تمهيد
ابتدأ الإنسان حين خلق مع عقله يحترف إنتاج الأفكار ويطور المفاهيم، وهكذا اختط العقل في مسار الزمان مراكمة الفكرة على الفكرة حتى أنشئت العلوم وتفرعت عنها علوم، فكان من حق هذه الحصيلة المعلوماتية أن تؤرخ وتدرس، ومن بين أدوات الدراسة التاريخية: تحليل الفكرة؛ بدراسة العوامل والأسباب والآثار، وكان كتاب “نظرية السنة في الفكر الإمامي الشيعي؛ التكون والصيرورة” للشيخ حيدر حب الله أحد الكتب الرائدة في الدراسات التاريخية في نظرية السنة توصيفا وتحليلا.
كتاب “نظرية السنة” في كلمات البن سعد، عرض وتحليل
وفي الفترة الأخيرة صدر كتاب جديد بعنوان “جواهر الكلم” للشيخ عبد الجليل البن سعد، تعرّض فيه صاحبه في مطاوي كتابه بالنقد المنهجي فيما يتعلق بالتحليل التاريخي الذي اشتغل عليه الكتاب الآنف “نظرية السنة”، نأتي بكلامه بطوله ثم نحلله وندرسه:
“ربما تناول أحدهم علما من الاتجاه الأصولي أو الأخباري ممن تميز بأن له كتابا يتضمن أبحاثه وآراءه، ولكن بدلا من أن يقف بالقارئ على حججه ويحاكمها كما هي نراه يتمسك بالجانب النفسي والظرفي للكاتب فيقول هذا من سيرته في مناوأة تراث التيار الآخر كذا وكذا، من أجل أن يعزز احتمال كون هذه الآراء وليدة التعصب، وهكذا يضع القارئ أمام البؤس والشك!
وهذا ما بدا لي شبه واضح في بعض الدراسات العصرية، وأذكر منها دراسة أخينا الفاضل الشيخ حيدر حب الله في “نظرية السنة” -في شيء من جوانبها طبعا- أضف إليها بعض ما قرأت من كتابات وجيه قانصو ككتابه النص الديني..
وشخصيا أرى أن هذه القراءات قد مارست مع التراث ما لا تقبل هي نفسها أن يمارس معها من قبل أحد إطلاقا !!” (جواهر الكلم: ص46).
يمكن استظهار أمرين من النص المتقدم:
الأمر الأول: استنكاره لمسلك كتاب “نظرية السنة” في التحليل التاريخي؛ بافتراض أن هذا المسلك جعل معيارا لنقد الأفكار.
الأمر الثاني: رفض أصل التحليل التاريخي باعتباره ظنا ضعيفا.
تصورات المنهج في ذهن البن سعد، التباس وتصحيح
وفي سبيل النقد نقول:
أولا: إن الأمر الأول ليس مصيبا لواقع منهج دراسة كتاب “نظرية السنة”؛ فإن الكتاب تاريخي تحليلي وليس من شأنه المعالجة المعيارية كما نبه عليه المؤلف ( انظر: نظرية السنة: ص18)، وقد وعد بدراسة معيارية بعدئذ حول نظرية السنة، وكان منها كتابه: “حجية السنة في الفكر الإسلامي، قراءة وتقويم”.
ثانيا: إن تأثير الظروف النفسية والزمكانية على الإنسان أمر واضح مسلم به يجده الإنسان في نفسه، ويمتهن بدراستها علم النفس، إن الوقوع تحت تلك التأثيرات ثابت في الجملة وتتفاوت شدة وضعفا بحسب ضبط العقل لموضوعيته ، ولكن رغم ذلك لم يعتد صاحب كتاب نظرية السنة هذا العنصر -التحليل- معيارا لوحده، بل هو عنصر مساعد أو بتعبير آخر قرينة مساعدة، يقول الشيخ حيدر حب الله: “لكن هذه السمة في الدرس التاريخي يجب ألا تخيم على المنهج، فتقلبه من منهج هو في أساسه يحمل سمة ظاهراتية لكي يكون معياريا حتى لا يتورط هذا النوع من الدراسة في عمليات تطويع أو تلاعب، علاوة على الخلل المنهجي ذلك أن هذا المنهج هو بطبيعته منهج توصيفي يمارس تحليلا..” (نظرية السنة: ص19).
