تحرير: مركز إجابات للدراسات الدينيّة
تمهيد
أفرز الاهتمام بالقرآن الكريم ـ بوصفه مرجعيّةً حصريّة للأحكام الدينيّة ـ اتّجاهاً فكريّاً معاصراً له أنصاره ومتابعوه، يطلق عليه اسم (القرآنيّون).
وفي حدود المتابعة، بغية التفتيش عن جذورٍ تاريخيّة لهذه الظاهرة، يلاحظ أنّ هناك تهمةً بالقرآنيّة وجّهت إلى بعض المعتزلة وبعض الخوارج وبعض الشيعة، مثل ما جاء ـ دون تسمية ـ في كتاب الأمّ للشافعي، عند حديثه عن ردّ مقالة الفرقة التي ردّت الأخبار كلّها، ممّا يوحي بوجود حالة إنكار للحديث والسنّة.
لكنّ هذه التهمة لا تحمل ما يؤكّد وجود تيّار أنكر السنّة تاريخيّاً، بل كانت المناقشات مركّزةً في حجم الأحاديث المعتبرة، فبعضهم كان يوسّعها وبعضهم يضيّقها، فلا يمكن القول: إنّ ظاهرة القرآنيّين لها عمقٌ تاريخي واضح. نعم من الممكن أن تجد أفراداً لها من هنا وهناك، لكنّها ليست ظاهرة واسعة على الإطلاق.
أمّا شعار (حسبنا كتاب الله) فلا يرى فيه كثيرون أنّه يراد منه ترك السنّة، بقدر ما يعبّر عن حالة خاصّة وواقعة جزئيّة، وإلا فإنّ من أطلق هذه الكلمة قد أخذ بالسنّة في حياته مراراً، كما تفيد الشواهد التاريخيّة والحديثيّة.
القرآنيون، المعنى والاستخدامات
وبغية الاطّلاع على هذا الاتجاه، يحسن بنا التوقّف قليلاً مع اصطلاح (القرآنيّون) لمعرفة حقيقته واستخداماته، فقد وجد له استخدامان أساسيّان هما:
1 ـ القرآنيّون بالحدّ الأعلى.
2 ـ والقرآنيّون بالحدّ الأدنى.
وسنلقي بعض الضوء على كلا هذين الاستخدامين:
1 ـ القرآنيّون بالحدّ الأعلى
لهذا الاستخدام أنصارٌ في داخل المدرسة السنّية فقط، وليس له أنصار داخل المدرسة الشيعيّة، وتقوم نظريّة الاستخدام الأوّل على مفهوم الحصر؛ فهم يقولون: إنّ القرآن الكريم هو المرجعيّة المعرفيّة الحصريّة التي يمكن من خلالها فهم الإسلام، أي أنّه لا يمكن فهم الإسلام في نظامه العقائدي والتشريعي والأخلاقي.. إلا من خلاله، وكلّ المرجعيّات المعرفيّة الأخرى المفترضة لا أساس لها في الإسلام، بما في ذلك: السنّة بكلّ معانيها؛ والإجماع، والشهرة، والسيرة، وسنّة السلف..؛ فكلّ هذه المفاهيم ليست أساساً في الاجتهاد الدينيّ، ولا هي بمصدرٍ يمكن الرجوع إليه في فهم الإسلام، وليس أمامنا بغية فهم الإسلام سوى القرآن الموجود بين أيدينا، دون غيره من المصادر.
وما حدا بهؤلاء لاختيار ذلك منطلقان اثنان:
المنطلق الأوّل: إنكار حجيّة (السنّة الواقعيّة)
فالقرآن الكريم هو المصدر الوحيد لفهم الدين؛ لأنّ السنّة الواقعيّة ليست بحجّة، فحتى لو حصل لنا توفيق التشرّف برؤية الرسول الأكرم (ص)، وسمعناً منه قولاً أو رأينا منه فعلاً دون أن يكون لهما أثر في القرآن، فلا يمكن لنا أن نعتبرهما جزءاً من الدين، نعم؛ قد يجب على سامع هذا القول أو رآئي هذا الفعل الالتزام به إذا حمل دلالة إلزاميّة، لكنّ هذا ليس من باب كونهما جزءاً من الدين في حالة خلوّ القرآن منهما، وإنما لكونهما أحكاماً ولائيّة حكوميّة صدرت من النبيّ الأكرم (ص) الذي هو ولي أمر المسلمين في تلك الفترة الزمنيّة.
إذن؛ فهؤلاء يؤمنون بمرجعيّة القرآن الكريم في مقابل إنكار حجيّة (السنّة الواقعيّة)؛ فحتى لو ثبتت السنّة بطريق علميّ كالتواتر، فلا دليل لدى هؤلاء على وجود إلزام في مثل هذه السنّة، ولا دليل على وجوب إطاعة ما جاء في هذه السنّة على فرض ثبوتها، إلا من باب إطاعة وليّ الأمر والحاكم، ومن ثم فلا معنى للحديث عن حجية السنّة النبويّة بعد وفاة النبيّ عندهم. وسنتعرّض إلى بعض مستنداتهم وطريقة فهمهم للأمور قريباً.
المنطلق الثاني: إنكار حجيّة (السنّة المحكيّة)
يذهب هؤلاء إلى أنّه لو لم نحصر المرجعيّة المعرفيّة بالقرآن الكريم، بل أضفنا إليه السنّة الواقعيّة أيضاً، أي ما صدر عن النبيّ الأكرم (ص) حقيقةً وواقعاً، فلو قُدّر لنا الحضور في مجلس الرسول الأكرم وأمرنا حينها بأمرٍ ما، فينبغي علينا الالتزام به، وعدّه جزءاً من منظومة الفكر الإسلاميّ ومفاهيمه، وهذا هو الذي نصطلح عليه بـ (السنّة الواقعيّة).
لكنّ خيبتنا تكمن في ابتعادنا عن عصر سنّته الواقعيّة، وانسداد الطُرق التي بتوسّطها نكتشف سنّته؛ فلا يوجد لدينا أيّ طريق جازم وقطعيّ يؤكّد لنا أنّ النبي قال كذا أو كذا، بل عموم سنّته المحكيّة والمنقولة في كتب التراث الإسلامي من الظنون التي لا ينبغي الركون إليها، وهي ظلماتٌ بعضُها فوق بعض، ولا يتوافر طريقٌ للتأكّد من سلامتها.
