تمهيد ـــــــ
أحد المواضيع الرئيسيّة التي يشتمل عليها «الإبداع» هو مكانته من الناحية القيَميّة (الدينيّة) والتأريخيّة وبعض المدارس الإنسانيّة. وفي الحقيقة تُعتبر دراسة موضوع العمل وإيجاد الفُرَص في تأريخ الأديان وعلى امتداد الحياة البشريّة، منذ أن تشكّلت المدارس والنِّحَل الفكريّة الأولى حتى آخر مدرسة ونِحلة موجودة اليوم، تُعتبر تلك الدراسة وسيلة لتوضيح وبيان قيمة ذلك الموضوع بأبعاد وزوايا أوسع. وهذه المقالة التي هي نتاج بحث دام سنتين في موضوع الإبداع القيَميّ (الدينيّ) هي محاولة جادّة يُراد فيها من خلال الأسلوب البحثيّ دراسة موضوع العمل والسعي والإبداع ضمن الإطار المدنيّ والدينيّ والتأريخيّ. وسيستند أساس هذا البحث على موضوع الإبداع القيَميّ والدينيّ من منظار الدين الإسلاميّ. أمّا الأسلوب التي تمّ تطبيقه في هذا البحث فهو أسلوب المصادر وتحليل المضمون، وهو الأسلوب الذي اعتُمِد في قسم جمع المعلومات وتحليل النصوص. وأمّا النتيجة المرجوّة من هذا البحث فهي الوصول إلى خزانة عريقة وواسعة ظلّت متوارية، لكنّها لم تُصبح مُماتة، في موضوع الإبداع، الذي سيزيد البحث فيه من أهمّيّته كثيراً في هذه المقالة المستندة إلى الكتب السماوية، كالعهد القديم والجديد (أي التوراة والإنجيل)، وكذلك الآيات القرآنيّة والروايات في الدين الإسلاميّ الحنيف، إضافة إلى الاستشهاد بالتشبيهات المختلفة. وتجدر الإشارة إلى أنّ كاتب هذه المقالة سعى كي يكون بحثه للمجتمع على أساس المصادر المتوفّرة والمراجع الموجودة، والتطرّق إلى المحاور المختلفة للإبداع الدينيّ والقيَميّ إضافة إلى مركزيّة النظام القيَميّ (الدينيّ) للإسلام، والذي تزداد أهميّته عند عرض هذا الأسلوب من المنظار الدينيّ أي الأبعاد القيَميّة (الدينيّة) للإبداع. هذا، وقد تمّ استعراض التأليفات المهمّة الأخرى في هذه المقالة، وبحث الجرأة الإبداعيّة، ثمّ نظرة القرآن الكريم الخاصّة ومصدر الوحي، والذي سيتمّ استعراضه بالتفصيل. بعد ذلك سيتمّ بحث مكانة الإبداع في النظام القيَميّ.
الحاجة إلى العمل والإبداع ـــــــ
تشير الدراسات المعمّقة لنظام الخليقة، منذ البداية ومروراً بالتغييرات والتطورات التي حصلت فيها طيلة العصور التي عاشتها البشرية، تشير بوضوح إلى مسألة مهمّة، وهي أنّ الله سبحانه خلق العالم على أساس الحركة والعمل والتغيير والنشاط والسعي وتنظيم الأمور، إضافة إلى أنّ مسيرة التكامل بشكل عامّ، وتكامل المخلوقات بشكل خاصّ، تستندان كذلك إلى تلك الأسس، بحيث إذا توقّفت جميع تلك المخلوقات، كبيرها وصغيرها، عن العمل والنشاط فإنّها ستصيب بدورها هذا النظام بالضرر، وستُحدث توقّفاً كذلك، وخللاً في مسيرتها التكامليّة([1]).
والإنسان أيضاً هو جزء من هذا العالم. وفي هذا الميدان المزدحم لا ينبغي له أن يكون عاطلاً، بل لا بدّ له أن يكون فعّالاً في المجموعة المُبدعة والمُفكِّرة؛ لأنّه من غير المُنصف والمعقول أن يستفيد موجودٌ ما من النشاطات والفعاليات التي تقوم بها الموجودات الأخرى بينما لا يقوم هو بتقديم أية فائدة، أو يكون جندياً ومُستخدماً لدى الآخرين. ونعلم كذلك أنّ الوصول إلى الإنجازات المعنويّة والماديّة لا تكون متيسِّرة إلاّ من خلال الحركة والعمل والسعي([2]). وكل مَن لا يعمل أو يتجنّب عبء العمل فإنّه بذلك يمنع نفسه من الوصول إلى الكمال. إنّ الدين الإسلامي الحنيف، الذي تقوم قوانينه على الأساس المتين للفطرة، والذي تشتمل قواعده على الاحتياجات والمرونة الفطرية والتكوينيّة للإنسان، يُقيّم «العمل» ويثمِّنه. وهو ـ خلافاً لبعض الأديان التي تروّج للرهبانيّة المُفرطة والمُتطرِّفة ـ يقوم بدعوة أنصاره إلى العمل وممارسة النشاط، ولا يُجيز الرهبانيّة أو الانزواء. وجاء في أخبار الأئمة: إيّاكم والكَسَل([3]). ولأنّ على الإنسان أن يعيش في هذا العالم فلا بدّ له من ممارسة العمل وإيجاد الفُرَص والإبداع([4]): كُلُّ عَاقِلٍ يَعْمَلُ بِالْمَعْرِفَةِ، أَمَّا الأَحْمَقُ فَيَعْرِضُ حُمْقَهُ([5]).
فالجهلاء غير العاملين دائماً ما يكونون موانع في وجه التقدّم. وورد في رواية عن الإمام الصادق× أنّه قال: إذا سكت الجاهلون ولم يُعيقوا عمل الأفراد العاملين فستزول الخلافات، ولن يختلف الناس([6]).
وكذلك يعتبر الإمام علي× الدين ذخيرة الآخرة، وأنّ العمل علامة من علامات التديّن والتقوى([7]). ولا شكّ في أنّ أساس التديّن والتقوى والعمل الصحيح هو التبصّر والابتعاد عن الكسل والرفاهية. وواقع الحال أنّ الأديان والمدارس الإنسانيّة، وخاصّة الإسلام، تعتبر أنّ العمل الجيّد والمفيد هو المقصود، وتشير الثقافة الإسلامية إلى أنّ إرادة الإنسان تجعل من الأشياء التي تبدو مستحيلة ممكنة. لذلك فعلى الإنسان الإيمان بطاقاته وإمكانيّاته وإبداعاته، وأن يخطوَ بعزم راسخ، وأن لا يسمح للخوف أو الشكّ بالسيطرة على ذهنه؛ لأنّ العمل يُضاعف قدرة الإنسان، وتزداد قوّة نشاطه الإبداعيّ، وتتّسع دائرة قدراته وإمكاناته. لذلك سنسعى في هذه المقالة، ومن خلال بيان ذلك من منظار الأديان وبعض المدارس الإنسانيّة والإداريّة، إلى بحث موضوع المكاسب، والعمل، والإبداع، من زوايا مختلفة. ونذكّر هنا بأنّ الشعار الأصليّ للإبداع في نظام القيَم هو أنّ الثقافة الدينيّة توصي «بالقناعة في الاستهلاك، وعدم القناعة في الدخل»([8])؛ لكي تستمرّ معنويّات المبدعين والمفكّرين في العمل، والتي تُعتبر العامل المنتج والمفكّر والمبدع.
الإبداع، تشريح المفهوم وتوضيح الموضوع ــــــــ
تُمثّل مسألة العمل والإبداع أصلاً من الأصول الأساسيّة والأمور المهمّة في حياة الإنسان، الذي كان له الدور الأهمّ في جميع العصور والمجتمعات البشرية؛ إذ تدور عجلة الحياة الإنسانيّة في هذا العالم المتغيّر والمتحوّل على أساس المكاسب والعمل والسعي والإنتاج وسموّ المصادر الإنسانيّة([9]). ولا تخفى أهميّة العمل والإبداع من منظار الدين الإسلامي الحنيف ونظام القيَم والأديان السماويّة والمدارس الفكريّة على أحد منّا، وقد نزلت أكثر الآيات صراحة في هذا الخصوص([10])، مثل: ﴿هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ (هود: ٦١).
ويقول الإمام علي×، في تفسيره للآية الآنفة الذكر: لقد أمر الله الناس القيام بتعمير الأرض وبنائها من خلال الزراعة والأعمال الأخرى؛ لكي يؤمّنوا جزءاً ممّا يحتاجونه، والعيش في راحة وطمأنينة([11]).
