة كلّها، مثل التخلّف العلمي أو الثقافي أو الفتن الطائفية أو القومية أو القطرية أو الحزبية أو .. فهنا لا يمكن الدخول في مرحلة إعداد المقدّمة ـ وهي التعرّف على عناصر الهزيمة ـ إلا بمشاركة الأمة في ذلك، وتعاضدها في تلافي هذا النقص الموجود عندها؛ من هنا قد يجب هذا من باب المقدّمة أيضاً.
وبناءً عليه؛ فكثير من ألوان تضليل الأمّة حول أسباب الهزيمة غير جائز شرعاً، كما يفعله الكثير في أمتنا اليوم مع الأسف؛ فإنّنا نجد أنّه إذا كان الزعيم ـ أو حاشيته المقرّبة ـ مقصراً أو له دور في الهزيمة فلا يُسمح للأمة بمعرفة ذلك، كي لا تعمل على إصلاح مواقع الخلل وهكذا..
وعندما نتحدّث عن دراسة أسباب الهزيمة، فهذا لا يعني أن نغرق في الإحباط الداخلي ويزداد تمزقنا وتشظّينا، بل يفترض السعي ـ قدر الإمكان ـ لإصلاح الخلل داخليّاً بالتي هي أحسن، فالقاعدة الأولية في علاقات المسلمين فيما بينهم هي القاعدة القرآنية القائلة: ]رحماء بينهم[ (الفتح: 29).
4 ـ السعي لعدم إظهار الانكسار أمام العدو؛ حتى لا يشمت بالمسلمين أو يطمع بهم، تماماً كما فعل رسول الله – بعد هزيمة المسلمين في معركة أحُد، حيث عمل فوراً بعد الهزيمة ـ كما تشير مصادر التاريخ والسيرة ـ على إعداد العدّة وتجهيز الجيش المنكسر، فحصلت غزوة (حمراء الأسد)، حيث تجمّع جيش المسلمين هناك (انظر حول هذه الغزوة: تاريخ الطبري 2: 212 ـ 213؛ وتاريخ اليعقوبي 2: 48؛ وتاريخ ابن الأثير 2: 164 ـ 165؛ وتاريخ الذهبي 2: 223 ـ 228؛ والقاضي النعمان، شرح الأخبار 1: 283 ـ 285؛ وابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب 1: 167 ـ 168 و..)، وقد لعب ذلك دوراً في إيهام الكافرين بأنّ المسلمين ما زالوا أقوياء، مما صرف نظر وجوه قريش وساداتها عن التفكير في الانقضاض فوراً بعد المعركة على المدينة المنوّرة التي كانوا قريبين منها؛ فهذا النوع من الحرب النفسية جيّد في مواجهة الكافرين، والهدف منه الحيلولة دون تفكيرهم مجدّداً بمحاربة المسلمين أو لا أقلّ تأخيرهم الهجوم مجدّداً عليهم.
5 ـ العمل على تنفيس احتقان الهزيمة في الأمّة؛ بالسعي لتحميل المسؤولية من هو مسؤول عنها، لا التستر على ذلك؛ فإذا كانت قيادة الجيش هي المسؤولة يفترض إقالتها ـ بالحدّ الأدنى ـ وكذلك لو كان المسؤول هو وزير الدفاع أو حتى الحكومة بأسرها؛ بل على إمام المسلمين شخصيّاً ورئيس البلاد أن يعترف بخطئه ويتحمّل مسؤولياته بالاستقالة تبعاً لحجم النكسة التي لحقت بالمسلمين.. إنّ تنحية المسؤولين الحقيقيين عن الهزيمة ـ كائناً من كانوا ـ وإن لم يكن واجباً شرعاً دائماً بالعنوان الأوّلي، إلا أنّه قد يغدو كذلك بالعنوان الثانوي، من حيث تنفيس الاحتقان في الأمّة؛ لأنّ الأمّة إذا قمعت بعد الهزيمة عن أن تحمّل المقصّرين مسؤولية ما حصل، فسوف تصاب بالاحتقان الذي يفضي عادةً إلى صدامات وقمع واضطرابات وفتن، وحتى لو نجحنا ـ مرّةً أو مرتين ـ في قمع غضب الجماهير، فإنّ ذلك لا يعني حلاً لهذا المعضل الذي قد يفتّت الأمة ويكسر شوكتها أكثر من الهزيمة نفسها.