إذن؛ يعتقد القرآنيّون بالحدّ الأعلى ـ وهم من ينصرف إليهم إطلاق مفردة: (القرآنيّون) عادةً ـ أنّ القرآن الكريم هو المرجعيّة الوحيدة في فهم الإسلام دون غيرها، ولا حجيّة لسائر المرجعيّات الأخرى وعلى رأسها السنّة؛ وذلك إمّا لكونها لا حجيّة لها من الأساس حتى وإن بلغتنا بالتواتر، أو لعدم توفّر آليّة للوصول إلى السنّة الواقعيّة القطعيّة في عصرنا؛ لأنّ التواتر الذي يُدّعى من هنا وهناك ليس إلا وهماً من وجهة نظرهم، ولا يوجد مصداقٌ خارجي له، فهو وإن كان يمتلك قيمته نظريّاً ـ بغض النظر عن التفسير الذي نختاره لذلك، سواء وفقاً لأصول المنطق الأرسطي أم لأصول المنطق الاستقرائي والاحتمالي ـ لكنّه لا يمتلك أيّ قيمة عمليّة؛ حيث لا يمكننا الوصول إلى نصّ متواتر في هذا الإطار؛ لأنّ الشروط التي يلزم توافرها في التواتر لا تتوافر في أحاديث التراث الإسلامي.
2 ـ القرآنيّون بالحدّ الأدنى
لهذا الاستخدام الثاني لتعبير (القرآنيون) حضورٌ في الوسط السنّي والشيعي معاً، بخلاف الاستخدام الأوّل الذي لا نكاد نجد له حضوراً في الوسط الشيعيّ الإمامي، وإنما يقتصر على الاتجاه السنّي.
يذهب القرآنيّون بالحدّ الأدنى إلى الإيمان بمبدأ: (الأيلولة والحكومة)، بمعنى أنّ على مختلف المرجعيّات المعرفيّة الأوبة إلى القرآن الكريم، وينبغي أن تأخذ شرعيّتها وحجيّتها منه، وأنّ القرآن حاكمٌ عليها جميعاً، فأيّ حديث يبلغنا لابدّ أن يأخذ حجيّته ومرجعيّته من الكتاب الكريم، وأيّ حديث يصل فلابدّ أن يحكمه القرآن، وليس العكس.
ويطلق على هؤلاء أحياناً عنوان: (القرآنيّون)، لكن ليس على غرار الاتجاه الأوّل الذي ينكر السنّة أو الحديث بالكامل، بل هم يؤمنون بالسنّة والحديث، لكنّهم يرون أنّ القرآن العزيز هو من يمنح الاعتبار والحجيّة لسائر مصادر المعرفة الدينيّة النقليّة، ولا يتقدّم على القرآن أيّ حديث أو رواية أو إجماع أو سيرة أو شهرة، بل هو مقدّم عليها جميعاً.
فالفرق بين (القرآنيّون) بالحدّ الأعلى و (القرآنيّون) بالحدّ الأدنى كبير؛ فالقرآنيّون بالحدّ الأدنى يؤمنون بحجيّة السنّة، ويؤمنون بحجيّة الحديث، ولا يحصرون الاجتهاد بالكتاب الكريم فقط، لكنهم يقولون: كلّ مرجع معرفيّ لابد من عرضه على القرآن قبل أن يُمنح الحجيّة، ولا يكفي أن يكون السند صحيحاً لصيرورته حجّةً، حتى يواجه القرآن لنقول بعد ذلك: إنّ القرآن قطعيّ الصدور وظنّي الدلالة، والحديث ظنّي الصدور والدلالة، فيكون كلاهما ظنّيّاً! الأمر الذي يفسح المجال لحاكميّة الحديث على القرآن أو مناظرته له.
إنّ هذه الطريقة مرفوضة تماماً، فلا يتوفّر الحديث الشريف على الحجيّة عند هؤلاء إلا بعد عرضه على كتاب الله؛ فإن لم يخالف كتاب الله ـ حتى وإن كانت دلالة كتاب الله ظنيّة ـ فهو حجّة بعد تماميّة سائر حيثيّات الحجيّة، وإن خالف كتاب الله فلا حجيّة له من الأساس.
فهذا الفريق من القرآنيّين يقدّم مفهوماً خاصّاً لعرض السنّة على الكتاب؛ حيث يقولون: إنّ الرواة لم يكونوا حمقى، وليسوا بسطاء كما نتصوّرهم، ولم يأتِ الراوي ليقول لك: لا تجب إقامة الصلاة، ولم يأت لك راوٍ آخر ويقول لك: حدّثني جعفر بن محمد الصادق أو حدّثني رسول الله عن عدم وجوب الصلاة مثلاً؛ فهم يعلمون أنّ الناس لن تصدّق بهذه الأكاذيب، ومن هنا ينبغي أن تمرّر الأكاذيب من خلال الحقائق وما بين سطورها، وبطريقة ذكيّة؛ فإذا أردت أن أعرف الحديث الكاذب من خلال عرضه فلا يكفي أن تكون نسبته مع القرآن نسبة التباين: (أقيمو الصلاة ولا تقيموا الصلاة)، وإنّما نلاحظ نسبته إلى مزاج القرآن وروحه العامّة، ففي التعارض نجد أن تظافر الآيات يؤسّس مفهوماً، بينما الرواية أو مجموعة من الروايات تؤسّس لمفهوم آخر غير منسجم مع المفهوم القرآني ولا يصبّ في سياقه.
وإذا ما أردنا أن نقرّب فكرة العرض على الكتاب من خلال مثال نذكّر بما اصطلحت عليه بحوث السيّد محمد باقر الصدر بمبدأ تكريم الإنسان في القرآن الكريم؛ فعلى أساس هذا المبدأ سوف يُردّ ذلك الصنف من الروايات التي صحّحها بعضهم سنديّاً، والناصّة على ضرورة التحذّر من التعامل مع الأكراد وأمثالهم، وأنّهم قوم من أقوام الجنّ.
ينبغي ردّ هذا الحديث؛ لكونه مخالفاً لمبدأ التكريم القرآنيّ، مع أنّ التعاطي الحدّي مع هذه النصوص الروائيّة لا يستلزم ردّها؛ لأنّ أقصى ما يمكن قوله فيها هو: إنّها مخصّصة للعموم القرآني، وهذا ما رفضه الصدر، ورأى أنّ المسألة لا يمكن حلّها بهذه الطريقة الفنيّة التي تُذكر في محلّه في الكتب الأصوليّة، وإنّما يتسنّى ذلك عن طريق وجود معارضة للمزاج القرآني العامّ وهو: (كرامة الإنسان)، وهذه النصوص تهين الإنسان لقوميّته أو عرقه فقط.