ولا ريب في أنّ العمل والسعي هما العنصران الأساسيّان في عمليّة خلق الإنسان طيلة حياته. وهذا الأمر الهامّ في النظام القيَميّ والدينيّ والحياة الطيّبة للأئمة واضحٌ للغاية، وقد تمّ التأكيد عليه. وطالما كان الأفراد المُبدعين، الذين كانوا دائماً أساس ضمان المعيشة للآخرين، محترمين، وكان الفرد المُبدِع والنافع يُسمَّى بالفاضل، كما قال الإمام علي×: «أَفْضَلُ النّاس أنفَعُهُم لِلنّاس»([12]).
هذا من جهة، ومن الجهة الأخرى فإنّ موضوع التغييرات التأريخيّة، وظهور الحضارات، وبروز الثقافات، على مرّ التأريخ والعصور البشريّة، أحدث تغييرات كبيرة في حياة البشر. ولا شكّ في أنّ الحروب تُمثّل أهمّ تلك الأحداث. وكلّما كانت الحروب أكثر قسوة ودمويّة كان لها الأثر الأكبر في واقع الأحداث.
ولا ريب كذلك في أنّ الأحداث الكبيرة، مثل: الحروب الصليبيّة، هي التي غيّرت من شكل العالم، وخصوصاً أنّها استمرّت أكثر من (٢٠٠) سنة (١٠٩٥ ـ ١٢٩١). وعلى الرغم من اندحار الأوروبيّين إلاّ أن ذلك أوجدَ ما يُعرَف بعصر النهضة، التي كانت أساس الحضارة الغربيّة([13]).
وقد واجه الأوروبيون المسلمين في الحروب الصليبيّة وجهاً لوجه، فشاهدوا تقدّم المسلمين وحضارتهم الراقية. وخلال تلك الأحداث كان الجنود الصليبيّون يحصلون على كتب المسلمين ومصادرهم، وما بقي منها محفوظاً ومصاناً من الدمار، فكانت تُرسَل إلى أوروبا. فكتب ابن رُشد والرازي وابن سينا، الذي أخذت النهضة عنه الكثير من موضوعات الفلسفة والطبّ، وقعت في أيدي الغربيّين عن طريق تلك الحروب. ووصل نتاج الحضارة الإسلامية، الذي يشير إلى العمل والسعي العلميّ وجهاد المسلمين ومثابرتهم في العلم، إلى الغرب بواسطة هؤلاء الجنود الصليبيّين، فتعرّف الغربيّون على موضوعات مختلفة في الاقتصاد والإنتاج والعمل والنشاط والسعي المثابر، ثمّ تعرّفت تلك البُلدان، من خلال النتاجات المتنوّعة، على أُسس المكاسب ومبادئ الأعمال والإبداع الذي كان المسلمون مصدرَه، فقاموا ببناء حضارة قيّمة حديثة على غرار ذلك. فالأقمشة الحريريّة والسجّاد الفارسيّ المشهور والعطور والمرايا والفوانيس الزجاجيّة والسكّر والفواكه الصيفيّة والأدوية، التي كانت شحيحة في أوروبا، أو تُعتبر من الكماليّات، راجت كلّها في الغرب بشكل سريع. وكان التجار الإيطاليّون الفاتحين الأصليّين للحرب المذكورة. هذا، وقد غيّرت الحروب الصليبيّة الاقتصاد في أوروبا، والذي كان مقتصراً على الزراعة فقط لمدّة طويلة. وعرف التجار الأوروبيّون طريق الحرير، وتحوّلوا إلى سيّاح ينقلون إلى الغرب الأخبار الأسطوريّة من الشرق. فعائلة (بولو)، وشخصيّة أحد أفرادها، المعروف بـ (ماركو)، كانوا من ضمن التجّار المذكورين. فكانت هديّة هذه العائلة من البلدان الإسلامية إلى أوروبا العمل والسعي والنشاط المثابر، حيث بيّنوا للغرب عالم الأعمال الجديدة الموجود في الحضارة الإسلاميّة، والذي كان السبب في مسارعة الغربيّين إلى السعي المثابر الجادّ([14]).
ويمكننا الإشارة إلى أصول التغيير الإنساني بالشكل التالي:
الطرق الثلاثة الرئيسيّة للتغيّر في الحياة الإنسانيّة ـــــــ
1ـ الحضارة والثقافة: حيث صنعتهما الأديان والأنبياء والعلماء وأصحاب الرأي والفنانون.
2ـ التأريخ والأحداث: اللذان صنعهما رجال السياسة والحكّام والملوك والفاتحون.
3ـ العجائب والتغييرات: وقد صنعها المدراء والمبدعون والمنظِّرون.
لذلك، وعلى مرّ التأريخ، كان العمل مساوياً للسعي والجهد واستخدام الطاقة من أجل هدف واحد ونتيجة محدّدة، قد تكون بشكل يدويّ، أو فكريّ، أو مركَّبٍ من كليهما معاً، إضافة إلى الاستعانة بالوسائل التكنولوجيّة([15]).
وكان البعض الآخر يعتبر أنّ مقياس ذلك هو الزمن([16]).
سقراط الحكيم ـــــــ
يقول سقراط الحكيم، الذي عاش في اليونان القديمة: إنّ العمل هو أساس السعادة والموفقيّة([17]). وكذلك يقول (وولتر): إنّ العمل يُجنّب الإنسان ثلاث مصائب، هي: الكآبة؛ والفسق؛ والحاجة. أمّا الفيلسوف (شيلر) فيقول: إنّ العمل والسعي يجعلان الحياة جميلة وحلوة، ويزيدان من قيمة الفرد ومكانته.
أمّا (غاليلو) فقد قال أيضاً في بعض كتاباته: إنّ العمل وإيجاد فُرَص الإنتاج هما علامتان مُميّزتان للحياة، التي تُمثّل بدورها الحركة.
ويقول (ولاكورد): إنّ العمل هو قانون الحياة، والقانون هو مفتاح الاكتشافات وجميع مظاهر التقدّم([18]).
ويقول الإمام علي×: إنّ أقلّ الأعمال التي فُرضت عليكم عند الله هي عدم الاستعانة بالنعم على معصيته([19]).
ضرورة دراسة موضوعة العمل والإبداع في الإسلام ـــــــ
تعتبر الأديان المختلفة، وخاصّة الإسلام، العمل أساسَ استحقاق الدخل؛ لأنّه، ومن منظار القيَم وتحليل المشروع وغير المشروع الخاصّة بالنشاطات الاقتصاديّة، فإنّ هذا العنصر الإنسانيّ يُمثّل العامل الأصليّ للإنتاج في الواقع، أمّا عوامل الإنتاج الأخرى فهي في خدمة هذا العامل. وإنّ الثروة كلّها خُلقت للإنسان، ومن أجله، لا أن يكون هو في خدمة سائر العوامل الماديّة للإنتاج، وذلك كي تكون مجموعة عوامل الإنتاج على مستوى واحد ووفقاً لميكانيكيّة العرض والطلب، ويتمّ تعيين مساهمة ومقدار كلّ عامل من تلك العوامل في الدخل، وبالتالي يكون عامل وأساس العمل من حيث استحقاق الدخل ـ كما هو معروض في النظام الرأسماليّ ـ في خدمة رأس المال والمعدّات الإنتاجيّة؛ لأنّ استحقاق الدخل هذا ينبع من المنظار الشامل للإسلام إزاء الإنسان وأصالته، وليس من إيجاد قيمة المبادلة السلعيّة من خلال مقدار العمل المبذول إزاء ذلك، كما تؤمن بذلك الاشتراكيّة في نظريّة قيمة العمل.
وإضافة إلى ذلك، وبقدر تعلّق الأمر بالإدراك العقليّ، فإنّ للإنسان سلطة على عوامل الإنتاج. أمّا وسائل الإنتاج فهي المعدّات والآلات التي يستخدمها الإنسان لإيجاد منفعة جديدة. وبالتالي فهي تمتلك أولويّة خاصّة على كلّ ما يُمثّل وسيلةً أو أداةً للعمل. وكذلك، وعلى أساس القدرة الفطريّة، لا بدّ للإنسان من أن يكون مالكاً لنتيجة عمله، إلاّ إذا كان يُنافس حقّ الآخرين الذين يحكمهم، أو له ولاية عليهم، فيفقد الإنسان عند ذلك حقّ أولويّته بالنسبة لنتيجة عمله، أو قيامه من خلال اتفاقيّة ما، وبإرادته، بمنح حاصل عمله إلى شخص آخر([20]).
أهميّة الإبداع في نظام القيَم ـــــــ
تمتاز مسألة العمل والإبداع بين عوامل الإنتاج المؤثّرة على التقدّم والتنمية بمكانة خاصّة وأهميّة كبيرة؛ لأنّ جميع العوامل والمصادر يتمّ تسخيرها من خلال أداء العمل والاستفادة من الطاقة الجسديّة والفكريّة للإنسان. ولأنّ العمل هو العامل البشريّ في عمليّة الإنتاج، وهذا الأخير بدوره مهمّ لسدّ حاجة البشر، تزداد أهميّة العمل وتتضاعف.