التحليل التاريخي مسلمة بحثية عند الأصوليين، الصدر نموذجا
إن الوقوع تحت هذه التأثيرات أصل موضوع في علم أصول الفقه، فليراجع مبحث قطع القطاع، حيث قسّم السيد الشهيد الصدر (1400ه) القطع إلى قطع ذاتي وقطع موضوعي (دروس في علم الأصول: ج2،ص39)، وكذلك قسّم الظهور إلى ذاتي وموضوعي (بحوث في علم الأصول: ج4،ص291) ، بل أسهب في كتابه “اقتصادنا” عن أسباب نشوء العنصر الذاتي في عملية الاجتهاد (ص392-380) ننقل شيئا من كلامه: “وأما الخطر الذي يحف بعملية الاكتشاف القائمة على أساس الاجتهاد من فهم الأحكام والمفاهيم في النصوص.. فهو خطر العنصر الذاتي وتسرب الذاتية إلى عملية الاجتهاد؛ لأن عملية الاكتشاف كلما توفرت فيها الموضوعية أكثر وابتعدت عن مظان العطاء الذاتي كانت أدق وأنجح في تحقيق الهدف. وأما إذا أضاف الممارس خلال عملية الاكتشاف وفهم النصوص شيئا من ذاته وساهم في العطاء، فإن البحث يفقد بذلك أمانته الموضوعية وطابعه الاكتشافي الحقيقي” (اقتصادنا: ص381).
ممارسة العلماء للتحليل التاريخي، شواهد جريئة
وبعد هذا يمكن سوق تطبيقات للفقهاء والأصوليين على ضوء مبدأ التحليل التاريخي:
- ما صرح به ابن إدريس الحلي (598ه) واشتهر عنه جدا بأن الفقهاء الذين أتوا بعد الشيخ الطوسي كانوا مقلدة له؛ لسيطرته النفسية عليهم وتقديسهم لفقهاته.
- يحلل السيد الشهيد الصدر نشوء بعض الأدلة اللبية كالإجماع، فيقول: “إن هناك حالة نفسانية راسخة في ذهن الفقيه تمنعت عن مخالفة الأفكار والفتاوى السائدة والمنتشرة بين السلف الصالح، وهذه الحالة كما هي موجودة لدى علماء الشيعة موجودة لدى علماء السنة أيضا، وربما كانت هي السبب في سد باب الاجتهاد -عندهم- خارج المذاهب الأربعة المعروفة؛ لأن فتحه بشكل مطلق يؤدي إلى الخروج على بعض مسلمات عصر الصحابة وهو ما يصطدم مع الحالة النفسية المذكورة..
وأما عند علماء الشيعة فبرزت نتائج هذه الحالة في علم الأصول ذلك أن علماء الأصول عندما واجهوا الفقه الموجود بأيديهم وكانت لديهم تلك الحالة النفسية وهي التحفظ على أطر ومسلمات ذلك الفقه صاروا بصدد إيجاد قواعد أصولية يمكن أن تشكل الغطاء الاستدلالي لتلك المسلمات الفقهية فنشأت عندنا قواعد: حجية الشهرة والإجماع المنقول وانجبار الخبر الضعيف بعمل الأصحاب ووهن الخبر الصحيح بإعراضهم..” (مباحث الأصول: ج2، ص94).
ج – يرى الإمام الخميني (1409ه) أن غالب الكفار وعلمائهم قاصرون لا يستحقون العذاب، حيث قرّب كلامه بتحليل لظروفهم النفسية والاجتماعية على ضوء حجية قطعهم: “فالغالب فيهم أنهم بواسطة التلقينات من أول الطفولية والنشوء في محيط الكفر صاروا جازمين ومعتقدين بمذاهبهم الباطلة بحيث كل ما ورد على خلافها ردوها بعقولهم المجبولة على خلاف الحق من بدء نشوئهم، فالعالم اليهودي والنصراني كالعالم المسلم لا يرى حجة الغير صحيحة وصار بطلانها كالضروري له؛ لكون صحة مذهبه ضرورة لديه لا يحتمل خلافه” (المكاسب المحرمة: ج1،ص134-133)
التحليل التاريخي في النظريات العلمية، حاجة اجتهادية
ولا يكتفي التحليل التاريخي في كشف الأسباب والمناشئ بل يعطي قرائن -كما مر آنفا- تعين الفقيه في عمليات اجتهاده، فقد ذهب بعضٌ إلى أن دليل الإجماع الذي يطلقه كثيرا الشريف المرتضى (436ه) كان لأجل مواجهة من يعير الشيعة بأنهم لا خلف لهم ولا مصنف، فاضطر المرتضى إلى ادعاء الإجماع في سياق هذا الجدل.