لقد حمّل الشعب المسؤولين مسؤولية الدفاع وحماية أمن الوطن؛ فإذا قصّر هذا المسؤول أمام الله وأمام الشعب عن أداء مهامّه، كان من حقّ الشعب ـ بل أحياناً من واجبه ـ عزله بالطرق الشرعية الممكنة، ولا يقتصر ذلك على قضايا الحرب والسلم، بل يتعدّاه إلى تمام المسؤوليات والوزارات والإدارات عند تقصير المسؤولين عنها، وعلى البرلمانات الإسلامية أن تتحمّل مسؤولياتها ووظيفتها في هذا المجال.
6 ـ وعندما نتحدّث عن تحميل المسؤولية والاعتراف أمام الأمّة، فلا نقصد أن نظلّ نعيش أو نبث ثقافة التثبّط والمباطأة؛ فالقرآن الكريم يعلّمنا أنّ هذه الثقافة هي ثقافة المنافقين في الأمّة؛ فنحن نطالب بالمحاسبة وبشدّة، لكن نرفض أيضاً بث روح الهزيمة وتثبيط العزائم، قال تعالى: ]وقالوا لا تنفروا في الحرّ قل نار جهنم أشدّ حرّاً لو كانوا يفقهون[ (التوبة: 81)، وقال سبحانه: ]وإنّ منكم لمّا ليبطئنّ فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً[ (النساء: 72 ـ 73)، بناء على تفسير هذه الآية بالبطوء، وهو تثبيط غيره عن الجهاد والغزو (انظر: الطبرسي، جوامع الجامع 1: 416)، فلا يصحّ بعد الهزيمة نشر ثقافة التثبّط وبث روح الهزيمة، فإنّها موجبة لخسائر على الأمة أكبر من الهزيمة نفسها، وهنا يلعب الإعلام الواعي والصادق والصريح والشفاف في الوقت عينه دوراً مؤثراً في هذا المجال؛ فليس التضليل صحيحاً ولا التعتيم ولا التثبيط ولا التفتيت.
لكنّ هذا لا يعني أن نتهم بالنفاق كل من يرى بعد الهزيمة ـ ولو الهزيمة من وجهة نظره ـ ضرورة وقف الحرب أو العمل على المشروع السلمي.. فهناك فرق بين حركة النفاق وبين وجود اتجاهات واجتهادات أخرى في الأمّة، ومن أخطر مصائب الأمة التي تبتلي بها اليوم ظاهرة قصف الاتهامات؛ حيث يتهم الفريق المجاهد الآخرين بالنفاق والعمالة وحبّ الرئاسة وطلب الدنيا والحسد والغيرة والحقد، فيما يتهم الفريق الداعي للسلم و.. الآخرين بالتهور والمغامرة والحماقة والمكابرة والعنتريات واللهث وراء المجهول وغير ذلك، قال تعالى: ]ولا تقف ما ليس لك به علم..[ (الإسراء: 36)؛ فهذه التهم يجب أن تستند إلى أدلّة ومعطيات مؤكّدة وحيادية.
وأكتفي بهذه النقاط على صعيد موضوع الهزيمة، لعدم فسح المجال لأكثر من ذلك.]الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون[.
نعمة النصر وحلاوة النجاح، ضوابط أخلاقية وفقهية
بعد أن تحدّثنا عن الخطوات التي يفترض اتّباعها في حالات إصابة الأمة بهزيمة أو خسارة في مواجهة العدو، نحاول الحديث عن بعض الإجراءات والمواقف والخطوط العريضة التي يفترض اتّباعها في حالات النصر الذي يتحقق على أيدي المجاهدين المسلمين؛ إذ هناك أيضاً سلسلة من التوجيهات الفقهية والأخلاقية في هذا المجال، وهنا ـ وباختصار شديد ـ نشير إلى بعضها:
1 ـ لزوم شكر الله تعالى وحمده على نعمة النصر، وأنّه منّ على المسلمين بهذا النجاح في دفع العدوّ عن بلادهم وأرزاقهم وأنفسهم، وأن يعلموا أنّ الله تعالى لا ينسى الذاكرين من عباده، ولا يكونوا من أولئك الذين يذكرون الله في الشدائد وينسونه في الرخاء، كما هي حالة بني آدم غالباً، قال تعالى: ﴿وإذا مسّ الإنسان الضرّ دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً فلما كشفنا عنه ضرّه مرّ كأن لم يدعنا إلى ضرّ مسّه كذلك زيّن للمسرفين ما كانوا يعملون﴾ (يونس: 12)، وقال سبحانه: ﴿وإذا مسّ الإنسان ضرّ دعا ربّه منيباً إليه ثم إذا خوّله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أنداداً ليضلّ عن سبيله..﴾ (الزمر: 8).