وقد أشارت الأديان السماويّة والإسلام، من خلال اهتمامها بالعمل، وذمّها للبطالة والكسل، في كلّ نصوصها إلى أنّ العمل هو الهوية والشعار([21]).
وجاء في رواية أنّ الله سبحانه يكره العبد النؤوم والعاطل عن العمل([22]). وأنّ مَنْ يضع حِمله وعبئه على الآخرين، ويحاول استغلال جهودهم هو ملعون([23]).
وجاء في أحاديث الأئمة الأطهار أنّ العمل وإيجاد فُرَص الاشتغال تُمثّل عبادة، بل ومعادلة العمل الذي يُراد به اكتساب الرزق الحلال أو إيجاد الأرضيّة المناسبة للعمل بالجهاد في سبيل الله([24]). وورد كذلك في رواية مَقْت تارك العمل الذي يطلب من الله أن يرزقه([25]).
أهداف العمل والإبداع في نظام القيَم ـــــــ
ووفقاً لما قيل، وبالنظر إلى ما ذكرناه، يمكن بيان الأهداف الطبيعيّة والسامية للإبداع وأداء العمل، وهي:
1ـ الكسب والعمل والإبداع من أجل ضمان دَخْل الأسرة.
2ـ الكسب والعمل والإبداع من أجل تطوير الحياة المعيشيّة وتوسيعها للعامل وأسرته.
3ـ الكسب والعمل والإبداع من أجل تطوير وتقدّم المجتمع.
4ـ الكسب والعمل والإبداع من أجل أداء أعمال الخير ومساعدة المحتاجين.
5ـ الكسب والعمل والإبداع من أجل زيادة الثروة والمال؛ للاستفادة منهما بشكل مشروع.
6ـ الكسب والعمل والإبداع من أجل إتاحة الفُرَص الثمينة للآخرين.
خلفيّة الإبداع في تأريخ الأديان ــــــــ
على الرغم من أنّ الغرب يعتبر الإبداع وليد عمليّة وضع النظريّات في القرون الأخيرة الماضية، ورغم أنّه تمّ طرح تلك النظريات والتعامل معها في إيران باعتبارها أسلوباً جديداً في البناء خلال السنين الأخيرة، وإيجاد الأعمال، والإبداع، والحداثة، والتطوّر الوطنيّ المستمرّ([26])، فإنّ موضوع العمل والإبداع ـ من منظار النظام القيميّ ـ هو الأوسع والأقدم، والأكثر تأكيداً في الأديان الإلهيّة والمصلحين الدينيّين، بحيث إذا قمنا بدراسة عامّة للكتب السماويّة الموجودة، كالتوراة والإنجيل والقرآن الكريم، فإنّنا سنتوصّل إلى أنّ أهميّة العمل والإبداع والنشاطات والسعي والتجديد والتغير وقاعدة المجهود وتغيير الظروف والإبداع، وغيرها كثير، لها جذورٌ ممتدّةٌ في الأديان والمبادئ القيميّة، حيث ذكر الكتاب القيّم «وسائل الشيعة» حديثاً للنبيّ| يشير فيه إلى امتداد جذور هذه المسألة إلى بدايات هبوط الإنسان على الأرض، حيث قال: «أوّلَ ما أَمَرَ الله بِهِ بَعْدَ هُبُوطِه أَنْ يَحرثُ بيده لِيَأكُل من كَدِّ يَمينه»([27]).
كان الإبداع مفهوماً مُصاحباً لخلق الإنسان. وبإلقاء نظرة على آداب الإبداع ومبادئه في القرون الأخيرة يمكننا التوصّل ـ وحسب ما يدّعيه أصحاب الرأي في هذا المصطلح ـ إلى أنّ علماء الاقتصاد هم أوّل مَنْ طرح هذا الموضوع. ثمّ بالنظر إلى أهميّة الإبداع ودوره في تكوّن التغييرات الاقتصاديّة في المجتمعات قام علماء الاجتماع أيضاً ببحث ودراسة الخصائص الفرديّة والاجتماعيّة للمُبدعين. وتُعتبر الأسرة المركز الذي يمكنه أن يلعب دوراً حيويّاً في تشكّل تلك الخصائص. وفي المجتمعات التقليدية التي يلعب الرجال فيها دور المُعيل، بينما تلعب النساء دور مدير المنزل والمُربّي للأطفال، فإنّ انتقال فكرة العمل والتكسّب غالباً ما كانت تقع على عاتق الرجل. إنّ البنية الجديدة للأسرة في مجتمعنا اليوم، والتي حَدَتْ بالمرأة إلى الخروج من المنزل، أدّت إلى بروز مظاهر جديدة من الإبداع لدى كلا الجنسَيْن. ونتيجةً لهذا التغيير في النظرة فقد أدّى أسلوب الإنتاج كذلك إلى إيجاد تغييرات في نمط الحياة وأدوار الوالديْن داخل الأسرة، بحيث استطاع كلٌّ منهما، ومن خلال تصرّفه الخاصّ به، لعب دور مهمّ وأساسيّ في تنميّة الثقة بالنفس، وإيجاد أفكار جديدة في الأسرة، وتحديد شكل عمل الأولاد. أمّا نظرة الدين والنظام القِيميّ إلى موضوع الاكتساب والعمل والإبداع فقد وهبت قيماً أخرى زادت من احترام المُبدعين وتكريمهم، حيث اهتمّ النظام القيميّ بهؤلاء الأشخاص بشكل استثنائيّ، باعتبارهم أعمدة المجتمع النامي البعيد عن شبح الفقر والمشاكل. وما أكثر ما صرّحت به الآيات والروايات القيّمة الواردة عن المعصومين في هذا الأمر المهمّ([28]). حتى عُدّ العمل والإبداع أحد المحاور الستّة التي تُمثّل معياراً لدين الفرد وإيمانه. ويقول الإمام علي×: «سِتَّةٌ يُخْتَبِرُ بِهَا دِين الرَّجل… إلى أن قال: والإجمال في الطَلَبِ»([29]).
إنّ العمل والإبداع قديمان كقِدَم خَلْق الكائنات، ولهما جذورهما العريقة في الأدب القِيميّ والسماويّ وآثارهما الباقيات، بحيث وبّخت التوراة (العهد القديم) البطالة وترك العمل، وشبّهته بالذلّ والعار: «الكَسْلاَنُ يُخْفِي يَدَهُ فِي الصَّحْفَةِ، وَأَيْضاً إِلَى فَمِهِ لاَ يَرُدُّهَا»([30]).
وفي موضع آخر تُشير التوراة إلى أنّ النوم المُفرط يؤدّي إلى الفقر: «لاَ تُحِبَّ النَّوْمَ لِئَلاَّ تَفْتَقِرَ»([31]).
وفي العهد القديم، وخاصّة أمثال الملك سليمان، تمّ مدح العمل والنشاط وذمّ الكسل، واعتبار العمل جوهرة إنسانيّة، مؤكّدة ذلك بقولها: «فِي كُلِّ تَعَبٍ مَنْفَعَةٌ، وَكَلاَمُ الشَّفَتَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَى الفَقْرِ»([32]).
وقال النبيّ|، مُقسّماً اليَد إلى ثلاثة أنواع، حيث مدح المُبدعة منها التي تنفع الآخرين: «الأيدي ثَلاثَة: اليدُ السائلة؛ واليَدُ المنفقة؛ واليدُ المُمْسِكة، وخير الأيدي المنْفِقة»([33]).
تشبيه التوراة ـــــــ
وفي إطار هذا الموضوع أشار العهد القديم إلى أنّ يد الإنسان النشيط والفعّال هي السائدة والمهيمنة، أمّا يد الكسول فتبقى فقيرة: «العَامِلُ بِيَدٍ رَخْوَةٍ يَفْتَقِرُ، أَمَّا يَدُ المُجْتَهِدِينَ فَتُغْنِي»([34])؛ وأنّ الشخص الكسول يسكن أرض الأمنيات الميّتة([35]).
وفي موضع آخر، وكما أشرنا سابقاً، قال الرسول الأعظم: «الكاسب من يده خليل الله»([36]).
ونُطالع في مكان آخر من العهد القديم ما يلي: «غِنَى البُطْلِ يَقِلُّ، وَالجَامِعُ بِيَدِهِ يَزْدَادُ»([37]).