وعلى هذا الأساس نفهم أنّه ورغم إيمان القرآنيّين بالحدّ الأدنى بحجيّة السنّة والحديث، إلا أنّهم كانوا يطالبون دوماً بعرضهما على الكتاب، ثمّ يوسّعون من مفهوم العرض ولا يضيّقون، وهذا ما يُنتج عندهم أنّ فهم الدين يبدأ من القرآن، وإذا أراد الباحث أن يكون مجتهداً أو مستنبطاً لحكمٍ دينيّ معيّن، فعليه أن يبدأ من القرآن، ولكي يتمكّن من عرض نتيجة البحث الحديثيّ على القرآن عليه أن يفهم القرآن نفسه أولاً، ولا يمكن الخلط بين المصادر في عمليّة الاجتهاد؛ لأنّ الخلط بينها يعني فقدان القرآن استقلاليّته وصلاحيّته للبتّ والحكومة على سائر الأدلّة في هذا المجال.
وهذا النهج مخالف تماماً لتلك المقولة التي أطلقها جمهورٌ من المحدّثين، والتي تقول: إنّ السنّة قاضية على الكتاب، والكتاب غير قاضٍ على السنّة، فالأخيرة هي التي تحكم القرآن، ولها قدرة التدخّل والتصرّف والتوسعة والتضييق في الكتاب، فيما الكتاب الكريم ليس له قدرة التدخّل ولا التوسعة، ولا التضييق، ولا التصرّف في السنّة.
فالقرآنيّون يرون خطأ هذا المبدأ ويختارون العكس منه تماماً؛ لأنهم ينطلقون من أحاديث العرض على الكتاب، بينما يرفض بعض أهل السنّة أحاديث العرض؛ لأنّهم يرون أنّها موضوعة من قبل الخوارج لكي يُسقطوا قيمة السنّة؛ انطلاقاً من أنّ جعل الحديث تحت سلطان القرآن يُسقط الحديث في نهاية المطاف، وهذا بخلاف أحاديث العرض على الكتاب عند الشيعة الإماميّة؛ فإنها كثيرة، بل ادُّعي تواترها المعنوي، كما جاء في كلمات الشيخ الأنصاريّ([1]).
هذا تعريف موجز بالقرآنيّين باتجاهيهم، لكنّنا سنتكلّم هنا عن القرآنيّين بالحدّ الأعلى فقط.
القرآنيون وتاريخ المصطلح
تعود حركة (القرآنيّون) إلى شبه القارة الهنديّة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ ففي نهايات القرن التاسع عشر، وخصوصاً في منطقة (البنجاب) كثيراً ما طُرحت أفكار القرآنيّين، حتى تحوّلوا إلى تيّار وليس أفراداً فحسب، وهذه خصوصيّة في القرآنيّين الباكستانيّين؛ لأنهم تحوّلوا إلى ظواهر لم تقتصر على فردانيّتها، أمّا القرآنيّون في العالم العربي أو تركيا أو إيران فهم أفراد في الغالب، وليسوا تيّاراً له تراتيبه الإداريّة وامتداده الشعبيّ.
العناصر المؤثرة في ظهور الحركة القرآنيّة
والذي أثّر في ظهور هذا التيار في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أمران أساسيّان:
أ ـ أزمة العلاقة بين العلم والدين (دوافع للتشكيك المتني والسندي في السنّة)
لا يخفى على المتابع أن ما يُسمّى بحركة الإصلاح الدينيّ إنما بدأت من شبه القارّة الهنديّة؛ إذ كانت تلك المناطق نقطة انطلاق تاريخيّاً، وليس في مناطق العراق أو إيران أو غير ذلك من البلدان الأخرى التي ربما يتوافر فيها أفراد من هنا وهناك. ومن شبه القارّة الهنديّة انتقلت هذه الأفكار بالدرجة الأولى إلى مصر، ومنها تعمّمت إلى العالم الإسلاميّ.
لقد كان أحمد خان أحد أهمّ روّاد ما يُسمّى بحركة الإصلاح الدينيّ في القرن التاسع عشر، وكان يرى ضرورة التوفيق بين العلم والدين؛ حيث تمظهرت حركة التحدّي بين العلم والدين في ذلك العصر في التصادم بين الدين والعلوم الطبيعيّة، فما نواجهه اليوم من تحدٍّ هو التوفيق بين الدين والعلوم الإنسانيّة (الاجتماع، النفس، الاقتصاد، الأناسة..)، لكنّ التحدّي الأكبر الذي حمله القرن التاسع عشر كان هو التوفيق بين الدين والعلوم الطبيعيّة، أي يجب أن توافق معطيات الاجتهاد الإسلاميّ آخر منجزات العلوم الطبيعيّة في مجال الفلك والطبّ والفيزياء والكيمياء وغيرها من العلوم وتطوّراتها.
هذا، وكان أحمد خان وأنصاره يقولون في بعض إشاراتهم ـ وهم يرومون إلغاء بعض المصادر المعرفيّة المتصادمة مع العلم ـ: إنّ في السنّة الشريفة مشاكل كثيرة تصادم العلم، وينبغي علينا أن نتخذ موقفاً منها، ومن هنا بدأ أحمد خان يدغدغ في قيمة السنّة، ويقول: السنّة ليست مصدراً موثوقاً لأسباب عدّة، سنأتي على ذكرها قريباً إن شاء الله.
من هنا ذهب السير أحمد خان وأنصاره إلى ضرورة التوفيق بين العلم والدين، وفي هذه النصوص الروائيّة ـ المنقولة إلينا بطرق غير موثوقة ـ أمور كثيرة تخالف العلم. هذا هو العنصر الأوّل.
ب ـ دور الحديث في تمزيق المسلمين (انطلاقة مشروع العودة للقرآن)
هناك تيّار واسع في العالم الإسلاميّ، ينتشر في أوساط المثقّفين، يعتقد أنّ سبب خلافاتنا هو الأحاديث، وأنّنا إذا رجعنا إلى القرآن العزيز وتركنا كتب الأحاديث فسوف تُحلّ مشاكلنا أو أكثريّتها الساحقة، من هنا نجد في خطاب حركة الإصلاح الدينيّ في شبه القارة الهنديّة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر تركيزاً على أن حلّ خلافات المسلمين وعودة نهوضهم لا يكون إلا بالتخلّي عن الحديث.
ومن رحم هذا المناخ ـ أعني مناخ ما يُسمّى بالإصلاح الدينيّ ـ ولدت هذه الفكرة التي تقول: إنّ الحديث ليس مرجعاً، وعلينا العودة إلى القرآن؛ فإنّ حلّ مشاكلنا لن يكون إلا بالعودة إليه.
القرآنيون، من جكرالوي إلى غلام أحمد برويز، تطوّرات واتجاهات
وانطلاقاً من هذين الأمرين المتقدّمين، ظهر القرآنيّون، وكان من أوّلهم: غلام نبي، المعروف بـ(عبد الله جكرالوي) والمتوفى سنة 1914م، وهو أوّل من أسّس الحركة القرآنيّة عام 1902م، في بداية القرن العشرين في لاهور الباكستانيّة، وهو يصنّف من القرآنيّين المتشدّدين المتطرّفين؛ لأنه يرى أنّ في القرآن تمام التفاصيل بعرضها العريض، وأنّ أيّ حكم يمكن للإنسان أن يأخذه من القرآن المجيد، ومن هنا اتخذ فكره طابعاً متشدّداً، محاولاً أن يستنطق القرآن في كلّ جزئيّة من الجزئيّات.