ولعلّ الملفت في آية أخرى التركيز على نظر الإنسان لنفسه ـ لا لله تعالى ـ عند تحصيل النعم والخيرات، قال عز من قائل: ﴿فإذا مسّ الإنسان ضرّ دعانا ثمّ إذا خوّلناه نعمةً منّا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون﴾ (الزمر: 49 ـ 50)؛ فإنّ هذه الآية تتحدّث عن الطبع البشري الغالب في نسبة المشكلات إلى غيره ونسبة الحسنات إليه، فإذا جاءته نعمة نسي أنّ للغير فضلاً عليه فيها، وعلى رأسهم الله تعالى، ونسب حصولها إلى محض علمه وخبرته وكفاءته وذاته، على عكس ما لو أصابه القحط أو الجوع أو المشاكل الأخرى؛ فإنّه ينسب ذلك إلى غيره، وأحياناً إلى الله سبحانه، قال عز وجلّ: ﴿فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيّروا بموسى ومن معه ألا إنّ طائرهم عند الله ولكنّ أكثرهم لا يعلمون﴾ (الأعراف: 131).
إنّ إلقاء مسؤولية الهزيمة على الآخرين ـ كما هي حالنا نحن المسلمين اليوم في الغالب ـ ونسبة النصر إلينا متناسين مساعدة الآخرين، ومتناسين ـ وهذا هو الأخطر ـ نعمة الله وتأييده، لهو من أسوأ مظاهر الأنانية البشرية التي يعيشها ابن آدم، ليس على المستوى العسكري فحسب، بل على أكثر من صعيد في حياته الفردية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية و.. فعند النصر لا يفترض ـ قبل كل شيء ـ إلا شكر المنعم تعالى ربنا جلّت قدرته، سيما لو كنّا قليلين لا توجد احتمالات النصر في حقنا، وكنا لا تسعفنا المعايير المادية البحتة لتحقيق النصر؛ فإنّ الله تعالى بنصره لنا يستدعي منّا شكراً على شكر، وحمداً على حمد، تماماً كما حصل مع المسلمين في صدر الإسلام، قال تبارك وتعالى: ﴿واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطّفكم الناس فآواكم وأيّدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلّكم تشكرون﴾ (الأنفال: 26)، وقال سبحانه: ﴿ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلّة فاتقوا الله لعلّكم تشكرون﴾ (آل عمران: 123)، فهو شكرٌ يكون عبر التقوى أيضاً، وهذا الشكر سوف يلحق بالنصر نصراً غيرَه وبالعزّة عزةً أخرى، قال تعالى: ﴿وإذ تأذّن ربكم لئن شكرتم لأزيدنّكم ولئن كفرتم إنّ عذابي لشديد﴾ (إبراهيم: 7).
وانطلاقاً ممّا أسلفناه، يجدر بالأمة بعد النصر أن تتداعى إلى مساجدها لإقامة تجمّعات الشكر والحمد، لا أن تتداعى للدعاء بالنصر قبل تحقّقه فقط، كي يتعرّف الصغير والكبير على النعمة التي مُنحوها، فيما تكتفي بعد النصر بمظاهر الفرح المختلفة، وإن كان ذلك كلّه مطلوباً ضمن الأطر الشرعية والقانونية والأخلاقية.
2 ـ وإذا كانت الأمّة تفرح بالنصر، فإنّ عليها أن تقدّر صاحب النعمة عليها، فالحمد ليس كلاماً بل عملٌ أيضاً، وهنا يجدر بالأمة أن تعمل على نشر ثقافة التقوى والورع شكراً لله شكراً عمليّاً، كما ألمحت إليه الآية المتقدّمة، كما أنّ المفترض بالأمة أن تقدّم الشكر لكلّ من ساعدها على تحقيق النصر، سواء في ذلك الدول الصديقة والشعوب والجماعات والأحزاب و.. لا أن تتنكّر لهم بعد نصرها، وتنسى خدماتهم لها بسرعة، ففي الرواية عن الإمام الرضا %: mمن لم يشكر المنعم من المخلوقين لم يشكر الله عز وجلn (وسائل الشيعة 16: 313)، وفي خبر أبي سعيد الخدري عن رسول الله– أنّه قال: mمن لم يشكر الناس لم يشكر اللهn. (مسند ابن حنبل 3: 32).