الإبداع في أدب الإدارة والنظام القيميّ ـــــــ
ترجع كلمة (الإبداع = Entrepreneurship) في الأدب العالمي والفارسيّ إلى أصل فرنسيّ. وهي تشير إلى إيجاد الثروة (Wealth) والتطوّر([38]). أمّا أصل كلمة (Entreprender)، ووفقاً للإتيمولوجيا، فتعني (المُقاول) أو (المُلتزم) وهي كلمة يرجع تأريخها إلى القرن السادس عشر الميلادي، حيث كانت تُطلَق على الأشخاص الذين كانوا يقودون العمليّات العسكريّة. ومنذ حوالي سنة (1700م) وإلى اليوم قام الفرنسيّون بإطلاق هذه الكلمة على المقاولين الذين يعملون لدى الحكومة، والذين كانوا مسؤولين عن بناء وإيجاد الطرق والجسور والموانئ وغير ذلك([39]). ويعتقد بعض أصحاب الرأي أيضاً بأنّ الناس منذ بداية الخليقة؛ وبسبب احتياجاتهم الجسميّة العديدة، واحتياجهم إلى الطعام واللباس والسكن والماء والهواء عموماً، ثمّ إلى عمليّات النقل والاتصال، إضافة إلى الاحتياجات الكثيرة الأخرى التي تزايدت فيما بعد، قاموا بإطلاق كلمة العمل والإبداع على كلّ ذلك النشاط الحرفيّ والعمليّ الواسع.
ولهذا السبب فالناس؛ ومن أجل تهيئة المنتجات وتقديم الخدمات التي يحتاجون إليها، يعتمدون على بعضهم البعض. وكلما كان المجتمع نامياً أكثر تعاظم دور الأفراد فيه، وأصبح أكثر تخصّصاً ووضوحاً. ولذلك فإنّ إيجاد الفُرَص في الوقت المناسب والمكان المناسب ومع الأشخاص المناسبين أو بواسطتهم، إضافة إلى القيمة المناسبة، كلّ ذلك يُسمّى بالإبداع([40]). أمّا أحد أنواع الصراعات القائمة في عالم اليوم، ونقصد بالصراع كما يتمّ تعريفه في الوقت الحاضر، هو صراع الاحتياجات والفُرَص. والأهمّ من ذلك هو تعلّم المبدعين الناشطين الذي يجب أن يكون منسجماً مع الحياة العمليّة([41]). إنّ مسألة التعلّم المستمرّة هذه، والتي يُرمَز بالحروف (L.L.L = Life Long Learning)، أي «التعلّم مدى العُمر»، هي مسألة تمّ طرحها في السنين الأخيرة من عُمرْ (بيتر دراكر = Piter Druker)، الذي توفي عام(2005م). وكان (بيتر) يهتمّ كثيراً بهذه المسألة، فهو يقول: ليس الأميّون في القرن الحادي والعشرين هم الذين لا يستطيعون القراءة أو الكتابة، بل هم الذين يعجزون عن التعلّم أو التذكّر([42]). ويقول الإمام علي× في هذا الخصوص: «لا تُقْدِمَنَّ عَلَى أمْرٍ حَتَّى تخْبره»([43]). ويقول× كذلك في موضع آخر: «إنّ آدم× أوصى ولده عند موته، فقال: كلّ عمل تريدون أن تعملوه فتوقَّفوا فيه ساعة، فإني لو توقفت لما أصابني ما أصابني»([44]).
وقال× وفي مكان آخر قال: «العَمَل بِغَيرِ عِلمٍ ضَلالٌ»([45]). وكذلك قال×: «على العالم أنْ يَعْمَل بِما عَلِمَ، ثُمَّ يَطْلُبِ تَعَلُّم ما لَم يَعْلَمْ»([46]).
وفي مواضع أخرى أيضاً أكّدت الروايات كثيراً على هذا الأمر المهمّ، وتمّ اعتبار العلم واكتساب المهارة والاستمرار على العمل أحد أجمل المظاهر.
وورد في رواية عن الإمام علي× أنّه قال صراحة:«على طالب العلم أن يُهيّئ نفسه للتعلّم، ولا يتعب من طلب العلم والمهارة، ولا يستكثر ما تعلّمه»([47]).
وقد أشار التأريخ باستمرار إلى هذه المسألة المهمّة. وقد تمّ التأكيد في الوقت الحاضر على أنّ عجلة التنمية والتطوّر والنمو الاقتصادي لم تَعُدْ تهتمّ باستمرار بموضوع المهارات الخاصّة لدى القوى العاملة، إلاّ في بعض النواحي التي ترتبط بشكل مباشر بموضوع الرقابة، مثل: قلّة القوى العاملة وتطويرها وتوسيعها. في حين أنّ نظام وعمليّة التعليم الكبيرة تهيّئ فرصة مهمّة للتأثير في الأعمال([48]).
ومن الناحية الأخرى فإنّ أصحاب الرأي الذين يعترفون بالإبداع يقولون: إنّه يمكن إيجاد جذور هذه الكلمة في كلٍّ من الأدب الاجتماعي والمنظار القيميّ، وبيان وثائقها. لكن في عالم النظريّات الجديد والقديم فإنّ أوّل مَنْ اهتمّ بها هم علماء الاقتصاد، وكذلك المدارس الاقتصاديّة. وعلى سبيل المثال: في بعض المدارس الاقتصاديّة الفلسفيّة، التي ينتمي إليها أمثال: (منسيوس Menssios)، وهو أحد تلامذة (كونفشيوس)، كان الاعتقاد بأنّ على الحاكم، من خلال جهوده، العمل على إيجاد الرفاهية في المجتمع، وأنّ الحاكم الذي لا يستطيع توفير فُرَص وظروف العمل والرفاهية للناس لا بدّ له من الاعتزال والتنحّي([49]). وكذلك يقول (سيسرو Tylius Cicero)، المحامي والسياسي المشهور، الذي عاش في زمن (قيصر)، في هذا الخصوص: إنّ أيّة منظمة اجتماعية تخلو من العمل والنشاط والقوّة القضائيّة الدقيقة والرقابة الصحيحة للمدراء لا يُمكنها أن تتحقّق أو تستمرّ في الحياة. لذلك ليس علينا أن نُحدّد معالم الصلاحيات الإداريّة للمدراء وحَسْب، وأنّ على هؤلاء كذلك الاهتمام بجدٍّ بمسألة العمل، بل لا بدّ لنا من تعليم جميع الأفراد؛ لكي يتعرّفوا على مسؤوليّاتهم في العمل، وطاعة المدراء؛ حتى يمكن تعمير وتطوير البلاد([50]).
ومن ناحية أخرى، ومن وجهة نظر المدراء الاقتصاديّين منذ القرن السادس عشر للميلاد وحتى الآن، نشهد التأكيد على مسألة الإبداع بشكل أو بآخر في النظريات الاقتصاديّة. ومن بين تلك الآراء ما قاله (برنارد دو بليدور Bernard F.De Belidor)، عالم الاقتصاد الفرنسيّ المعروف، في بداية القرن الثامن عشر الميلاديّ، حيث قدّم تعريفاً أوسع يتضمّن شُراة القوّة العاملة والموادّ الخامّ بأسعار غير محدّدة، ثمّ بيع المنتجات الحاصلة عنها بالأسعار المذكورة في الاتفاقيّات([51]). وبعد ذلك أيضاً قام علماء اقتصاد آخرين بدراسة هذه المسألة. ويمكن الإشارة في هذا الخصوص إلى مكانة الروح التجارية، والكلاسيكيّات المعروفة، والكلاسيكيّات الحديثة. ويعتقد (كانتيلون) ـ حوالي سنة ١٩٩١م ـ أنّ هناك اختلافاً واضحاً بين أصحاب الأراضي والمأجورين والمُبدعين. وقد قدّم ـ ولأوّل مرّة ـ تعريفاً خاصّاً عن المُبدعين الذين يعملون في بيئة قلقة، إضافة إلى تعرّضهم للخطر بشكل مستمرّ، ثمّ قيامهم بتهيئة رؤوس الأموال الأوّليّة بأنفسهم([52]). أمّا أصحاب الرأي الآخرين في الاقتصاد، والمصادر المهمّة الأخرى الخاصّة بهذا الموضوع، من أمثال: بالمر M.Palmer، ١٩٧٨؛ جان باتيست ساي Jean Baptiste Say،١٨٠٣؛ ستيوارت ميل J. Stewart Mill، ١٨٤٨؛ فرانسيس ووكر Francis A. Walker، ١٨٧٠؛ فردريك هاولي Frederick B. Hawely، ١٨٨٢، حيث اعتقد هذا الأخير بأنّ الصفة البارزة التي يتميّز بها المُبدعون هي المخاطرة([53]). وبعد ذلك جون كامونز John R. Commonz، ١٨٩٠؛ ألفرد مارشال Alfered Marshall، ١٨٩١؛ فرانك نايت Frank H. Knight، ١٩٢١، الذي ألّف كتاباً بعنوان (المخاطرة)، وذكر فيه أنّ عدم وضوح معالم المُبدع وعنصر الشكّ وأجرته (Risk, Uncertainty and profits) هي عوامل أصلية في أيّ نظام معروف([54]). ثمّ جاء (جوزيف شومبيتر Joseph Schumpeter (١٩٣٤)، الذي كان يُدرّس في جامعة (هارفارد) في الولايات المتحدة الأمريكيّة في عقد الثلاثينيّات، جاء ليشير إلى الدور المحوريّ والأساسيّ للمُبدعين، وكان يعتقد بأنّ المنافع والأرباح لا تنجم عن التغييرات الحاصلة في بيئة التوقّف (Stop Environment)، أمّا التغيير فيكوِّنه المُبدعون في العمل أو عمل المُبدعين([55]). ويذكّرنا قوله هذا بما ذكره مارك بلاك Mark Blauk (1980) في كتابه (علماء الاقتصاد الكبار)، فقال: إنّ عصر المحاربين والفاتحين قد ولّى، وجاء زمن علماء الاقتصاد والتجّار والمُبدعين. ونقلاً عن كاسون (1982) يعتقد (شومبيتر) أنّ المُبدع يُعتَبَر طاقة حركيّة في التطوّر الاقتصادي، ويتمثّل دوره في الإبداع وإيجاد الأشكال الجديدة من المواد([56]). ثمّ طرحَ مؤشِّريْن اثنين أصليّين، هما المُبدعين، أي التجديد (Innovating)، والهدم البنّاء (Creative Destruction). بعد ذلك قام (هايك F.A.Hayek) في عام(١٩٣٧)، ثمّ (آرثر كول A. Col) سنة(١٩٤٦)، ثمّ (كلارنس دانهوف Clarence H. Danhof) سنة(١٩٤٩)، و(كرزنر I.Kirzner) سنة(١٩٧٩)، و(ثيودور شولتز Theodore Schultz) عام(١٩٨٠)، حيث اعتبر جميعهم أنّ معنى الإبداع هو عدم التعادل. وعند بلوغنا نهاية القرن العشرين تحدّث كلّ من (هبرت) و(لينك) (R.Hebert & A.Link) عن الخصائص الاثني عشر التي يمتاز بها المُبدع. وفي ما يلي لائحة بتلك الخصائص الاثنتي عشرة:
مكانة العمل والإبداع في النظام القيميّ ـــــــ
هناك اهتمام بالغ بموضوع العمل والجهد في الأنظمة القيميّة (الدينيّة)، وخاصّة الأديان (بما فيها الأديان السماويّة والوضعيّة)، حتى أنّ ديانة (لاوتسه) تقول بأنّ العمل والاشتغال وإيجاد فُرَص العمل كلّها تمثّل شرف الإنسان وكرامته، وأنّ الأفراد لا يُعرَفون إلاّ من خلال عملهم([57]).