لكنّ هذه الدعوى ليست سهلة التصديق، بل المستكنّ الراسخ في أذهاننا ولا يقبل النقاش عند عامّة المسلمين أنّ القرآن الكريم أشبه بالدستور العامّ، أمّا التفاصيل والقوانين المدنيّة والجزائيّة و.. فلا نجدها إلا في السنّة الشريفة، وهذا هو المتجذّر في أذهاننا جميعاً على اختلاف مذاهبنا؛ فالقرآن يؤصّل القواعد فيما السنّة تُدخلنا في التفاصيل.
وظهر من بعد جكرالوي في شرق الهند، محبُّ الحقّ عظيم آبادي، وأسّس الحركة القرآنيّة هناك، وظل يدافع عنها حتى أواخر الخمسينيات من القرن العشرين.
وجاء بعده أحمد الدين الأمرتسري المتوفي سنة 1936م، فأسّس جماعة (أمّة مسلمة) سنة 1926م، وهاجم نظام الإرث المستند إلى السنّة، معتقداً أنّ علينا أن نرجع إلى القرآن الكريم فقط في استخراج نظام الإرث، ومن الواضح ـ لمن تابع تطوّر البحث الفقهي ـ أنّ هناك جدلاً واسعاً ـ خاصّة في المائة والخمسين سنة الأخيرة ـ حول موضوعي: الإرث والوقف، لاسيما الوقف الذُرّي؛ حيث عدّه بعضهم منافياً لتطوّر الاقتصاد.
وقال القرآنيّون: يجب أن يكون نظام الإرث قرآنيّاً، فالمسلم يرث من الكافر والكافر يرث من المسلم؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى قال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (النساء: 11)، ولم يقل: يوصيكم الله في أولادكم المسلمين، ولا العكس.
ثم بعد ذلك جاء الحافظ أسلم الجراجبوري المتوفى عام 1955م، فساند حركة رفض نظام الإرث القائمة على السنّة، لكنّه ركّز اهتمامه النقدي بشكل مبالغ فيه على الحديث وعلم الرجال، واعتبر أنّ الأنظمة التي وضعها علماء الإسلام في مجال الحديث وعلم الرجال غير قادرة على تقديم نتائج يُطمئنّ لها.
واستمرّ تطوّر الحركة القرآنيّة في شبه القارّة الهنديّة، إلى أن جاء أهمّ شخص فيها وهو غلام أحمد برويز، وهو الذي يُطلق عليه اسم: مؤلّف الحركة القرآنيّة؛ إذ كان عطاؤه العلميّ غزيراً، فقد آمن برويز بالعلوم العصريّة ودافع عن تفسير القرآن، وأسّس حزباً تحت عنوان طلوع إسلام، وعُدّ حزبه من أقوى الأحزاب وأنشطها، وشهد فترة ذهبيّة هائلة في الخمسينيّات والستينيات من القرن العشرين، لكنّه تراجع تراجعاً كبيراً بسبب سيلٍ من فتاوى التكفير التي حُملت على القرآنيين من قبل فقهاء أهل السنّة والمجامع العلميّة لديهم، من مختلف أرجاء العالم، الأمر الذي أدّى إلى ضمور حركته وانحسار الحركة القرآنية في شبه القارّة الهندية عموماً، وباكستان خصوصاً.
لقد كان برويز يختلف مع جكرالوي في وجود التفاصيل في القرآن؛ حيث ذهب إلى اشتمال القرآن على الأساسيّات فقط دون التفاصيل، وهذه الأخيرة تأتي من مركز الملّة (وهو وليّ الأمر) وفقاً لاُسس القرآن، أي إنّه استعاض عن السنّة بالتشريع البشريّ الذي يكون تحت المؤشّرات العامّة للتشريعات القرآنيّة، وبهذا ميّز بينه وبين العلمانيّة والقوانين الوضعيّة؛ حيث إنّ الحكم الذي يصدر عن مركز الملّة إنما يكون تحت مظلّة التشريعات القرآنيّة ومبادئها، أمّا القوانين الوضعيّة فصلاحيّة التشريع لديها غير ملزَمة بهذه المظلّة.
وعلى مستوى مناهج فهم القرآن، قالوا: لابدّ أن نرجع إلى اللغة، فنفهم القرآن ونستنتج منه الأحكام عبرها، أمّا طريقة الرجوع إلى اللغة فلا تخلو من ظرافة، فالطواف لغةً يعني التردّد على الشيء، فحينما ينصّ القرآن قائلاً: {…طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} (النور: 53)، فهو يعني تتردّدون بعضكم على بعض، لا بمعنى تدورون حول بعض، فالطواف هو التردّد على البيت الحرام لا الدوران حول الكعبة.
وإنما ذهبوا إلى هذا القول استغناءً عن السنّة بكلّ أنواعها، وبذلك أحدثوا لأنفسهم طقوساً خاصّة في العبادات، وكانت لديهم بعض الحلقات العباديّة الخاصّة، وهناك من يقدّم إحصائيّة في هذا المجال تفيد أنّ (3%) من الشعب الباكستاني هم قرآنيّون، ولا ندري مدى دقّة هذه الإحصائيّة.
مبرّرات القرآنيّين في إسقاط حجيّة السنّة أو عدم الاهتمام بها
ينطلق القرآنيون من عدّة مبرّرات، لتشييد مدرستهم الفكريّة والاجتهاديّة، وأهمّها:
المبرّر الأوّل: عدم الاطمئنان بصحّة الأحاديث (إشكاليّات النقل التاريخي للسنّة)
يذهب القرآنيون إلى أنّه لا يمكن الوثاقة بالروايات لكي يمكن التعويل عليها، وذلك لعدّة إشكاليّات أهمّها:
الإشكاليّة الأولى: التناقل الشفوي
وتعني هذه الإشكاليّة من وجهة نظرهم أنّ القرن الهجري الأوّل لم يتوافر على تدوين، ولم تصل إلينا نسخة مدوّنة للسنّة في تلك الفترة الزمنيّة، وكلّها قيل عن قال، والتناقل الشفوي لا يمكن الاتّكاء عليه، ولا يمكن الاعتماد في نقل الأفكار بشكل مطابق ويقيني من خلال التناقل الشفوي عبر خمسة أشخاص ينقل الواحد منهم عن الآخر، فكيف يمكن ذلك وقد نقلت السنّة عن طريق عدّة أشخاص؟!