وهكذا يذهب بعض الرجاليين إلى عدم تساقط توثيق أو تضعيف النجاشي (450ه) عند معارضته لقول الشيخ الطوسي (460ه) بل يقدم قول النجاشي؛ ذلك لتحليل شخصية الطوسي الذي اتسم بالاشتغالات البحثية في عدة علوم وتصديه للإفتاء، بخلاف النجاشي الذي يظهر من قراءة شخصيته أنه متخصص في الرجال والأنساب.
هذه أمثلة وشواهد متعددة -ولا يسع المقام لسرد شواهد أكثر- تكشف عن أن الشيخ حيدر حب الله لم يكن منفردا في استعمال هذا المنهج كما يظهر من كلمات الشيخ البن سعد، فالوعي التحليلي كامن في عقل العلماء كما رأينا، بل إننا بينّا أن هذا المبدأ وجداني ثابت في عالم الوقوع في الجملة.
محاولة نقض التحليل التاريخي عند البن السعد، جواب النقض والتزام المنهج
وأما الملازمة النقضية التي طرحها البن سعد في قوله: “وشخصيا أرى أن هذه القراءات قد مارست مع التراث ما لا تقبل هي نفسها أن يمارس معها من قبل أحد إطلاقا !!” فالجواب: أن مبدأ التحليل التاريخي لا يمكن تخصيصه وإن كان التأثر النفسي والاجتماعي يتفاوت شدة وضعفا بحسب قدرة العقل على تحصيل الموضوعية في تفكيره، فللناقد أن يطبقه على حب الله وغيره مع استيفاء الضوابط، مع أن التأثر قد يكون إيجابيا وقد يكون سلبيا -كما هو مشروح عند السيد الصدر في أصوله- فينبغي تصنيف العينة في أحد وجهي التأثر، وبعد ذلك تتحدد حجية التأثر السلبي وفقا للرأي المختار في نظريات حجية قطع القطاع -كما هو في محله-.
بل يمكن أن أضيف: من قال بأنّ الشيخ حب الله لا يقبل بتطبيق هذا المنهج عليه؟! فهناك فرق كبير بين تطبيق هذا المنهج بهدف تحليل فكر من الأفكار، وبين أن نطبّق هذا المنهج بهدف التسقيط، كأن نقول بأنّ فلانا متأثر بالملحدين مثلاً، بهدف إحداث حصار اجتماعي له، فلو كانت عبارات الشيخ حب الله في تحليله تمارس هجوما وتسقيطا لكان الإشكال في محلّه، لكن أي مانع أن نقول بأنّ المحدث البحراني رفض الفكرة الفلانية وكانت أحد عوامل رفضه هو قلقه من تلاشي المذهب أو خوفه من نفوذ الفكر السني في المذهب؟! وأين قال الشيخ حب الله في كتاب نظرية السنّة كلمة (التعصّب) في حق عالم من العلماء حتى يستخدمها الشيخ البن سعد؟ ومتى حكم الشيخ حب الله في كتاب نظرية السنّة على فكرة من أفكار هذا العالم أو ذاك فصححها أو أبطلها انطلاقا فقط من التحليل النفسي؟ أرجو أن يرشدنا
سماحة الشيخ البن سعد إلى ذلك.
أضف إلى ذلك لماذا يستفاد من كلام الشيخ حب الله الشعور بالبؤس والشك؟ السبب هو أنّنا اعتدنا أن نؤمن بالأفكار لأجل الثقة بأصحابها، فظنّنا أن تحليل دوافع أصحابها يمكن أن يفقدنا الثقة بالأفكار نفسها، مع أن المفترض أن نربي أنفسنا على الإيمان بالأفكار انطلاقا من أدلتها، فحتى لو كان أصحابها قد انطلقوا من التعصب أو غيره فإن المهم هو أن الفكرة نفسها هل تملك دليلا كافيا لصحتها أو لا؟ أليس هذا هو المنهج الصحيح؟ أليس إفادة كلام حب الله للشك والريب والإحباط سببه أن تربيتنا الفكرية هي من الأصل خاطئة وليس تحليل الشيخ حب الله؟ أليس معناه أننا نؤمن بالفكرة من باب تقديس من قالها أو محبته أو تنزيهه وليس من باب مرجعية أدلتها مهما كانت دوافعه؟
خاتمة
بعد هذا الاستعراض وما أوجزناه من نقد ظهر سلامة مبدأ التحليل التاريخي وصحة استناد الشيخ حيدر حب الله في كتابه “نظرية السنة” لهذا المبدأ الذي ينضم إلى مناهج الدراسات التاريخية، تلك الدراسات التي تحتاجها المؤسسة العلمية الحوزوية لما تقدمه من فوائد جمة في مستويات متعددة مبينة في مظانها.