أمّا الثقافة الإسلاميّة الغنيّة فتعتبر أنّ التصرّف المستقيم ينقسم إلى قسميْن: قسم ماديّ؛ وآخر معنويّ. فأمّا القسم الماديّ فيمثّل العمل، وأمّا القسم المعنويّ فيمثّل الصلاة والعبادات. ومن هنا يمكن التعرّف على أهميّة العمل في المجتمع الإسلامي؛ لأنّه يمكن بواسطة العمل تعمير الحياة الدنيا، ومن خلال الصلاة يمكن ضمان الحياة الآخرة. ويُعتبر العمل معادلاً لجميع الأمور المعنويّة، حيث تمّ التأكيد عليه باعتباره يساعد الإنسان في الوصول إلى الحياة الطيبة.
إنّ العزّة والفخر، بل وحتى سلامة الإنسان، تأتي من خلال عمله، أمّا المبادرة في العمل فهو إحساس ممزوج بالشجاعة. كما نلاحظ ذلك في مصادر الألفيّة الثالثة، حيث يعتبر (روبينز) أنّ الشجاعة هي إحدى الخصائص السبع في الثقافة التنظيميّة. ويمكن القول بأنّ بعض الأفراد يترعرعون على الشجاعة والإبداع، بدلاً من الكسل([58]). وكلما كانت تلك الميزة متبلورة في إطار الجماعة ازدادت أهميّتها، وأصبحت قيمة أكبر في النظام القيميّ. وقد قال النبيّ|: «يَدُ الله مع الجماعة»([59]). وفي النظريات الحديثة تمّ التأكيد كذلك على أنّ الأشخاص الذين يتّبعون الثقافة الفرديّة في الإبداع الثقافيّ يتّجهون نحو الأعمال الفرديّة أو الإبداع الفرديّ، لكنّ الثقافة الجماعيّة تركّز على الأهداف الجماعيّة، وتشيع النشاطات الفِرَقيّة والجماعيّة، وكذلك الإبداع الجماعيّ([60]).
إنّ العمل والإبداع هو جزء كبير، وربما كان أساس الحياة الإنسانيّة؛ لإمكانيّة معرفة جوهرة الأفراد من خلال عملهم. وعندما تتّضح تلك الجواهر والطاقات يمكن الاعتماد على وجود مجتمع فعّال ونشيط. وهذه الجواهر الفرديّة هي الكفيلة بإيجاد الحياة المعقولة والمثاليّة للإنسان والإنسانيّة.
إنّ مفتاح أية طاقة في داخل الإنسان هو العمل والإبداع وإيجاد الفُرَص التي تكوّن أحياناً كلّ شيء من لا شيء. وعندما يتمّ فتح ذلك الكنز بالعمل فإنّ كلّ لحظة يكون فيها العمل مستمراً تزدهر فيها تلك الطاقات بشكل أكبر، وهذا يعني أنّ جميع وجود الإنسان يجب أن يكون مُتمركزاً على العمل، حتى في الوقت الذي لا يستطيع فيه العمل بسبب العجز الجسديّ. وبعبارة أخرى: إنّ على الإنسان دائماً أن يُفكّر بالقيام بالعمل على أفضل وجه؛ لكي يتمكّن من الاستفادة من الإنتاجيّة، ويعمل على تقدّم وتطوّر العمل والخوض فيه إلى أعلى مستوياته.
ومن خلال بحث خاصّ بالعمّال في اليابان، والذي قام به باحثون أمريكيّون، صرّح أحد العمّال اليابانيّين قائلاً: إنّ سبب الإنتاجيّة في بعض الصناعات في اليابان هو أنّه عندما ننتهي من عملنا في النهار، ونخرج من المصنع، فإنّ عملنا في الحقيقة يكون قد بدأ في تلك اللحظة، بمعنى أنّنا نذهب إلى المكتبات، ونشتري الكتاب الذي يتعلّق بعملنا؛ لنطالعه في وقت الفراغ؛ لكي نتعلّم الأساليب الجديدة لإنجاز أعمالنا على الوجه الأكمل. وعندما نذهب إلى عملنا في الصباح فإنّنا نطبّق الأساليب الجديدة التي تعلّمناها. وقد بيّن الأمريكيون أنّ أحد أسباب ارتفاع الإنتاجيّة في اليابان هو حبّ اليابانيّين للعمل، والسعي إلى أدائه بشكل أفضل([61]).
وقد قال النبيّ|: «إنّكم إذا قُمْتُم بأيّ عمل فأدّوه على الوجه الأحسن وأتقنوه؛ لأنّ الأعمال تُعرَف بخواتيمها وإتقانها»([62]).
وعلى سبيل المثال: توفيّ أحد أصحاب النبيّ|، وهو سعد بن عبادة، فقام النبيّ| ـ كما كان معهوداً منه ـ، بأعمال الكفن والدفن، وعندما أراد دفن (سعد) قام هو بنفسه بإنزال (سعد) إلى لحده، وأتقن كلّ الأعمال الخاصّة بذلك، فسُئِلَ عن سبب دقّته في أعمال قبر شخص لا يرجع إلى الحياة، وهل هناك سبب يدعوه إلى اتّباع كلّ تلك الدقّة؟ فأجاب النبيّ| قائلاً: «أنا أعلم بأنّ هذا القبر سيزول ويندثر مع مرور الوقت، وقد يصل الخراب والفساد إلى (سعد) المدفون ها هنا، لكنّ الله يحب إذا قام العبد بعمل أن يُتقنه»([63]).
ولذلك قرائن وشواهد في زمننا هذا، في الألفيّة الثالثة، بعد ملاحظة العمل. ففي مسألة البعد الثقافيّ مثلاً، والتي طرحها الباحثون بعد (هوفستد Hofested)، بعد موضوع الأداء (Performance)، بمستوىً عالٍ، تُعتبر مجموعة قرائن قيّمة وجزءاً من العمل الذي يشجّعه المجتمع ويكافئه، ويتمّ تثمينه على المستوى التنظيميّ للأداء والإتقان في الأعمال، وعامل من عوامل تكرار هذا السلوك([64]). وكثيراً ما يعتبرون العمل وفقاً لفضيلته وإنجازه ودقّته وسرعته وحداثته([65]). مثل: (دراكر Piter
Druker)، الذي وصف الإبداع معتبراً إيّاه خالق الشيء الجديد والدقيق([66]).
هذا من ناحية، أمّا من الناحية الأخرى، ووفقاً لواحدة من أهمّ النظريّات في علم الاقتصاد، فإنّ «الجزء الأكبر من قيمة أيّ شيء يتعلّق بالعمل المُتبلور فيه». وهذه النظرية، أي نظريّة (قيمة العمل)، تشير إلى أنّ جودة العمل ومقداره في مجال الاقتصاد يستحقّان التقدير([67]).