ومن أمثلة ذلك عندهم أنّهم يقولون بأنّه لو شافه شخص صاحبه الذي بجانبه بفكرة معيّنة، وهذا الذي بجنبه شافهها لمن هو بجانبه، وهكذا حتّى وصلت إلى من هو في آخر المجلس، فإنّ المفاجأة ستجدها حينما تسمع نفس هذه الفكرة من الشخص الأخير؛ حيث ينتابها نوع من الزيادة والنقصان والتصحيف والتحريف.
الإشكاليّة الثانية: النقل بالمعنى
يرى القرآنيون أنّ الروايات صنيعة الرواة، فهي نقلٌ بالمعنى، ولا توجد رواية بنفس ألفاظها، ورغم ما يحكى عن قوّة الحفظ التي كان يتمتّع بها بعض العرب، إلا أنّ ذلك لا يحوّلهم إلى أدوات ذكيّة كالحواسيب التي نراها اليوم، فهم بشرٌ في نهاية المطاف، وقد يكون بينهم حَفَظَة، لكن ليس كلّ عربي في ذلك الزمان حافظ، ومن ثمّ فكلّ أو أغلب التناقل الذي وقع في تلك الفترة إنّما هو بالمعنى، والذي ينقل لك هذه الروايات قد يفقه ما ينقله وقد لا يكون كذلك، فتصل المرويّات متضعضعة، ومن هنا ينفتح باب التحفّظ في مجال قيمة الحديث.
الإشكاليّة الثالثة: الفاصل الزمني بين الرواة وعلماء الجرح والتعديل
توجد مشكلة أخرى هنا أيضاً، وهي مشكلة الفاصل الزمنيّ بين الرواة وعلماء الجرح والتعديل؛ إذ إنّ بينهم فواصل تصل إلى قرون، فكيف عرف عالم الرجال وثاقة وعدالة هؤلاء الرواة كي يحكم طبقاً لمعرفته؟!
إنّ الميزان في الجرح والتعديل كان هو: أن ينظر الرجالي في روايات الرواي، فإن رآه يقدّم عليّاً ويقدح في الصحابة قال: كذّاب وضّاع، وإن رآه يمتدح الصحابة ويؤخّر علياً قال: هذا ثقة مثلاً.. وإن كان قدرياً وضعوا عليه علامة استفهام، وإن كان شيعيّاً ـ وهو أوسع من الإماميّ بكثير في تلك الفترة الزمنيّة ـ رموه بالكذب والوضع، والعكس موجود أيضاً، فكيف نثق بأحكامهم الرجاليّة في مثل هذه الأحوال، وهي قائمة على اجتهاداتهم الشخصيّة في الدين والفكر؟!
إلى غير ذلك من الإشكاليات التي لا نطيل بالحديث عنها مثل:
أزمة النُسَخ المتعدّدة، فأقدم نسخ للحديث جاءت بعد مئة وخمسين سنة، وإذا راجعناها وجدنا فيها اختلافاً واضطراباً عجيباً.
وظاهرة الوضع في الحديث، وهنا يركّزون على الروايات التي تعارض العلم، بحيث أبرزوها وسلّطوا الضوء عليها.
وعدم وجود تواتر في الحديث، وإنّما هناك إشاعة فقط، لاسيما في التناقل الشفوي.
وكلّما أخذنا جميع المذاهب زادت هذه المشاكل.
وظاهرة التعارض الكبير بين الروايات.
هذه الإشكاليّات جميعاً تعرّض لها علماء الكلام والأصول والحديث من قَبل، لكن ما قام به القرآنيّون هو جمعها والتركيز على نقاط الضعف فيها، دون أن يذكروا نقاط قوّتها، تاركين خلف ظهرهم كلّ التظافر في الأسانيد والطُرق، ومعرضين عن كلّ عنصر إيجابي، مكتفين بتسليط الضوء على العناصر السلبيّة.
وهذه مشكلة عامّة تُعدّ من أزماتنا الفكريّة جميعاً، فحينما نريد شيئاً ننسى كلّ سلبيّاته ولا نسلّط الضوء عليها، ومن ثم فلا نُظهّر إلا الإيجابيّات، وحينما نرفض شيئاً ننسى كلّ إيجابيّاته، ونظهّر السلبيات ولا نرى فيه شيئاً حسناً، وبذلك يتم تصوير الأشياء بلون واحد فقط؛ فالحديث مثله مثل علم التاريخ، يحمل قوّةً ويحمل ضعفاً، وفيه تقدّم وتأخّر، وفيه عناصر وثوق وفيه عناصر انعدام الوثوق، ويجب أن ندخل معركة التاريخ بغية التمييز، وإلا فيفترض بنا أن نغلق باب العلم حتى بوجود شخصٍ اسمه محمد بن عبد الله.
فهذه الإشكاليّات الحديثيّة تعرّض لها العلماء على مرّ التاريخ، وبعد أن ظهرت هذه الحركة كتبت كُتُب في الردّ عليها، والكلّ يقبل بوجود مثل هذه المشاكل، لكن هل هذه المشاكل تصل بنا إلى حدّ عدم القدرة على قبول ولو 5% من الأحاديث مثلاً؟!
من الواضح أنّ الكثير من المشاكل توجب سقوط جملة من النصوص الحديثيّة، لكنّ هذا لا يفضي إلى سقوط الأحاديث التي تحمل سنداً تامّاً وتعاضداً في الطرق والمصادر، وموافقةً للقرآن والعقل في مضمونها.
المبرّر الثاني: عدم وجود دليل قرآني على حجيّة السنّة
ناقش القرآنيّون مجمل الأدلّة التي اُقيمت على حجيّة السنّة الشريفة، ومن باب الإجمال نشير إلى بعضها:
الآية الأولى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (المائدة: 59).
فقد شكّكوا في دلالة آية الإطاعة على حجيّة السنّة، ونصّوا على أنّ إطاعة الرسول التي أشارت إليها الآية الكريمة إنّما تختصّ بالرسول بما هو حاكم أو بما هو مخبر عن الأوامر القرآنية أو آمرٌ بها، وليس بنحو الاستقلال عن القرآن الكريم، ولا تعني أنّ إطاعته تقع في عرض طاعة الله؛ بل إنّ طاعته استمرار لطاعة الله، وطاعة الله هي طاعة القرآن الكريم فقط.
لكنّ المؤسف أنّهم لم يبيّنوا السبب في تخصيص هذا الإطلاق، أي كيف خصّصوا إطلاق الآية التي أفادتها القاعدة؟ فإنّ التركيبة اللغويّة لعبارة: أطيعوا الله، هي نفسها في عبارة أطيعوا الرسول، فكما أنّ الأولى غير مقيّدة بخصوصيّة كونه حاكماً، فكذا الثانية أيضاً، ولابدّ من إبراز وجه فنّي علميّ لغويّ لهذا التخصيص، وهذا ما لم نلاحظه في كلماتهم بشكل جادّ.