كما أنّ المفترض تقديم الشكر القولي والعملي للشهداء والجرحى والأسرى وعوائلهم على ما قدّموه بتضحياتهم وصبرهم، فالأمة التي تنسى هؤلاء تكون ناكرةً للجميل، ولا يصحّ من الدولة أن تطالب الناس بالجهاد وهي لا تقابل ذلك بمجازاتهم بالحدّ الأدنى لذلك. إنّ إقامة مهرجانات الشكر لكلّ من ساهم في تحقيق النصر ـ وليس فقط للزعماء على حُسنه ـ لهو من دواعي البركة ودرّ الرحمة إن شاء الله تعالى، كما أنّ وضع برامج عملية للوقوف إلى جانب من ضحّى لأجل النصر ليس منّةً تمنّ بها الدول على شعوبها، بل واجبٌ ومسؤولية، وإذا نشرنا هذه الثقافة ربما نكون جديرين بانتصارات لاحقة في الأمّة على غير صعيد.
وهذا الكلام لا يجري فقط في المجال العسكري، بل في أيّ إنجاز تحقّقه الأمة، سواء عبر الحرب أم التقدّم العلمي أم غير ذلك، فالتقدير ـ أي تقدير الغير على عمله ـ يعدّ محفزاً مهمّاً للانطلاق وتحقيق المزيد من التقدّم والاندفاع.
وفي سياق الحديث عن تكريم الشهداء، يفترض بالأمة أن لا تتنكّر لهم، بل تظلّ تذكرهم ما أمكن، لا أن ترى ذهابهم أمراً عابراً؛ فهذا ما يترك أثراً على أسر الشهداء ويهييء الأمّة لثقافة التضحية عندما ترى من يحترم جهودها وتضحياتها، ومصاديق تكريم الشهداء وعوائلهم كثيرة، سواء على الصعيد المادّي أم المعنوي، وهي معروفة لا داعي للحديث عنها، وقصّة دعوة رسول الله – النساء للبكاء على حمزة بعد معركة أحُد (انظر ـ على سبيل المثال ـ: الصدوق، من لا يحضره الفقيه 1: 183؛ والحاكم النيسابوري، المستدرك 3: 194)، تدلّ على ضرورة العزاء والتفاعل العاطفي، كما ورد عن رسول الله – أنّه لم يدخل في المدينة بيتاً غير بيت أم سُلَيم، وكان يقول: mإني أرحمها، قتل أخوها (وهو حرامُ بن مِلْحَان) معي (يقصد في بئر معونة)) nراجع: صحيح البخاري 3: 214؛ وصحيح مسلم 7: 145؛ والطبقات الكبرى 8: 428؛ وسير أعلام النبلاء 2: 306؛ والسيرة الحلبية 3: 73 و..)، كما أنّ رسول الله – قد قال ـ على ما في الرواية ـ بعد استشهاد جعفر بن أبي طالب، لزوجته: mأتخشين عليهم (يقصد أولاد جعفر) الضيعة، وأنا وليّهم في الدنيا والآخرةn (انظر: مصنف ابن أبي شيبة 8: 549)، هذا فضلاً عن نصوص فقهية عديدة تتحدّث عن الاهتمام بأسر الشهداء لا داعي للإطالة فيها (انظر: محمد خير هيكل، الجهاد والقتال في السياسة الشرعية 2: 1231 ـ 1237).
3 ـ أن لا تصاب الأمة بالغرور السلبي والكبرياء الزائف، فإنّ الكبرياء والغرور من الآفات الأخلاقية العظيمة، نعم ينبغي ـ على مستوى الحرب النفسية ـ أن توحي للعدو بكبريائها، لكن لا ينبغي أن يتحوّل ذلك إلى مرض حقيقي في الأمّة، ومن أبرز مظاهر هذا الغرور أنّه بعد النصر يخرج الإنسان عن مراعاة القوانين الشرعية والأعراف الدولية واللياقات الدبلوماسية والآداب الإنسانية فيتعامل بصلافة من موقع القوّة بعد أن كان يتعامل بأدب من موقع الضعف، فالقوّة ـ في الثقافة الدينية ـ عون على إقامة العدل وإحقاق الحقّ، وليست مساعداً على إحلال الظلم والتعدّي على الحقوق، قال تعالى: ]ولا تمش في الأرض مرحاً إنّك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً[ (الإسراء: 37).