ويبيّن الإمام الباقر× بوضوح أنّ الهروب من العمل والكسل هما صفتان مذمومتان، وأن الله عز وجل يكره العبد الذي ينظر إلى السماء فاتحاً فاه قائلاً: «اللّهم اعطني رزقي»، تاركاً العمل والسعي والاجتهاد([68]). ويحتاج هذا بالطبع في موضوع الإبداع، وخاصّة في العصر الحديث، إلى التعليم والإرشادات الذاتية، التي لها علاقة مع برامج التنمية والتطور المستمرّ للاكتساب والأعمال التجارية الصغيرة([69]). ومن الناحية الأخرى، ففي المجتمع الحديث المليء بالتعقيدات، يجب السعي لإيجاد فُرَص العمل المتساوية للجميع (Equality of opportunities)؛ لكي نحصل على النتائج المطلوبة([70]).
أمّا النقطة الأخرى فهي «بما أنّ العمل هو الجانب الماديّ للسلوك الدينيّ في ثقافتنا الغنيّة فكيف يمكنه أن يكون كالجوانب المعنويّة الأخرى في المجتمع، فيؤدي إلى التقدّم أو الهبوط إلى الأسفل؟». وللجواب عن هذا السؤال لا بدّ من القول: إنّ الثقافة الدينيّة، رغم ما توليه من الأهمّيّة الكبيرة للعمل، فإنّها تؤكّد على هذه الأهمّيّة والقيمة للعمل([71]).
أمّا السؤال الأهمّ فهو: ما هي نظرة النظام القيميّ والحياتي والدينيّ والسماويّ إلى الاكتساب والعمل والإبداع؟ ومع تعاليم الوحي والقرآن والروايات، وبصورة عامّة كلّ التعاليم الدينيّة، هل يُمكن لعصر الألفيّة الثالثة، الذي يَصفه (لالكاتا) بأنّه عصر ظهور الإبداع والتغيّر فيه، والسير حتى دخول مجال تتأثّر فيه الأعمال المتنوّعة والصغيرة، وحتى الاقتصاد العالميّ([72])، هل يُمكنه أن يوجِد الحداثة والعصريّة؟ وهذا سؤال مهمّ بالطبع. وربما في البداية، وقبل الدخول في البحث الدينيّ والروايات والآيات والأمثلة الأخرى، لم يكن هناك أيّ إحساس بهذا الموضوع الرئيس، ولكن تمّ البحث فيه بشكلٍ مُفصَّل، بل حتى ما نعتبره موجزاً ومختصراً في المبادئ القيميّة للدين الإسلاميّ يحتاج إلى عدّة مجلّدات من العمل العلميّ وإيجاد النماذج، وإلاّ فإنّ هذا الموضوع قد تمّ تفصيله وبحثه من قِبَل بعض الأديان الوضعيّة، كالبوذيّة، والبراهمية، وأتباع (لاوتسه)، وغيرهم. وفي الوقت الحاضر كذلك وفي مجال العمل والإبداع، فإنّ الصينيّين ما زالوا تحت تأثير النظام القيميّ الكونفيوشيّ القديم، الذي يتضمّن أساليب تعتمد على الجهد الكبير والبصيرة والبساطة والقناعة، بعيداً عن مواجهة التناقض أو اتّباع الأساليب المباشرة([73]). وهذه التعاليم القديمة كانت مبنيّة على النظام القيميّ، حيث يتمّ فيه اتّباع المشاركة العامّة والشاملة في الصين الكبيرة، مُبتعدين عن الثقافة الفرديّة([74]). وهذه الحالة تمثّل أحد الأساليب المؤثّرة في الإبداع، والتي تسمّى اليوم بالثقافة الشرقيّة([75]).
الإسلام والإنسان والعمل ــــــــ
يُنبّه الإسلام دائماً الإنسان إلى هذه النقطة، وهي أنّ كلّ ما هو موجود يمثّل العمل، أي العمل والنشاط والإبداع. لذلك فإنّ العمل هو الذي يُقرّر مصير الإنسان. ولا شكّ في أنّ هذا التفكير هو نوع من التفكير الواقعي والمنطقي المنسجم مع القوانين الطبيعيّة.
وفي ما يتعلّق بالعمل يؤكّد القرآن الكريم كثيراً على هذه الناحية. وبعبارة أوضح وأكمل في هذا الخصوص: هو يقول: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى﴾ (النجم: 39). وهذا يعني أنّ سعادة الإنسان مرهونة بعمله. وهذه التوصية الدينيّة هي من أعظم التوصيات لحياة الأمّة. ولو علمت أمّةٌ ما بأنّ عليها هي تقرير مصيرها عندئذ ستعمل على تنظيم أمورها بنفسها. وعند ذلك ستتنبّه للعمل ولطاقاتها، وأنّه ليس هناك من ظروف يمكن أن تتغيّر لصالحها إلاّ بالسعي والمثابرة المستمرّة على المستوى الوطني، وهو عامل أساسيّ للحياة والتجدّد والمثابرة([76]).
الإبداع الجريء من منظار القيَم ـــــــ
يُعتبر التوكّل في القرآن الكريم مفهوماً حيّاً ومتجدّداً وملحميّاً([77]). ويحثّ القرآن الكريم الفرد على العمل وينزع الخوف والقلق منه طالما أنّه يتذكّر أن لا يخشى الفشل والتوكل على الله سبحانه.
وجاء في كلام لطيف: إنّ أيّ عمل يتضمّن بعض المشاكل، وإنّ المشاكل تكشف جواهر الرجال، فضعوا المشاكل على الله. لكن لا تقولوا لله: إنّ لديّ مشاكل كبيرة، بل قولوا: إنّ الله كبير، وتحرّكوا نحو العمل والسعي والنشاط.
يقول الإمام علي×: «إِذَا هبْتَ أَمْراً فَقَعْ فِيه»([78]).
الإسلام والإبداع ـــــــ
كما هو مذكور ومعلوم من القرآن الكريم والأحاديث فإنّ الدين الإسلامي يدعو الناس إلى أداء الأعمال، ويطالبهم بإيصال المنفعة إلى الآخرين من خلال عملهم، ويشجِّع الناس بشكل مباشر أو غير مباشر على الإبداع وإيجاد العمل؛ للحيلولة دون تعرّض المجتمع الإسلامي للفقر أو الجوع. وبالتالي يمكن للأفكار الدينيّة لأيّ فرد أن تؤثّر في إبداعه. ولأنّ الدين الإسلامي هو أكثر الأديان التي تهتمّ بأفراد المجتمع فرداً فرداً فإنّه يمكنه تشجيع الفرد المُبدع على العمل والإبداع. وبإمكان الفرد المُبدع كذلك، ومن خلال الرؤية الدينيّة، التوفيق في عمله إلى أبعد الحدود، وعدم اقتصار تفكيره على مصالحه الفرديّة؛ لكي يتمكّن من توسيع نطاق عمله. وبنظرة شاملة إلى خصائص الفرد المُبدع، والمميزات التي يتوقّعها الإسلام من الإنسان التقيّ، يمكننا أن نعلم بأنّ الإنسان المؤمن بكلّ معنى الكلمة يمكنه أن يكون مُبدعاً، وجديراً بالمسؤوليّة، والوصول إلى مراتب اجتماعيّة عُليا ومنازل شامخة، وتحمّل المشاقّ، وأن يضّج بالأمل والنشاط، وكلّها من خصائص الفرد المُبدع. وقد تمّت توصية الفرد في الإسلام بالتوفيق والنجاح في الدنيا والآخرة([79]).
هويّة الإنسان المُبدع في النظام القيميّ ـــــــ
تُعتبر نظرة الإسلام إلى الإنسان مهمّة للغاية؛ لبحث نظرة الإسلام بشأن الإنسان المُبدع والتعرّف على نوع هذا الموجود، والفرق بين ذلك وبين ما تراه معظم الأديان.
فالفيزيوقراطيّون والكلاسيكيّون يعتبرون الإنسان مخلوقاً يعيش تحت رحمة القوانين الطبيعيّة، وأنّ القوانين الخاصّة بسلوكه ثابتةٌ لا تتغيّر، وهي قوانين سرمديّة وعالميّة، وأنّ هذه القوانين أقدم من وجود المجتمع البشريّ، وأرقى من إرادة الإنسان، أمّا قوّة تلك القوانين فتنبع من المشيئة الإلهيّة، وأنّ أفضل القوانين هي هذه القوانين الطبيعيّة المتسلّطة على سلوك الإنسان([80]).