الآية الثانية: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 4).
ناقش القرآنيون في هذه الآية الكريمة أيضاً، وهي من الآيات الأساسيّة لإثبات حجيّة السنّة النبويّة، وقالوا: إنّها غير دالّة على المطلوب؛ لكونها بصدد محاججة المشركين، بدليل الآيتين اللتين قبلها في نفس السورة، قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (النجم: 1 ـ 3)، فهي إشارة واضحة إلى كون النقاش مع المشركين، وهي آيات نزلت عقب حادثة الإسراء في مكّة المكرّمة.
كما أنّ كلمة: (إن هو..) تحتمل أن تكون دالّةً على عموم ما ينطق به النبيّ الأكرم، وتحتمل أن تكون دالّةً على خصوص القرآن الكريم، والاحتمال الثاني هو الأنسب بالآية الشريفة؛ وذلك لأنّ المشكلة التي عانى المشركون منها هي القرآن الكريم، ولم يتناقش المشركون مع النبي في حجيّة سنّته، ولم تكن هي المعركة بين الإسلام والشرك في تلك الفترة الزمنيّة، وإنّما كانت في حجيّة كتابه ودعواه للنبوّة، فالقدر المتيقّن من هذه الآية هو القرآن الكريم، ولا يمكن تعميمه لأكثر من ذلك.
الآية الثالثة: {.. وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (الحشر: 7).
لقد التفت القرآنيّون هنا إلى نقطة مهمّة في النقاش حول دلالة هذه الآية على حجيّة السنّة؛ حيث اتهموا خصومهم ببتر الآية عن سياقها؛ إذ سياقها يتحدّث عن الغنائم والفيء، وأنّ ما آتاكم الرسول من غنائم وفيء عليكم عدم الاعتراض على ما يعطيكم وما لا يعطيكم، كي لا يكون دولةً بين الأغنياء منكم، وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا، فما قال لكم خذوه من هذا المال فخذوه، وما قال لكم: إنّه ممنوعٌ عليكم، فلا تأخذوه، بل انتهوا عنه وكفّوا أيديكم.
لكنّ الأصوليين ـ ورغم التفاتهم إلى الاختصاص بالغنائم بقرينة السياق ـ اعتبروا الآية مشيرةً إلى قاعدة عامّة، وهي تشبه القاعدة التي طرحها الإمام عليه السلام في رواية الاستصحاب، فهي وإن جاء سياقها في خصوص الوضوء أو الطهارة، إلا أنّها تدلّ على قاعدة عامّة ينبغي البناء عليها في عموم الشكوك المسبوقة بيقين، على تفصيلٍ مذكور في محلّه.
هذه عيّنات من مناقشات القرآنيين وغيرهم على الاستدلال بنصوص القرآن الكريم على حجيّة السنّة الشريفة، نكتفي بها؛ لعدم وجود الوقت الكافي للتفصيل فيها.
المبرّر الثالث: أدلّة القرآنيّين على عدم حجيّة السنّة
لم يكتف القرآنيون بمناقشة أدلّة حجيّة السنّة الشريفة، بل ساقوا أيضاً أدلّةً عدّة على عدم حجيّة السنّة:
ومن أمثلة هذه الأدلّة وأهمّها مسألة تدوين السنّة، حيث قالوا بأنّ السنّة لو كانت حجّةً لدوّنها الرسول أو أمر بتدوينها، وحيث إنّها لم تدوّن ولم يأمر بتدوينها، فهذا يعني عدم حجّيتها.
وقد تعرّض هذا الاستدلال لمناقشات منها أنّ المستدلّين لم يأخذوا بعين الاعتبار قدرة العرب على تدوين القرآن وعدم قدرتهم على تدوين السنّة لكثرتها الواسعة.
ومنها: إنّ صريح القرآن الكريم ينفي حجيّة السنّة؛ وذلك حينما يعبّر القرآن الكريم عن نفسه بكونه تبياناً لكلّ شيء دون أن يقول: إنّ شريكي في هذه المهمّة هي السنّة، فهذا يعني عدم حجّيتها، والحجيّة للقرآن وحده فقط.
وقد أجاب بعض العلماء عن ذلك بأنّ فهم (كلّ شيء) ليس بمقدور الجميع، بل هو بمقدور فئة خاصّة هي النبي وأهل بيته الكرام عليهم السلام، وأمّا الذي نفهمه فهو جزء من هذا الشيء الموجود في الكتاب العزيز.
ومنها: إنّ الله تعهّد بحفظ القرآن دون أن يتعهّد بحفظ السنّة، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9).
وأجيب عنه ـ من جملة ما أجيب ـ بأنّ هذا الدليل أعمّ من المدّعى؛ فإنّ الله لم يتعهّد لا بحفظ التوراة ولا بحفظ الإنجيل، بل ذهب بعضهم إلى أنّ الإنجيل لم يُكتف بتحريفه وتزويره بل اختفى تماماً، وعلى الناس أن تتحمّل مسؤوليّة حفظه، والأمر كذلك في السنّة النبويّة أيضاً، فكما لم يضرّ عدم تعهّد الله بحفظ التوراة والإنجيل كذلك الحال هنا في السنّة.
ومجمل القول: إن المنطلقات التي دعت القرآنيّين لطرح توجّهاتهم، ثلاثة:
المنطلق الأول: تشديد الضربات ضدّ الحديث، واعتباره مشكوكاً في أمره مهما كثرت الطرق والمصادر، حتى بالغوا في هذا الموضوع.
المنطلق الثاني: التشكيك في الأدلّة التي تثبت حجيّة السنّة الشريفة، والتي أشرنا إلي قسم منها في ما تقدّم.
المنطلق الثالث: إقامة مجموعة من الأدلّة على عدم حجيّة السنّة، مثل مسألة عدم التدوين.
هذا، والبحث طويل جدّاً في النقاش معهم، وقد تعرّضتُ شخصيّاً لمختلف الأدلّة التي اُقيمت على حجيّة السنّة من قبل أنصار السنّة الشريفة والمناقشات التي سجّلت أو يمكن أن تسجّل على بعض هذه الأدلّة على الأقلّ، وكذلك الأدلّة التي أقامها القرآنيون وغيرهم على عدم حجيّة السنّة، وذلك في كتابي (حجية السنّة)([2])، فليراجع.
أصول الاجتهاد عند القرآنيّين
ليس للقرآنيّين طريقة خاصّة في الاجتهاد الدينيّ، عدا أنّها تكمن في جماع ثلاثة أصول:
الأصل الأوّل: عدم الرجوع إلى الحديث الشريف، فلا قيمة لكلّ هذا التراث الحديثي الهائل.