ولدينا في التجربة النبوية أنموذج هام أعطى القرآن الكريم فيه درساً للمسلمين، ألا وهو معركة حنين، حينما اغترّ المسلمون بأنفسهم وقوّتهم وكثرتهم ولم يأخذوا بأسباب النصر ولم يتواضعوا لله، ولمن ينبغي التواضع له، فاهتزّت أوضاعهم، قال سبحانه: ]لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم ولّيتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها وعذّب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين[ (التوبة: 25 ـ 26)؛ فهذه الآيات تدلّنا على أنّه إذا حقّق المسلمون الانتصارات تلو الانتصارات من قبل، فيجب عليهم أن لا يصيبهم الغرور بأنّنا لن نهزم بعد ذلك، كما حصل مع بعض المسلمين في حنين، حينما رأى عديد المسلمين، بل المفترض دوماً إبداء التواضع الداخلي والتحسّب لكلّ الاحتمالات، كما أنّ هذا هو مضمون الحكمة التي تقول: لا تستخفّ بعدوّك ولو كان ضعيفاً، فالانتصارات يجب أن يهيء لها، لا أن يكتفى لها بالغرور والعزّة دون استعداد حقيقي مسبق، أو بتربية الناس على هذا الغرور، ولعلّ هذا روح كلام الإمام علي %: mلا ينبغي للعبد أن يثق بخصلتين: العافية والغنى؛ بينا تراه معافىً إذ سقم، وبينا تراه غنيّاً إذ افتقرn (نهج البلاغة 4: 100).
والأهم من هذا كلّه، أنّ الآية تركّز على ربط نصر حنين بالله تعالى وبأنّه أرسل جنوداً لم تروها، وهذا معناه أنّه يفترض بالأمة ـ حتى في اللحظات التي ترى فيها من الناحية المادية تحقق النصر أو أنّها على شُرُف ذلك ـ أن لا تجزم به ولا تعلّقه على قوّتها وطاقاتها، بل تربطه أيضاً ـ قبل كلّ شيء ـ بالله تعالى، فتحقّق النصر من قبل لا يعني تحققه بعد ذلك ولو كنّا أقوياء، إلا إذا علّقناه على المشيئة الإلهية تعليقاً قلبيّاً ولسانياً، قال تعالى: ]ولا تقولنّ لشيء إنّي فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله واذكر ربّك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربّي لأقرب من هذا رشداً[ (الكهف: 23 ـ 24).
4 ـ إعادة دراسة الأمّة لأسباب النصر؛ كي ترى ما هي النقاط الضرورية اللازمة فيه، أي ما هي نقاط القوّة التي حققت هذا النصر لكي تحافظ عليها؟ كما أنّ أيّ حرب ـ حتى لو حصل فيها نصرٌ ـ تقع معها بعض الأخطاء؛ فيجب دراسة هذه الأخطاء لتجنّبها في المستقبل.
من هنا، وفي موضوعي: النصر والهزيمة معاً، يجب على الأمة أن تنقل خبراتها للأجيال اللاحقة، بكتابتها أو بأي سبيل آخر ، وتنقل تجاربها في هذه الحروب، فإنّ هذه المراكمة من الخبرات يجب الحفاظ عليها في الأمة للمستقبل؛ لهذا يفترض تأسيس مراكز أبحاث ودراسات عملها تدوين تاريخ الحروب وجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات عنها؛ لكي تستفيد من ذلك الأجيال اللاحقة، ويُذكر فيها ما للمسلمين وما عليهم بكل أمانة دون تعمية للتاريخ أو تزييف للحقائق أو تشويه للصورة أو تلميع للمفاسد أو محاولة هذا الفريق أو ذاك أن يحتكر النصر لنفسه ويرجع الفضل فيه له وحده أو.. (حول ضرورة كتابة التاريخ المعاصر بشفافية، انظر: حيدر حب الله، مسألة المنهج في الفكر الديني: 380 ـ 387).
وأخيراً، ألفت إلى أنّ الابتعاد عن قيم الدين يغلب تحقّقه في حالات القوّة والمنعة والرخاء والسراء، فيما تجد ضخّاً روحياً في حالات الضراء والمصاعب والأزمات، فالحاجة إلى الاستنفار الروحي والتربوي في حالات الرخاء قد تكون أكبر منها في الحالات الأخرى، على عكس ما هو السائد عادةً.
]وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم[ (آل عمران: 126).