وكذلك فإنّ نظرة أولئك (الفيزيوقراطيّون والكلاسيكيّون) هي الدافع في تحريك الإنسان لأداء العمل والنشاط الاقتصادي بشكل إبداعيّ ونحو المصلحة الشخصيّة له، ولا شيء غير ذلك. وجميع الأفراد في هذا الدافع والسلوك الناجم عنه متشابهون، وهم يعملون مثل بعضهم البعض. إلاّ أنّه لا بدّ من معرفة القوانين الخاصّة بسلوكهم، ولا يجوز لأيّة قوّة التدخّل في هذا الأمر، أو جرّ هذا السلوك إلى طريق غير طبيعيّة. وهذا السلوك لا علاقة له بالأخلاق والقِيَم المعنويّة([81]).
وباعتقاد الفيزيوقراطيّين ومعظم الكلاسيكيّين فإنّ هذا الإنسان المذكور ليس فرضية مجرّدة حتى يمكن عرض النظريّات الاقتصاديّة؛ بل هو حقيقة لها وجود خارجيّ. وعلى الرغم من أنّ الفيزيوقراطيّين يعتبرون أنّ الدافع للإنسان يتمثّل في المصلحة الشخصيّة فقط، ويعتبر الكلاسيكيّون أنّ الدافع الأصليّ له هو المصلحة الشخصيّة، فإن هذا الاختلاف في وجهات النظر لا يفصل بين نظرة كلّ منهما بشكل أساسيّ.
ويقدّم الإسلام الهيمنة المطلقة للقوانين الطبيعيّة على الإرادة الإنسانيّة، ولا يؤيّد وجود القوانين العالميّة الخاصّة بالسلوك غير المتغيّرة، كما يتصوّر ذلك الفيزيوقراطيّون والكلاسيكيّون. ولهذا السبب فإنّ الله، ومن خلال إرسال الرسل والكتب السماويّة، يريد تصحيح الدوافع والسلوك الإنسانيّين وتوجيهها. والذين يتصرّفون وفقاً للأوامر الإلهيّة يعطيهم الأمل في الثواب والمكافأة، أمّا الذين يعصون تلك الأوامر والوصايا فقد وعدهم بالعقوبة. وتشير تلك الإجراءات إلى تفنيد الهيمنة المطلقة للقوانين الطبيعية على سلوك الإنسان، ولا تقبل بعدم تغيّر الدوافع والسلوك البشريّ، وإلاّ فإنّ جميع تلك الأفعال وكلّ الجهود التي بذلها الأنبياء والأولياء لن يكون لها أيّ داعٍ أو معنىً، في حين أنّ التأريخ يُرينا أنّ الأنبياء والرسل قد وُفِّقوا إلى حدٍّ كبير في مساعيهم التي بذلوها.
القرآن والمُبدعون ـــــــ
اعتبر القرآن الكريم ـ وبصراحة ـ مصير الأفراد والمجتمعات البشريّة مرهوناً بإرادتهم وتقريرهم وأفعالهم (الرعد: 11). لذلك فإنّه ـ من وجهة نظر الإسلام ـ لا يمكن قبول هيمنة القوانين الخارقة للإرادة البشريّة على سلوك الإنسان. فالإنسان يمتلك خصوصيّة أخلاقيّة، وإبداعاً لا حدود له.
ويمكن أن يقرّر الإنسان وهو واقع تحت تأثير البيئة السائدة على المجتمع، وعند ذلك يكون تطبيق الإرادة الحرّة للأفراد غير ذي معنى([82]). وللجواب عن ذلك لا بدّ لنا من القول: صحيحٌ أنّ العديد من الأفراد يتصرّفون ويعملون وفقاً للإرادة العامّة للمجتمع وما يقبله، لكنّ ذلك لا يعني أنّ الجميع هم على هذه الشاكلة، وإلاّ فإنّه لا يمكن وقوع أية حركة أو نهضة أو انتفاضة ثوريّة ضدّ التيار الفكريّ والسياسيّ والاجتماعيّ السائد في أيّ مجتمع ـ سواء أنجحت تلك الحركة أم تنجح ـ، ولا يعني ذلك كذلك أنّ أغلبيّة الأفراد لا يطبّقون إرادتهم، بل قد يقع الاختيار والإرادة والقرار حتى في تلك البيئة السائدة؛ إذ هنا يقبل الفرد بالتيار أو الوضع السائد، ويتكيّف مع ذلك، لا أن يكون في ذلك نوع من الاضطرار أو القسر الاجتماعيّ المهيمن عليه. ومن وجهة نظر الإسلام فإنّ مثل هذا الإنسان مسؤولٌ، ولا يحقّ له قبول التيار الفكريّ السائد دون قيد أو شرط. ولهذا فإنّ الإسلام يعتبر كلّ فرد مسؤول عن عمله، ويطالبه بأن لا يتّبع الآخرين أو يقلّدهم تقليداً أعمى.
أمّا القرآن الكريم فيذمّ اتّباع سيرة القدماء أو السلف أو الملأ في المجتمع من غير علم أو تفكير أو بحث في الحقائق: ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ﴾ (الأحزاب: 67).
الاكتساب والعمل في ضوء التزكية ـــــــ
يُعتبر تأكيد القرآن الكريم على ضرورة اهتمام البشر بـ «تزكية الأنفس» إحدى الملاحظات الناصعة للقرآن الكريم في المسائل الاقتصاديّة والتكسّب والعمل. وهذا الأمر مهمّ للغاية، بحيث يُمثّل واحداً من الأهداف السامية لإرسال الرسل والانبياء^: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ﴾ (الجمعة: 2).
وقد تمّ الحثّ بجديّة على هذا الهدف المهمّ، وهو التطهير والتزكية، في المفاهيم الاقتصادية والأعمال، كما هو مذكور في القرآن الكريم. ويُعبِّر القرآن الكريم عن المجتمع المطلوب بعبارة (الحياة الطيّبة)، أي الحياة الطاهرة، التي يكون فيها الأفراد طاهرين وصالحين. وهؤلاء الأفراد وإنْ كانوا يتمتّعون باللذّات المحلّلة والرفاهية النسبيّة والعمل الشريف، لكنّهم كذلك يعيشون في مجتمع مليء باللذات المعنويّة والروحيّة. وإليك هذا الشكل البياني الذي يوضّح ما قيل:
الثروة في القرآن الكريم ـــــــ
يُنظَر إلى العمل والجوانب المختلفة للثروة في الكثير من الآيات ـ بشكل واضح وصريح، أو من خلال الأمثال أو القصص ـ بأشكال مختلفة. وهناك عدّة مسائل تُعتبر أساس النظرة إلى الثروة، ومنها:
أـ حبّ المال والثروة بشكل فطريّ (قاعدة اللطف والبسط). فحبّ المال متجذّر في أعماق الإنسان، بل يُمثّل ذلك الحبّ فِطرة من جملة الفِطَر: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ والْبَنِينَ والْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ والْفِضَّةِ والْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ والأَنْعَامِ والْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا واللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ (آلعمران: 14).
ب ـ توفير مستلزمات الحصول على الثروة (قاعدة التسخير والتبشير). فقد مُنِح الإنسان جميع المصادر والطاقات والنعم والآلاء، وقد هُيِّئت له ضروريّات النشاط الاقتصادي والعمل وجمع الأموال في كلّ أنحاء الكرة الأرضيّة، وطولِبَ في مقابل ذلك بالسعي والاجتهاد والطلب من فضل الله: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ (الملك: 15). فالجبال والصحارى والأنهار والبحار والليل والنهار والحيوانات، كلّ ذلك مُسخَّرٌ للإنسان، وإليه أُوكِلَت عملية إعمار الأرض.
ج ـ عدم الاعتراض أو ذمّ جمع الثروة عن طريق العمل والإبداع (قاعدة الخلق والسيطرة). فإنّ جمع الثروة وإنمائها ليس بحدّ ذاته أمراً مرفوضاً أو مذموماً، شريطة أن يكون ذلك وسيلة، وكذلك أداء الحقوق الواجبة، وأن تكون نتيجة النشاط والفعاليات الاقتصاديّة، وأن لا تُكتَنَز تلك الثروة. لذلك فقد أوصى الدين الإسلامي بالقناعة في الاستهلاك، لكنّه لم يُصرِّح بالقناعة في الدخل؛ لأنّ المُبدعين عادةً ما يكونون كريمين([83]).
ويشير القرآن الكريم إلى الأغنياء والمُبدعين، من أمثال: سليمان× (سبأ: 12 ـ 13)، وداوود× (سبأ: 10 ـ 11) وذي القرنين (الكهف: 95)، الذين أوجدوا فُرَص عمل كثيرة، لكنّهم تمكّنوا من تعديل حبّ المال في داخلهم، واعتبار ذلك نعمة إلهيّة. وعلى الرغم من امتلاكهم لتلك الثروة الطائلة فقد كانت علاقتهم بالله تعالى قويّة. وعلى العكس من هؤلاء، فقد كان هناك أغنياء، من أمثال: قارون (القصص: 79)، وفرعون (يونس: 88)، والوليد بن المغيرة (القلم: 12 ـ 15، والمدثر: 12)، وأبي لهب (المسد: 1 ـ 2)، وبشكل عامّ كلّ المُترَفين والملأ والمستكبرين، تعلّقوا إلى حدٍّ كبير بالمال، الأمر الذي تسبّب في وقوعهم في الهاوية والحضيض. فكلا الفريقَيْن كانا يمتلكان الثروة الطائلة، لكنّ الفرق بينهما هو نظرة كلٍّ منهما إلى تلك الثروة. فالفريق الأوّل يقول: ﴿هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً﴾ (الكهف: ٩٨)؛ أمّا الفريق الثاني فيقول: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي﴾ (القصص: 78).