الأصل الثاني: مرجعيّة اللغة في فهم القرآن، فقد هاجم القرآنيّون أسباب النزول؛ لانّها تقيّد ـ من وجهة نظرهم ـ دلالة القرآن الكريم، وهاجموا كذلك الحديث الشريف للسبب نفسه، ومن ثمّ قالوا: لا طريق لفهم القرآن إلا اللغة العربيّة، وبذلك أنكروا وجود أيّ دور للطُرق والعلوم الأخرى، ولعلّ هذا ما يلفت نظرنا لبعض النتائج المستغربة بعض الشيء عندهم؛ لكونها معتمدة بشكل حادّ على الجذر الّلغويّ، كما في موضوع الطواف وفق ما أسلفنا بيانه؛ فحينما أنكروا حجيّة السنّة رجعوا إلى حاقّ اللغة ليُثبتوا أنّ الطواف هو التردّد على الشيء وليس الدوران حوله.
الأصل الثالث: ولدى جماعة كبيرة من القرآنيّين أصل ثالث بالغ الأهميّة، ويتلخّص في استخراج مجموعة من القواعد، ثم الذهاب إلى المصاديق الخارجيّة المستحدثة لعرضها على هذه القواعد القرآنيّة؛ فإن ناقضت واحدةً منها حكم بعدم إباحتها، وإن لم تناقض أيّاً منها حكم بإباحتها، لا أن نرجع إلى الروايات التي تتحدّث عن الكلب العقور والمثلة فيه لنستكشف دلالتها على حكم التشريح مثلاً! بل علينا الاكتفاء بالتأصيلات القرآنيّة حينما ننظر للوقائع الخارجيّة؛ فإن كانت الوقائع تتعارض مع تلك التأصيلات فيحكم بحرمتها، وإلا فهي جائزة.
نماذج فقهيّة اجتهاديّة وفقاً لأصول الاجتهاد عند القرآنيّين
وفي ضوء هذه الأصول الثلاثة، فرّع القرآنيّون نتائج كثيرة، نذكر بعض نماذجها:
1 ـ الوضوء واجب عند كلّ صلاة، حتى وإن لم يكن المكلّف محدثاً بالحدث الأصغر والأكبر؛ لأنّ الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (المائدة: 6)، فظاهر هذه الآية وجوب الوضوء عند القيام للصلاة بلا ربطٍ لذلك بقضايا الحدث.
2 ـ أكّد القرآن الكريم على عدم وجود الإكراه فيه؛ فكلّ الأحكام التي جاءت بها السنّة نظير: الجهاد الابتدائيّ، فرض الدين على الناس، حدّ الردّة، لا يمكن الالتزام بها؛ لقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: 29).
فالقرآنيّون يعدّون أنفسهم غير معنيّين بجميع الأحكام والإجماعات ونصوص الفقهاء التي تتحدّث عن بعض الأحكام التي من هذا القبيل؛ لأنّ المبدأ القرآني يثبت الحريّة الدينيّة؛ وقد حاولوا حثيثاً الاقتراب في نتائجهم من الفكر الإنساني الغربي الحديث.
3 ـ حينما تحدث مشكلة بين الزوج والزوجة ينصّ القرآن الكريم على ضرورة وجود حَكَم من أهل الزوج وحَكَم من أهل الزوجة، قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} (النساء: 35).
وهذا الحكم لا يفتي به الفقهاء، ليكون قرار الحكمين ملزماً قضائيّاً، بل يجعلون ذلك استحبابيّاً لمن يريد الإصلاح بينهما، لكنّ بعض القرآنيّين رأى وجوب هذه الطريقة لفكّ النزاعات، فيجب تشكيل محكمة عائليّة، وتكون لها قدرة النفوذ على الطرفين، وتتشكّل من طرفين أحدهما من عائلة الزوج والثاني من عائلة الزوجة، واتّهموا الفقهاء ـ على حدّ وصفهم ـ بهجران الآية وعدم العمل بها.
4 ـ ذهب بعض القرآنيّين إلى أنّ عقوبة الزنا قرآنيّاً ليست إلا الجلد، وكلّ هذه التفاصيل من الإحصان وغيره.. إنما جاءت في النصوص الروائيّة المرفوضة، قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (النور: 2).
فلا وجود للرجم ولا وجود لشروط الفقهاء في موضوع حدّ الزنا.
5 ـ الاسترقاق عند بعض القرآنيّين مبدأ يرفضه القرآن الكريم؛ حيث قال عزّ اسمه عن أسرى الحرب: {.. حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ} (محمد: 4). فمع أنّ الاسترقاق كان مشهوراً جدّاً، إلا أنّ القرآنيين يرون أنّ القرآن لم يرَ له شرعيّةً، غاية ما في الأمر أنّه كان في عصر نزول الكتاب الكريم رقيقٌ لم يتعرّض لهم، إلا بالدعوة لتحريرهم في بعض الحالات، ومن ثمّ فليس هناك من حالة يُطلق عليها استرقاقٌ جديد؛ لأنهم اعتبروا أنّ الآية الكريمة في مقام بيان التفاصيل، وهي تذكر تفصيلين غير متعارفين، مع أنّ هناك تفصيلاً متعارفاً وهو الاسترقاق، ومع ذلك لم يُشَر إليه، وهذا دليل حاسم على أنّ القرآن أوقف نظام الاسترقاق، وأمّا نظام الرقيق الذين استُرقّوا من قبل، فعمل على تحريرهم بمجموعة من التكاليف الشرعيّة في باب الكفارات وغيرها.
وهذه النظرة للموضوع تخالف ما يذهب إليه جمهور علماء المسلمين، من أنّ الآية الكريمة وإن لم تدلّ على تشريع الاسترقاق، إلا أنّ الأحاديث وردت في ذلك بكثرة.
6 ـ ذهب بعض القرآنيّين إلى أنّ المحرّم على المرأة كشفه هو ما كان زينةً فقط، لا جميع بدنها؛ وذلك لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (الأحزاب: 59)، وكذلك آية الزينة التي تأمر بعدم إبدائهنّ لزينتهنّ إلا على أزواجهنّ ومحارمهنّ. بينما ذهب الاتجاه المشهور من الفقهاء إلى أنّ المرأة كلّها زينة، وعليها ستر جميع بدنها إلا الوجه والكفين؛ تأثّراً بالنصوص الروائيّة؛ لتواترها وشهرتها وتسالم المسلمين عليها، فالمحرّم عند القرآنيّين هو إظهار المرأة للزينة التي تضعها على جسدها، لا لجسدها، والمحرّم هو كشف جسدها عندما يكون في ذلك تعريضها للخطر والعدوان لا مطلقاً.
7 ـ حصر كثير من القرآنيّين محرّمات الحجّ بالرفث والفسوق والجدال فقط؛ وذلك لما جاء في قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ؛ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (البقرة: 192)، وما زاد عن ذلك فليس داخلاً ضمن المحرّمات، على خلاف مشهور الفقهاء الذين حرّموا الكثير من الأشياء على المحرم الحاجّ والمعتمر.
يضاف إلى ذلك أنّ الجدال في لغة العرب يعني المجادلة والمراء، وليس بمعنى لا والله وأي والله، كما هو متداول في الكتب الفقهيّة عند بعض المذاهب، وهذا يعني ضرورة ترك هذا التحريف في تفسير الآية لغويّاً والرجوع لنصّ الكتاب وفقاً لمرجعيّة اللغة.
وحينما تقول لهم: إنّ الأحاديث بين المسلمين بمختلف طوائفهم هي بمجموعها فوق حدّ التواتر في الدلالة على حرمة التظليل، والنظر في المرآة وغير ذلك، فإنّهم سيقولون لك: ليس لنا علاقة بتواترها، بل نحن معنيّون بما قرّره القرآن الكريم فقط.
8 ـ يذهب بعض القرآنيّين إلى أنّ محرّمات الأطعمة والأشربة هي تلك التي جاءت في القرآن الكريم حصراً؛ أمّا المحرّمات الكثيرة التي حملتها النصوص الروائيّة فلا تعنيهم بشيء، قال تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (الأنعام: 145)؛ وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (المائدة: 90).
فغير هذه الأشياء يجوز أكله وشربه مطلقاً ما لم يكن فيه ضرر، وكلّ تلك المنظومة التحريميّة للأطعمة والأشربة في الحديث الشريف لا أساس لها في الإسلام.
9 ـ ذهب بعض القرآنيّين أيضاً إلى أنّ آية المحارم في القرآن الكريم إنّما هي بصدد بيان التفاصيل، وحيث إنّها كذلك ولم تذكر العمّ والخال والصهر، فهذا يعني عدم جواز إبداء الزينة أمامهم، مع أنّ إجماع المسلمين على جواز كشف الحجاب وإبداء الزينة أمام العمّ والخال والصهر، قال تعالى: {.. وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ..} (النور: 31)، وبالتالي فهذا البعض من القرآنيّين في حلّ من ذلك الإطباق الإسلامي والتسالم والتوارث جيلاً عن جيل، وهم في حلّ أيضاً من سيرة المتشرّعة، والأحاديث السنيّة والشيعيّة.
10 ـ فهم بعض القرآنيّين من آية الإرث نتائج لم يذهب إليها مشهور فقهاء المسلمين، فالله تعالى يقول: {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيماً} (النساء: 11).
إنّ هذه الآية الشريفة وغيرها تدلّ ـ وفقاً لفهم بعض القرآنيّين ـ على أنّ المسلم يرث الكافر والكافر يرث المسلم؛ لأنّ القرآن لم يقل: في أولادكم المسلمين أو إذا كانوا كافرين لا يرثون منكم، بل هو مطلق من حيث الإسلام والكفر، فينبغي أن يرث المسلم الكافر ويرث الكافر المسلم.
أكتفي بهذه الأمثلة وإلا فهي كثيرة جدّاً.
ومجمل القول: إنّ آليّات استنطاق النصّ القرآني عند القرآنيّين توجب تأسيس فقه يختلف تماماً عن الفقه المتداول، سواء أكان شيعيّاً أم سنيّاً؛ بسبب حذف المراجع الاجتهاديّة المعروفة في هذا الإطار، مثل السنّة والإجماع والشهرة وعمل الصحابة. وإنّما قدّمنا أمثلتهم على مدّعياتهم لكي نوضح أنّ ترك الحديث سيؤدّي إلى مثل هذه النتائج الفقهيّة الكبيرة المختلفة وفقاً لهذه الأساسيّات.
أزمة العبادات عند القرآنيّين
ولعلّ أكبر مشكلة واجهت القرآنيين هي العبادات؛ إذ تسالم الجمهور بلا نزاع ولا شكّ ولا شبهة ولا ريب على أنّ الصلاة والصوم والحجّ هي بهذه الطرائق المتداولة رغم وجود اختلاف في بعض التفاصيل، من هنا واجه القرآنيّ أزمةً في كيفية فهم نظام العبادات وكيفيّاتها من خلال القرآن الكريم. فكيف يمكن له أن يستنبط لنا أحكام الصوم من خلال النصوص القرآنيّة؟ وهذا ما دعا بعضهم إلى القول بكفاية ركعة واحدة في تحقّق الصلاة المطلوبة قرآنيّاً.
وفي سياق مشكلة العبادات لدى القرآنيّين حاول بعضهم ـ من أمثال الدكتور قاسم أحمد الماليزي ـ أن يخرّج الموضوع ببيان أنّ الطقوس والعبادات كانت موجودة في الديانة الإبراهيميّة، وقد توارثوها جيلاً بعد جيل، فكانوا يصلّون كصلاتنا، ويصومون كصومنا، ويحجّون كحجّنا، ولم يتدخّل القرآن إلا بإدخال بعض التعديلات، كإدخال الوضوء على الصلاة، والغسل لمن أجنب، ومن هنا أخذنا الصلاة من القرآن لا من السنّة.
ولكي لا نطيل، نحيل مجدّداً إلى كتابنا: حجيّة السنّة في الفكر الإسلاميّ، فقد تمّ فيه استعراض مختلف هذه التفاصيل.
كلمة أخيرة
نكتفي بهذا القدر من العرض المختصر، للتعرّف على هذا التيار الفكري الموجود في الحياة الإسلاميّة اليوم، ونترك التفاصيل إلى ما أحلنا عليه وإلى بحوث قادمة إن شاء الله.
ونحن نحثّ الجميع ـ خاصّة علماء الدين وطلاب العلوم الدينيّة ـ على دراسة هذه الحركات الفكريّة والاطلاع عليها، وخوض حوار علمي هادئ وموزون معها، وعدم التعامل بحديّة أو تشنّج مع هذا الفكر، خلافاً لما نشاهده هنا وهناك أحياناً مع الأسف الشديد، والتأمّل في هذه المدارس بوصفها اجتهادات مشروعة ما دامت تسعى للاحتكام للمنطق والدليل، وتتطلّع لخوض ممارسة علميّة بطرق أخلاقيّة وشريفة إن شاء الله.
الهوامش:
([1]) مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول 1: 111، 112.
([2]) راجع: حيدر حب الله، حجيّة السنّة في الفكر الإسلامي، قراءة وتقويم: 57 ـ 332، نشر مؤسّسة الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2011م.