استنتاج ـــــــ
يشتمل موضوع الإبداع في النظام القِيَميّ على أبعاد واسعة وعديدة. وكما أشرنا في المقدمة فإنّ هذه المقالة هي نتاج سنتَيْن من العمل البحثيّ الجادّ والدؤوب على الأسس الدينيّة والقيميّة والتأريخيّة. وقد تمّ تقديم سبعة ملاحق ـ كاستمرار لعمل البحث ـ لأهمّ المصادر والمداخل الإبداعيّة البالغة أكثر من مئة مصدر روائيّ موثوق، وتمّ حصر نماذج مختلفة من المطالعات في الإبداع القيميّ وبيان واستخراج الآيات المتعلّقة بالإبداع في القرآن الكريم. إضافة إلى ذلك فقد تمّت في هذا الموضوع، أي أبعاد ومحاور الإبداع القيميّ، الإشارة إلى بعض الكتب والنصوص الدينيّة، مثل: التوراة والإنجيل، والكثير من الأديان، وحتى النِّحَل. أمّا نتيجة هذا البحث فهي أنّ موضوع الإبداع هو موضوع قديم وعريق، لكنّه ليس مُماتاً. ووفقاً للدراسات المشار إليها خلال سطور المقالة يمكن القول بأنّ العروق المختلفة للعمل والإبداع وإيجاد الفُرَص العملية والحرفيّة والإنتاجيّة هي عروق ممتدّة على مرّ التأريخ البشريّ، وقد تمّ العمل بها، ثمّ اتّخذت شكل كلمة اقتصاديّة وفنيّة وإداريّة. إنّ أهمّ وأكثر الآيات والروايات الموجودة في هذا الشأن تعود للدين الإسلامي وأحاديث الأئمة.
وكانت قاعدة العمل وإيجاد العمل والفُرَص والنشاط اليوميّ وأهميّة ذلك كلّه تُطرَح في كلّ تفاصيل حياة أئمة الدين الإسلامي، وكانوا هم كذلك يُطبّقون تلك القاعدة.
وكان بعض أولئك الرجال العظام مشغولين في العديد من الأعمال، إضافة إلى الزراعة. فكانوا يعملون بالتجارة، ويهتمّون بالصناعة، في حين كان البعض الآخر منهم يُشجّع على الاكتساب، والأعمال الصغيرة والكبيرة منها، والنشاط الزراعيّ، في حين اقتصرت أعمالهم على إدارة تلك الأعمال.
وفي الثقافات الدينيّة الغنيّة، وخاصّة الدين الإسلاميّ، فإنّ العمل يُعتبر جزءاً من السلوك المعنويّ، ومعادلاً للنشاطات والأعمال الدينيّة الشريفة، وفي مَصافّ العبادات، مثل: الصلاة والجهاد والأعمال العباديّة الأخرى. أمّا المُبدعون المفكّرون فهم الأساس الأهمّ في المجتمع، ويعتبرون الإقدام على الإبداع المُصاحِب للتوكّل والتجديد مدخلاً رئيساً للدخول في العمل والنشاط.
أمّا قبول المسؤوليّة وتحمّل الخسارة والأمل والتحرّك والسعي المضاعَف والجود والإمساك والتبكير والابتعاد عن الكسل والكمال الحرفيّ والمثابرة والاجتماعيّة وتقبّل الخطر والمخاطرة والتجربة والخبرة والمهارة ونحو ذلك فطالما تمّ التأكيد عليها والتوصية والاهتمام بها. تُعتبر هذه المقالة مقدّمة وبداية حول هذه النظرة القيميّة للعمل والإبداع.
الهوامش
([1]) العلاّمة جعفري، ١٣٧٢، ص٣.
([3]) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج١٢.
([5]) التوراة، ص٧٤٥، المدخل ١٣، الرقم ١٦.
([6]) الناصري، مناظرات إسلام ومديريت: ١٩.
([9]) رجائي، معجم موضوعي آيات اقتصادي قرآن: ٥٨.
([11]) حسيني كهلائي، ١٣٨٢، ص٨.
([12]) الغرر والدرر، حرف الألف.
([15]) قنادان، اقتصاد وبزرﮔـان اقتصاد: ٢.
([17]) أصلان برويز، كيمياي سخن: ٢٥٥.
([19]) الغرر والدرر، باب العمل.
([20]) مركز بحوث الحوزة والجامعة، ١٣٧٩، ص٢٨١.
([21]) الشوكانيّ، فتح القدير: ٩٢.
([22]) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة: ٤.
([23]) المصدر السابق ١٢: ح١ و3 و٨.
([24]) المصدر السابق 4: الباب ٤.
([25]) المصدر السابق 7: الباب 5.
([26]) أحمد پور، كار آفرين يك دقيقه اي در هزار نكته كار آفريني: 9.
([27]) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة ١٣: ١٩٦.
([29]) الكلينيّ، الكافي 5: ٧١.
([32]) المصدر السابق: ٧٤١، رقم ٣.
([33]) زنجاني، مدنية البلاغة في خطب النبي‘ 2: ٤٦٥.
([38]) أحمد پور، كار آفريني، تعاريف، نظريات، ألـﮕوها: ٤؛ مقيمي، نقش آموزش كار آفريني در بهبود دانش صاحبان كسب وكار كوﭼـك؛ صمد آقايي، سازمان هاي كار آفرين: ٩؛ شاه حسيني، 1383، ص٢؛ سعيدي كيا، آشنايي با كار آفريني: ١٦؛ (شومبيتر Schumpeter) ــ ١٩٤٣م، و (وينتر winter) ــ ١٩٦٥م، و (كيرزنر) ــ ١٩٧٣م، و (أكس Acs) ــ ١٩٩٧.
([39]) أحمد پور، كار آفرين يك دقيقه…: ١٠؛ شاه حسيني، ١٣٨٣، ص٢.
([41]) مقيمي وأحمد پور، نقش آموزش…: ٢٢.
([42]) دراكر، ﭼـالش هاي مديريت در سده بيست ويكم: ٢٨.
([43]) الغرر والدرر، حرف اللام، رقم ٣٣٢.
([44]) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 7: 68.
([45]) غررالحكم و درر الكلم، حرف ألف: 58.
([46]) غررالحكم و درر الكلم: 488.
([47]) غررالحكم و درر الكلم: 489، ولايی، 1378، ص 151.
([49]) عباس زادگان، ١٣٦٦، ص١١.
([50]) مارتين Martin، ١٩٧٠، ص١٢.
([51]) أحمد پور، كار آفريني، تعاريف…: ٥.
([52]) رامبال D. Rumball، ١٩٨٩، ص١٧؛ أحمد پور، كار آفريني، تعاريف…: ٥.
([53]) أحمد پور، كار آفريني، تعاريف…: ٨.
([54]) پالمر 1987، ص45، پوداريانی، 1379، ص 9.
([55]) أحمد پور، كار آفريني، تعاريف…: ٩.
([57]) ناصری، مناظرات إسلام و مديريت: 90.
([58]) روبينز Robbins، ٢٠٠٣، ص٥١٥.
([59]) ناصری، مناظرات إسلام و مديريت: 98.
([60]) استيدهام Stead ham، 2002، ص 6.
([61]) سايت كار و كاركر، 1384، ص 3.
([62]) المجلسی، بحار الأنوار 77: 165.
([63]) بابويه قمی 1400ق، ص 344.
([65]) پستمن، زندﮔـي در عيش، مردن در خوشي: 7.
([67]) قنادان، اقتصاد وبزرﮔـان اقتصاد: 92.
([68]) الحر العاملی، وسائل الشيعة 12: 15، التميمي المغربي، دعائم الإسلام: 50، الچلپي، جامعه شناسي نظم: 24.
([71]) الرضي، خصائص الأئمة: 50، صالح، شرح نهج البلاغة: 80.
([74]) Fan and Zigang، 2004، p87.
([76]) مهر محمدی، سند ملي آموزش و ﭘـرورش: 18.
([77]) الشوكاني، فتح القدير: 122.
([79]) ناصری، مناظرات إسلام و مديريت: 99.
([80]) كوئن، در آمدي بر جامعه شناسي: 192.
([81]) قديری أصل، سير أنديشه اقتصادي: 40 ـ 66؛ عربي، مصباحي، مباني اقتصاد إسلامي: 52.